إنسحب النهارالبارد المغبر ثقيلاً وترك المدينة كئيبة بميادينها الخاوية وشوارعها المقفرة وساحاتها المشتعلة بأكوام النفايات والإطارات البالية يتصاعد في سمائها الدخان الأبيض يحف بالملامح القاسية لصور الرئيس خفت زعيق الباعة والجوالين ورجع الرجال والنسوة يجرون عرباتهم المترنحة بما تبقى من بضاعة رخيصة أغلقت الأبواب الصدإة للمقاهي والبيوت وخلف النوافذ المهشمة أشعلت الفوانيس وأطلت المصابيح المتدلية من أعمدة الكهرباء الخجولة تدلق ألسنتها الشامتة للعابرين فاجأه هذا الهجوم المباغت للمساء كذلك الباب النصف مفتوح حين وضع أول خطواته على الشارع باتجاه محطة الباص نفس الباب الذي كان يدعوه كل يوم ويغريه بالدخول الباب الخشبي بأشكاله الهندسية المحفورة بعناية وجداره الحجري الأحمر الطويل أثاره الرواق المضاء بلون زهري أحمر نظرﺇلى ساعته ثم ﺇلى محطة الباصات ما زالت هنالك بعض المركبات تنتظر دفع بخطواته المترددة ﺇلى الرواق الضيق غمره خليط عبق لرائحة قديمة مزيج من الطين والتراب والصخور وبخار دهان مازال يعبق بالرائحة التي انساحت من تحت قدميه ﺇلى كل حواسه قادته قدميه ﺇلى قاعة كبيرة اكتضت باللوحات المعلقة على الجدران وتماثيل من البرونز والخشب والحجارة لنصف ﺃجساد ورؤوس ضائعة بلا ملامح انتشرت في أغلب الزوايا فجأة إنطفأت المصابيح وغمر الظلام المكان تسمر في مكانه وضع كفيه خلف ظهره وتراجع خطوات للوراء حتى لامست كتفاه الجدار البارد ظل صامتا محاطا بالظلام الكثيف مخدرا برائحة الدهان والدخان المتسرب من فتحات الشبابيك يخترق سمعه لغط المارة وهم يحثون الخطى مسرعين شق السكون زخات متتالية من رشقات الرصاص جاءت من بعيد وتعالت الصيحات من هنا وهناك…
أي ساعة نحس ..
صمت مطبق فكر مع نفسه لابد ان أحدهم غادر ونسي أن يغلق الباب صاح مستنجداً..
من هناك ؟
أجابه صوت أنثوي خائف…
أنا هنا ..
أشعل عود ثقاب بعد برهة استطاع أن يرى من ذبالة الضوء المرتعش ذلك الجسد الصغير الذي بدا وكأنه يخرج من زمن سحيق بنحافته المفرطة وتسريحة الشعر الناعم المنسدل على الكتفين الصغيرين والوجه المدور الصغير اقتربت منه المرأة تحمل بين كفيها شمعة أشعلها وتناولها من كفيها بدت الملامح أكثر وضوحاً عينان حزينتان وأصابع بيضاء رقيقة حمل الشمعة بيده أنزلها بهدوء…
مساء الخير ..
إستقرت الشمعة بين رأسين حجرين خلال الضوء الواهي المتراقص شاهدها تنسحب للوراء حتى كادت تختفي تناهى له صرير الأبواب الثقيلة وهي تغلق وقبل أن يكتشف الإقتراب الحذر لامست اليدين الصغيرتين الأكتاف المتوترة…
تأخرت كثيرا ..
شعرالرجل بالرعب للرأس الصغير وهو يسترخي بين كتفيه وتسلقت الأصابع المتشنجة الصدر المستفز…
إنتظرتك طويلا ..
شعر الرجل بروحه تختنق وجسده يلتهب تحت سرفات الأنامل الخائفة فكر لو أنه يستطيع أن يهرب ويتحرر من هذا المكان المظلم طوقت المرأة بذراعيها منتصف الجسد شعر الرجل بارتعاشة الشفتين وهما تلامسان مؤخرة الرأس…
كنت أنظر إليك كل يوم وأنت تعبرالطريق ﺇلى محطة الباص ..
إنحنى الوجه الغريب على العنق ..
في كل مرة كنت أقول سيدخل ..
بعصبية صاح بها …
أرجوك ..
أصبح الرجل مقيدا تماما ﺇلى جسد المرأة وهي تلتف حوله مثل ﺃفعى شبقة ﺃمسك بكفيها انتزعهما من جسده صرخت بألم ..
أرجوك إنتظر..
إنطلق الرجل صوب الأبواب المغلقة مخلفاً ورائه المرأة المحترقة بما تبقى من نشوة يائسة صار بالعراء لامس وجهه الهواء الفاسد لاشيء كانت بغداد تغرق بالظلام سواد كثيف وشوارع تتصيد بها الكلاب .
انتهت….