تحت رعاية وزارة الثقافة في محافظة جنين، أقامَ منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين أمسية ثقافيّة فنيّة، في قاعة قرية حدّاد السياحيّة في جنين، لتكريم الأديبتين المبدعتين الشاعرة آمال غزال/ جنين، والروائيّة الأديبة فاطمة يوسف ذياب/ طمرة الجليليّة، وذلك بتاريخ 13-3-2015، وقد أدار الأمسية ليلة الجعبري، بمصاحبة الفنان الشاب صالح شعبان عازف العود، وسط حضور العديد من الكُتّاب والأدباء والشعراء والمهتمّين والأصدقاء، وقد قام منتدى الأديبات الفلسطينيات/ جنين باستضافة النادي النسائيّ الأرثوذكسيّ/ عبلين، وتنظيم نشاطات سياحيّة وثقافيّة في رحاب معالم محافظة جنين الأثريّة: الزبابدة، وعرّابة، وبرقين، وجنين.
بعد النشيد الوطنيّ أولى فعاليّات الأمسية، استهلّ الأمسية عزّت أبو الرُّب مدير الثقافة بكلمة افتتاحيّة، شكر فيها منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين، وكلَّ من قام وساهمَ في تنظيم وإنجاح هذه الأمسية واللقاء، من جمعيّاتٍ ومؤسّساتٍ وبلديّاتٍ، من أجل تعزيز التواصل، وحفاظًا على وحدة الشعب الفلسطينيّ وموروثه الثقافيّ، مؤكّدًا أنّ البقاءَ لفلسطين وللشعب العربيّ الفلسطينيّ، وليس بوسع أحد أن ينفيه أو يلغيه.
أمّا الزجّالة عائدة أبو فرحة؛ رئيسة منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين، بعد أن رحّبت بالحضور قالت: إن منتدی الأديبات الفلسطينيّات/ جنين كأنّه سفينةٌ تمخرُ عبابَ البحر المتلاطم بأمواجهِ العالية بثباتٍ، وتتحدّی الصّعاب وتتجاوزَ العقباتِ، لتصلَ إلی برّ الأمان، ولترسو في ميناء المَحبّة، مُحمّلة بما هو جديد من الجواهر التي جمعَها غوّاصوها، وأشكرُ كلَّ مَن يقفُ إلی جانبنا ويَدعمُنا، ويرصف طريقنا بالأمل، فمعًا ويدًا بيد نرفعُ راية الثقافة، وأشدّدُ مُجدّدًاعلى ضرورة تنظيم ودعم وتبادلِ المزيد من هذه اللقاءات.
وفي كلمة النادي النسائي الأرثوذكسيّ/عبلين، شكرت آمال عوّاد رضوان منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين، وثمّنت الدعوة الثريّة ببرامجها المنظمة الحافلة، وشكرت جميعَ المؤسّساتِ الداعمة التي استضافت الوفد، بحفاوةٍ تفوقُ التوقّعَ خلال يومين سياحيّين ثقافيّين، وبمنتهى التعاون الوطني الهادف والراسخ في جذور الانتماء والعطاء. أمّا الكاتبة فاطمة ذياب فقد شكرتْ كلّ مَن ساهمَ وشاركَ في تكريم االأديبات الفلسطينيّات، وعرّجت بعدَها على مسيرتها الأدبيّة والحياتيّة، وما واجهتهُ مِن صعوباتٍ في بداية طريقِها، ممّا جعلها تنقطعُ عن الكتابة لمدّةٍ تزيدُ عن عشر سنوات، وأضافت الكاتبة أنّها فخورة بما حققته من إنجاز أدبيّ كرائدة، إذ تُرجمَ أدبُها إلى لغات أخرى، ونوّهت بأنها تُجسّد ما تدعو إليه في كتاباتها الأدبيّة، وأضافت نكهةً ساخرةً، حين استرسلتْ في سرْدِها حولَ طفولتِها وعلاقاتِها الأدبيّة.
تخلّل الأمسية وصلة غنائيّة بمصاحبة الشاعرة الشعبيّة والفنانة عائدة أبو فرحة، وقراءات شعريّة : للطفلة روعة مالك قبها، الطفلة شام خالد ابو فرحة، عناية النجمي، آمال غزال، هشام أبوصلاح، أسماء أبوالرُّبّ، عبلة التايه، آمنه عمارنة وسوسن داوودي عبر الهاتف، ثم ألقى د. عمر عتيق دراسة نقديّة لرواية “مدينة الريح” للكاتبة فاطمة ذياب، ودراسة لديوان “فراشة الحواس” للشاعرة آمال غزال، وفي نهاية اللقاء قدّمت آمال عوّاد رضوان وعائدة أبوفرحة دروعًا، لجمعيّة (خطوة التنموية المجتمعية) في عرابة، وللشاعرة آمال غزال، وللناقد الباحث د.عمر عتيق، وللروائيّة فاطمة ذياب، ثمّ تم التقاط الصّور التذكاريّة.
قراءة سيميائيّة في رواية مدينة الريح للكاتبة فاطمة ذياب/ بقلم د. عمر عتيق
ينبغي الوقوفُ على عنوان الرّواية وغلافِها؛ لأنّ العنوان في المنظور السيميائيّ النقديّ يُشكّلُ عتبةً، يَستشرفُ منها القارئُ آفاقَ الرّواية، ويبدأ منها فهمُ البناء الفنّيّ للعناصرِ الرّوائيّة، فالعنوانُ إطلالةٌ لغويّةٌ تختزلُ عصارةَ الرّسالة، أو الغاية التي تنطوي عليها أحداثُ الرّواية. ولأنّ الغلافَ صورةٌ بصريّة وعلامة سيميائيّة تتعالقُ حتمًا مع دلالةِ العنوان، وأيّ انفصالٍ بينهما يُفضي إلى خصام بينهما وبين مضمون الرّواية، فالعملُ الأدبيّ ثالوثٌ إبداعيّ يتكوّن من عنوانٍ وغلافٍ ومضمون.
