محمد قاسم :
سقطت المدينة !
مدينتنا الصغيرة ، انهارت بيوتها وأصبحت ركاماً وأنقاض ، وأما سُكانها فقد هاموا على وجوههم ، وضلّوا طريقهم في الصحراء . لم يبق في المدينةِ سوانا ، ضابطٌ صغيرٌ وخمسةُ فتيةٍ ، نحملُ البنادقَ ونحرسُ أزقتها الخاوية .
كانت مدينتُنا قد بناها أجدادُنا في قلبِ الرمال ، وحصنّوها بأسوارِ الخشب والحجارة. لم يمضِ حَولٌ من دون تعرضها لغزوات الجيوش المرابطةِ في تخوم الصحراء الشاسعة . وكنا نقاومُ شراسة تلك الجيوشِ بصبرٍ ورباطةَ جأش ، حتى باغتتنا الطائراتُ ! ودكت حصوننا واستحكاماتنا .
هكذا سقطت !
وسقطنا !
ابتلعت الرمالُ أنقاضها ، واندثرت معالمها ، لم يعد شاخصاً فيها سوى أعمدةٌ متداعيةٌ وجدران ٌ آيلةٌ للسقوط ! رجالُ المدينة قتلوا ، وطمرت أشلائهم ، لكننا بقينا أحياءَ ، ضابطٌ صغير ، وخمسةُ صبيةٍ أشداء ، خرجنا من تحت الحجارة والرمال ، ننفضُ ما علقَ في ثيابنا من غبار ، ونتحصنُ في البنايات المدمرة ، ننتظرُ أعدائنا ، ونتربصُ بهم .
أنقضت ليلتان ، وشحّ طعامنا ومائنا ، أوشكنا على الهلاك ، وكنا نبكي بصمت ، ونلجأُ للنوم كملاذٍ نُداري به هزيمتنا ، غير أن حشرجاتنا وتأوهاتنا كانت تفضحنا ، في تلك الليلة أعيتنا شمسُ النهار وخدّرتنا رياحُ الصيف الساخنة ، لم نكترث للأخطار المحدقة بنا ، وقررنا أن ننام !
كانت السماءُ صافيةً ، وزرقاء ، والقمرُ مكتملٌ ، نشعرُ بحفيفِ الأفاعي ودبيب الجرذان فوق أجسادنا الرخوةِ ، تزحف بين أذرعنا وسيقاننا وتتلوى حول رقابنا ، وكنا مشلولين تماماً ، وعاجزين عن ردعها ، أحياناً نستكينُ لها ، وأحياناً أخرى ندفعها بأصابعنا المرتجفة . سرَقَنا النوم ، ولم نستيقظ ألا على وقع عواء الذئاب ! الضابط الصغير قبض على الجرذ الرابض على صدره وألقاه بعيداً ، أما أنا فقد نفضتُ العناكب والنمل الأحمر عن ثيابي وركضتُ الى الباحة أُفتشُ عن دعاماتٍ أسندُ بها باب مخبئنا ، تنكبنا بنادقنا ، وجلسنا نحدق في وجوه بعضنا البعض . كان العواءُ بعيداً ، (ربما يأتي من خلف التلال ) ، قلت بصوت حادّ وواضح ، لم يكن أحدٌ منهم يصغي لي ، فقد تبعثرت نظراتهم في الظلمةِ ، ثم نهضَ الضابطُ وأمطرنا بوابلٍ من الأوامر والنصائح ، لكنه قررّ في النهايةِ أن يشملنا جميعاً بقرعة الخفارة ، مستثنياً أسمه من القصاصات التي بعثرها على الأرض ، وألتقطَ واحدةً ، قرأَ الأسم ثم أبتسم لي وحدّق في وجهي طويلاً .
