أقامَ نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيِّ الأرثوذكسيّ- حيفا أمسيةً ثقافيّةً، لإشهار الكتاب الأدبيّ (لماذا أراك غريبا)، للكاتب والإعلاميّ نايف فايز خوري، وذلك بتاريخ 19- 2- 20 15، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع الفرس 3-حيفا، بحضورِ لفيفٍ مِن الأدباءِ والشّعراءِ والأصدقاءِ والأقرباء والمثقفين المُهتمّينَ بالشّأنيْنِ الأدبيّ والثقافيّ، وقد تولّتْ عرافةَ الأمسيةِ الشاعرةُ سماهر قسّيس نجّار، وتخلّلَ اللّقاءَ مُداخلاتٌ لكلٍّ مِن الكاتب ناجي ظاهر والأديب فتحي فوراني، ومن ثمّ مداخلات مِن الحضور، وفي النّهاية شَكرَ المُحتفى بهِ كاتبُنا نايف خوري الحضورَ، وبَعدَها تمّ التقاطُ الصُّوَرِ التّذكاريّة.
جاء في كلمة العريفة سماهر قسّيس نجّار: مساء الخير للجميع
عندما نؤمِنُ أنَّ قوّةَ الكلمةِ أكبرُ مِن قوّةِ السّلاح، يَكونُ لأفكارِنا ولِقلوبِنا منبرٌ مثل هذا، وأنا أقفُ اليومَ أمامكم، مُعلِنةً إيماني بأنّ قوّةَ الكلمةِ هي الأقوى، مَهْما فتكتْ بها الأسلحة. أُهدي للكاتبِ الكبيرِ بَعضًا مِن شهاداتي حوْلَ فنّ الكتابةِ، وقد رأيتُ أنّها تتحاورُ معَ فِكرِكَ وقلبِكَ، رأيتُنا نكتبُ لكلِّ ما تقعُ عليهِ عيونُنا.. للشّمسِ والقمر، للأزهارِ المُتفرّقةِ هنا وهناك، ولحُبَيْباتِ الرّملِ تحت الأقدام، ولراحةِ البالِ في عيونِ الطّفولةِ الّتي تحترقُ كُلّما مَرّتِ السّنين.
وأحيانًا نكتبُ، لأنّنا لا نستطيعُ أنْ نقولَ لا للكتابةِ، ولا للقلمِ الّذي يَجتاحُ النّفسَ دونَ حسابٍ، وأحيانًا نكتبُ للقصيدةِ الّتي تَخترقُ مَشاعرَنا، تُحبُّنا كما نحنُ نحبُّ ذواتَنا، فلا تَعبَثُ بمشاعرِنا، ولا تَرفضُ الجُنونَ الّذي يَسكنُنا.
وأحيانًا نكتبُ للرّقصِ! للموسيقى! إنّ الموسيقى جنونُ الحياةِ. الطّبيعةُ ترتدي حُلّةَ العزفِ، والتّاريخُ تَكتبُهُ ألحانُهُ، والأزقّةُ تَختزلُ الحياةَ في سمفونيّةٍ موسيقيّةٍ، يَصعُبُ على الإنسانِ أنْ يَفهمَها أو يُراجعَها، معَ أنّهُ يُدركُ وُجودَها.
وأحيانًا نكتبُ للوجودِ وللإدراكِ، وسنواتٌ طويلةٌ لن تَكفينا، لنستدركَ نهايتَهُ قبلَ موْتِنا. أمّا الإدراكُ فخوْضُهُ مُغامرةُ رحّالٍ، وفجأةً ودون أنْ ندري، تجدُ نفوسَنا أنّها مُدرِكةٌ لأمورٍ كثيرة، فتارةً بعدَ ألمٍ كبيرٍ، مُشكلةٍ، غضبٍ، احتراقٍ، مَللٍ، فرَحٍ، ولادةٍ أو اقتحامِ الأشياءِ، أو بعد إصغاءٍ إلى هذا وذاك.
وأحيانًا وفي طريقِ العودةِ إلى البيتِ أو إلى أيِّ مَكانٍ آخرَ، وأحيانًا مِنض العبثِ نفسِهِ، وربّما مِنَ التقاطِ صورةٍ، أو استنشاقِ عطرِ زهرةٍ، أو مِن دمعةِ طفلٍ، أو خبرٍ مِنَ القريبِ أو البَعيد، وربّما عندما أُنهي ما أكتبُ، يأتي إدراكُ شيءٍ ما. نكتبُ لفلسفةِ الحياةِ، فنجدُ انّنا في حفلٍ مِن كُتبِ عظماء قبْلنا، تأخذُنا الرّهبةُ فنتراجعُ، لكنّنا نحِنُّ إلى الفلسفةِ، كما يَحتاجُ الرّضيعُ إلى حضنِ أُمِّه.
أمّا الكتابةُ عن الوطنِ فإنّهُ الألمُ بحَدِّ ذاتِهِ، هو الدّمعُ المُحترقُ بينَ الوسائدِ وفي الحناجر، هو إدراكُ الأملِ في زمنِ اللّا أمل. وطنُنا باتَ قصيدةً، علينا أنْ لا نكتبَ عنهُ، إنّما أنْ نَكتبَهُ.. الفرح، الأولاد، الأمومة، السّلام، التّحدّي، المرأة، الإنسان، الإيمان، الحرب والتّسامح، فجميعُ هذهِ الأمورِ نكتبُ عنها بصفحاتٍ قصيرةٍ، بل بأسطُرٍ محفورةٍ في أعناقِ مَن يَزرعُ الحُبَّ في نفوسِهم، ليعيشَ كريمًا صادقًا، تمامًا، كما جعلَنا الأستاذُ نايف خوري نقفُ بينَ وقْعِ الكلماتِ المُتتابعةِ، وبين الأنفاسِ الّتي لا تنقطعُ أبدًا، عن بَثِّ روحِ الخيرِ والمودّةِ، وبين وطءِ الواقعِ المُؤلم مِن قتلٍ، وذبْحٍ، وعنصريّةٍ، وجهلٍ، وتخبُّطٍ وضياع.