واستئناسًا بما نقدّم، فإنّ معنى المدينة في عنوان الرّواية (مدينة الريح) ليس مدينة بعينها، بل هي الوطنُ كلُه؛ الوطن بأطيافه الزمنيّة الثلاث، مجد الماضي ونزيف الحاضر وحلم المستقبل. ولعلّ أبرزَ الدّلالات الكاشفة عن معنى المدينة جاءت في الباب الأخير من الرّواية، في قول الكاتبة في تناصّ مع كلمات الأخويْن رحباني: (منّي منكم ألف سلام لمدينة الريح أهلِها وناسها وربعها، سلامي لكم يا أهلَ الأرض المحتلة، يا منزرعون في منازلكم، قلبي معكم وسلامي لكم). وقد تجاوزتْ دلالةُ المدينة في حنايا الرّواية الحدودَ الجغرافيّة المألوفة للوطن، لتشملَ المدينة الكونيّة، مدينةَ العدالة والحرّيّة، وربّما تكونُ المدينة الفاضلة. وقد تُجسّدُ هذه الدّلالاتُ الثلاث (المجدَ والنزيفَ والحلمَ) في غيرِ موضعٍ مِن الرّواية، وقد جاءَ الإهداءُ، وهو العتبة الثانية للرّواية مُنسجمًا مع هذه الدّلالاتِ في قول الكاتبة: (في مدينتي التي أُحبّها وأبحث عنها / في مدينتي المنهكة أكثر من جدّا). كما جسّدَ المَدخلُ- وهو العتبة الثالثة للرّواية- التّمازجَ بينَ الدّلالاتِ الثلاث السّابقة، وجاءتْ كلمة “المدينة” مُضافةً إلى كلمة الريح، التي تدلُّ في السّياق الثقافيّ الموروث على حزمةٍ مِن الدّلالاتِ السّلبيّةِ، والشّحنات النفسيّةِ المُتوتّرةِ والمُرتقبة والمُخيفة أيضًا. ولا يخفى أنّ دلالة كلمة الرّيح في القرآن الكريم قد اختصّتْ بسياقِ العذاب والدّمار، فالرّيحُ في عنوان الرّواية ذاتَ دلالةٍ مُكثفةٍ ومبأرة، لأنّها تختزلُ مآسي الوطن (الوطن) ماضيا وحاضرا. إنّها ريحُ الاحتلال والقهر والقمع، وجاءَ الكشفُ عن هذه الدّلالاتِ في الباب الأخير للرّواية في قول الكاتبة: (.. ما زلنا نملكُ الوقت كي نتحدّث عن الذين طاروا مع الرّيح، والذين أخذتهم الرّيح إلى زمن آخر.. ونتحدّث كذلك عن الذين وقفوا في وجه الريح، وظلّوا في مواقعِهم صامدين).
أمّا غلافُ الرّوايةِ (لوحةٌ للشاعر الفنان د. سليم مخّولي)، فيُجسّدُ لوحةً تراثيّة تُعبّرُ عن ذاكرةِ الوطن، ويتحوّلُ المهباج (المهباش) في غلافِ الرّوايةِ مِن دلالتِهِ المألوفة، إلى دلالةٍ رمزيّةٍ تُجسّدُ الأصالة والبقاءَ والصّمودَ في المدينةِ أو الوطن، ويَرمزُ طولُ يدِ المهباج (المهباش) إلى الإرادة والصّمودِ والعنفوان، ودَلالاتُ المهباش تقفُ في مواجهةِ دلالاتِ الرّيح (الدمار/ الاحتلال/ الترقب..) وبهذا الرّبط يُصبحُ الغلافُ والعنوانُ ثنائيّةً دلاليّة تتوزّعُ في حنايا الرّواية؛ لأنّ مضمونَ الرّوايةِ مُؤسَّسٌ على ثنائيّةِ النكبة (الفجيعة) والحلم (اليقين بالخلاص والنصر). وترمزُ صورةُ الرّجلِ الذي يتأمّلُ المهباج (المهباش)، إلى التعالق والتواصل والتعاقب بين الأجيال في فلسطين؛ فالرّجلُ الّذي يرتدي زيًّا تراثيًّا رمزٌ لوصايا الأجداد، والمهباج (المهباش) رمزٌ لإرادة الجيل الحاضر وصمودِهِ، وبهذا يتحقّقُ التوافق بين مُكوّناتِ الغلاف (المهباش/ الرّجل).