كانت ليلتي الأولى التي قضيتها بعيداً عنهم ، تركتهم يستأنفون نومهم وأحلامهم ، وحملتُ حقيبتي وسلاحي وتوجهتُ الى عربة القطار الصدئة ، أستلقيتُ في الهيكل الحديدي المعطوب ، وأسندتُ رأسي الى الحقيبةِ ، ومن النافذة الصغيرة ، دفعتُ ماسورةَ بندقيتي ، وجلستُ على ركبتيّ ، فأعياني الخدرُ ، وسرَتْ في مفاصلي رعشةٌ عقدتْ لساني ، فترنح رأسي ونمتُ ، وعندما استيقظتُ لم أتمكن من تحريكِ ذراعيّ ، كانت شمسُ النهارِ تُلهبُ هيكلَ القطار بأشعتها ، وصدري ينقبضُ ، وحينَ بلغتُ حافة السكة الحديد ، لم أتخيل شكل مدينتي من هناك ، كانت جميلة برغم خرابها ، والغربانُ التي تُحلقُ فوقها ، تزدادُ أعدادها كل يوم ! ما أن تهبطُ الى الأرض حتى تتجمع حول الجيف ، تأكل لحمها ثم تطيرُ منتشيةً ، أسرابها تغطي سماءَ المدينةِ ، وبعضها يقفُ على السطوحِ أو على أسلاكِ الكهرباء ، يتربصُ بجرذٍ أو جيفةٍ منسيةٍ تحتَ الأنقاض .
قطعتُ المسافةَ الى المخبأ بصعوبةٍ ، كنتُ أمشي على الرملِ الطري وكأني أفصلُ نعليّ حذائي عن بقعةِ صمغ ٍ ، أفكرُ برفاقي الذين تركوني في تلكَ العربة المفعمة برائحة الدخان ، من دون أن يكترثوا لبقائي وحيداً ، أحرسُ المدينة وأحرسهم ، لعلهم الآن يتناولون كسر الخبز ويشربون ما بقي عندهم من حليب الماعز ! لكن هاجساً من الأشمئزاز غمرني ما أن تسللت الى صدري رائحةٌ لاذعةٌ ، لم تكن رائحةٌ منفرّة وحسب ، بل كان طعمها حاداً ، يندفعُ في أنفي ، ويتسللُ الى أحشائي ، جاءت من قلب المخبأ ، تحملُ زنخها ، فأبتلعهُ وأكتمُ غثياني ، وما أن دلفتُ من خلالِ الباب حتى تسربت من بين قدميّ ساقيةُ الدم ، كان دماً أسود ، يوشكُ أن يتخثر ، وكانت تخرجُ من ظلام الردهة حشرجاتٌ وأنفاسٌ ولُهاث ، رأيتهُ يربضُ بقوائمهِ الأربعةَ على جثة الضابط الصغير! يقتلّعُ أحشاءهُ بأنيابه ِ الحادة ، ويلوكها على مهل ، وكانت أُنثاه تغفو قرب جثث الصبيان ، تتثاءبُ ، ثم تغمضُ عينيها بكسل ، لم يبق من جثث أصدقائي سوى العظام والجلد ، ما أتذكرهُ أنني صرخت ، لكن صرختي بقيت مطمورةً في حنجرتي ولم تخرج ، لقد ضاع َ صوتي ، واندثر لساني في قيعان ٍ سحيقة ٍ ، جبل ٌ شاهق ٌ ضغط َ هامتي وسحق َ مجسّات دماغي ، تقهقرت ُ ، وسقطت ُ على الأرض ، أرفسها ، وأستغيثُ ، كنت ُ قد فقدت ُ الإحساس َ بأطرافي ، أغمضت ُ عيني ، واستكنت ُ لنهايتي !
لم أشعر بأنيابه وهي تُطبق ُ على رقبتي ، حلم ، أم محض َ كابوس مرّ كومضة ٍ وتلاشى ! سمعت ُ طنين ذبابة ٍ حلقت فوق رأسي ، ثم حطّت على أرنبة أنفي ، فتأكدت ُ أنني ما أزال ُ على قيد الحياة ، عندما فتحت ُ عيني ّ رأيته ُ ما يزال في مكانه ، قوائمه ُ ثابتة مثل أوتاد ٍ صلبةٍ ، وما بقي من لحم المصارين يتدلى بين فكيه ، رمقني بنظرة ٍ باردةٍ ، ثم أشاح وجهه عني ، وعاد يلحس ُ طعم َ اللحم في فمه .
