“قول الحقيقة وإزعاج الناس … أفضل من الكذب لإرضاء الناس ”
“باولو كويلو”
حين أنظر إلى الماضي، إلى السنوات التي أضعتها عبثاَ وخطأ ، ينزفُ قلبي ألماَ ، الحياة هبة .. كل دقيقة فيها يمكن أن تكون حياة أبديه من السعادة ؟ فقط لو يعرف الأحياء هذا ، الآن ستتغير حياتي ، الآن سأبدأ من جديد .
هذا ما ينطق به (دستوفسكي) في أحدى رسائله التي يبعثها إلى أخيه الكبير “ميخائيل”بعد ان حكم عليه بالسجن والأشغال الشاقة لمدة أربع سنوات …دستوفسكي الذي تضجُ حياته بالأزمات والصراعات الأنثروبولوجيه القلقة التي دائماَ ما تحيله إلى أن يكون نيرفانياَ ــ نوستالجياَ بالدرجة الأولى … سعيداَ بذاته وبوعيه الدائم تجاه تغيير حياته، والبداية من جديد، ولكن ما أن يأتي احدهم ويلعن الحياة بنصِ مغلق (ثقيل) نص يدعونا إلى أن نهجر الحياة ،وننتظر اللحظة التي سنغادر فيها الدنيا مؤكداَ على ثقافة الموت … الثقافة التي تخلو من أي مؤشر ودلالة تحثنا على مواصلة الحياة وكأن الحياة ومضه سريعة (قصيرة) تأتي بأحداث أسرع تجعل من الشخصيات والأمكنة تختفي (تزول)بسرعة الحدث الذي يفرضه علينا الروائي(الراوي ـــ البطل) إزاء ثقله وثرثرته الزائدة على طول وعرض النص الروائي ، وهذه فلسفة خاطئة لفهم النص الذي تجاوز بدورة المفهومين (الثقل والخفة) وعليه لا يمكن للروائي أن يتعشق بمفهوم واحد(الثقل) دون الأخر، سيما وانه راح يبحث في النفس الأخير من الرواية عن الموت(0الخلاص) من هذه الدنيا. حتى ولو تطلب الأمر أن يكون ذلك في “حياة ما بعد الحياة ”
* مغازلة الموت
السعادة الحقيقية هي ان نذهب إلى الصيد ، لا أن نقتل الطائر(ايكو) سعادتنا الحقيقية هي أن نعيش الحياة بجمالها وقبحها ،بخيرها وشرها ، بطيبتها وقسوتها ، ولا نستسلم للقدر ومغازلة الموت وما بعد الموت من حياة ، بقدر ما نعيش الحياة بدقائقها التي يمكن ان تكون حياة أبدية من السعادة ، وهذا احد أسرار تواجدنا في الحياة التي يقول فيها الطيب صالح في موسم هجرته إلى الشمال” “طوال حياتي لم اختر ولم أقرر . إنني أقرر الآن إنني اختار الحياة سأحيا لان ثمة اناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن … لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى ……)ص176، هذا مالا نستشفه في رواية (الحياة ثقيلة) للروائي “سلام إبراهيم” الروائي الذي عشق وتعشق سحر البياض وسطوته بما فيه من ثلج وبرد ومطر وعزلة تمنحه الحق في أن يكتب، ويتذكر، ويهتك ، ويثرثر كثيراَ جراء ما يعانيه من سطوة الوحدة هناك في المنفى (وحدي ..وحدي ..وحدي والستون فرشت أيامي ، أحملق ُ في جدران الصالة التي أمتلاْت بصورهم .)ص241
أنها الحياة الباردة( البيضاء) بثلجها وسمائها وشوارعها وليلها التي منها تبدأ الرواية وتنتهي بمغازلة الموت
* بداية الرواية