(لماذا أراكَ غريبًا)، كتابُكَ يَدعو الإنسانيّةَ إلى السّلامِ الحقيقيِّ والى الأملِ الدّائم. عند وقفتي الحاضرةِ أمامَ مُحتوى الكتابِ، سمعتُ ردّ فِعلي الأوّليّ الصّادقِ لنفسي، فاعترفتُ بصوتٍ عالٍ اعترافًا مُعلَنًا، أنا أمامَ ثقافةٍ مِن نوعٍ مُختلفٍ، سميتُها “ثقافةَ الكتابة”. لماذا سمّيتُها بهذا الاسم؟
لأنَّ الكتابَ يَشهدُ جودةً عاليةً في الكتابة. لأنّ استفادةً رفيعةً مِن خيراتِ اهتماماتِ الكاتب، الّتي تتناغمُ معَ اهتماماتِ شعبِهِ وبلدِهِ وعائلتِهِ. لأنَّ نقشًا فنّيًّا يَدمجُ الواقعَ معَ الخيالِ، ويضيفُ المَزيدَ إلى صُلبِ المَضمونِ. لأنّ الكتابةَ رقصٌ بينَ الرّوحِ والجَسدِ، ودعوةٌ إلى استدراجِ المعرفةِ مِن كلِّ حدْبٍ وصوْبٍ. لأنّ الكتابةَ شموليّةُ النّظرةِ إلى أبعد مِن حدودِ العين، والحقيقةُ عليها أنْ تخترقَ كلَّ الغرَفِ والأزقّةِ والفضاءِ والسّاحاتِ والحناجرِ والآفاقِ والقلوبِ والنّفوس. إنّها شجونٌ مِنَ الماضي واحتضانٌ للغدِ الآتي، ستأتي السّطورُ دائمًا حريريّةَ المَلامح لنكتبَ، ويَكتبَ كلُّ عقلِ وقلبِ مُفكّر.
(أينَ أضعُ مِرساتي وقد قتلني الوقتُ؟/ أينَ الشّاطئُ مِن همساتي وعندَ النّبضِ مَدٌّ وجَزرُ؟/ أحقًّا ستحترقُ السُّفنُ وتغيبُ مَلامحُ المَوانئ؟/ وتهفو الهمساتُ عن فقيرٍ عارٍ مِن حصيرةِ الغدِ؟/ وليل يَرجو النّهارَ ليَهربَ مِن سكرةِ حُزنٍ لؤلؤيِّ الهمْس؟/ ألن تُقرعَ الطّبولُ قبلَ الدّقيقةِ الأخيرةِ لتُعلنَ النّصرَ البنفسجيّ؟/ دمعي حدّقَ في الأمسِ وارْتوى مِنَ الغدِ وها هو راحلٌ إلى حضنِ اليوم/ فهل لي بجَوازِ سَفرِكَ أنت؟)
أيُّها السّيّدُ القاصُّ الكاتبُ والشّاعرُ ناجي ظاهر ابْنُ بيسان، الّذي يَقطنُ في النّاصرة، الصّحفيّ الّذي حرّرَ الكلماتِ مِن مُعتقلِ كُتّابِها إلى صحفٍ عديدة، كي يقرأها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ، هو صانعُ التّاريخ الّذي لم يَتوانَ عن خدمةِ شعبِهِ بقلمِهِ وإبداعِهِ وإصدارات جمّة. أدعوهُ بكلِّ فخرٍ ليُعطينا مِن نورِهِ إضاءةً جديدةً عن كتاب (لماذا أراكَ غريبًا).
قال الأديب ناجي ظاهر: هذا هو الإنسان كما يَراهُ نايف خوري في كتابه عن الغربة: يُثيرُ الكاتبُ الصّديقُ نايف خوري في كتابه الجديد “لماذا أراكَ غريبًا”، الصّادر مُؤخّرًا عن منشوراتِ مجلّة “مواقف” الثقافيّة الفصليّة الصّادرةُ في النّاصرة، والّتي يُحرّرُها د. فهد أبو خضرة ورهطٌ مِن الكُتّاب. يتناولُ العديدَ مِنَ القضايا الاجتماعيّةِ والثقافيّةِ الحارقة، وقد كتبتُ لها مقدّمةً باسم المَجلّة، حملتْ عنوانَ “كتابةٌ تحتفلُ بالحياة”، ما رأيتُهُ ولمستُهُ في كلّ مقالةٍ، فقرةٍ وكلمةٍ ضمّها الكتابُ، وكما قالَ مُؤلّفُهُ في كلمةٍ تعريفيّةٍ بهِ، عبارةٌ عن مَجموعةٍ مِن المقالاتِ المُنتقاةِ مِن بينِ كمٍّ كبيرٍ مِنَ المَقالاتِ الّتي كتبَها صاحبُها خلالَ السّنواتِ الأخيرةِ، بعضُها نُشِرَ وبعضُها يُنشَرُ في الكتاب أوّل مرّة.