وفي الغلافِ تبدو بيوتُ المدينةِ وخلفَها جبالٌ شاهقة جرداء، وكأنّ الجبالَ حارسٌ أسطوريٌّ يَحمي المدينة (الوطن) مِن مخاطر التّهويدِ والتّغريب والتّهميش، وبخاصّة أنّ لونَ الجبال أزرق، ولا يَخفى أنّ اللّونَ الأزرق في الموروثِ الثقافيّ يُمثّلُ تعويذةً للحماية من الأذى والشّرور، وإن صحّ هذا التأويلُ، فإنّ ماهيّةَ الألوانِ الّتي تنتشرُ في فضاءِ الغلافِ تُمثّلُ الحاضرَ الضّبابيَّ والمستقبلَ غيرَ المرئيّ، وبهذا الرّبطِ تُشكّلُ دلالةُ الجبالِ ثُنائيّةً ضِدّيّةً مع دلالةِ الألوان، وما يُعزّزُ هذا التأويلُ، أنّ الجزءَ العلويَّ في خلفيّةِ الغلافِ جاءتْ صورةَ عينٍ، تُراقبُ الصّراعَ بينَ دلالةِ الجبالِ ودلالةِ الألوانِ مِن جهةٍ، وتُراقبُ العلاقةَ بينَ رمزِ المهباج (المهباش) ورمز الرّجل. ويَنسجمُ هذا التّأويلُ مع مقتطفاتٍ مِن الباب الأوّل للرّواية في قول الكاتبة: (مدينة تزرعُني في بؤبؤ العينين.. مدينة تحرسُني برعشة الشفتين).
ولا تحتاجُ الرّوايةُ إلى ناقدٍ كي يُحدّدَ نوعَها مِن أشكال الرّواية؛ لأنّ الكاتبةَ أعفتِ القارئَ استنتاجَ الشّكل الرّوائيّ، بعبارةٍ توضيحيّةٍ تُفيدُ أنّ الرّوايةَ (سيرة روائية)، وقد تجلّى حرصُ الكاتبة في غيرِ موضعٍ من الرّواية على مقتضياتِ روايةِ السّيرةِ الذاتيّة، من حيث الجرأة في طرحِ موضوعاتٍ اجتماعيّةٍ بجرأةٍ يندرُ تحقيقها في رواياتٍ أخرى، وهي جرأةٌ تُسجّلُ للكاتبة، وبخاصّةٍ المشاهدَ التي تسردُها دونَ حذفٍ أو إيحاءٍ أو تجميل، وكأنّ الكاتبة عينُ كاميرا ترصدُ شريطَ الذاكرة كما هو، كما في وصفها لكراهيةِ إنجاب الأنثى، وتصويرِ الفقر المُدقع في قولِها: (لك أن تتخيّلَ صديقي مشهد الطبليّة، وصينيّة فتة الخبز الجافّ مع الشاي أو مرقة العدس، وثماني كنافيش يتصارعن واحدة تقول للأخرى: صغّري اللقمة..).
وعن تَعدُّد الزّوجات وما ينجُمُ عن التعدّد من مشاهدَ اجتماعيّة. وعن حجب الإرث عن البنات، بحجّة حصرِ الأملاك داخلَ العائلة، خوفًا من تسرُّبِ الأرض للاحتلال. وعن عقوق الأبناء الذي يندى له الجبين، كما جاءَ على لسان سناء: (لا تقولي أحفاد ولا أولاد، كلّهم في الهمّ سواء..//.. عُمَر هذا، لا أتذكّرُ آخرَ مرّةٍ كلّمني بها). وعن حاجةِ الأرملةِ الفطريّةِ الغريزيّةِ لزوجٍ في مجتمعٍ لا يرحمُ. وعن اغتصابِ الفتياتِ لأسباب سياسيّةٍ قذرةٍ، كما حصلَ للفتاةِ إيمان العبيدي في ليبيا. وعن غياب العدالةِ الاجتماعيّةِ حتّى في أوساطِ المُثقّفين، وعن أطفال العراق. لهذا، فإنّ تقنيّةَ التّشويقِ والإثارةِ لدى المُتلقّي لا سقفَ لها، لأنّ مُنحنى الأحداثِ يَتصاعدُ دونَ قطع أو توقّفٍ مُتوقّع، فكلّ ما تحويهِ ذاكرةُ الكاتبة، وكلُّ ما يصطادُهُ خيالُها، يجدُهُ القارئُ واضحًا ولافتًا ومُدهشًا. وقد عبّرتِ الكاتبة عن ماهيّةِ الحدَثِ وخروجهِ عن النمطيّةِ في الباب الأخير الّذي يُعَدُّ عصارةَ الرّواية، في قولها: (ومن هنا تمضي الرّواية بنصٍّ وحشيٍّ غجريٍّ، ويقتحمُ الأبوابَ المغلقة من غير استئذان، وببعض نقاطٍ لا مكانَ لها فوقَ الحروف، قد نُلوّنُها بألفِ لون).
كما تطرحُ الرّوايةُ ذروةَ الحدَثِ السّياسيِّ مُمثّلًا بالنّكبة، وتُثيرُ المَشاهدُ السّياسيّةُ جدَلًا حولَ مسؤوليّةِ سقوطِ فلسطين عام 48، وتنبه إلى التكافل والتضامن بين النّاس بعيد النكبة، وإلى الصّامدين الّذين لم ينزحوا عن أرضِهم، بأسلوبٍ حواريٍّ مُفعَمٍ بالجرأة والدّهشةِ والتشويق، وكأنّنا أمامَ مشاهدَ دراميّة. وتصوّرُ هزيمة حزيران تصويرًا دراميًّا من خلال حوارٍ في الدّيوان، يكشفُ عن فجيعةِ الهزيمةِ ووطأةِ الحدَث. وتستلُّ الكاتبة مِن مشهد هزيمةِ حزيران مشهدًا آخرَ لا يقلُّ كثافةً وحزنًا، حينما تَشْرَعُ بتصويرِ النّزوحِ واللّاجئين، وتقتربُ الرّوايةُ في هذه المشاهدِ مِن التّسجيل التاريخيّ، لأحداثٍ ما زالتْ ويلاتُها الإنسانيّةُ نزيفًا إنسانيًّا حتّى اليوم. وترصدُ محنةَ تغريب المكان، وتهويدِ الأرض، وتزوير التاريخ والجغرافيا، وبخاصّة في الباب التاسع عشر في قول الكاتبة: (عن أيّ ناصرة تتحدّث، ناصرة اليوم أم ناصرة الأمس؟ ناصرة توفيق زياد، والأوّل من أيّار والأعلام الحمراء؟ اُنظر حولك.. كلّ ما في الناصرة مُزيّفٌ الآن). وتعرض لمشاهد مِن فجيعة الخريف العربيّ.