من ذلك العالم الأبيض بثلجه وهدوئه وسمائه وليله وشوارعه يحكي لنا الروائي” سلام إبراهيم” حكايته الثقيلة بما فيها من أسرار وقسوة ولعنة … من فرط البياض الموشوم بصدق الحياة وجمالها وعذوبتها استطاع سلام إبراهيم في روايته الثقيلة ومن على حافة الستين ان يسلط الضوء على بعض الشخصيات الميتة ويحييها بطريقة استدعائية ململماَ بعضاَ من أوراقة وذكرياته النوستالجيه الفوضوية التي اقتطعها وبالأصح أغترفها من جملة نصوص تقابلت وربما تشابهت في الشخصيات والأزمنة والأمكنة المعرفة لدينا كقراء وباتت واضحة المعالم منذ قراءتنا للورقة الأولى التي تكشف عن نوايا ما مكتوب بعد هذه الصفحة … وباعتقادي كقارئ لو أخضعنا هذه النصوص للفحص الطبي(القرائي) واخص بالطبي المُشخص الدقيق لهذه النوستالجيات الفاضحة لوجدنا هناك قرابة وشراكة وربما تقابلات واضحة المعالم مابين النصوص الروائية السابقة التي جاءت واضحة بقدر ما هي واقعية (دسمة) مطت من نفسها لتكون إخطبوطاَ يحجم من رؤية الروائي ويجعلها ضعيفة لا ترى غيرها ، وهذه مشكلة كبيرة في وعي وثقافة الروائي الضيقة وربما الثقيلة التي لا تريد ان تنجو بنفسها ، بقدر ماهي متورطة بأمكنة وأزمنة متشابهة ، ومُورطة في نفس الوقت شخصيات غائبة(ميتة) أعدمت في الحياة ، والآن هي مهتوكة الأسرار (مفضوحة) ،وهذا ديدن” الراوي الثرثار” سلام إبراهيم” الروائي الذي دائماَ ما يفرشُ أيامه وذكرياته وأنفاسه ومدينته الفاضلة (الحي العصري) راوياَ خلالها مغامراته وحكاياته النوستاــــ حياتية القلقة المفصحة عن أحلام وأمنيات مؤجلة لبناء عالمٌ جديد ، ربما يرتقي إلى بياضاتهِ الناصعة بما فيها من ليل وسماء وشوارع وضوء وسائل (بدون السائل الأبيض السحري لا نوم ولا راحة)ص7، لكن سرعان ما تختفي هذه الصورة (اللقطة) الجميلة بمختلف بياضاتها معلنتاَ عن صورةٌ أخرى، وعالمٌ أخر أكثرَ تشاؤمية وضبابية … عالمٌ إنمازَ بالسوادِ والخراب والتصحر والفوضى ، وعلى الرغم من ذلك نجد الحياة الباردة بما فيها من بياض تُهيمن على ذات الروائي ـــــ الراوي هذا الأخير الذي يُعلن بإصرار وملحة كبيرة عن كينونة الحياة التي دائما ما يصفها باللحظة، والقصيرة ،والفقاعة أو الثقيلة بقدر ما يحيلنا إلى وجودية وجودنا القائم على معادلة الحياة بمختلف إرهاصاتها مابين أن نكون أو لا نكون . وبهذا الوجود الوصفي للحياة أجدني ادخلُ حيزاَ أخر ، وتقابلاَ انعكاسياَ أخر أكثرَ تشاؤمية وهو إن (الحياة أكذوبة … أو وهمٌ كبير) حسب “نيتشه ، ولا أريد هنا أن ادخل في جدل وعراك فلسفي حول مفهوم العبارة ، بقدر ما أريد أن أخفف من ثقل الحياة ووطئتها علينا لما تحمله لنا من ذكريات مؤلمة ، موجعة باقية على قيد الحياة تتمتع بوجود يمتزج بأمكنة وأزمنة وحكايات تشكل لنا خرقاَ وأزمة سايكو ــ نفسية لا يمكن لنا أن نتناساها بسهولة ،فكيف بنا ونحن نقرا هذا النص الثقيل ــ النص الروائي المتخم بحكايات وقصص تدخل ضمن فلسفة وخطاب هذه الأزمة التي دائماَ ما تبوح وتفضح وربما تهتك أسرارنا وعوالمنا ومقدساتنا القلقة ، وعليه نجد الروائي ــ الرائي في أكثر من مرة يعول على الضوء الأبيض ” يقال أن المتحضر يرى قبيل رحيله ، في اللحظات الأخيرة شلالاَ من الضوء الأبيض ….” ص241 ، هذا البياض اعتمده الروائي ليُعلن من خلاله عن بداية حياة الرواية (الثقيلة) ،ونهايتها الموجعة التي عبرت الستين باحثاَ عن ما مدفون في ارض السواد… ارض اليباب من حكايات وأسرار ومغامرات وسجون واعتقالات ،وطفولة بائسة .
