حسين السنيد :
((ملاحظة: روى هذه الحكاية لي, بلبل اصطدته يوما في حديقة بيتي, فراهنني بحكاية تثير إعجابي مقابل حريته.. فخسرت الرهان !!!))
حط على الجدار.. أطلق العنان لتغريدة طويلة وحط , الطائر البلبل بألوانه الزاهية و حركاته السريعة والمحتاطة بعض الشيء.
لم يطل الوقت حتى تحركت شقوق الجدار فنطق وقال:
الجدار : أهلا بك أيها البلبل الجميل
أجاب البلبل بحركة خاطفة و هو يراقب كل شيء من حوله..
البلبل : أهلا بك يا جدار,كيف حالك؟
تنهد الجدار و قال : كما ترى ..سنين طويلة وأنا ثابت في مكاني .. و يتربع الحزن فوقي ..
قال البلبل متعجبا : كيف هذا؟ و أنت بهذه الألوان اللطيفة والأشكال الجميلة المنقوشة عليك؟
الجدار : وان يكن؟؟ حتى وان ارتسمت على جسدي القلوب.. فأنا ابقى جدار من الاسمنت والطابوق , ما فائدة حفر القلوب على الجدران الإسمنتية؟
طار البلبل و افتر حول الجدار ليلقي نظرة عليه ,فوجد أشكال القلوب و البالونات الحمر والصفر والخضر تغطي الجدار و كأنه كرنفال فرح.
أردف الجدار قائلا: لا تتعب نفسك صديقي البلبل, كما قلت لك, أنا مجرد جدار لصالة أفراح وأعراس..حيث تصل القلوب العاشقة والعطشى لبعضها البعض ويتوج الحب بالوصال . ويفرح الناس فيرقصون ويغنون ويضحكون .. اما آنا فلا حصة لي من فرحهم سوى هذه الرسومات و الألوان المحفورة في جسدي ..ليست مجرد صور بلهاء.. فانا ماذقت طعم الفرح يوما . كم أحسدك يا صديقي البلبل, فأنت تطير وتحط وتصعد وتنزل و تغرد وتلعب, فأنت سفير للحب والأفراح .. كم أحسدك ووددت لو كنت مكانك.
اجابه البلبل بنبرة مستغربة :
البلبل : كيف تحسدني يا جدار؟وأنت تضم كل أفراح الدنيا في قلبك ؟ هل توجد لحظات أحلى من وصال العشاق؟ حيث تتزوج الدموع مع القهقهات ؟ و تتعانق الأيدي والعيون والشفاه؟ أنا ابحث عن الفرح والسعادة هنا وهناك..ولكنك تضم آلاف الأفراح في قلبك.. كم قبلة محبة ياترى رأيت؟ كم عناقا راقبت ؟ ما عدد دموع الفرح التي أحصيتها ؟ بل أنا أحسدك يا جدار, فأنت أكثر مكان سعيد في العالم من دون شك.
تأوه الجدار وقال معترضا :
الجدار : صحيح أيها البلبل إني احوي الأفراح في داخلي , ولكنى ليس المكان الذي يشهد أكثر أعداد للقبلات والعناق و الدموع والكلام الصادق !! فهناك فرق.
البلبل :أين هذا المكان الذي يحوي كل هذه المشاعر الصادقة أكثر من قاعة للأفراح ياترى؟؟
الجدار : نعم صديقي البلبل .. صالة توديع المسافرين في المطار يحوي قبلات و أحضان ودموع صادقة أكثر مني, كما عرفت من عندليب مر من هنا قبل سنين.. صالة توديع المسافرين, حيث تودع الأم ابنها, والابن أبيه, والأخ أخيه, والزوجة زوجها, والصديق صديقه.. تنزل الدموع الصادقة هناك . والعناق يصبح حقيقيا ,غير مزيفا ..و الضحكات أيضا تكون ذا لون .. فكما قال لي العندليب قبل سنين .. البشر لا يحتضنون بصدق ولا يقبلون بحرارة إلا حينما يقتربون من فراق اناس أحبوهم .
قام البلبل بتصفيرة طويلة نوعها بتقطيعات صوتية جميلة , ودع الجدار و راح يطير عاليا و يلف ويدور , حتى اصطاد بعينيه تينة حمراء .. كانت تلوح له ممزقة الجلد, مائلة العنق و كأنها تغازله . فنزل صوبها .
حين نقر التينة النابتة أعلى الشجرة وذاق رحيقها .. حيته منارة المسجد المجاور.
المنارة: أهلا بك أيها البلبل..
حي البلبل المنارة بحركة من رأسه في حين كان منقاره يداعب التينة.
انحنت المنارة قليلا وقالت:
ما أجملك أيها البلبل, فأنت آية من آيات الله في جمالك و عذوبة صوتك و ذكائك. تبدو تغاريدك التي تطلقها وكأنها تراتيل , تسبح فيها الله و تحمده .. ياليتني كنت مكانك , لأطير وأشاهد آيات الله في الأرض ,لأصدح بآياته وأسبحه آناء الليل وأطراف النهار .
رد البلبل: كيف هذا وأنت منارة مسجد يذكر فيه اسم الله كثيرا ؟ علامة بيت الله وعموده , فلم يرافقك إلا الناسك والعابد والزاهد ؟ و نبضات قلبك هي صوت الأذان ,موعد لقاء الحبيب مع المحبوب ؟ كيف هذا ومنذ بنيتي لم تحوي إلا الدعاء والتسبيح والتضرع والخشوع؟ ولم تقيمي الليل إلا مع العباد الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما؟
ردت المنارة مبتسمة : كلامك صحيح أخي البلبل ..ولكن ليس أنا أكثر مكان, يدعى فيه, و يذكر الله ويتوسل به.. بل هناك مكان آخر غلبني بمئات المرات!
حرك البلبل رأسه وذيله مستغربا من كلام المنارة: أين هذا المكان؟
أكملت المنارة : صالة انتظار العمليات في المستشفى , فأنا أرى أن الدعوات لن تنقطع من هناك أبدا, أراها بعيني حين ترتفع الدعوات والتواسيل منها بالمئات فتصعد وتصعد إلى أن تطرق أبواب السماء . فيبدو أن الكثير من البشر لايطرقون أبواب الله إلا حين يحتاجونه فقط!!
انتهى البلبل من التينة التي ملئ رحيقها الطيب عروقه ..
عجيب أمر هذا البشر.. أما أنا فسأقضي ماتبقى من أيامي المعدودة في حبي للبلابل والطيور والأشجار والزهور و التسبيح لخالقي العظيم ..
وانطلق بترنيمات هائلة تسكر السامع..والتفت حوله العشرات من البلابل والطيور الأخرى, فملئت الحان تسبيحاتهم و حبهم سماء المدينة وتلاشت فيها حدود الخيال والواقع ,وسرعان ما صاروا مزنة, أمطرت صلواتها على رؤوس الناس.