وفي مقابل الأحداث المصيريّة والمفصليّة تحفلُ الرّواية بأحداثٍ اجتماعيّة، تبدو مألوفةً كطقوس الزّواج والدّخلة والكنّة والحماة، ولكن ما يُميّزُ هذا المألوف من الأحداث دقة الوصف، وجرأة الطرح، ورصد البُنية النفسيّة للشّخصيّات. وتعمَدُ الكاتبة في سياق الأحداث إلى أنسنة الأشياء، وإضفاء ملاح الحياة، والإثارة على الأشياء المادّيّة، كما في الباب السّادس عشر، الذي استثمر الغلاية ذات اليد المقطوعة استثمارًا اجتماعيًّا مُفعمًا بالمشاعر الأسريّة. ويتّصفُ الفضاءُ الزمنيّ بالقفزاتِ السّريعة، فالكاتبة تُصوّرُ نكبةَ ميلادِها بفقرة واحدة، ثم تقفز زمنيًّا إلى رسم مواكب الفرح لميلاد شقيقها بفقرة واحدة، وتختمُ بفقرة تاليةٍ مأساةَ موتِ أخيها. ثلاثُ فقراتٍ تختزلُ زمنًا طويلًا، لا يَشغلُ مِن الرّوايةِ بضعَ فقراتٍ مُشبعة بالتوتّرِ والانفعال وفتح آفاق التخيّلِ لدى المُتلقّي.
وتختارُ الكاتبةُ تقنيّةَ القطع في مَسارِ مَشاهد الأحداث، وهي تقنيّةٌ تقتربُ مِنَ العرض السّينمائيّ، فحينما ينتهي السّردُ بمغادرتِها مكتب الصّحيفة، ويبدأ مَشهدُ التقائِها بصديقتِها سناء، تعودُ الكاتبة بالأحداثِ إلى مشهدِ عمَلِها في الصّحيفة، لتُخبرَ الزّميلَ الصّديقَ عن سناء، وهذه التقنيّةُ الّتي ترتبطُ بالاسترجاع أو الارتداد الزّمنيّ، تمنحُ المُتلقّي آفاقًا تخيّليّةً وتأويليّة، تعجز عنها المَشاهدُ الرّتيبة في العرض والزمن. وتجمعُ بعضَ الأحداثِ بين ثنائيّةِ المحنةِ والفرحة، والجدل والهزل، نحوَ العروس الّتي حُرمَتْ من الزّواج، بسبب عدَم الانتهاءِ مِن نسج شرشفٍ كان مهرًا لها! وتُصابُ العروسُ ليلة زفافِها بالشّلل، وتنطقُ بعدَ عشرة أيّام. أجواءٌ مثيرةٌ تقتربُ مِن فضاءاتِ ألف ليلة وليلة. بقيَ أن أشيرَ في سياقِ الحدثِ الرّوائيّ، أنّ الكاتبة وظّفتْ تقنيّةَ القطع والاستئنافِ لبعض الأحداث، كما في حكاية سناء (أم عمر).
ولا تتّسعُ المداخلة لرصدِ تجلّياتِ التّراثِ المادّيّ في الرّواية، وهي تجلّياتٌ تُجسّدُ دلالاتِ التّراثِ في صورة الغلاف، فأنواعُ التّراثِ المادّيّ تُشكّلُ مرجعيّةً تراثيّةـ وليس مِن المبالغةِ القولُ، إنّ الرّوايةَ تصلُحُ مَرجعًا بل مُعجمًا لأسماء الأدواتِ التّراثيّةِ المَنزليّةِ والزّراعيّةِ خاصّة، ومِن المُفيدِ إجراءُ دراسةٍ موسومةٍ بتجلّياتِ التّراثِ في رواية “مدينة الرّيح “. كما أنّ حضورَ الأغنيةِ الشّعبيّةِ يُمثّلُ مَفصَلًا رئيسًا للرّواية، واللّافتُ أنّ الأغنيةَ في الرّوايةِ جاءتْ مُتماهيةً مع الأحداث، إذ لا يجدُ المُتلقّي فجوةً بين كلماتِ الأغنية والبناء الفنّيّ للرّواية. أمّا اللّغة التراثيّة فحضورُها أكبرُ من التّمثيل عليها، وربّما تكونُ عبارةُ (ونظلّ نتسحسل عليها حتى غروب الشمس)، دليلًا يُثيرُ دهشة القارئ، على قدرةِ الكاتبة على نفضِ الغبارِ عن الألفاظِ التّراثيّة، الّتي تكادُ تغيبُ عن ألسنةِ النّاس، ويجدُ بعضُ النّاس حرَجًا في نطق بعض الألفاظِ الواردةِ في الرّواية، ولكن الكاتبة تختارُها بعنايةٍ، لأنّها تُمثّلُ جزءًا مِن المعمارِ اللّغويّ والدّلاليّ، فالرّوايةُ تُسهِمُ في إحياءِ جانبٍ مُندثرٍ مِن اللّغة، أو على الأقلّ تُسهمُ في حِفظِهِ وحمايتِهِ مِن الاندثار. ولا يَنبغي أن يُفهم ممّا تقدّمَ، أنّ الرّوايةَ تخلو من اللّغة الفنّيّةِ، الّتي ترتقي إلى مستوى الشّعر أو القصائد المنثورة.