أفتتحُ مُعالجتي لهذا الكتاب مُبتدِئًا بتقديمِ مُقاربةٍ سيميائيّةٍ دلاليّةٍ للعنوان، فلماذا أطلقَ عليه مؤلّفُهُ هذا العنوانَ اللّافتَ؟ مَن هو المُخاطَبُ، ومَن هو الخاطِبُ في هذا العنوان؟ بعدَ قراءةٍ مُتمعِّنةٍ مُتفحِّصةٍ توصّلتُ إلى أنّ المُؤلّفَ هو المخاطِب وهو المخاطَب، فهو يُوجّهُ السّؤالَ إلى نفسِهِ بصيغةٍ استنكاريّةٍ لا تبغي إجابةً، بقدْرِ ما تَطلبُ حلًّا، وهو يُجيبُ عن هذا السّؤالِ الصّعبِ فيما ضمّنَهُ كتابُهُ هذا، كأنّما هو يُريدُ بعنوانِهِ هذا أنْ يُشيرَ إلى ما يَعيشُهُ مِن غربةٍ بين الأهلِ والأحبّاءِ مِن أبناءِ مُجتمعِهِ. وهنا أقولُ: إنّ الغربةَ وما يرافقُها مِن مَشاعرِ الوحدةِ هي قدَرُ الإنسانِ المُبدع في كلِّ مكانٍ وزمان، فكيفَ تكونُ حِدّةُ هذهِ الغربة، إذا ما أُضيفتْ إليها جرعةٌ مُرّةٌ مِنَ المَظاهرِ السّلبيّةِ الّتي يَزخرُ بها مُجتمعُ الكاتبِ المُبدِع؟
لن أقومَ أيّها الإخوةُ، باستعراضٍ لِما ضمّهُ الكتابُ مِن مَقالاتٍ، فأنا لا أومنُ بعمليّةِ الاستعراضِ كثيرًا، وذلكَ لإيماني بأنّ كلَّ قارئٍ إنّما يَقرأُ ما يَقومُ بقراءتِهِ على طريقتِهِ الخاصّةِ، ومِن مُنطلقاتِهِ الذاتيّةِ البحتة، وإنّما سأقومُ بتقديمِ قراءةٍ خاصّةٍ، تُركّزُ على الدّوافعِ العميقةِ للكتابةِ وتجَلّياتِها في الكتاب، ربّما كنتُ أفعلُ هذا، مِن مُنطلق أنّني أشعرُ برغبةٍ كبيرةٍ في سبْرِ أعماقِ الكلامِ، والغوْصِ فيهِ إلى أعماقِهِ البعيدةِ القصيّة. فيما يلي أقومُ ببناءٍ منهجيٍّ لشخصيّةِ مُؤلّفِ الكتاب، كما لمستُها مِن وراءِ ما تضمّنَهُ كتابُهُ مِن مقالاتٍ، مُشيرًا إلى أنّ خيطًا رفيعًا ربَطَ بينَ هذهِ المقالات، يَتمثّلُ في شخصيّةِ المُؤلّفِ وفي رؤيتِهِ لمُجتمعِهِ.
صاحبُ الكتابِ يَظهَرُ في كتابِهِ هذا بثلاثةِ مظاهر، سأحاولُ التّطرُّقَ إليها بالتّلميحِ والإشارةِ، مُوضِّحًا كُلًّا منها بقدرِ ما يَسمحُ الوقتُ وتُتيحُ الذّاكرة؛ المَظهرُ الأوّلُ للمؤلّفِ في كتابِهِ هذا يتجلّى في رغبةٍ هائلةٍ في الانتماءِ، تتمظهَرُ في أكثرِ مِن مَقالةٍ وكلمة، وأكادُ أقولُ في الكتابِ كلِّهِ. تتّضحُ هذهِ الرّغبةُ أكثرَ ما تتّضحُ في عددٍ مِنَ المَقالاتِ، لعلَّ أبرزَها هي تلكَ الّتي تحدّثَتْ عنِ اللّغةِ، وما يَتعلّقُ بها مِنَ المَحبّةِ لكلِّ ما هو جميلٌ ورائعٌ في الحياةِ والمجتمع.
المظهرُ الثّاني هو ذاكَ الامتعاضُ مِنَ الأعراضِ السّلبيّةِ القاتلةِ في مجتمعِنا العربيِّ في هذهِ البلاد، فالمؤلّفُ ليسَ راضيًا، ونحنُ نراهُ ناقِدًا شديدَ النّقدِ للعديدِ مِن هذهِ الأعراض، لعلّ أبرزَها حديثُهُ عن غربةِ الواحدِ منّا في بيتِهِ وبينَ أهلِهِ مِن أحبّاءَ وأصدقاء، وأُشيرُ بهذا الصّددِ إلى مَقالاتِهِ عن عذابِهِ معَ المُسلسلاتِ، وفي حديثِهِ عنِ الغربةِ، ولعلّي أُشيرُ إلى ما كتبَهُ عن مَشاعرِ الغربةِ، عندما ينظرُ إلى أبناءِ الأُسرةِ الواحدةِ، وكلٌّ منهم يَنصرفُ إلى شأنِهِ الخاصِّ بهِ، مُبتعِدًا بما أتاحتْهُ لهُ الأدواتُ التّكنولوجيّةُ مِن آيْفون وآيْباد وحتّى تلفزيون، عمّن هُم حوْلَهُ في البيتِ ذاتِهِ، وربّما الغرفة ذاتها.
المَظهرُ الثّالثُ والأخيرُ هو تلكَ الحكمةُ الّتي اجتهدَ مُؤلّفُ الكتابِ في تقديمِها إلينا نحنُ القرّاء، عن كيفيّةِ تقديمِ الحُلولِ لمُعاناتِنا اليوميّةِ بينَ مَن نُحبُّ وقربه، وهذهِ الحكمةُ تتمثّلُ في العديدِ مِن الطّروحِ الباحثةِ عن حلولٍ، ولعلَّ أبرزَها تلكَ الّتي يَستعرضُ فيها عمليّةَ الاقترابِ مِنَ الآخرِ المَحبوبِ والمَرغوبِ برفقتِهِ مَهْما ابتعَدَ، وهنا تظهرُ مَقالتُهُ عن الحافلةِ الّتي يُشَبِّهُ بها المَسيرةَ المُجتمعيّةَ ذاتَ دلالةٍ وتعبيرٍ خاصّيْنِ، فهو يَقترحُ الأغنيةَ وسيلةً للوصولِ إلى الآخرِ البعيدِ عنّا وهو معنا وبالقرب منّا.
