عصام القدسي :
دخلتُ غرفتي ، فوجدتها تجلس خلف منضدتي التي اكتب عليها . تحيط بها كتبي وأوراقي وأقلامي وبعض حاجاتي الخاصة ، قلت:
ـ من أنت..ومن أين أتيت..؟
مالت بجسدها الندي بالعنفوان ، وأطلقت ضحكة كالموسيقى تورد لها خداها ، واصطبغت شفتاها بلون الزهر ، فتعطرت إرجاء الغرفة بعبق أخاذ ، واندلق ضوء ساحر، أضاء حجرات روحي المظلمة:
ـ (أنا شهرزاد.. طلعت من بطون كتبك ،لأتزود بحكايات جديدة ،بعدما انقضت ألف ليلة وليلة ،ونام شهريار..).تأملت محنتي وأنا أتطلع الى وجهها الطفولي الجميل..ليل تموزي يحتضن قمرا ضاحكا من لوعتي..
ليال مضنية ، على ضوء المصباح الخافت أراقب شريكتي في الفراش بجسدها المهمل ، اتامل انحناءاته وتكوراته يحتويه ثوبها المترهل الأثير لديها ، تفوح منها روائح المطبخ ، تتقلب وجعاً، فلا أجرؤ أن أوقظها. وأحلم أن تنتفض يوما وتقف أمامي طائرا فردوسيا جميلا، يزهو بريشه الملون تحت أشعة الشمس . وأتمادى بحلمي فتنزلق أصابعي تتحسس جسدي وتضغط بأسى موضع شهوتي..
في بعض الصباحات ، وأنا اخرج الى عملي بالصحيفة ، أمر بها في المطبخ فأرى عفريتا يتلبسها ويجري بها في حلبة الطبخ والقدور ، انتزع قسرا ابتسامة من شفتي ، فأحس بوجهي المحنط بالحزن يتكسر:
ـ ارحمي نفسك ..شغل البيت لا ينتهي..
يندلق فكها كالمجذوبة وتتطلع الي بغباء وهي تجأر :
ـ ومن يشتغل عني.؟ أم أترك البيت ينقلب رأسا على عقب، واقف أتفرج. واضغط حروفي بخجل لازمني منذ زمن المراهقة :
ـ وفري شيئا لليل ..
ـ أنت بطر .. متى تدرك إننا لم نعد شبابا..؟
ـ نحن في الأربعين..والشباب شباب الروح والقلب .
ـ نحن على هاوية الخمسين.. وشبابنا غبر، وقد كبرنا على مثل هذه الأشياء التي تعشش في خيالك..فلا تكابر ولا تغالط نفسك.
وتصفق باب الحوار في وجهي ، فيتكور مخذولا مارد الرغبة في كهف روحي وتحاصره الوحشة . ثم لا يلبث أن يأنس بالخيال في العتمة والسكون فيتململ ، ثم يتمطى لينتفض منتصبا ويحاول أن يتسلل الى ذلك النفق الدافئ ، فتصده تلك الجدران الباردة التي شادتها من حولها، فاطمأنت ونامت ملء جفنيها..
ـ ( قرأت معظم قصصك ورسمت لك في ذهني صورة مغايرة لما أراك عليه الآن..)
ـ عجوز غادره القطار الأخير، وتركه ينتظر الذي لا يأتي..
ـ ( بل أصغر مما تصورتك وأكثر وسامة.)
ـ قولي لها ذلك..
ـ ( من.. زوجتك؟..مررت بها في المطبخ وأنا ادخل..)
ـ المطبخ محرابها..
ـ ( لا تكن قاسيا. )
وسكتت لحظة ثم قالت بانبهار:
ـ ( إنها طيبة..أصبحنا أصدقاء منذ الوهلة الأولى .)
على ضوء المصباح الخافت في السرير الذي أتخيله زورقا فقد شهية الإبحار منذ زمن بعيد، وفرت علي سؤالات تلح في خاطري حينما قالت تطوعا:
ـ إنها قريبة جارتنا فلانة. طالبة في الجامعة،جاءت تقضي جانبا من العطلة الصيفية.
ثم تثاءبت وهي تنهي كلامها: ـ إيه ..لا تلبث أن تمضي..