الحياة … لعنة ثقيلة
ثقل الحياة الذي لا يطاق او لا يحتمل … هذه اللعنة المخيفة بما تورثه من حروب وضياع وخراب واعتقالات هي من شَرعَ للروائي سلام إبراهيم ان يروي ويقول لنا أشياء لا يمكن أن تقولها سوى الرواية على اعتبارا أن “الرواية قبل كل شيء تتفحص لغز الوجود … تتفحص البعد التاريخي للوجود الإنساني” وهذا ما نستشفه في قراءتنا للحياة وما بعد الحياة التي ربما هي الأخرى تكون ثقيلة بحساباتها الدقيقة لكل أفعالنا وإعمالنا ، وبالتالي هناك حساب مابين وجودنا كأحياء ، ومابين وجودنا الأخر كأموات ، ومن هذا المنطق الخيميائي القلق والمخيف الذي تشبع به النص النوستالجي (حياة ثقيلة) يحاول الروائي ان يعتمدَ الماضي كورقة رابحة من خلال استدعائه لبعض الشخصيات الميتة وإحيائها من جديد ، سيما وان هذه الشخصيات تعدُ محورا رئيسياَ مكنَنَ الروائي من سرد تفاصيل حياته التي دائماَ ما تجيء ألينا كقراء على هيئة سيرة ذاتية كاتبها وبطلها وراويها سلام إبراهيم … الروائي الذي أدمن الذاتية وأصبح من روادها النرجسيون ، هؤلاء الذين عشقوا أنفسهم وصِورهم وكتاباتهم وحِواراتهم ولِقاءاتهم ناهيك عما يفعلونه من أزمات قد تكون بعضها وهمية تبدأ من الحياة وتنتهي بالحياة على حساب بعض الشخصيات الواقعية المستلبة بالحياة ، وربما على حساب الجسد وما يحمله من ثيمات قوية يمكن من خلالها تنشيط مفهوم النص بفنتازيا جنسية ، وبالتالي التخفيف من ثقل النص الروائي وما يحمله من ترسانة ثقيلة بمعدات واليات موت اكتسحت كل ما موجود من بياض وأحلام وأمنيات وأماكن سرية ، موت أفزع ذائقتنا وتشهينا كقراء وفق رؤية النص الضيقة (أينما نكون يكون الموت حاضراَ معنا) ، وعلى ما يبدو نجد الروائي سلام إبراهيم وفق نصه هذا قد تعامل بحيادية وجدية تامة مع أجساد الموتى من أقربائه ومعارفه الذين ماتوا موتاَ طبيعيا ، او مع قتلى الحرب في الجبهة والجبل من زملائه الجنود او الثوار، وهذه خاصية انماز بها الروائي لتكون له حكايات طويلة مع الموت فلولاه لما استطاع سلام إبراهيم ان يقول شيئا وملامح ذلك واضحة اذ نجد في كل فصل هناك موت معلن لكل شخصية استدعاها ابتداءَ من شخصية احمد أبو البدلي (المضاجع بالتناوب)، وشخصية سعد ، وانتهاءَ بموت عبد الحسين داخل (أيييييييييييييي خلصت)، 00وبأرخنة الموت يصار الروائي مؤرخاَ وثائقياَ ، وليس مكتشفاَ للوجود لحقيقة النص وما يبثه من موت معلن للحياة بكل ما فيها من حضارة ، وتأريخ ، وقيم ، وأعراف، وتقاليد ، وجمال ، وثقافة ، ولا أعرف بالضبط لماذا يحيلني ذلك إلى أن أتذكر ” حفار القبور” الكارزمة الغريبة التي دائما ما تحفر في الأرض لتدفن شخصياتها وفق قياسات يحددها جسد الميت … الجسد الذي يخضع لطقوس وفسلجة دفن معلنة أمام الملأ ، وعلى الرغم من قسوة المشهد (الدفن) نجد في الممارسة حرفنه ورائحة وتجلي يفتقر إليها الروائي في مشغله السردي المصاب بفايروس التصحر …هذا الأخير هو من جعل “سلام إبراهيم” يثرثر (أنا ثرثار ، لا أسرار عندي ، بل فاضح أسرار) ويقر بثرثرته الوثائقية كعادته عن شخصيات وأمكنة وأحداث وسيرة ذاتية اعتدنا عليها ، وربما هي من اعتاد علينا لكثرة اجترارها ،ـ وهذا يشكل لنا أزمة تلقي تجاه نص سلام إبراهيم الأســـ كولائي … النص الذي يبحث عن قارئ بسيط (انطباعي) قارئ لا يحتاج إلى أن يكون استدلالياَ ، ولا نموذجياَ أو حداثوياَ لاعتبارات يضعها أو بالأصح يفتقر أليها الروائي أثناء كتابة الرواية ، سيما وان القارئ الآن أصبح وفق حداثوية الفهم القرائي (البارتي )منتجاَ أخراَ للنص ، وربما مستورداَ للمعاني ، ولا نريد لقراءتنا ان تجتر كل ما موجود من حكاية وأساطين داخل النص ، ولا تتأثر بالمطيات البلا ستيــــ /روائية التي أدمن عليها بوعي مزمن .وعليه أدعو “سلام إبراهيم” للعودة من جديد لقراءة بورخس ، وسارماغوا ، وكونديرا ،وبالأصح “موسم الهجرة إلى الشمال” للروائي الطيب الصالح لعله يطلع على الحياة بما فيها من كتابة وجمال وأسرار وفوضى ، ويدرك جيداَ ما توصلت إليه الرواية اليوم من تقنيات وحرفنه في الصنعة ليس في السرد فقط وإنما في قوة الفولتيه الروائية بما فيها من خيال وتخيل وميتا ــ ما بعديه ، وواقعية سحرية ربما تغوينا بمتعة القراءة وما بعد القراءة تفوق ما بجعبته من ثرثرة (سرد) عقيمة همها الأول والأخير ان تأتي بسلام إبراهيم كاتباَ وراوياَ ورائياَ وبطلاَ سوبرمانياَ يستلذُ بسيرته الحسنة بما فيها من اعتقالات وولع جنسي ،ومغامرات مراهقة تنتشي بسطوة الأسرار وخفايا منطقة الحي العصري ، وهذا بحد ذاته يعلنُ عن هوية “سلام إبراهيم “الروائية وتحركاته على مختلف نصوصه الروائية المتقابلة المتشابهة في اللون والطعم والرائحة ، ولكن الشيء الذي يبقى ثابتاَ هو متعة القراءة وما بعد القراءة التي لم نصل إليها إطلاقا في هذه الرواية .
—