عصام القدسي :
استيقظت مبكرا، آلام تنهش جسدي ، ألقيت نظرة ، على زوجتي وابني وابنتي ، كانوا نياما ،أجسادهم تهجع، بين الأغراض المبعثرة ينام بعضهم بالطول والآخر بالعرض ، غادرت فراشي .دخلت الحديقة ،إنها أيام الربيع ، وقفت أتأمل أشجارها المزهرة ،وحشائشها الخضر،يا لروعتها ، أين أجد فلاحا يرعاها .؟ وانصرف تفكيري ، إلى ما جرى في اليومين الأخيرين ،والتعب الذي نالنا، وأنا غير مصدق بأننا انتهينا من نقل الأثاث ، وأردت رؤية الشارع فتحت الباب ورميت ببصري ،الزقاق هادئ ونظيف والبيوت أبوابها مغلقة ،أمامها تقوم حدائق صغيرة جميلة مزروعة بالشتلات واسيجتها تفترشها حبال من نباتات متسلقة ، مورقة ، مزهرة ، التفت إلى بيت جاري الملاصق فرأيت عند بابه رجلا عجوزا يجلس فوق كرسي ، حين رآني ، هب واقفا ذهبت إليه ،حييته ، مد لي يده مصافحا : أنا أبو جبار ..
وأذهلتني ضآلة جسده .شعرت بالارتياح ” لاشك انه رجل طيب و أنني سآمن شره .. وأي شر لرجل مثله” . ولم أكن اعلم بما تخبئه الأيام .
قلت مبتسما ـ وأنا أبو مصطفى .
تحدثنا قليلا ، شكوت له فوضى الزقاق الذي كنت اسكنه ، الزقاق الذي لا يهجع حتى ساعة متأخرة من الليل، ومعارك الصبيان الذين يسدون منافذه ، فأكد لي إنني سأجد الراحة بينهم ، استأذنته
وعدت إدراجي ، كانت زوجتي قد استيقظت ، ،ودخلت المطبخ ، ورايتها تفتش عن إبريق الشاي والأقداح داخل صناديق الزجاجيات ،ولم تلبث أن وجدتها ووقفت، على ” السنك ” تغسلها أحست بوجودي، التفتت ونظرت إلي بعينين ذابلتين
ضممتها إلى صدري وقلت ـ آن لنا أن نرتاح ..
قالت بنغمة كالأنين : نعم .. وأخيرا ..
ـ البيت جميل ، وحديقته أجمل.
ـ لكن إيجاره مرتفع .
ـ لا يهم ، مادمنا غادرنا ذلك الزقاق وكوابيسه .
قالت وهي تضع يدها على صدرها : ـ لا تذكرني .. أرجوك .
ـ أخيرا سننعم بالراحة والهدوء ..
وأضفت وأنا أضع كفي على كتفها ـ تأملي السكون الذي يغشى المكان …
ورحت أحدثها عن جارنا العجوز وما جرى بيننا من حديث وأخذنا نضحك ،ولم أكد أكمل كلامي حتى سمعت طرقا متراخيا على الباب خرجت فلم أجد أحدا ، تقدمت خطوة إلى الخارج، تلفت يسارا ثم يمنيا فرأيت طفلا في الخامسة، يقف عند باب جاري أبو جبار بمحاذاة الجدار . اقترب مني بحذر وقال بصوت خفيض : ـ أريد الكتكوت .. ؟!!.
قلت له: ـ أي كتكوت .؟
ـ اثتراه لي جدي البارحة، من السوق.
سألته وأنا أضع يدي على رأسه : ـ ما اسمك .؟
ـ اسمي ثيف .
ـ سيف اسم جميل . .
وعدت أسأله: ـ وأين هو الآن ..
ـ من .؟ جدي .؟
ـ لا .. الكتكوت .
ـ دخل حديقتكم .. من هنا.
وأومأ برأسه إلى فتحة تحت الباب ،جذبته من يده إلى داخل البيت ومضيت به إلى الحديقة .
ـ ارني إياه .؟
فأشار إليه كان الكتكوت أصفر اللون ، مطرقا ، يمشي ببطء فوق الحشائش ،وبين النباتات ، ينقر التربة ، ويزدرد ما يلتقطه ، ولما شعر بوجودنا ، تحرك بعيدا ، تحركت خلفه فاخذ يسرع الخطى والطفل يتفرج باهتمام جريت فجرى ،حاصرته ، ثم تمكنت من الإمساك به ، وضعته بين كفيه الصغيرتين فانبسطت أساريره .
قلت : ـ ضعه بعلبة كارتون ولا تفلته ثانية ..