هذا عن العُمقِ الفِكريِّ لكتابةِ الأخ نايف خوري في كتابِهِ هذا، أمّا عن الشّكلِ الأدبيّ الّذي كتبَ مُنتهِجًا إيّاهُ، فإنّ ما كتبَهُ يَتّصفُ بالعديدِ مِنَ الصّفاتِ، أُشيرُ إلى أهمِّها كما رأيتُهُ، فتتّصفُ كتابةُ المُؤلّفِ بنوعٍ صارخٍ مِنَ التّعليميّةِ التّنويريّةِ، فهو لا يَكتبُ في فراغٍ، وإنّما هو يَكتبُ بعدَ الكثيرِ مِنَ الإعدادِ والتّحضيرِ، ويَلمسُ القارئُ مدى ما بذلَهُ في البحثِ والتّنقيبِ اللّغويّ، لعرْضِ ما يَودُّ عرْضَهُ مِن قضايا. المَقالةُ لدى نايف تأتي في العادةِ على النّحوِ التّالي، فهي تبدأ بطرْحِ المشكلةِ فالأمثلةِ فرأيِ الكاتب، ثمّ تنتهي بتقديمِ تلخيصٍ وإجمالٍ لِما أرادَ قوْلَهُ لنا نحنُ القرّاء. وتظهرُ في هذا كلِّهِ ثقافةُ الكاتبِ واضحةً جليّةً، الأمر الّذي يَدفعُني للقوْلِ، إنّ العديدَ ممّا كتبَهُ الصّديقُ نايف يُمكنُ أن يكونَ مادّةً دسِمةً لتعليمِ الطّلّابِ في مدارسِنا. مع هذا، أرى أنّ هذه الإيجابيّةَ في كتاباتِ المؤلّفِ عادتْ عليْهِ ببعضٍ مِنَ الوَبال، فهي كما أحسنَتْ إليهِ وإلى كتابتِهِ، أساءتْ بالقدْرِ ذاتِهِ، كوْنَها أوقعَتْهُ في نوعٍ مِنَ الرّتابةِ الّتي يَمجُّها الإبداعُ الأدبيّ، وجعلَتْهُ يَرسفُ في قيودِ النّمطيّةِ المَقيتةِ. لهذا أدعوهُ للتّمرُّدِ على رتابتِهِ ونمطيّتِهِ في كتابتِهِ ضمنَ هذا الكتاب للولوجِ إلى عالمٍ أوسع، وإنْ بَدا أضيقَ للنّظرةِ غيرِ المُتفحِّصة.
أيُّها الإخوةُ، الاحتفالُ بكِتابٍ يعني الاحتفالَ بالثقافةِ، والاحتفالُ بالثقافةِ يعني الاحتفالَ بأهلِها، والاحتفالُ بالثقافةِ وأهلِها هو مظهرٌ حضاريٌّ يَستحقُّ التّحبيذُ والإشادة. لهذا أتقدّمُ إلى نادي حيفا الثقافيّ والمجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ بأسمى آياتِ التّقديرِ والاحترام، لا سيّما أنّني علمتُ مِن الأستاذ فؤاد نقارة، مُنظّمِ هذهِ الاحتفاليّةِ الإشهاريّة، أنّ هذا النادي المُبجّلَ يَقومُ بتنظيمِ النّدواتِ الثقافيّةِ المُماثلةِ بشكلٍ دوْريِّ. شكرًا لكَ أخي فؤاد، وتحيّةَ تقديرٍ واحترامٍ إلى صديقي الكاتب نايف خوري. شكرًا للحضور الكريم.
تُتابعُ العريفة سماهر قسّيس نجّار: عندما تحدّثتَ في كتابكَ عن موضوع ” التّصفيقُ المَجّانيّ” ضحكتُ مِن قلبي، وعرفتُ أنّكَ صادقٌ إلى أبعدِ الحدودِ، ولطالما سألتُ نفسي مُتعجّبةً، كيفَ يُصفّقونَ لهذا وذاك؟ وأدركتُ بعدَ مِشوارٍ طويلٍ في دراسةِ عِلم النّفس، أنّ التّصفيقَ هي مَرحلةُ تطوُّرٍ هامّة، بينَ مُناجاةِ الخارج معَ الدّاخل، والخارجُ هنا هو الجمهورُ، والدّاخلُ هو الطفلُ المُبدعُ في دواخلِنا فما رأيك؟ كيف أنّنا أضعنا الدّاخلَ، وذهبَ الإبداعُ في حالِ سبيلِهِ، وبتنا نُصفّقُ للعبث؟! ومع هذا، علينا أنْ نُكثِرَ مِنَ التّصفيقِ معَ مَن تناغمَتْ نفسُهُ مع ذاتِها، فأبدعتَ وكتبتَ، ورسمتَ وعزفتَ، لأنّ الفنَّ هو الحياة. الأستاذ فتحي فوراني، أخبِرْني عنكَ، فمَن تتلمَذَ على يديْكَ، ومَن جعلْتَهم يَمتلكونَ اللّغةَ ويُبحرونَ في الحياة، لكَ منهم ألفَ شُكرٍ، ولهم منكَ ألفَ سعادةٍ ونجاح .. أتركُ لكَ المنصّةَ، كي تُعطينا من مائِكَ لنرتوي ونرتوي.
