أديب كمال الدين :
1.
حينَ ماتَ تَد هيوز
أورثني غرابَه مَحبوساً في قفص.
ولأنَّ غرابه لا يجيدُ سوى الهرطقة والتجديف
لذا أطلقتُ سراحَه فوراً.
لكنَّ الغراب لم يُحلّقْ بعيداً
كما توقّعتُ
بل حطَّ على عمودِ الكهرباءِ المُجاورِ لشرفتي
لينظرَ إليَّ بعينين حاقدتين
وقلبٍ أسْوَد.
2.
حينَ انتحرتْ سيلفيا بلاث
أورثتني مرآتَها الصغيرةَ الحمراء.
ولأنّي لا أحبُّ مرايا النساء
فقد رميتُها في النهرِ المُجاور.
لكنَّ المرآة لم تغرقْ سريعاً
كما توقّعتُ
بل صارتْ تنتقلُ مِن نهرٍ إلى نهر
حتّى وصلتْ إلى البحر
فتحوّلتْ إلى مركبٍ عظيمٍ مِن المرايا.
3.
حينَ ماتَ شارلي شابلن
أورثني ضحكتَه الساخرة
وقبّعتَه وعصاه.
لم أستفدْ مِن ضحكته الساخرة
لأنّي لا أجيدُ فنَّ التمثيلِ على الإطلاق.
ولم أستفدْ مِن قبّعتِه
فحينَ وضعتُها على رأسي بكيتُ.
ولم أستفدْ مِن عصاه
فحينَ توكّأتُ عليها
تدحرجتُ على الأرضِ طويلاً
طويلاً.
4.
حينَ ماتَ دانتي
أورثني كتابَه: الجحيم.
ولأنّي أعيشُ في الجحيم حقّاً وصدقاً
فلم أجد الكتابَ مُمتعاً
رغمَ لغته الهائلة
وصوره السحريّة.
ولذا تبرّعتُ بهِ إلى جمعيةِ الشعراءِ المَلاحدة
فقبلوه مِنّي على مَضَض.
5.
حينَ ماتَ ديكُ الجنّ
أورثني ديوانَ مراثيه الخطيرة
لحبيبته التي قتلَها في لحظةِ شكٍّ وجنون.
ولأنّي أكرهُ المراثي كلّها
فقد أهديتُه
إلى أمينِ مكتبةِ المدينة،
فتصوّرهُ كتاباً عن الجنّ،
فرماهُ بوجهي وهو يصرخ:
خذْ كتابَكَ واخرجْ أيّها المجنون!
6.
حينَ ماتَ طاغور
أورثني لحيتَه البيضاءَ الطويلة.
ولأنّي لا أستطيع
أنْ أرتدي لحيتَه العظيمةَ أبداً
ولا أستطيع بيعَها إلى أحدٍ أبداً،
لذا أعطيتُها
إلى صاحبِ محلٍّ لبيعِ الإكسسوارات
فأخذها منّي بوقارٍ شديد
ورماها، أمامي، في سَلّةِ المُهملات!
7.
حينَ قُتِلَ لوركا
أورثني الرصاصاتِ التي قتلته.
فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.
ثُمَّ خطرَ ببالي
أنْ أهديها إلى مديرِ متحفِ الشعراءِ في العالم،
فَذُهِلَ بالرصاصات
وذُهِلَ أكثر حينَ رأى دمَ لوركا عليها.
لكنّه بقي صامتاً كصمتِ القبور.
هكذا غادرتُ مكتبَه الزجاجيّ الأنيق
وتركتُه مَذهولاً بعينيه الحجريتين
وقلبه الأخرس.
8.
حينَ ماتَ السندباد
أورثني كتابَ حكاياته الساحرة
عن الذهبِ والفضّةِ والنساء.
فقرّرتُ أنْ أركبَ البحر
إلى حيث أبحر السندباد.
لكنني لم أجد الذهبَ والفضّةَ والنساء
بل وجدتُ كتاباً عَتيقاً
كتبهُ مؤرّخُ أهلِ البلادِ يقول:
هنا وصلَ السندباد.
ولكثرةِ أكاذيبه وخزعبلاته ونزواته
أقمنا له حفلةً وشويناه.
9.
حينَ ماتَ بيكيت
أورثني مسرحيتَه العُظمى
ومُهرّجيه المَساكين وهذيانهم المُركّز.
فاحترتُ ماذا أفعلُ بكلِّ ذلك.