وتبدعُ الكاتبة فاطمة ذياب في توظيف الأمثال الشّعبيّة لتحقيق حزمةٍ من الوظائفِ الدّلاليّة، نحو تعزيز واقعيّةِ الحدَث؛ لأنّ المَثلَ الشّعبيَّ يَحملُ طاقةً تعبيريّةً وتأثيريّةً، على المُتلقّي الّذي لا يَفصلُ بين دلالةِ المثل ودلالةِ الحدث، وإضفاء المتعة والسّخرية والدّعابة، الّتي لا تنفصِمُ عن العاداتِ والتّقاليدِ في المناسبات الاجتماعيّة، نحو المَثل (كلّه سَلف ودين، حتّى هزّ الوِسْط والرّدفين)، فهذا نموذجٌ من الأمثال الّتي تكشفُ عن نسيج العلاقات الاجتماعيّة، ويُضمرُ نقدًا خفيًّا ولاذعًا للموروثِ الشّعبيّ للعاداتِ والتقاليد.
ويميلُ البناءُ النّفسيُّ للأحداثِ بالتّحوُّلِ السّريع والمُفاجئ، مِن حالةِ الفرَح العارم إلى حالةِ الحزن القاتل، نحو الانتقالِ من فرح ميلادِ الأخ إلى حزن جنائزيٍّ لموتِهِ، ومِن الضّحكِ مع سناء، إلى تمنّي الأخيرة للموت. إنّ هذا الانزياح الحادّ في البناء النفسيّ للأحداث، يَجعلُ مِن آليّةِ التلقّي عمليّةً مُركّبةً ومُثيرةً وصادمةً ومُشوّقة. وفي الرّوايةِ مَشاهدُ ومَواقفُ تقتربُ مِن الأدب السّاخر الّذي يُصوّرُ الفجيعة تصويرًا كاريكاتوريا، نحوَ اقتراح الكاتبةِ على الزميل الصّديق، أن يكتبَ روايةً بعنوان (يوميّاتُ قطروز في حقل بطرس)، في سِياقٍ نقديٍّ لاذعٍ للغطرسةِ الأمريكيّة، جاءَ مُغلّفًا ومُقَنّعًا بحكايةٍ شعبيّةٍ اسمُها (ندّاهة الليل).
وتُطلُّ على القارئ شخصيّاتٌ فجأة تثيرُ الدّهشة، حينما تَشْرَعُ الكاتبةُ بسردِ واقعةٍ تتّصلُ بشخصيّةٍ لم تُفصِحْ عن اسمِها. إنّ دخولَ الشّخصيّاتِ إلى فضاءِ الأحداثِ دون تمهيدٍ أو توقُّعٍ مِن القارئ، يُضاعفُ يقظةَ المُتلقّي، وهي تقنيّةٌ لافتة في البناء الفنّيّ، تُسَجَّلُ للكاتبة، نحو اللّقاءِ مع سناء. وهو لقاءٌ يُحوّلُ مَسارَ الحدَثِ من مشهدٍ إلى مشهدٍ مختلفٍ في مكانِهِ وزمانِهِ، ولكنّهُ مُتّصلٌ بأبعادِهِ الوجدانيّةِ والنفسيّة. وحديثُ الكاتبة عن صديقتها (هيام) يُشكّلُ سردًا صادمًا، للمتلقّي الّذي يَشرَعُ في تأمُّلِ انهيارِ منظومة الصّداقة.
وشخصيّةُ الصّديق في مكتب العمل يُجسّدُ صديقًا افتراضيّا يحتاجُهُ الإنسان في مُعترك الحياة، فهو رمزٌ لحاجةِ الإنسان إلى الحوار مع النخبة التي تُقاسِمُنا أحزاننا وأحلامَنا وتحَدّياتِنا. شخصيّةُ الصّديق في الرّواية هو كلّ فلسطينيٍّ قابضٍ على الجمر، مُتشبّث بالعدالة الغائبة، والحالم دائما بوطن تسودُهُ الكرامة والحرّيّة. هو كلّ فلسطينيٍّ يَرفضُ الذوبان في الآخر، وهو كلّ فلسطينيٍّ لا يَستسلمُ للانكسار والخيبة، هو وهجُ الغدِ الآتي الّذي لا يُطفئُهُ رمادُ الهزيمة ودخان الغادرين العابرين.
وشخصيّة “دبدوبة” هي رمزٌ أيضًا لمناجاة النّفس، إذ حلّت دبدوبة محَلّ تقنيّةِ المونولوج الدّاخليّ في مواضعَ كثيرةٍ مِن الرّواية، وتتحوّلُ دبدوبة في الرّواية من دلالتها الرّمزيّة على المناجاة إلى شخصيّةٍ حقيقيّة حينما تتقمّصُها الكاتبة، ففي الفصل الرّابع من الرّواية، تبدو الدّبدوبة هي الطفلة الكاتبة الّتي تحظى بالهدايا، وخاصّة الكتب من جدّها. وتتنوّعُ أشكالُ السّرد، وتتناوبُ بين سردٍ بضمائرِ المتكلّم والمُخاطَب والمُتكلّم، وسردٍ بوساطة المُذكّرات والرّسائل.
