بتُ كلما أتعمقُ بدراسة أمهات مصادر التاريخ الإسلامي وكتب الحديث والتفسير وأسباب النزول، ازداد يقينا أن لا أمريكا ولا الصهيونية ولا الماسونية ولا أي قوة في العالم، كان بإمكانها أن تزرع بين المسلمين كراهية بهذه الدرجة من القبح والشدة؛ التي تجاوزت مرحلة التكفير المتبادل لتدخل حيز القتل والسبي ومصادرة الأموال وغنمها، لو لم تكن هذه الثقافة موجودة أساسا في جذور عقائدنا وتراثنا وحتى فكرنا الديني، وما كان لأي قوة في الكون أن توصلها إلى ما هي عليه اليوم لو لم تكن تملك مقومات القوة الطبيعية قابلة للاستفزاز بدون كثير عناء.!
لقد ثبت لي بالدليل القاطع أن المجتمع الإسلامي الأول لم يكن بريئا ـ كما يتصوره البعض ـ من الإسهام في خلق هذا التفاعل، حيث كانت هناك عقولا سياسية في منتهى الرقي، تمكنت من مصادرة محتوى أهم جزئيات المشروع الإسلامي، وأفرغتها من محتواها العقدي وصادرت مضمونها، ووضعت بدلا عنه رؤاها وأفكارها بعد أن ألبستها ثوبا دينيا، ثم سوقتها في المجتمع الإسلامي من خلال وعاظ السلاطين والإفتائيين وكهنة الدين، مراهنة على الفجوات الموجودة في المجتمع نفسه، ولاسيما وأننا لم نضع قواعد يتم بموجبها اختيار رجل الدين، فأختلط حابلهم بنابلهم مما أتاح لفئات مختلفة من المجتمع استغلال هذه الهفوة، وتنصيب أنفسهم قيمين على الدين والمتدينين؛ لهم سلطة التوقيع نيابة عن الرب بالوكالة، وهذه ليست مزحة ولا تهمة وليدة التسرع بدلالة وجود كتاب تحترمه شرائح مهمة من المسلمين عنوانه “إعلام الموقعين عن رب العالمين” لأحد كبار العلماء، يسمونه “شيخ الإسلام الثاني” وهو ابن قيم الجوزية. أما ما فعله الغرب والمستشرقون في وقت لاحق، فكان مجرد توظيف هذه الرؤى والأطاريح من خلال إزالة الغبار عنها وتلميعها وترويجها وتسويقها؛ بعد أن خلقوا لها بيئة صالحة مستغلين الحراك السياسي في المجتمعات الإسلامية، وما آلت إليه حياتهم!.
معنى هذا أننا بمجموعنا لسنا أبرياء، ولا يمكن أن نعفى من تحمل جزء مهما من وزر ما يحدث اليوم، ولاسيما وان ما يحدث الآن؛ بما فيه حرق البشر الأحياء والمثلة بأنواعها والذبح وغيره، تجد له أصولا في نصوصنا المقدسة، فما من نص ديني عن الجهاد أو الغزو أو الفتوح إلا وتجد فيه توضيحا أو تلميحا إلى هذه الأعمال، ولنأخذ مثلا السنة النبوية الشريفة، وأنا لن أتحدث عما تعرضت له السنة في صدر الإسلام الأول فذلك حديث يطول، ولكني سأتحدث عما هو موجود فيها مما اعتبره رجال الجرح والتعديل صحيحا، ومرروه إلى الأجيال، سواء بغفلة منهم أو بتقصير أو تعمد، حيث تجد فيها روايات عن قيام الخليفة الراشد أبي بكر الصديق (رض) بحرق البشر، وروايات قيلت سنة 11 للهجرة، يوصي فيها الخليفة أبو بكر قائده خالد بن الوليد (رض) بحرق المرتدين؛ أثناء حروب الردة، ثم قيام خالد بوضع رأس الصحابي مالك بن نويرة (رض) أثافي لقدر طبخ فيه لحم، وحينما نضج اللحم أكله، يوهمهم أنه يأكل رأس مالك، ليزرع الرعب في قلوب الأعداء كما تقول الروايات، ثم أمر جنده بأن يقطعوا رؤوس جميع الأسرى، ويحرقونها بالنار!. وروايات عن قيام الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (ع) بحرق المشركين، تراهم يختلفون فيها إلى درجة التهافت والتعارض بما يدعو إلى الدهشة والغرابة، ليصبحوا فريقين؛ بين منكر مكذب، ومثبت مؤيد، ومع ذلك تجد الغالبية تؤيد الحرق وتأبى ان تأخذ بقول من وهنه أو انكره!.