نظر إلي مستفهما وخرج . عدت إلى زوجتي ، وخبرتها بحكاية الكتكوت وأنا الهث فضحكت، وصفر إبريق الشاي ، فوضعت زوجتي الطعام على المائدة وجلسنا نتناول فطورنا .وانصرفت ارتب كتبي وأعيد لمكتبتي رونقها وامتلاءها . وجلست اقرأ بعض الأوراق ، وإذا بالباب تطرق ، ترى من يكون .؟ فتحت الباب وإذا بالطفل قد عاد قلت : ـ الكتكوت ثانية .؟!!
وتطلعت إلى الحديقة فوجدته ينقر برعم زهرة .هرعت إليه وأبعدته عن البرعم .
ـ قلت لك لا تفلته . ظل الطفل ساكتا يتأمل وجهي والحيرة على محياه .
تفكرت لحظات ، لأجد حلا ، ثم اهتديت إلى حل يرضي الطرفين.
قلت له بمرح ـ انه يريد اللهو .. دعه بعض الوقت وحالما يتعب سيعود إليك.
قال بإصرار : ـ لا .. أريده .. جدي اثتراه لي .
فلم أجد بدا من مطاردته أمسكت بالكتكوت ، ووضعته بين يديه، فانصرف ،وعدت إلى أوراقي وأنا في غاية الانزعاج ، وعاد الطفل ثالثة ورابعة ، وأنا أصر على اسناني ، حتى تعبت ..
استيقظ الولد والبنت ، تناولا الفطور ، كانا يأكلان بأفواه لا تقوى على المضغ وعيون نصف مفتوحة من شدة الإعياء الذي أصابهما . وأصرت زوجتي على أن نكمل ترتيب البيت ووضع كل شئ في مكانه المناسب ، فشمرنا عن سواعدنا، وانشغلنا بالعمل ، كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحا ، حين ضج داخل البيت بقرع جرس الباب ، فار دمي ،وتوجهت على عجلة إلى الباب ، تضاحكت أسرتي . قلت لهم : ـ لاشك انه طفل الكتكوت . فتحت فرأيت ولدا فتيا سألني : ـ مصطفى موجود . تراجعت وقد انطفأت حماستي . حين أخبرتهم من الطارق ضحك ولدي وخرج لصديقه الذي جاء لزيارته . لقد أصبح الطفل والكتكوت كل هاجسي حتى أصبحت أصيخ السمع باتجاه الباب دون شعور مني ..
مر يوم ويومين وكاد هاجسي يفارقني وأنسى الكابوس الذي ارقني ليالي حتى بت أرى الكتكوت في منامي وحشا يقف أمامي يقهقه ساخرا مني وأنا مقيد اليدين لا حول ولا قوة لي لمنازلته ، حين طرقت الباب ، كان الوقت ظهرا وكنت غافيا ، وسمعت أكفا تطرق طرقات متلاحقة ، تسارعت ضربات قلبي ، وفزعت مخيلتي إلى ذلك الزقاق المشؤوم الذي كنا نسكنه وظننت أن شجارا سالت له الدماء قد شب بين الجيران ، وانتبهت إلى الطرقات ، قطعت غفوتي وخرجت ، والطرق مستمر ، فتحت الباب فوجدت جمعا غفيرا من الأطفال يتقدمهم طفل الكتكوت .
هتفوا بصوت واحد : ـ عمي نريد الكتكوت .
وقفت لحظات وبقايا غفوتي مازالت عالقة بأجفاني ، وكدت أتهور والعن ” من خلفوهم وسنسفيل جدودهم” ، ولكنني تذكرت جاري الطيب ، فأحجمت واستعذت بالله من الشيطان .
قلت لهم : ـ ادخلوا وخذوه ..
حاولوا الإمساك به فلم يقدروا ، وأفلت من بين أيديهم،وفر من الحديقة إلى الطريق .تدافعوا وراءه ولما خرج آخرهم أغلقت الباب ولبثت واجما .
في المساء ، أدلى كل واحد برأيه في ما يجري واقترح ابني :
ـ نسم الكتكوت فتنتهي الحكاية.
وصرخت به ابنتي: ـ مجرم .. ألا تخشى غضب الله .
ـ انه مجرد كتكوت .
وظلا يتشاجران ويكيل احدهما للآخر، ابنتي تتهمه بالظلم والعدوان وانعدام الضمير،وابني يستفزها ويسخر منها ، ويصمها بالضعف والجبن و” هكذا هن الفتيات ” . كنا نستمع لما يقولانه باهتمام ، ولما انتهيا قالت زوجتي تخاطبني : ـ الحل أمام عينيك وبين يديك .