وأردت أن أستفزها وأنا أستعد لمعركة غير متكافئة :
ـ إنها بارعة في إظهار أنوثتها..
ـ ….
وخلتها تتعمد إغاظتي حينما لم تعلق على ما قلت . وزال عجبي ، لما تفرست بوجهها ، فوجدتها تغط بالنوم..
تطالعني شهرزاد معظم الوقت تتفحص مكتبتي ونتبادل حديثا شيقا أُبطنه احيانا غزلا،وتكتشف المغزى فتبتسم:
ـ ( ايها الماكر..)
حتى أصبحت جزءا مني . وفي الأوقات التي أكون فيها على قمة هرم غربتي ، تستدرجني الى حوار عطر الأنفاس ، تمنيت تلك البائسة التي تخور في منعطفات البيت ، لو تملك بعض هاجسه..
ليال صيفية جميلة وسماء محبوكة الظلمة ونجوم لاهثة الأضواء..في الآونة الأخيرة كثيرا ما استيقظ عند منتصف الليل ، أتأمل النجوم التي طالما فتنتني قديما ، واوحت لي بتساؤلات فلسفية كنت احتفي بها أيام العنفوان ، فلا أجد لهذه التساؤلات معنى.وابحث في حنايا ذاكرتي عن وجهها القديم ، فأجدها جامدة كعيون أعمى . لم تعد ظواهر الكون تشغلني ولا خفايا الوجود التي كانت تؤرقني ، وانحصر تفكيري بتلك الجنية التي احتلت كياني، فامضي أوقات خلوتي، أجلو صورتها في ذهني واستعيد كلماتها الرشيقة واضحك.. وانتظر أن ينبثق الضوء. وما أن تتفتق عنه الظلمة وتصبح السماء مهرجانا من الأضواء حتى تنتابني رغبة قوية بانتشالها من بين ذراعي غفوتها والطيران بها الى عوالم لا ترى .اجل أتمنى لو تنبت لي أجنحة ، لأفر معها من فوضى الحياة التي تهصرني خارج البيت ، والقهر الذي تندى له ثيابي داخله . وتضحكني خيالاتي حالما أعود الى ارض الواقع.
في بعض الأحيان ارجع من عملي ، فأجد شهرزاد تتماها مع زوجتي في حديث لا افهمه ، واسمعها تضحك ملء فمها. وأعجب أن يمتد جسرا من الحوار بين نقيضين ، الذكاء الأنيق والغباء الفج . الأيام تجري بلا هدنة وهاهو أيلول يحل سريعا ، وبدأت غيومه تلبد الأفق.بعد أسابيع قليلة تفتح معاقل الدراسة أبوابها لتضم أبناءها من جديد . وأتخيل ، جنية الصيف التي تسبح في نهر حلمي تلملم قريبا ، فتنتها وتحزم ضحكاتها وأحاديثها الشيقة وترحل ، فأشعر بفئران الحزن تتسلل الى جحور نفسي ، ولا انفك أهذي ببهجة الأيام الخوالي وبالفراق…
وصدق ظني فلم تنته العطلة بعد ، حتى غادرت شهرزاد ولم اعد أراها . ومما حز في نفسي إنها غادرت ، فجأة ودون وداع. ثم لم البث أن أجد لها عذرا مقنعا وذلك إنها كفتني حزن لحظات الوداع..
ذات مساء تسربت الى مفاصله بوادر البرد ، كنت وحدي في السرير ، أفكر بتلك التي زرعت أزهار ضحكاتها وحكاياتها في خاصرتي ومضت . وتراءى لي على ضوء المصباح الخافت طيف امرأة ، يقف عند باب الغرفة ، واستغرقني الخيال فندت عني آهة :
ـ شهـرزاد..؟؟
قالت بنغمة مفعمة بالدلال:
ـ أجل ، شهرزاد.
امتدت يدي إليها في الظلمة ، وهي تضطجع الى جانبي في السرير. وقبل أن تستقر عليها أحسست بأصابعي تتشنج، وبرغبتي تنطفئ وبالنعاس يداعب أجفاني.فكرت لبعض الوقت ، بالعطلة الصيفية القادمة ، ثم ،استسلمت للنوم..