جاء في كلمة فتحي فوراني تحت عنوان: لا غريب إلّا الشّيطان! أخي الأستاذ نايف، تسألُني: لماذا أراكَ غريبًا؟ فأحملُ السّؤالَ على مَحملِ الدّعابة، لأنّني أعرفُ يَقينًا أنّي قريبٌ منكَ أكثرَ ممّا تتصوّر، فأنا أقربُ إليكَ مِن حبلِ الوريد، ولو مرَّ سيفُ الأخطلِ الصّغيرِ بيننا، لم ندْرِ، أجَرى دمي أم دمُكَ، ففي معظمِ طروحاتِكَ هنالكَ تَطابُقٌ كبيرٌ معَ ما أرى. يكادُ المُثلّثانِ؛ مُثلّثي ومُثلّثُكَ أن يَتطابقا تطابقًا تامًّا. ضلعانِ مُتساويانِ وزاويةٌ “قائمةٌ ومشتركة”. كفانا اللهُ شَرَّ التّشرذمِ وشَرَّ الشّرَكِ وشَرَّ الصّراعِ بينَ قيس ويمن وعبس وذبيان. فأخيرًا حنَّ العودُ على قِشرِهِ وامتدّتِ الجُسورُ بين الشّاطئيْن، فعانقَ الشّاطئُ الشاطئَ، وتَعانقَ الإخوةُ وتحقّقَ الحُلم، وكانَ ميلادُ “القائمةِ المُشتركة” الّتي تحملُ راياتِ الأمل، وفسدتْ بذلكَ لكمةٌ مُدوّيةٌ لحارسِ النّوادي اللّيليّة، وغريمه بطل المغامراتِ والمقامراتِ والحماقات السّياسيّة.
جاءَ في التّراثِ قبلَ أربعة عشر عامًا، أنّ أكثم بن صيفي “حكيمَ العرب”، دعا أولادَهُ عندَ موْتِهِ، فاستدعى إضمامةً مِنَ السّهامِ، فتقدّمَ إلى كلِّ واحدٍ منهم أنْ يَكسِرَها، فلم يَقدِرْ أحدٌ على كسْرِها، ثمّ بدّدَها ونثرَها فاستسهلوا كسْرَها، فقالَ: كونوا مُجتمِعينَ ليعجزَ مَن ناوَأَكُم عن كسْرِكُم، كعجْزكُم عن كسْرِها مُجتمعة، فإنّكم إنْ تفرّقتُم سهُلَ كسْرُكم. ثمّ أنشأ قائلًا: كونوا جميعًا يا بَنِيّ إذا اعترى/ خطبٌ ولا تتفرّقوا آح ا د ا/ تأبى الرّماحُ إذا اجتمَعْنَ تكَسُّرًا/ وإذا افترقْنَ تكسّرَتْ أفرادا.
جاءَ في الآيةِ الكريمة: ولا تنازَعوا فتَفشلوا وتذهَبُ ريحُكم. وأخيرًا، جلسَ الإخوةُ حولَ صحنٍ واحدٍ. نرجو اللهَ أنْ يَجعلَ التّمامَ على خير، فالطّريقُ أمامَنا طويلٌ، وهذه بدايةُ الطّريق، وفقط بداية، قبل يُغادر البيتَ. اعتادَ عبدُالله أنْ يُقبّلَ يدَ أُمِّهِ ويقولَ لها: أنا مِتسهِّل يمّا.. فتقولُ لهُ: الله يسهّل عليك يا حبيبي، ويجعل طريقك خضراء، ويبعد عنك أولاد الحرام. ما أجملَ هذا الدّعاءَ، إذا صدرَ مِن نبعِ الحنان الّتي تنامُ الجنّةُ تحتَ أقدامِها. سهّلَ اللهُ طريقَ “القائمة المشتركة”، وجعلَها خضراءَ خضراء، وأبعدَ عنها أولادَ الحرام.. شذاذ الآفاق!
*لنترك الدّعابةَ السّياسيّة، وننطلق منها عودًا على بدء. أخي نايف، أنا لا أراك غريبًا، أنا أراكَ قريبًا قريبًا قريبًا، فهمُّنا واحدٌ وفرَحُنا واحدٌ، وحلمُنا واحدٌ، ونحنُ نأكلُ مِن صحنٍ واحدٍ، ونعيشُ تحتَ خيمةٍ وطنيّةٍ واحدة. **نحن أمامَ مائدةٍ شهيّةٍ وعامرةٍ بألوانِ الأدب والفِكر، ولا أستطيعُ في هذا الفضاءِ الزّمنيّ البخيلِ، أن أُحيطَ بهذهِ المائدةِ مِن ألِفِها إلى يائِها، ومِن بابِها إلى مِحرابِها، إنّما سأتنقّلُ بينَ أزهارِ الحديقةِ، وأقتطفُ وردةً مِن هنا وأخرى مِن هناك، وأجمَعُها في باقةٍ صغيرةٍ أُقدّمُها لكم في هذا المساءِ، سفيرةً لمملكةِ الورد. سأضربُ صفحًا عن المقالاتِ الّتي تنتمي إلى عائلةِ الأبحاثِ والدّراساتِ الفكريّةِ والعقائديّة، والّتي تستحقُّ أنْ تُدرجَ مستقلّةً بين دفّتيْن، وهي مَقالاتٌ هامّةٌ دونَ شكّ، فقد رأيتُ مِنَ المناسبِ في هذا السّياقِ، أن أتوقّفَ عندَ بعضِ المحطّاتِ السّاخنةِ المزروعةِ في أرضِ الواقعِ الّذي نعيشُهُ ونتنفّسُ هواءَهُ ونكتوي بنارِهِ.
*في البدء حديث عن الهوية: الكاتبُ حريصٌ في الحفاظِ على هُويّتِهِ الفلسطينيّة، وتأكيدِ انتمائِهِ لتراثِهِ وفولكلورِه، وإزاءِ مَشهدِ التّسيُّبِ والانفلاتِ الفنّيّ، يُسلّطُ الضّوءَ على ظاهرةِ الأغنيةِ الفلسطينيّةِ الّتي تتكلّمُ بلهجةٍ مصريّةٍ تارةً ولبنانيّةٍ تارةً أخرى، مُتنكّرةً لانتمائِها، لهُويّتِها، وزيتونها، وجبالِها، وسهولها وبحرها. يريدُها أغنيةً لها هُويّتُها المُستقلّة، مغموسةً بالزّيتِ والزّعتر، وشعارُها زيتونةٌ فلسطينيّة. ويتوجّهُ إلى المبدعينَ مِن فنّانينَ تشكيليّينَ وموسيقيّين، ومطربينَ وراقصين وشعراءَ، ويدعوهم إلى التّمسُّكِ بالهُويّةِ الفلسطينيّةِ في إبداعاتِهم المختلفة.