لمساتٌ فنّيّةٌ في مجموعة ( فراشة الحواسّ) للأديبة آمال غزال/ بقلم د. عمر عتيق
تحفلُ مجموعة (فراشة الحواس) بحزمةٍ من التقنيّاتِ الأسلوبيّة والأيقوناتِ الفنّيّة، الّتي تستحقُّ مُعاينةٍ نقديّةٍ جماليّة، وقد اخترت أربعَ تقنيّاتٍ أسلوبيّةٍ فنّيّة، وختمتُ مُعاينتي للكتاب بموقفٍ نقديّ.
1* التّناص: التناص كما يُعرّفُهُ النّقّاد: أن يتضمّنَ نصٌّ أدبيٌّ ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه، عن طريقِ الاقتباسِ، أو التّضمين، أو الإشارة، أو ما شابه ذلك مِن المقروءِ الثّقافيّ لدى الأديب، بحيثُ تندمجُ هذهِ النّصوصُ أو الأفكارُ معَ النّصّ الأصليّ، وتندغمُ فيه، ليتشكّلَ نصٌّ جديدٌ واحدٌ مُتكامِل. ويتوزّعُ التّناصُ في حنايا كتاب (فراشة الحواسّ) على مرايا فكريّةٍ وأطيافٍ وجدانيّة، فهو يختزلُ رؤًى ومشاعرَ مُكثّفةً مِن خلال استحضارِهِ لنصوصٍ أخرى، تتجسّدُ فيها أحداثٌ حيّةٌ مَوشومةٌ في الذّاكرة، أو تتجسّدُ فيها شخصيّاتٌ اسثنائيّةٌ كتبَتِ التّاريخَ الإنسانيَّ بمواقفِها وإنجازاتها. وقد تجلّى التّناص بثلاثةِ أشكال؛
الأوّل: التّناص التّاريخيُّ الّذي تَشكّلَ في قول الكاتبة : (أين أنتم؟.. أين هم؟.. أين نحن؟/ أين أحفاد صلاح الدّين؟/ أين صلاح الدين؟)، فهي تستدعي شخصيّةَ صلاح الدين الأيّوبيّ، لمَلْءِ فراغٍ في فضاءٍ يَخلو مِن بطولة صلاح الدين، ويَخلو مِنَ المَناقبِ الجهاديّةِ لمثل هذا الرّجُل، الّذي أضحى أيقونةً رمزيّةً تُضيءُ الذّاكرةَ في سراديبِ الضّعفِ والهوان. وتكرارُ الاستفهام في سِياق التّناص يُعبّرُ عن أمنيةٍ وحُلمٍ يَسكنانِ الوجدان، ويُثيرانِ الذّاكرةَ والذّهن؛ فالكاتبة تسألُ تارةً عن صلاح الدين نفسِه، بحثًا عن قائدٍ يَسُدُّ الفراغَ الّذي خلّفَهُ صلاحُ الدّين، وتسألُ تارةً أخرى عن أحفادِ صلاح الدّين، رغبةً في ظهورِ جيلٍ يَحملُ الجيناتِ الجهاديّةَ ورايةَ الخلاصِ والتّحرير.
**الثاني: تناصٌّ سياسيٌّ يَبرُزُ في قولها: (وحدها ميادين التحرير/ هي الهدف والبوصلة/ فاهنأ يا عدوّي واسترِح/ نَمْ قريرَ العين لا تَخَفْ/ فمنذ اليوم قد وجّهتُ بندقيّتي/ ولن اصطادّ بها إلّا داخلَ حديقتي). التّناص مُرَكّبٌ مِن فضاءيْن سياسيّيْن مُتناقضيْن، يُشكّلانِ عبقَ الكرامةِ وعطرَ النّصرِ والتّحرّرِ مِن جهة، ووخزًا في الذّاكرةِ ووجعًا في خاصرةِ الضّميرِ مِن جهة أخرى، فميدانُ التّحريرِ في القاهرة فضاءٌ، يُشكّلُ في وعينا وفي تفاصيلِ الخطاب الثقافيّ رمزًا للتّحرُّرِ والثّورةِ على الظّلم، وساحةً شَهِدَتْ سقوطَ فرعون مصر المُعاصِر، وتَحطيمَ الصّنم الأكبر، وتوجيهُ بنادقِنا إلى حدائقِنا فضاءٌ سياسيٌّ آخرُ، يَستحضرُ صورةً قاتمةً للاقتتالِ الفلسطينيّ، الّذي ما زالتْ أعراضُهُ ومُضاعفاتُهُ تنتظرُ العلاجَ والشّفاءَ باستكمالِ استحقاقاتِ الوحدةِ الوطنيّة.
***الثالث: تناصٌّ دينيٌّ يَتمثّلُ بقولِ آمال غزال: (أرض المحشر والمنشر أنتِ/ ستكونين الأمل/ وهُم زوال/ كعاصفةٍ في أيلول/ أو سحابة دخان)، فأرضُ المَحشر والمَنشر تناصٌّ يَستحضرُ خطابًا عقائديًّا راسخًا في وجدانِنا، ويَستحضرُ خطابًا فكريًّا حيًّا في أذهانِنا، بأنّ أرضَ المحشر والمنشر هي القدس في حديثٍ مَنسوبٍ إلى الرسول عليه السلام، فعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: يا نبيَّ الل،ه اِفتِنا في بيت المقدس، فقال: أرض المحشر والمنشر.