قلت بلهفة : ـ أسعفيني به .
ـ خبر العجوز.
ـ جئت بالمفيد ..
عصر اليوم ذهبت إلى جاري طرقت بابه ، خرجت لي امرأة ضخمة الجثة ، قالت بفضاضة : ـ لا يستطيع الخروج .
سألتها : ـ خير.. إن شاء الله .!!
لم تجبني وأشاحت بوجهها عني ، فانصرفت خشية أن ألاقى ما لا تحمد عقباه .
هتف ابني : ـ لنخطف الطفل ونطالب بالكتكوت فدية .
ضحكت ابنتي : ـ يالسخافتك .. أجدى بك أن تلتفت لدروسك .
قالت زوجتي : لا تحزن .. غدا يموت الكتكوت ، أو يفر ..
قلت : ـ أو أموت أنا فأتخلص منه .
حل الخريف برياحه العاتية ، وقلل الطفل من طرقه للباب، وأصبحت نادرا ما أراه ، فهدأت نفسي ، وترك الكتكوت يزور حديقتنا أنى يشاء، يلهو بها ، يجري ويلتقط الطعام وينقر أوراق الشتلات التي في متناوله ،وكنت أتفرج عليه وأقول ” وليكن .. شر أهون من شر” . وجاء الشتاء ،وتفشى البرد وأمطرت السماء مطرا خفيفا ، وانكمشت زيارة الكتكوت للحديقة . كان الأولاد منشغلين بدروسهم وزوجتي بأمور البيت وأنا متقوقع بغرفة مكتبي لا أغادرها إلا لماما ..
ذات يوم أمطرت السماء فيه بقوة حتى أغرقت الحديقة وطفحت المياه فيها إلى الشارع، كنت أقف ملاصقا لنافذتي أراقب المطر حين رأيت الكتكوت يدخل من تحت باب البيت ويتجه إلى مكانه الذي يألفه، قلقت ، وفكرت بالخروج إليه لكن شدة المطر والبرد، منعاني . ولم يمض وقت طويل حتى بدأ المطر يخف ثم يتوقف ، فخرجت إلى الحديقة ترى ماذا رأيت .؟ رأيت الكتكوت منغرسا في الوحل يرقد ميتا ، ولم أفق من المفاجأة بعد حتى رأيت الطفل يدفع الباب ويقف أمامي متأهبا ثم يبكي ويصرخ ويخرج ينادي جده . خرجت وراءه فرأيت العجوز يقف غاضبا مولولا : ـ ما كان لك أن تقتل حيوانا بريئا .
قلت : ـ والله .. وتالله .. وجميع ايمان الله ..
قال العجوز :صه .. أكره الرجل الذي يكذب ..كنت اعرف بنواياك .. وانك ستفعلها ذات يوم ..ثم اخذ يهتف بأسماء اتضح لي فيما بعد إنهم أبناؤه : جبار .. غضبان .. غضنفر .. جسار .. ..مارد .. دحام .. دهام ..مـدددد..هـووو..هيييـ …هاااا… جااااا..ححححـ. وكلما هتف باسم احدهم رأيت شابا كالبغل ، متجهما ، غضوبا، يظهر ويقف إلى جانب أبيه ، يتطلع إلي بتحد حتى رأيت قبيلة تقف بمواجهتي . أعترف أنني جبنت ..لأول مرة في حياتي أجبن واهرب إمام خطر يدهمني .. وأي خطر هذا ..اجل هربت إلى الداخل وأحكمت غلق الأبواب ونبهت على أسرتي بعدم الخروج إلى أن يقيض الله أمرا كان مفعولا..
بعد أيام جاءني جيراني الذي يسكن قبالتي تكهنت بأنه يحمل رسالة من أبو جبار ، سلم علي وقال : ـ أنا جارك أبو هذال.
قلت : ـ أهلا بالجار ..
رايته مترددا قلت : ـ قل ما لديك ولا تتردد ..
وصدق ظني فقد تنحنح ثم قال : ـ يعطيك يومين ” عطوة ” وتحضر ” للفصل “.
ضحكت بمرارة سألني لم تضحك قلت : ـ انه “كتكوت”ليس إلا .
قال بزعل : ـ في قانون العشيرة ، يعد ما جرى لصاحب الكتكوت وأبنائه وأبناء عمومته وعمومته وعشيرته إهانة لا تغتفر،ومشكلة لا يحلها إلا ” الفصل”
قبل أن تنقضي مهلة اليومين ، وفي ليلة ليلاء ، كانت سيارة حمل تتهادى على الطريق محملة بأثاثنا وأغراضنا ، تقطع السبيل إلى المجهول
—