على بُعدِ خطوةٍ أو خطوتيٍن مِن أقرث وبرعم وصفد: فالكاتبُ وفيٌّ لجذورِهِ وانتمائِهِ لوطنِهِ وترابِ قريتِهِ، ولا يستطيعُ أن يَتخلّى عن انتمائِهِ إلى أرضِ آبائِهِ وأجدادِهِ.
يقولُ نايف: يَحزُّ في النّفسِ أنْ تَسكنَ اليومَ على مرمى حجرٍ مِن بلدتِكَ السّابقةِ الّتي هجّروكَ منها، فهي على مرأى منكَ أمامَ ناظريْكَ، ويُمكنكَ أن تسيرَ نحوَها خطوةً أو خطوتيْن، فتعيشُ في أحضانِها، وتسكنُ في حاراتِها، وتمشي على ترابها، وتتنشّقُ هواءَها، وتشربُ مِن ينابيعِها ومياهِها العذبة. ترى كلَّ هذا أمامَكَ، وأنتَ تشعرُ بالحسرةِ والحرمانِ يُنغّصُ متعةَ حياتِك.
*أخي نايف، بـــي مـــثـــلٌ مــا بـك يــا حــمــامــة فــاســألــــــــي/ مِـن فــكِّ أســرِك أنْ يَــحــلَّ وثــاقـــــــــــــــــي بي مثلٌ ما بكَ.. فقد وقفتُ أمامَ بيتِنا في صفد، ورأيتُ غزاةً غرباءَ جاؤوا مِن وراءِ البحارِ والمحيطاتِ، فتسلبطوا على بيتي وهوائي وبئري وملاعب الطفولة، وصرتُ لاجئًا في وطني، وطن آبائي وأجدادي! فكيفَ أنسى شجرَ اللّوزِ، ورأسَ النبع، وأجملَ مصايفِ فلسطين؟ مَن لا يريدُ العودةَ إلى صفد، إلى وطنِ الآباءِ والأجدادِ فهذا شأنُهُ، أمّا أنا فلي شأنٌ آخرُ! يَقتلني الشّوقُ والعشقُ لبيتي ومدينتي وعينيْها الكحيلتين.. يقتلني الشّوقُ لشربةِ ماءٍ عذبةٍ مِن عينِ الزّيتون، ومِن جميعِ العيونِ الّتي تتفجّرُ ماءً زمزميًا، مِن أحشاءِ هذا الوطن النّازف.
*ما علينا، فإقرث وبرعم وصفد والبروة والمئاتُ مِن أخواتِهنَّ اليتيماتِ، لن يتخلّيْنَ عن الحُلمِ والأملِ في تحقيقِ الحلم! فما أضيقَ العيشَ لولا فسحة الأمل! هكذا قالَ جدُّنا الطغرائي!
حديث عن التّصفيقِ المجّانيّ: مِن إقرث وصفد نَشُدُّ الرّحالَ إلى محطّةٍ أخرى، فنسمعُ عن بُعدٍ أصواتًا صاخبةً، نقتربُ مِن المحطّة، فتتناهى إلى مسامعِنا أصواتُ التّصفيقِ المَجّانيّ الّتي تطلعُ إلينا مِن كلِّ الجهات! التّصفيقُ المجانيُّ سيّدُ الموقفِ، ولهُ وكلاؤُهُ وعُملاؤُهُ في المسرحِ والفنونِ والغناءِ وُصولًا إلى الأدب. يرى الكاتبُ أنّ الطّامةَ الكبرى كامنةٌ في الأدب شِعرًا ونثرًا. يقولُ نايف: ما إنْ تردُ أيّةُ خاطرةٍ على ذهنِ هذا الكاتبِ أو الشّويْعر، حتّى يَروحُ يُبعثرُها كيفما اتّفقَ على الصّفحاتِ البيضاء، فيبدأ التّطبيلَ والتّزميرَ، ويَنبري المُطيِّبونَ للمشاركةِ في الزّفّةِ، فيتوهّمُ “المحروسُ” أنّهُ وحيدُ عصرِهِ، غيرَ مُدرِكٍ أنّ كلامَهُ لا يَعدو كوْنَهُ لطًّا على السّحنةِ، وأنّهُ رديفُ “المفرقعات” على البلاط!
أيُّها العزيز، نحنُ نُميّزُ بينَ المواهبِ الواعدةِ الّتي تُبشّرُ بالخير، وتستحقُّ التّشجيعَ والتّصفيقَ الصّادقَ، والتّربيتَ على الكتفيْنِ والأخذَ باليد. وبينَ رصْفِ الكلامِ الّذي يُعاني فقرَ الدّمِ الإبداعيّ، وتنقصُهُ الموهبةُ والطّعمُ والرّائحةُ والنّفَسُ الشّعريّ، فالسُّدّةُ مُعرَّمةٌ بهذهِ الإبَرِ المُشَرَّمةِ.
حديثٌ في المسلسلاتِ التّلفزيونيّةِ والزّمنِ الضّائع: ينتقدُ الكاتبُ المسلسلاتِ التّلفزيونيّةَ السّخيفة الّتي تسرقُ الوقتَ، وتُطيحُ بالعلاقاتِ الاجتماعيّةِ بينَ أفرادِ العائلةِ الواحدةِ في البيتِ الواحد.
