التشخيص والتجريد علاقة وتحولات متبادلة …
قدم الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي مداخلة نقدية تناول فيها تجربتي الرسامتين الدكتورة جنان محمد وأسماء الحساني … وذلك ضمن نشاطات قصر الثقافة في البصرة بالتعاون بالتعاون مع جمعية البصرة لبحوث واعلام المراة، وقد استهلتها الدكتورة جوليانا يوسف بالحديث عن فاعلية المراة البصرة في حقل الثقافة وعن نشاطات الجمعية وقدمت المساهمين الثلاثة في الجلسة، فابتدأ الناقد خالد خضير الصالحي بالقول إن الرسامين الذين نكتب عنهم إنما يشكلون مناسبة للكتابة عن معتقداتنا في الفن؛ ولذلك لم اكتب لجلستنا هذه سوى ملاحظات قليلة ستسوقها الحوارات اللاحقة حيثما تشاء حتما..
النقطة وحرص الصالحي هي تقديم شرح للمرتكزات الفكرية الاساسية التي نستند عليها في تلقي ودراسة تجارب الفن التشكيل.. وهي الطبيعة المزدوجة للرسم: الطبيعة الشيئية (المادية)، والطبيعة السردية (اللغوية)، وهيمنة الطبيعة السردية كون الطبيعة اللغوية ممرا لكل التأويلات، وكون الطبيعة الشيئية (المادية) هي واقعة غير سردية وغير لغوية وبالتالي من الصعوبة البالغة الحديث منها، وهو ما دفع باشلار الى القول “لقد صَدَمَنا الافتقار الى العلة المادية في فلسفة الجمال”..وقد تفرع الشعور بالطبيعة المزدوجة للرسم الى ثلاثة مواقف اهمها: ما كتب ريجيه دوبريه في كتابه (حياة الصورة وموتها) ان للصورة طبيعة مزدوجة مشابهة لطبيعة السيد المسيح الالهية – البشرية معا، متجها بالموضوع الى ثنائية (الارضي – السماوي) التي تقابل الجمالي – النفعي. فيما قسّم باشلار خيال الصورة الى “نمطين من الخيال: خيال يولّد العلة الصورية، وخيال يولّد العلة المادية، او باختصار شديد، (الخيال الصوري)، و(الخيال المادي)…” وطالب “كل عمل ان يغوص بشيء من العمق في برعم الكون ليكتشف صلابة المادة… عليه أن يستقي قواه من الحدث المتيقظ لعلة مادية.مع ذلك، أن يزهر ويتجمّل، عليه أن يتلقى، من اجل الإغراء الأول للقارئ، فيض الجمال الشكلي”، وينتهي هذا التقسيم بباشلار إلى (عناصر التكوين) الانباذوقليسية الأربعة ليجعلها منبعا لخيال الصورة من خلال (العناصر المادية) التي ألهمت الفلسفات التقليدية وصنف مختلف ضروب الخيال المادية بحسب ارتباطها بالنار والهواء والماء والتراب … ولكي لا يبقى (الإبداع) مجرد فراغ ساعةٍ عابرةٍ يجب أن يجد (مادته)، وان يمنحه عنصر مادي ماهيته الخاصة، قاعدته الخاصة”.
واخيرا فان شاكر حسن آل سعيد يتجه بفكرة ازدواج طبيعة الصورة حينما يفهم التقنية باعتبارها أما (نصا أبعاديا) أو (نصا شيئيا ماديا)، فـ(النص المادي) يجعل اللوحة نتاج “تفاعلات قوى المحيط وتقاطع قوى: الكثافة، والسيولة والهبوب والاحتراق” لـ”تنويع السحنة اللمسية” من خلال انواع الالوان وطريقة تقنيتها: فالالوان التي تنفث هي الوان هوائية والتي تعالج بالحرق هي الوان نارية والعجائن الوان ترابية والتي تعامل بالماء هي الوان مائية، فيقوم “(الأثر الفني) بدور (قوى الطبيعة) المؤثرة في الإنسان والوجود الخليقي بأسره”. وفيما يخص (النص ألأبعادي) فهو يعتبر “البعد الواحد اصغر وحدات منظومة الأبعاد”، فيتجذر الشكل ذو البعدين إلى الخط، ويتجذر الخط نحو النقطة (اصغر وحدة في الخط) وهو التجذر المكاني، كما انه أحيانا يتجه بالنقطة متجها صوفيا باعتبار أن “النقطة أزل كل شيء” (الحلاج).
واكد الناقد خالد خضير الصالحي إن موقفه من الفن التشكيلي (الرسم) هو موقف وسط ليس مغرقا في الشكلية، ولا في السرديات، فنعتبر اللوحة وجودا ماديا شيئيا متيرياليا، بينما نعتبر السرديات هوامش شرعية الوجود ناشئة عن (مادة) متطورة بفعل عاملين هما: التقنية العالية، أو التكوين الاستثنائي المتضمن تشاكلا صوريا يماثل الاستعارات اللغوية.
