رابح دحمان :
يبدو ان في حياة كل انسان منا احداث و وقائع مميزة ,يقتلنا الدهر و لا يقتلها ,تحفظ في سجل داكرتنا كما تحفظ الاعمال -صالحها و طالحها – في سجل اعمالنا .
في ايام الجامعة,في منتصف السبعينات,كنت ادرس الادب الفرنسي ضمن مجموعة قوامها اربعة و عشرون طالبا و طالبة ,وكانت في مجموعتي تلك طالبة تخطت العقد السادس من العمر,و ودعت معه _واثار الفراق على ما ودعت شاهدة _ اغلى ما رزقت به من حسن و جمال و رقة ,و لكنها رغم شيبتها و انكسار عودها كانت تتقد شبابا و حيوية .
اذا طرح الاستاذ سؤالا سرعان ما بدرت بالاجابة,و اذا اقترح بحثا ما ظفرت به دون غيرها في الحال …لا تترك عرضا مسرحيا او معرضا فنيا الا و كانت لها فيها جولات و صولات,لا ينازعها في السبق الى السلام و الترحاب و البشاشة و السؤال عن زملائها منازع .
كانت القلب النابض للمجموعة كلها رغم ما دقه قلبها من ملايين الدقات في اكثر من ستين حول .
في وقت قصير جدا اصبح شباب و شابات المجموعة يفيضون اليها و يسرونها ما لا يسرون لاقرب الناس اليهم …
كان لزميلة لنا في المجموعة حظوة خاصة عند تلك المراة , ترافقها صباحا عند الحضور الى الجامعة , و كذا مساء عند المغادرة …كانت غيرتنا منها جد شديدة …و كان من الطبيعي ان يتساءل بعضنا عن سر هذه العلاقة المميزة …
كانت تلك العجوز والدة تلك الشابة …و كانت شغفها الاول في الحياة ان تكرع من العلم ما يكرع الرضيع من ثدي امه ….
كانت تحمل شهادات عدة في مجالات علمية مختلفة ,و لما حصلت ابنتها على شهادة الثنوية العامة و اختارت دراسة الادب الفرنسي ,قررت الالتحاق بها في نفس الشعبة , حتى تكون لها عونا و رديفا في البيت و الكلية ,و حتى لا تفوت على نفسها _ و هي الواقفة على اخر عتبات العمر _ فرصة رؤية فلذة كبدها يوما واحدا
الله اكبر…اي درس في الكفاح و في الامومة هذا ….؟؟؟
الله اكبر… اليس جمال الروح و العقل ابقى من جمال الجسد ؟؟؟
اليست مجاهدة النفس و السعي الى الرقي بها و تهذيبها بالعلم و المعرفة جهادا ؟
اليس ابتغاء العلم لاجل العلم افضل فضيلة ؟
اي ارث يضاهي ارثا كالذي ستخلفه هذه العجوز الغابرة لهذه الصبية اليافعة ؟
ان اهذه الواقعة في سجل ذاكرتي موقع خاص جدا ,و لازلت لحد اللحظة اجل هذه المراة ايما اجلال و احترام ذكراها ايما احترام …و يطيب لي كلما مرت بي لحظات من التجلي ان اتصور نفسي يوما ما _ ان امد الله في ايامي _ و انا اراوغ العمر و الزمن ,و اتحدى الشيب و المشيب , و اقف موقفا بهذا النبل …
فهل ساقدر يا ترى …؟؟؟
—