إن وجود مثل هذه الروايات في أمهات كتبنا وفي نصوصنا المقدسة، كان الأساس الذي اعتمده المتطرفون للترويج لبضاعتهم الفاسدة؛ التي أفسدت الضمائر والنفوس، وأدت إلى تخريب بلداننا، وتدمير ثرواتنا، وتفكيك وحدة شعوبنا. ولكي أثبت ذلك بالدليل القطعي المبني على منهجي التحليل والوصف وفق رؤية أكاديمية علمية، رجعت إلى حقبة خطيرة من حقب تاريخنا تمتد من بداية نزول الوحي لتصل إلى ساعة زحف جيش الشام لمقاتلة الخليفة الراشد الحسن بن علي (ع)، ثم لغاية قتله بالسم؛ بعد سنين من ذلك، وتداعيات هذه الجريمة على عموم المجتمع الإسلامي.
في كل هذه المرحلة الخطيرة من تاريخنا كانت السياسة ورجالها الأفذاذ؛ هم الذين يحملون راية معارضة الدين ورموزه بكل ما يتاح أمامهم بدأ بالتهريج ووصولا إلى التحريف والدس والكذب والافتراء والتشويه، ولم تقف هذه الأعمال التخريبية عند المقصودين بها، بل تجاوزتهم لتصيب الدين كله بالوهن بعد أن نجحت في تفريق كلمة الأمة وجمعها، وحولتها إلى فرق ومذاهب ومجاميع تكفر بعضها بعضا، وتقاتل بعضها بعضا، والأهم من هذا وذاك، تكره بعضها بعضا.!
إن مرحلة الانشقاق كانت بداية السير في درب الخطيئة الأزلي، ولاسيما بعد أن أخذت كل فرقة منها ترَّوج لمشروعها العقدي على أنه المقصود وحده بالفرقة الناجية التي خصها الحديث النبوي بالذكر، وأن جميع الفرق الأخرى مصيرها إلى الخلود في النار.
إن وقوف أغلب الفرق والمذاهب الإسلامية على جمودها التاريخي دون الإفادة من معطيات الحضارة والتقدم جعلها تبدو في منتهى البلاهة، تتمظهر في سلوكها ملامح الغباء والتخلف، والأنكى من ذلك أن كل تلك السلوكيات انعكست على الإسلام، فلونته بألوان غباء تلك الفرق، ووسمته بتخلفها، وسلبته جماليته وروعته، فبدا هو الآخر وكأنه هو من أباح لهم كل تلك الأقوال والأفعال.
إن مشكلتنا نحن المسلمين بمجموعنا؛ أننا لا زلنا عالقين في موروثنا القديم ولا زلنا على جمودنا الأول، ولا زال هناك بيننا من يبحث عن مبررات لما حصل بدل أن يستغل معطيات التحضر والتمدن لتفكيك الروايات ومعرفة أصولها ومنابعها، كما لا زلنا لا نمتلك الجرأة والشجاعة لنعترف بخطئنا أو بخطأ رموزنا أو بخطأ ما نعتقد انه صحيح مما يحدونا لنبحث لهم دائما عن مبررات، لأن في نفوسنا خوفا من الآخر أن يستغل صراحتنا ليطعننا في ظهرنا.