واوضح ان الموقف من التشخيص والتجريد، أو التحولات المتبادلة بين المشخص والمجرد هو الجامع للتجربتين، واوضح إن اليات الرسامين العراقيين التجريديين لا يخرج عن اما: البدء بالمجرد ثم الاستدراك بإضافة سمات مشخصة الى اللوحة، وهو اضعف أساليب الرسم التجريدي، وتدفعه الرغبة بإبقاء الصلة مع المتلقين قائمة، أو البدء من المشخص والتحول منه إلى المجرد، وهو ما أسميناه (قانون بيكاسو) الذي يقول (قانونه) بأنه لا يوجد تجريد محض، وإنما يتم البدء بالمشخص ثم تجريده إلى أقصى قدر ممكن، معتقدا ان الاختزال المضطرد لأشكال الواقع ومشخصاته لا تنهي وجود علامات الواقع التي لا يمكن محوها لتبقى روح الواقع عالقة في اشد أعمال الرسم تجريدا..
ان التعامل مع التجريد، او انتاج التجريد بهذه الطريقة، اي من جينات مشخصة، سيجعل ذلك التجريد نابضا بدفق انساني غامض، وان النظر الى ان هذا التجريد يؤنسن المجردات ويمنحها قدرة تعبيرية غامضة المصدر، وهو ما كان استراتيجا نقديا للرسامة المصرية الدكتورة أمل نصر في كتابها (مرايا العاطفة) والكاتب والرسام المصري (عز الدين نجيب) الذي يؤكد “إن الثقافة البصرية الجمالية … تتصل بالمكونات الجينية في طبقات مصر الحضارية”، وهي فكرة يمكن أن تتطور من خلال المزيد من البحث المعمّق بالارتباط مع كتابات (شاكر حسن آل سعيد) في (الفن المحيطي) حينما كان يعتبر السحنة اللونية بما فيها من مواد ومؤثرات تقنية (أثرا) للطبيعة ومشخصاتها..
أن تجربة جنان محمد في تحولاتها بين المشخص المحلي (معالم مدينتها البصرة) إلى التجريد (المحيطي) الذي تظهر عبره سحنة جينات الروح المحلية كمرتكز أساس لتجربتها المشخصة، والتجريدية، وهو الرابط (الجيني) لمرحلتيها التشخيصية والتجريدية وهو الذي جعل تجربتها تبدو موحدة ومتماسكة مع كل تحولاتها الأسلوبية، وهو دلالة على إحساس جنان محمد بهيمنة العنصر البصري في منجزها التشكيلي وهو ما قادها الى إعادة ترتيب حساباتها؛ فتغير فهمها للرسم ليكون أولا طريقا للبحث في اللا مرئي، وليكون ثانيا قضية تقنية ينحصر جوهرها في كيفية تعامل الرسام مع مادته، فلم تتخلّ عن إيمانها بان الرسم ليس إلا قضية (متيريالية) جوهريا، فما زالت مفردات وعلامات سبق إن وجدناها في المرحلتين السابقتين: شرفات وشبابيك وأبواب مغلقة، وعلامات من واجهات بيوت وأزقة رسمتها سابقا، ثم رصفتها هنا متقاربة في لوحاتها الأخيرة كعلامات بقيت راسخة وتم تكريسها الآن باعتبارها مفردات للتجربة التجريدية التي تحاول جنان محمد تقديمها.
إن التنوع الكبير الذي قدمته الرسامة اسماء الحساني من الاهتمام بأشكال وصور مشخصات الواقع وموضوعاته التقليدية كلوحات الطبيعة الصامتة إلى الاعمال المغرقة بالتجريدية اي الانتقال من الصور الشكلية الزخرفية للواقع إلى صلابة صور المادة حيث تهيمن السحنة اللونية؛ وهو يعطي التجربة وجهين مختلفين، الامر الذي يجعل من الصعوبة تحديد المرفأ القادم لها الآن طالما هي في مرحلة تقلبات لا يمكن التكهن بمدياتها وحدود اشتغالاتها. وقد تبدو للبعض (متناقضة)، و تذكرني بما يعمد له بعض الرسامين من انجاز خطين (انتاجيين) من المنجز الفني، فهم يقدمون منجزين: منجزا منتجا للسوق وآخر لأغراض ثقافية، لذلك تلقينا معرض أسماء الحساني باعتباره معرضين جمعتهما قاعة واحدة، فهناك تجربة مشخصة تشكلت من أعمال الطبيعة الصامتة، وأعمال تجريدية (منفصلة) عن المشخص فبدا المعرض وكأنه تجربتين منفصلتين ومتصلتين زمكانيا في آن معا..
وجرت حوارات في نهاية الجلسة اغنت موضوعها كما القت الشاعرة هالة المنصور قصائد جميلة تغنت بالتسامح وحب العراق وقدمت وصلات عزف على العود معها..
—