2* النّسيجُ الفنّيُّ للصّورة: تبرزُ في مجموعة (فراشة الحواس) تقنيّاتٌ أسلوبيّةٌ تتّصِفُ بتكاملٍ وانسجام؛ إذ تتخلّقُ عناصرُ صورةٍ فنّيّةِ في رحمٍ دلاليٍّ فنّيٍّ واحدٍ، مِن خلالِ الانسجام في الماهيّة وتآلفِ العناقيدِ التّصوّريّة، فنقرأ من مجموعة (فراشة الحواس): ربّما يمنحنا الزمنُ لحظةً/ لحظتيْن من غفوتِهِ/ يَمضي بنا إلى الأعماق/ نمتطي جوادَ القمر/ إلى لقاءٍ أزليّ/ ترقصُ فيه النجومُ/ مُترنّحةً في صدرِ السماء/ يُزيّنها الفرحُ بأكاليلِ البنفسج/ والكواكبُ تشهدُ عرسَ الكونِ من جديد/ الغيماتُ تلبسُ ثوبَها الأبيض/ يُباركُها شيخُ المطر.
حينما نتأمّلُ ما تقدّم، نجدُ أنّ الصّورةَ الفنّيّةَ تتشكّلُ مِن عناصرَ سماويّةٍ، وكأنّ حُلمَ الكاتبةِ وانتظارَها لمستقبلٍ واعدٍ مُشرقٍ، قد استمدّ مُفرداتِه وتفاصيلَهُ مِن بشائرِ السّماءِ وجماليّاتِ النّجومِ، وبهاءِ القمر وإشراقاتِ الكواكب وخصوبة الغيوم وعطاء المطر. ولا يخفى أنّ هذهِ الدّلالاتِ الإشراقيّةَ في السّماء، هي ذات الدّلالات الّتي تُشكّلُ الفضاءَ الوجدانيّ للكاتبة، وهو وجدانٌ تجلّتْ إشراقاتُهُ وفرحُهُ المُنتظَرُ في الصّورةِ السّماويّة الّتي أشرتُ إليها. ولا يَقتصرُ الجَمالُ التّصويريُّ على التّكاملِ والانسجامِ بينَ العناصر، بل يتجاوزُهُ إلى جماليّاتٍ مُكثّفةٍ تتجلّى في الاختياراتِ الاستعاريّةِ في قولها: (نمتطي جواد القمر.. ترقصُ فيه النّجوم.. الغيماتُ تلبسُ ثوبهَا الأبيض.. شيخ المطر..) الخ.. وهذا ليسَ تصويرًا فنّيًّا مألوفًا، وإنّما طقوس فرح وحلم، لم تجدِ الكاتبة لهذه الطقوس نظيرًا مِن مفرداتِ الواقع، إلّا قمرًا يتحوّلُ إلى جوادٍ يجولُ ويصهلُ في سهول الفرح وهضاب الحُلم، وعلى وقع صهيلِهِ ترقصُ النّجومُ، وتلبسُ الغيومُ ثوبًا أبيضَ يُباركُها شيخُ المطر. هذا طقسٌ يَتشكّلُ مِن السّموّ والنّبلِ والجَلالِ والجَمال، يَحيا فيهِ نقاءُ سريرةٍ وصفاءُ قلبٍ وطهارةُ حُلم. وفي مجموعة (فراشة الحواس) يُدهشُنا هذا التّكاملُ والانسجامُ بينَ عناصرِ الصّورةِ الفنّيّةِ في غير موضع، وهو تقنيّةٌ فنّيّةٌ تستحقُّ أن يُفرَدَ لها دراسة يتجلى فيها بهاءُ التّصوير، وعلى الرّغم من كثرةِ هذا اللّون التّصويريّ، إلّا أنّني لم أستطع إغفالَ قطعةٍ فنّيّةٍ رسمَتْها الكاتبة بقولِها: (سأشرب رحيق أزهارك ماءَ/ لينبعث في زوايا جسدي.. نبضا لحياة/ أتنفسك هواءً تحتضنه أحشائي/ أخبئه شهيقا.. وأرفض بعدها الزفير.)
لا أظنُّ أنّ النّقدَ الجَماليّ أو الرّؤيةَ النقديّة الأسلوبيّة ترتقي إلى هذا المستوى الفنّيّ الأصليّ، فأيّةُ حروفٍ يمكن أن تُعبّرَ عن الشّحنات النفسيّة،وتُصوّرُ وهجَ العشق واتّقادِ القلب سوى هذهِ الأنفاس، التي رسمت الصورة بشهيقها وزفيرها؟! ولتسمح لي الكاتبة أن أداعب وأشاكس صورتها الفنّية للأنفاس فأقول: في العمر شهيق يسكن الذاكرة وما سواه اختناق، وبين الحرف والحرف شهيق حلم وزفير حزن لا تتنفسهما أبجديّة، وليس للحلم أبجدية سوى شهيق حرف وأنفاس دهشة.