أسكرني القيظ ُ ، وخرجت ُ ، مشيت ُ في دروب ٍ لم أعرفها من قبل ، وتهت ُ في الأزقة التي سكنتها ريح ٌ جافة وفرضت سطوتها فيها ، وبحلول الغروب أعياني التعبُ وتداعى جسدي ، بحثت ُ عن مأوى ، أقضي فيه ليلتي ، لكن اطلال ُ البنايات والبيوت لم تكن آمنة ً ، واكثرها مكتظ ٌ بالغربان والخفافيش ومستعمرات النمل الأحمر والقطط الشرسة ! وبضوء القمر ، خرجت ُ الى التلال ، كان بوسعي أن أسمع حفيفَ الريح بين الأزقة ، تُصفر ُ ، وتترك ُ أسياخها الموجعة تنتهك ُ صدري وتنغرز ُ في مسامات ِ جلدي ، وبامتداد قضبان السكة الحديد ، كنت ُ أقطع المسافة َ الى العربة بخطوات ٍ عرجاءَ ، كأن عضود َ نباتات ٍ خرافية ٍ تُطّوقُ ساقيّ وتثبتهما الى الأرض .
أذهلني سكون الصحراء ، فبعد َ أن غابت الشمس ، لم أسمع سوى لهاث أنفاسي ، لقد تمكنت ُ من لمس طريقي الى العربة ، لكنني ضقت ُ ذرعا ً بعتمتها ، أسندت ُ بندقيتي الى كتفي ، وصوبت ُ ماسورتها الى جهة المدينة ، تركتُ الصحراء وراء ظهري ، وقررت ُ رَصدَ البيوت والبنايات التي تمتد ُ بمحاذاة السكة ، ما أن ألمح ظلالها على السطوح أو الباحات ، أو يتناهى لي عواءها ، سوف أمطرها بالرصاص و أفنيها بقنابل اليد التي تملأ حقيبتي ، قضيت ُ ليلتي أنتظر ، لكن لم يظهر شيء ، وفجراً ، ارتخى جسمي ، وذبلت أصابع يدي ، سمعت ُ صوت أرتطام بندقيتي بأرض العربة الحديد ، ربما انخسفت الرمال ُ في تلك الساعة وابتلعتني ، نمت ُ ، أو انطمرت ُ في قيعان عميقة ، وبرغم لذة النوم ، ألا أنني كنت ُ أختنق ، وأشعرُ بسلاسل ثقيلة وحبال ضخمة مفتولة تقيدني ، وتعيق حركتي ، وهواء ساخن ٌ نتن ٌ يسفع وجهي ، ظهرت الصورة ، وبانت ملامح رأسه شيئا ً فشيئا ً ، بعد َ أن فتحت ُ عيني ّ ، وانقشعت غلالة َ النوم ، يسيل ُ اللعاب من طرفي ّ فكيه ، ويسقط ُ على بندقيتي التي داسها بقائمتيه الأماميتين ، أنيابه ُ المطلية بطبقة ٍ صفراء ، حادّة ٌ ، ومصقولة ٌ بعناية ، مايزالُ طعم َ اللحم الطري في لسانه الأحمر الطويل ، كان ينظر لي بعينين لامعتين ، وجهه يقابل ُ وجهي ، وصدره ُ الرشيق يعلو ويهبط ،
قررت ُ رفسه ُ في صدره بضربة ٍ قوية ٍ ، لكن ساقي لم تتحرك ، كانت تلتصق بالساق الأخرى ، وأما ذراعيّ فقد كانتا تلتصقان في جنبي ّ , وقبضتيّ كفي ّ ملمومتان ، كان جسمي قد يبس تماماً ، وأصبح كتلة ً صلبة ً ، وحتى رقبتي نفرت عروقها وتوقفت عن الحركة .
رأيت ُ صمغاً لزجا ً يتسرب ُ من جلدي ، يسيل ُ من دون انقطاع ، ويتغلغل ُ في أطرافي ، وما أن يمسه ُ الهواء حتى يصبح حجرا ً صلدا ً ، وأصبح ُ معه تمثالا ً يشخص ُ في عربة ٍ معطوبة ٍ ، ينظر ُ متوسلا ً في عيني ذئب ٍ يدوس على بندقيته ِ ولعابه ُ يقطر ُ في فوهتها الصدئة !
—-