مروى ذياب :
لم أستطع الحراك يوم مات والدي، ظننت أن حالتي تسوء بمفعول الصدمة، وبقيت على حالي مدة يومين، إلى أن رافقتني ابنتي الكبرى إلى الطبيب، قمت بجميع الفحوصات، وكانت ابنتي تتحمل مسؤولية كل شيء لدرجة أنها أخفت موضوع مرضي بالسرطان مدة أسبوع عن الجميع، تبكي خوفا من فقداني دون أن يعلم أحد وتحمل عبئ المرض دون أن اعلم حتى أنا صاحب المرض.
وكانت المفاجأة يوم أخبرتني لتقنعني بالعلاج الكيماوي..
الجميع كانوا يومها في حالة هستيريا: بكاء، ضجيج، وفوضى عمت البيت الصغير الذي كان مليئا بفوضاي، أنا هادئ من هول الصدمة والجميع في فوضى من هول الصدمة أيضا..
وبدأت ومازلت أتعالج، فذلك المرض اللعين يقمعني كل مرة في غرفة بيضاء، فوق سرير أبيض، بشراشيف بيضاء أنتظر الحقنة تلو الحقنة والمسكن للآلام تلو الآخر..
كان السرطان ألذّ أعدائي وصار أشبه بالصديق، يلازمني، يرافقني، يبكيني من شدّة المورفين، ويضحكني لأنّه قدر لا مفر منه..
حكايتي مع السرطان .. كانت السبب في انكساري .. واليوم ذاك اللعين سبب قوّتي .. كان سبب كرهي لكل شيء .. واليوم سبب حبّي للحياة وللتحدّي وللذين ربّتوا على يدي لحظة وجعي..
كنت أدخل المستشفى بوزن لأخرج بعد ذلك بوزن أقل، أدخل بشعري لأخرج منه بخصلات متبقية حمقاء، أدخل مقوم الجسم لأخرج مسنودا على كتف ابنتي الكبرى..
أذكر أني بكيت، في صبيحة يوم ما، لأنني لم أجد شعري، فقد انتزعه مني ذلك السرطان البائس، كصديق حقود يأخذ شيئا مهما لديك بلا طلب وبلا استئذان..
كانت كل شعرة تنسلخ عني وتتركني أبكي على رحيلها مثل الأطفال، لكنني لم أحبذ الشعر المستعار وانتظرت ليعود لي شعري الأسود بكل أمل..
ومازلت رغم الوجع متفائلا محبا للحياة، أخرج كل يوم للشمس أتنفس أول نسمات الصباح العليلة، اتصل بابنتي الوسطى فهي بمثابة الأكسجين لي، ثم أذهب لأتلقى إبرة المناعة القاتلة من أيدي الأطباء في غرفة معزولة تشبه القبر في ضيقها ورائحتها كريهة كالموت المخيف.
أصحو على أنين ، أغفو على أنين … وأنين مرة أخرى .. وحده الطبيب يستمع لشكواي بتقدير..
لا يضايقني إن غفوت لموت يريح أضلعي ما يضايقني فعلا هو الأنين.. وما يضايقني هو لا مبالاة الجميع بمرضي ومرض أغلب سكان العالم .. لا شيء يجعل الآخرين يعبئون بآلام بعضهم .. فكلما صرخ أحد من الألم يرمقه شخص آخر ببرود ..
ما يضايقني هو لامبالاة الإدارات الصحية وهم لا يعلمون أن السرطان كالحرب تغزو كل أخضر ويابس وتفتك بأجسادنا بلا رحمة، ما يضايقني فعلا هو لامبالاة الجمعيات بآلامنا بقدر اهتمامهم بجمع التبرعات لصالحهم وليس لصالحنا.. ما يضايقني هو وطني الذي خدمته طوال عمري هو اليوم لا يساعدني لأنني مواطن عادي..
ولكني أبتسم برغم أسناني مكسورة، برغم التجاعيد التي ملأت وجهي، برغم جسدي النحيف، وعلى قدر أوجاعي سأبتسم..
وبصراحة لا أخاف الموت فالموت راحة، إنما أخاف على أبنائي من بعدي، أخاف على زوجتي من بعدي، أخاف عليهم وأخاف من وجعهم، وأخاف حتى على الزياتين من بعدي، من سيسقيها من سيهديها العمر والعطف، من سيكون أحن عليها مني؟..
مذ ركلني قدري إلى عالم المرض والدواء وأنا أحاول الإفضاء إلى حقيقة يقينية ..وأريد أن أعرف .. لماذا أنـا ؟ لماذا عائلتي؟ لماذا كل هذا الألم؟
ولا أحد يسمع سؤالي .. هل سأموت الليلة أم غدا أم متى؟
ولا أحد يسمع الإجابة أيضا.. فأنا أقوى من أن يهزمني المرض، والعمر بيد الله وحده.
وعندما تسأل يقولون ابتلاء من الله ولا شك في إيماننا بالله عز وجل، ولكن هذا شر ابتلاء ..
أذكر أني تعبت طول حياتي، تعبت في وظيفتي، تعبت في سفري، تعبت مع والداي، تعبت في صغري، فلماذا أتعب في الكبر أيضا؟
ولكن أريد أن أعترف، لعل أجمل ما أهدتني إياه هذه الحياة، هي زوجتي المثالية التي كانت بلسما لجميع الجروح وحلا لجميع المشاكل، وابنتي الكبرى التي أحبها أكثر من الجميع فهي تشبهني في مسؤوليتها وحنانها وفي حبها وانتقامها، وابنتي الوسطى التي أخذت مني آرائي السياسية وأفكاري وقوة إرادتي فكانت نسخة فكرية عني، وابني الصغير الذي أحبه أكثر من أي شيء فقط لأنه رجل البيت من بعدي ولأنه أيضا يشبهني في شقاوته وحبه للحياة.. ولعلي أحبهم جميعا أكثر من أي شيء في الدنيا..
وحتى هذه اللحظة فأنا مازلت محبا للحياة التي أخذت مني كل شيء حتى صحتي ومعطاء لقدري الحزين وسعيدا لما لدي وداعيا لي ولأمثالي بالشفاء، والعمر مرة والحياة واحدة والله ولي الأمور والله ولي المرضى وولي الجميع.
—