3*الصورة الصوتية: لعل الصوت من أبرز الحواس التي تتفاعل مع دلال الحس في عنوان المجموعة (فراشة الحواس)، وقد عمدتْ الأديبة آمال غزال إلى تحميل الصورة الصوتية تموجات نفسية ووجدانية؛ إذ عبرت بالصوت عن أطياف مشاعرها وبنيتها الوجدانية، ففي قولها: (أعترف أنك تشبهني/ تشبهني حتى الثمالة/ تشبه أحزاني.. وأفراحي/ تشبه وقع الموسيقى بدمي/ و”سيمفونية” ترددها آلامي)، لا يخفى أن البعد الصوتي في هذا النص قد أحدث خرقا فنيا، وأضاف بعدا تأثيريا استثنائيا.. فصوت الموسيقى لم يؤثر على النفس أو الروح كما هو مألوف في تلقي الموسيقى والتفاعل معها.. بل إن وقع الموسيقى لدى الأديبة يسري تأثيره في دمها.. كذلك تتحول “السيمفونية من نوتة موسيقية إلى نبض ألم ووخز حزن دفين.. وهذا التحول هو انحراف فني عن المعيار الصوتي وعن رتابة التلقي للموسيقى.
4* الصورة اللونية: توظف الكاتبة الموروث الثقافي للون للتعبير عن حزمة من المشاعر الإنسانية، واللون في النص الأدبي ليس عنصرا فنيا بصريا محايدا، بل يحمل في حناياه إحساسا مكثفا ورؤى فكرية، ففي قولها: (رحل المكان عن المكان مسافرا/ تحلّق خلفه طيورٌ/ كأنها غربان بعمامات سود/ تجر خلفها عباءةَ حنيني الموشحة بالسواد).. وفي موضع آخر من القصيدة نفسها تقول: (رسموا ملامح تاريخ سطروه بريشة../ ولون أحمر.. وبندقية).. وتبقى دلالة الألوان في هذه النصوص وما يماثلها من المجموعة.. تبقى في حدود الدلالة المألوفة للونيين الأسود والأحمر.. وتبقى آلية التلقي لدلالة اللون هادئة ومألوفة ورتيبة لأنها لا تخرج عن الموروث الثقافي للون. أما حينما تغادر دلالة اللون سياقها المألوف، وتتجاوز الدلالة التي تختزلها الذاكرة الجماعية فإنها تُحدث عصفا دلاليا وانعطافا حادا للسياق الدلالي كما في قولها: (وتختفي../ خلف شفافية الماء الملون بالوجع/ الماءِ الملونِ بظلالنا المنتحرة/ في كل المنحدرات/ وفوق سطور الضباب تنحي/ مثل قوس قزح). لم يعد اللون هنا دلالة مألوفة تتناغم مع الموروث الثقافي.. بل أضحى مثيرا بصريا ومنبها حسيا يحتاج إلى يقظة المتلقي ومضاعفة انتباهه لدلالة اللون في سياقها الجديد، فالماء قد تحول من شفافيته المألوفة إلى لون من الوجع.
وبعد، فإن في مجموعة (فراشة الحواس) أيقونات فنية أخرى تستحق التأمل، وبخاصة التناغم الدلالي والنفسي بين مطلع النص وخاتمته، إذ تحتاج هذه الظاهرة إلى مزيد من التأمل من خلال محاورة نقدية للنص. كذلك خاصية التلاحق والتتابع التي تشكل صورا توليدية تفضي إلى صور عنقودية تشكل فضاء تخيليا مكثفا.
5* هوية النص/ رؤية ناقد: قد يتساءل بعضهم عن هوية النص، أو عن الجنس الأدبي لكتاب (فراشة الحواس) هل الكتاب نصوص شعرية أم نثرية؟ وهل هو قصائد من شعر التفعيلة أم قصائد نثرية؟ وهل يجوز الجمع بين نص شعري ونص نثري في كتاب واحد؟ كل هذه التساؤلات قد يهمس بها من يقرأ كتاب آمال غزال.. ولأنني قارئ متأمل وناقد محايد أقول: إن الكتاب يجمع بين الشعرية والنثرية.. وهو جمع جائز ضمن المعايير النقدية المعاصرة التي تتيح للمبدع أن ينشئ نصا بأطياف أدبية مختلفة.. فلم يعد الجنس الأدبي مستقلا عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، وهو ما يصطلح عليه النقاد المعاصرون بتداخل الأجناس أو الأنواع الأدبية، وقد أفردتْ لهذا الأمر دراسات وأبحاث، وعقدت في هذا السياق مؤتمرات وندوات دولية.. وأستطيع أن أقرر- وأنا مطمئن- أن الإبداع أكبر من هوية النص، وأن المبدع أسمى من الجنس الأدبي.. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا التقرير أنني أدعو إلى هدم الحواجز بين الأجناس الأدبية.. ولكني أدعو بكل ثقة إلى تلوين النص الإبداعي بما ينسجم مع الدفقات الشعورية للمبدع.. ولا شك أن تدخل الأجناس الأدبية في نص واحد يشكل تحديا للمتلقي عموما وللناقد خصوصا.
وقد يكون الخطاب النقدي- اليوم- قادرا على رصد تجليات إشكالية تداخل الأنواع الأدبية في النص ما دام النص كتابا مطبوعا مقيدا بمواصفات الطباعة وإمكاناتها وطاقاتها الفنية، ولكن حينما يصبح النص الذي تتداخل فيه الأنواع الأدبية كتابا الكترونيا مصحوبا بالوسائط المساندة التي تمنح النص مؤثرات صوتية أو تسجيلا صوتيا وصورا صامتة وناطقة بل قد يصل الأمر إلى مقاطع مرئية (فيديو) وغيرها من الوسائط المساندة؛ فإن الخطاب النقدي سيواجه تحديا حقيقيا لإشكالية تداخل الأنواع الأدبية.
—