لكنني ذات حياةٍ
كتبتُ مسرحيةً حُروفيّةً كبرى
عن الانتظارِ العبثيّ،
مسرحية لم يشاهدها أحد
لأنّه لم يمثّلها أحد.
10.
حينَ انتحرَ همنغواي
أورثني البندقيةَ التي انتحرَ بها.
فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.
ثُمَّ خطرَ ببالي أنْ أجرّبَ اطلاقَ النار
على رأسي
كما فعلَ همنغواي قَبْلي.
لكنني حزنتُ
بل بكيتُ بُكاءً مُرّاً
حين وجدتُ البندقيةَ خاليةً مِن الطلقات.
11.
حينَ ماتَ جان دمّو غريباً
في بلادِ الكنغر
أورثني قنّينةَ الخمرِ الفارغة.
فتبرّعتُ بها على الفور
إلى جمعيةِ الكحوليين في العالم
ففرحوا بها ورقصوا بصخبٍ هائل
وهم يتبادلون الشتائم والسباب.
12.
حينَ قُتِلَ محمود البريكان
أورثني قصيدتَه: “حارس الفنار”.
فاحترتُ ماذا أفعلُ بها.
لكنّه زارني، وهو الميّت،
في لحظتي الشعريّة
وأمسكَ بيدي
لأكتبَ عنه قصيدتي:
“حارس الفنار قتيلاً”.
13.
حينَ ماتَ التوحيديّ
أورثني بقايا كتبه المُحترقة.
فلم أدرِ ما أفعلُ بها.
جلستُ قبالتها
وكتبتُ بعينين دامعتين
قصيدةً عن الدخانِ المُتصاعدِ منها.
وكلّما مرَّ قومٌ سخروا منّي
وقالوا: مجنونٌ أحرقَ كتبَه
وآخر يبكي عليها.
14.
حينَ صُلِبَ الحَلّاجُ وأُحرِقَ
أورثني رمادَ جُثّته.
فاحترتُ بأمرِ هذا الرماد.
لكنني ذات غروبٍ
وضعتُه في أكياسٍ صغيرة
وذرّيتُه في دجلة.
ذرّيتُ كلّ سنةٍ كيساً
ولم أزلْ على هذا الحال:
لا أنا أموت
ولا الأكياس تنتهي.
15.
حينَ ماتَ كلكامش
أورثني خيبتَه
وبحثَه العبثيّ عن سرِّ الخلود.
لم أستطعْ أنْ أفعلَ شيئاً لخيبته
لأنّها كانتْ أسطوريّة القلبِ والشفتين،
ولم أفكّر يوماً بسرِّ الخلود.
ففي زمنِ العَولَمَة،
الخلودُ ، فقط ، للدجّالين
والمُهرّجين والسفَلَة.
16.
حينَ ماتَ أبي
لم يورثني شيئاً سوى دمعته.
فاحترتُ بها
لكنني ذات فجرٍ
وضعتُ الدمعةَ في كفّي
ومددتُ كفّي إلى الله،
إلى ما شاءَ الله.
فعادتْ إليَّ بعشراتِ الحروف
ومئاتِ القصائد.
17.
حين ماتَ الألف أورثني همزتَه.
فاحترتُ بأمرِها.
وحين وجدتُ جَسَدَي
جُثّةً مُلقاةً في الشارع،
تعمَّمَتُ بالهمزة بعد جهدٍ جهيد.
فأفقتُ مِن مَوتي،
وبدأتُ أكتبُ نَفْسي بنَفْسي
وأغنّي نَفْسي لنَفْسي.
18.
حينَ ماتت الحاء
أورثتْني مَوتاً مُضافاً إلى مَوتي.
ولأنني قد اعتدتُ على مشهدِ الموت
منذ الطفولة،
لذا لم أحترْ كثيراً
وقرّرتُ أنْ أجمّده في ثلّاجةِ الذاكرة
بدلاً مِن ثلّاجةِ الموتى.
19.
وأخيراً حينَ ماتت النقطة
أورثتني سرَّها الخطير،
فاحترتُ ماذا أفعلُ به.
ثُمَّ قرّرتُ أنْ أتبرعَ به إلى روحي.
لكنني لم أجدْ روحي
لأنّها، كما أخبرتني الملائكة،
ماتتْ منذ زمنٍ طويل
وتحوّلتْ إلى حرفٍ مِن تُراب.
*************
www.adeebk.com
—