عصام القدسي :
وجد نفسه يقف وسط خلاء المقبرة ، أمام قبر فارغ ، لم يزل طريا ، حوله أكوام من التراب وآثار أقدام كثيرة وأخذ يتأمله كما يتأمل ماء النهر” هكذا الحياة ، حضور وغياب” وتعجب أن يكون القبر بلا جثة. وضحك في سره “
بعض الميتات لا تترك جثثا “ نظر الى هيئته فأدرك دون عناء أنه ، منذ ساعات ،كان قبره هو. وأصابه الهلع “ هل أنا ميت الآن .!! محال .!!. لا..لا..لا ينبغي أن أموت ، فلدي كثير من المشاغل يتحتم علي انجازها..لدي أفكار رائعة أدونها ، وكتب جديدة لابد أن اقرأها، وأصدقاء سيحزنون لغيابي ، وامرأة دافئة أطارحها الغرام، وأولاد رائعون ..
وقرر أن يعود الى البيت وفكر “ ماذا لو أقصد بارا لأتزود بمقدار من الشجاعة” لكنه تذكر انه مجرد شبح لرجل ميت. فألقى نظرة أخيرة على قبره وتطلع الى السماء الباهتة الزرقة تتوسطها شمس من نحاس والى الطيور المحلقة. كان المكان يسوده الصمت فتملكه شعور واسع وعميق ولانهائي وهو يسير بين القبور،عائدا الى بيته
“ آخر ما أتذكره أنني أمس استيقظت صباحا وأنا اشعر بالدوار ومخالب وحش تمزق قلبي ، وأحاول أن اصرخ من الألم لكن صوتي لا يخرج وأنفاسي تبطء شيئا فشيئا ثم أحسست بدوامة سريعة تدور بي وتأخذني الى أعماق سحيقة. في تلك اللحظة كنت اسمع زوجتي تناديني من المطبخ تطلب إلي بنبرة منزعجة أن استيقظ، فلا اقدر ردا ، تمهلني دقائق وهي تعد الفطور ككل صباح وتعود تكرر نداءها بشيء من الحدة ، ثم تدفع بابنتي الصغيرة إلي:
ـ بابا.. استيقظ لتذهب الى عملك.
ـ ……
تتسلق السرير.. تداعب خدي.. تقبلني .. تضغط على كتفي بيدها الصغيرة.. تجهد أن تزعزعني..لا فائدة. وأخيرا تحاول خداعي:
ـ بابا اتصلوا بك من الصحيفة ..
ـ ……..
ـ قلنا لهم مازال نائما.؟!!
ـ …….
ـ فقالوا..أيقظوه.
ثم تعيد ما قالته مرة واثنتين وثلاثاً وهي تلون نبرة صوتها وتغير صياغة جملها بشيطنة.. لا فائدة من بابا هذا الصباح، فهو ليس كالصباحات السابقة ،حين يستيقظ باكرا ثم يوقظ الجميع وهو يستمع لأغاني الصباح ..ينفد صبرها تذهب الى أمها:
ـ ماما.. بابا لا يرد..
ـ هزيه .
ـ هززته ..انه نائم مثل جدي..هكذا “ تفتح ذراعيها وتغمض عينيها وتدلق شفتها السفلى “ واللعاب يخرج من فمه.
تهرع زوجتي إلي.. تقترب بقلق.. تلهج باسمي خائفة..تتطلع بوجهي فتراه شاحبا..تصرخ وتنشج، تنادي أبناءها.. يهرعون يقفون فوق رأسي مذهولين..يعلو نواحها ويتحول الى عويل..يلتفتون نحوها.. يطلبون منها أن تهدأ . يقترب الابن البكر يتفرس بوجهي يحاول إيقاظي:
ـ بابا ..بابا …
حين وصل الزقاق قرب البيت ، شاهد جمعا من الناس وأحس هذه اللحظة “ انهم غريبو الأطوار يقتحمون الغابة من أكثر جوانبها تشابكا” ..ها أنا أعود “ سأفري دمامل فضولهم” مر من أمامهم حياهم ، فلم يردوا ، بل لم يحسوا بوجوده.. دخل البيت فوجد في غرفة المعيشة مجموعة من النسوة يبكين، وزوجته تجلس بينهن ، كانت ذاهلة تنوح بلوعة والدموع تنهمر على وجنتيها تطلع إليها وهي بثوبها الأسود فابتسم “ لماذا لا توضع النجوم على جباه الأرامل.!!”.. وقف عند عتبة الباب.
قال بهدوء “ لِمَ البكاء ..؟!! “
لم يلتفتن إليه . وسمع أم زوجته تخاطب ابنتها، بنبرة وقحة :
ـ هدئي من روعك ..كلنا نموت .
ومضت تلعنه سرا ، تقبل كلماتها بمرح “ لا جديد في الأمر “ وتمتم وهو يضحك “ قطرات من ضوء القمر في عيون العجائز تعينهم على الموت ميتة راضية “ .
ودخل الصالة فوجد رجالا يحتلون طقم الأرائك الأنيق واجمين كان احدهم يتنحنح ويسعل.
وهو يقول :
ـ كان رجلا طيبا ..
وهمس آخر يجلس الى جانبه :
ـ بل معقدا ..
وقال ثالث :
ـ صباح أمس ، رأيته آخر مرة، ألقى علي التحية باقتضاب ومضى الى عمله .
ـ انظروا حولكم … ماالذي يفعل بكل هذه الكتب .؟!!
وأضاف قريب له بنبرة متهكمة :
ـ عدا ما تضمه مكتبته ، في غرفته .
فغمغم “ أيها الأحمقان..!! لولا الكتب لتحول الناس الى نباتات تولد وتعيش وتموت بلا معنى“
وجلس في ركن قصي يراقبهم واخذوا يتكلمون بحذر ثم راحوا يثرثرون بصوت خافت اخذ يعلو شيئا فشيئا حتى تحول الى صراخ وهم يحتسون القهوة ويدخنون بنهم … وفي آخر المساء رآهم يغادرون واحدا تلو الآخر وحين خلا البيت. نهض وشرع يجوب أنحاءه . كان الأبناء قد لاذوا بغرفهم متوسدين دمعتهم بينما ظلت زوجته بمكانها في ركن من الغرفة تنشج بحزن قاتم ، وود لو يقول لها كلاما جميلا لم يقله احد من قبل. بينما دخلت أمها المطبخ تغسل الصحون المتراكمة وتعيد ترتيب الأشياء . وما ان انتهى من جولته حتى انصرف الى غرفة مكتبه وقال يحدث نفسه “ آه..العزلة مهنتي “ . وقف أمام مكتبته وهتف “هذه مكتبتي فأية مملكة تساويها” وأخذ كتابه الذي بدأ بقراءته بالأمس واستقر في مقعده المعتاد وردد ببهجة “ أنا كالعصافير لا أصلح لشيء آخر”..
وراح مستغرقا بالقراءة..
—