في كتابي الجديد “الحسن بن علي؛ الإمامة المنسية” تحديت الواقع واتكلت على الله لأقول الحقيقة المجردة دون أن التفت إلى ما تتركه نتائجها علي أو على الآخر، معتبرا ذلك منهجا محايدا لكشف الحقائق، نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت آخر؛ لأنه أساس المراجعة الفكرية التي نحتاجها لنتجاوز أزمتنا الحادة المعاصرة. فانا بدأً من العنوان (الإمامة المنسية) وضعت نفسي في موطن الشبهة، وتحولت إلى شاخص في ميدان رمي، لا يدري ممن ستكون الإطلاقة الأولى التي توجه إليه.!
أما محتوى الكتاب فقد خرجت فيه عن المألوف لأغوص في عمق الروايات، وأصل إلى قعرها، استنطق محتواها وأحلل معادنها، وأقارن بينها وبين ما هو من جنسها، وهو منهج تحليلي يجعل من الباحث ندا لجميع من اقتبس منهم.!
أصل الكتاب مسودة كتبتها في عام 2013 وقدمتها مباشرة إلى العتبة العباسية المشرفة في كربلاء للاشتراك في مسابقة دولية الأولى للتأليف عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، نظمتها العتبة، وأعلنت عنها، والكتاب بجزئين كتبته خلال مدة تسعة أشهر، بدوام كامل يبدأ من الساعة السادسة صباحا ويستمر حتى الساعة الثانية عشرة ليلا، تتخللها مدد قصيرة للراحة والصلاة والأكل. وقد عُرضَتْ المسودات المشاركة ـ بعد أن أخفيت أسماء الباحثين ـ على لجنتين واحدة أكاديمية، أخذت على عاتقها الجانب الأكاديمي للبحث، حيث عوملت النصوص وكأنها أطاريح قدمت للحصول على درجات علمية، والأخرى حوزوية (دينية) دققت في موائمة محتوى البحث للقواعد الفقهية، ثم أعطت كل لجنة منهما درجة نجاح للكتاب، بعدها جمعت الدرجات، واعتمدت للمفاضلة بين الباحثين، وبتوفيق من الله تعالى، فاز بحثي بالمرتبة الأولى، ولكنه لم يفز بكامل رضا المسؤولين والمشرفين على قسم الشؤون الفكرية في العتبة المعروفون بالصرامة والدقة والحدية ـ بالرغم من إعجابهم الشديد به ـ بسبب بعض طروحاته؛ التي أرادوا إما تبديلها أو تخفيفها، وهذا من حقهم لأنهم يتحدثون باسم مؤسسة في غاية الاحترام، مما استدعاني للدخول في حوارات معهم طوال المدة من عام 2013 وإلى ما قبل أشهر، وأخيرا تم الاتفاق على إصدار الكتاب، وها هو اليوم يشرق في سماء حياتي قمرا جديدا من تلك الأقمار التي صرفتُ عمرا وصحة وراحة ومالا لكي أجعلها تدور في محور وجودي.
صدر الكتاب بجزئين في مجلد واحد، وبجلاد سميك، طبع في دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع بكربلاء بألفي نسخة كطبعة أولى، وبواقع 794 صفحة، وأشرفت على مراجعته شعبة الدراسات والنشرات بقسم الشؤون الفكرية والثقافية التابعة للعتبة، ودققه لغويا الأستاذان مصطفى كامل محمود وموفق هاشم عجيل، الإخراج الطباعي والتصميم للسيدين سعيد الأسدي ومحمد قاسم النصراوي.
وفي هذه المناسبة السعيدة لا يسعنى إلا تقديم الشكر والعرفان بالجميل لكل من جعل هذا العمل ممكنا بدأ من العتبة العباسية وانتهاء بمن سلمني نسخي من المطبوع. كما سأكون في غاية السرور والغبطة من كل من يقرأ الكتاب ويبدي عليه ملاحظاته مهما كان نوعها.
—