*أخي نايف، لقد صدقت! ولكن، ماذا مع الآيفون والآيباد والسّمارتفون والجلاكسي والسامسونج، وباقي أفرادِ الشّلّةِ الّتي شَلّتِ العلاقاتِ العائليّةَ؟ تعالوا نزيح السّتارَ عن المستور، فالمشهدُ واضحٌ كلَّ الوضوح. كلٌّ في غرفتِهِ مع آيفونه وحاسوبه. للابنِ غرفتُهُ وحاسوبُهُ وآيفونُه. للبنتِ غرفتُها وحاسوبُها وآيفونها. ولربِّ العائلةِ غرفتُهُ وحاسوبُهُ ومكتبتُهُ وكتبُهُ وفيروزُهُ. وللأمّ مطبخُها وطناجرُها، وأحيانًا كتابُها وصحيفتُها. فأينَ الرّوابطُ العائليّة؟ نعيشُ معًا تحتَ سقفٍ واحدٍ، ولكلٍّ عالمُهُ، ولا علاقةَ بينَ أفرادِ العائلةِ الواحدة. إنّهُ عصرُ العوْلمةِ الّذي أبدَعَ هذا الطّوفانَ مِن “الخيراتِ” التّكنولوجيّة، وراحَ يَقصفُنا بها دون رحمة!
على ضوءِ شمعةٍ ناعسةِ الطّرْفِ.. نلتقي! ذاتَ مرّةٍ وفي ساعاتِ المساءِ انقطعَ التّيّارُ الكهربائيُّ في المدينةِ، فخرجَ جميعُ أفرادِ العائلةِ من غرَفِهِم الخاصّة، وتركوا حواسيبَهم طريحةً بلا حرارةٍ أو نَفَس، وهرولوا إلى غرفةِ الصّالو العائليّةِ، وجلسوا معًا على ضوءِ شمعةٍ رومانسيّةٍ ناعسةِ الطّرْفِ. أهيَ “معجزة”!؟ ربّما! لقد التمَّ شمْلُ العائلة، فتحدّثوا وتحاوَروا وتسامروا، وكانت سهرةٌ اجتماعيّةٌ ثقافيّةٌ فولكلوريّةٌ دافئةٌ لا أحلى ولا أجملَ، وتمنّيت انقطاعَ الكهرباءِ ساعةً على الأقلِّ كلَّ يومٍ، حتّى نسهرَ على ضوءِ شمعةٍ، ونسافرَ في مشوارٍ قصيرٍ ممتعٍ إلى أيّام زمان، ونستمتعَ بلقاءٍ عائليٍّ دافئٍ، طالَ شوقُنا إليه. لقد اشتقنا إلى الفاكهةِ المحرّمة!
وبعد.. لماذا أراك غريبًا؟ أمّا “رسالة في الغربة”، فهي في نظري واسطةُ العقدِ في هذا الكتاب. يظهرُ الكاتبُ على خشبةِ المسرح، ويُطلقُ نحوَ النّظارةِ سؤالًا حارقًا: لماذا أراك غريبًا؟ وتتدفّقُ المشاعرُ الفيّاضةُ والصّادقةُ مِن أعصاب الكلمات، لتَغمرَ جمهورَ المُشاهدينَ في القاعةِ، وتَهزَّ كلَّ ذي ضميرٍ إنسانيٍّ حيّ، وهل يُمكنُ لصاحب الضّميرِ إلّا أنْ يكونَ إنسانًا ذا ضميرٍ حيٍّ؟ ويُطلقُ الكاتبُ النّداءَ الصّاعدَ مِن الأعماق، ليدخلَ إلى الأعماق، مُخاطبًا ابنَ الحارة وابنَ البلدِ وابنَ الوطن بحميميّةٍ صادقة: أحبّكَ مِن كلِّ قلبي، فلا تحرمْني مِن عطفك. أحبّكَ بكلّ جوارحي، فلا تحرمْني مِن فرصةِ عناقك. أحبّكَ مِن صميمِ فؤادي فلا تنشغلْ عنّي، كي لا أتيهَ في صحراءِ الحياةِ وبراري الجهل. أريدُكَ فلا تدعْني عرضةً للوحوشِ الّتي تُشْهِرُ أنيابَها، وتَسنُّ مَخالبَها لكي تنهشَ جسدي. أحبّكَ إلى جانبي لأدعمَكَ وتدعمَني، فلا تتركْني عرضةً للّذينَ يَتربّصونَ بي لكي يُنشِبوا مَخالبَهم في جسدي، وكأنّنا في أدغالٍ تسودُها شريعةُ الغاب”.
*أخي نايف. نحن ُفي خندقٍ واحدٍ شئنا أم أبينا، وكلُّنا مُستهدَفونَ، ويدُ الإرهاب لا تُفرّقُ بينَ أحدٍ مِن أنبيائِنا، ولا تُفرّقُ بينَ عبادِ اللهِ كائنًا ما كان دينُهم ومذهبُهم ولونُهم ومسجدُهم وكنيستُهم. فكلّنا مُستهدَفون، وليسَ أمامَنا إلّا أنْ نكونَ يدًا واحدةً، ولا بديلَ لنا إلّا أنْ يَشدَّ بعضُنا بعضًا، كالبنيانِ المَرصوصِ في وجهِ مَغولِ العصر.
أخيرًا.. حديثٌ في اللّغةِ العربيّةِ: يحملُ الكاتبُ في حقيبتِهِ بطاقتيْن: الأولى بطاقةُ كاتب، والثانيةُ بطاقةُ عاشق. فصاحبُنا عاشقٌ للّغةِ العربيّة، وينتمي إلى كتيبةِ عُشّاقٍ، بعيونِها تُقاتلُ دفاعًا عن اللّغةِ القوميّة. هذا العاشقُ يعزُّ عليهِ أنْ يَرى عشيقتَهُ جالسةً على النّاصية، ترتدي ثيابًا رثّة، وتحملُ شعارًا تُطلُّ منهُ العبارة: اِرحموا عزيزَ قومٍ ذلَّ! ففي “منتدى حيفا الثقافيّ” استضفنا ذاتَ يومٍ ثلاثةً مِن أساطين اللّغةِ العربيّة: العمّ طه حسين، والخال المتنبّي والجدّ سيبويه. كانتْ أمسيةً ثقافيّةً عن اللّغةِ العربيّة، وشاهدنا معًا شريطًا سينمائيًّا يجري فيه حوارٌ بلغةٍ تنتمي إلى عصرِ ما بعد بعد الحداثة، فاستمعنا إلى الحوارِ التالي بين فتاتيْن موديل 2015، تقول الأولى:
كان بدي أشوف التلفزيون مبارح، عشان أحضر لعبة الفوتبول. أوّل شي فتحت المزغان (المكيّف)، وبعدين أخذت الشلاط (جهاز التحكّم)، وكبست على الكفتور (الزّرّ)، وشفت الكبوتساه (المجموعة) تاعتي، كان الشومير (حارس المرمى) ينطّ على الفوتبول (كرة القدم) زيّ العفريت. يقصف عمره الشومير (حارس المرمى)، كان حتيخ (جميل الطلعة)، بس كان ابن زوناه (ابن زانية)، ما حسب الشاعَر اللي فات، وكانوا اللعّيبة يعملوا كل طاعوت (خطأ) ولا أختها، بس هو عامل حالو مش شايف. لكن الماغين (الدفاع) عمل مسيراه (تسليم) للي حدّو وكانت حلشاه (ضعيفة)، فأخذتها الكبوتساه (المجموعة) التانية اللي مبين عليهن حزاكيم (أقوياء)، وضربوها ع الريشت (الشبكة)، وغووووول (هدف)!” يييييييش! (كلمات عبرية)
أمّا صاحبتّها الّتي تعشقُ الأزياءَ العصريّة، فقد بهدلت الهُويّةَ الثقافيّة، وأبْلَتْ فيها بلاءً حسنًا، وراحتْ تتباهى بلغتِها “العربيّةِ” المُعاصِرة: شفت برنامج التلفزيون امبارح، كانت الأواعي كلها أولد فاشن (موضة قديمة)، فساتين طويلة وكمام طويلة. يعني الأوفناه (الموضة) اليوم رجعت مثل زمان. إيش بدها تلبس الوحدة على السهرة أو على البارتي (الحفلة). يعني أنا بحبّ أروح بارتي (للحفلة) وأطلع مع ماي فريند (صديقي)، بس هو بحب يوخد شوت ليكير (نوع خمر) بالأول، وبعدين شوب بيرة (نوع خمرة)، وبعدين كوسيت أوزو (كاس أوزو)، حتّى يستمخَ ويسطّل. أنا بكفيني نفس أرجيلة، وبحط شويّة ويسكي في كوس تيه (كاس شاي)، وببيّن إنّي بشرب تيه وبس، وشو بدي أحكي لك يا سوسو، خدي غمز وهمس ولمس ولعب وضحك وفرفشة. ياي.. ما بدي أحكي كلّ شي. هَياه كيفْ (حياة انبساط). سهرة من العمر”.
وما إن انتهى الحوار، حتّى نظرتُ حولي فصُعقت! فرأيتُ الأساتذةَ الثلاثةَ مُجنْدَلين مطروحين على الأرض مُغمًى عليهم. فهرعَ الأستاذ فؤاد نقارة واتّصل بمحطة مَغين دافيد أدوم (نجمة داود الحمراء)، فحضر الأمبولنس (سيارة الإسعاف)، ونقلهم على الفور إلى الـ”مِيُّون” في مستشفى رمبام. يقول المذيع: ما زال الثلاثة تحت العلاج المُكثّف. نتمنّى لهم الشفاءَ العاجل، والعودةَ مِن حيث أتوْا، سالمين غانمين!
قالت العريفةُ سماهر: وأخيرًا، أتمنّى أنّكم استمتعتم، ورغبتُ بأن أُنهي الأمسيةَ، كما أنهى الكاتبُ كتابَهُ عن فنّ النّقد. إنّ النّقدَ هو نبضُ الحياةِ، خاصّةً إنِ ارتبَطَ بقيمةِ العملِ، فمَنِ استطاعَ أنْ ينتقِدَ، فهو ما زالَ يُفكّرُ، ومَنْ توقّفَ عن النّقدِ، أصبحَ مُشاهِدًا سلبيًّا لا يَعلو صوتُهُ على صوتِ دبيبِ النّمل مُجتمعين، وأنا بينَ مُعجبةٍ وناقدةٍ، أرغبُ أنْ أقرأ نصًّا، يَعكسُ ما يَجولُ في ذِهني وقلبي، وبعدَهُ نُتابعُ: (حورٌ في حَدقةِ عيني/ هشاشة في نبض قلبي/ عمري قطراتُ ندى ….رذاذُ مَطر/
كذِبٌ أنْ أضعَ ما أصبو إليهِ فوقَ وسائدِ الماضي، هباء أنْ أختصرَ عشقيَ في هفواتِ الفِكرِ، حرام أنْ أُعتِقَكَ مِن حضنِ حبّي، فقد لمحتْ أساطيرُ آلهةِ الحُبِّ بُطولاتي/ حرّيّتي مِن أجلك استعبدَتْ أوراقي
اختصرتُ كتاباتي بينَ أرصفةِ النّسيانِ ومَوانئِ احتراقي/ دخلتُ إلى حقائبِ اللّهفةِ وزرعتُ أناشيدَ الطّقوس/ رويتُ كعجوزٍ تاريخَ سُفنِ الهَوى في البحيراتِ/ صوّبتُ كلَّ اللّفتاتِ وتركتُ للعشقِ الرّقصاتِ/ تحدّيتُ معبدَ الكُفرِ، الفقرِ، الذّلّ والهوانِ/ تُقتُ إلى النّهاياتِ الّتي لا تُشبهُ البداياتُ
حجارةَ الحُبّ.. / انتفاضة السكينة في ذاتي
—