
ومن الجدير ذكره ان لوديع شامخ مجاميع شعرية مخطوطة وهي: مراتب الوهم ، تحت بيت العنكبوت ، كيف ارسم حلما في دائرة الرأس”.
الكلمات والاوراق التي القيت في الجلسة ولم نتمكن من الحصول على ورقتي حسين عبد اللطيف وحاتم العقيلي:
كلمة رابطة الابداع
المحامي
عزيز حرز علي الساعدي
كاتب وناقد مسرحي
ترحب رابطة الابداع للثقافة بضيوفها الكرام للاحتفاء بديوان الشاعر وديع شامخ (ما يقوله التاج للهدهد .(
صحيح ان هذا المقهى الفقيرة ببنايتها القديمة واثاثها المتواضع الا ان هذا المقهى يعتبر بيت الأدباء بعد الاتحاد وهي كبيرة بمبدعيها ومريدوها من حملة هذه الفعالية الوليدة الجديدة والتي تدشن بدايتها بهذا الاحتفاء والتي سوف ترسي تقليداً ( ولو متاخرا) جديداً للحراك الثقافي في بصرة المربد والسياب وسعدي يوسف والشاعر الشهيد الكبير محمود البريكان . بصرة محمود عبد الوهاب ومحمد خضير وكاظم الحجاج وحسين عبد اللطيف وكل مبدعي هذه المحافظة المعطاة على مر العصور والدهور منذ الفراهيدي والجاحظ ورغم المحن والحروب التي استهدفت هذه المدينة الباسلة الا انها استطاعت النهوض بالجانب الثقافي بتأسيس فكر نير شجاع يساهم في تشييد بنية هذا الوطن الثقافية والإنسانية .
إخوتي من مبررات ودوافع هذا التقليد الثقافي الجديد هو ان هناك طاقات إبداعية ناشطة وفاعلة ومبدعة من ادباء المحافظة وبالذات أعضاء الهيئة العامة لاتحاد الادباء والكتاب في البصرة . لم تأخذ فرصتها الكافية للتعبير عن همها الثقافي والإسهام في طرح ثقافة مغايرة اتجاه كل ما هو جامد وعفى عليه الزمن لترسي هذه الفعالية ثقافة بديلة .
هذه الطاقات لها حضور فاعل على مستوى المشهد الثقافي العراقي وهي على سبيل الحصر تضم خيرة روائي وكتاب قصة ونقاد وكتاب مسرح ناشطين كالشاعر حسين عبد اللطيف والكاتب الرائد المسرحي بنيان صالح والناقد حاتم العقيلي والناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي والناقد المحامي الكاتب المسرحي عزيز الساعدي والقاص فاروق السامر وقصي الخفاجي .
واني اقترح ان يقام هذا النشاط في هذا المقهى او أي منتدى اخر مرة كل اسبوعين او مرة كل شهر نستضيف فيه احد المبدعين شاعراً وناقداً وروائياً وكاتباً مسرحياً وقاصاً .
ولا يدور في بالي احد ان هذا النشاط يشكل ابتعاداً عن اتحاد الادباء والكتاب في البصرة وانما هو رافداً اخر للثقافة جرياً على ما هو جاري في نشاطات المؤسسات الثقافية في بغداد وبابل والناصرية .
وأقولها بأعلى صوتي إن اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة يبقى هو الحاضنة الأولى للثقافة في بصرتنا الحبيبة وبيتنا الثقافي الذي يضمنا ويؤوينا جميعاً تتوسطه صوره معلمنا ومثقفنا الكبير محمود عبد الوهاب الدءوب والحنون وقلباً كبير الذي يضم في طياته عذابات وطموحات هذا الشعب المعذب في الحياة الإنسانية الكريمة العمر المديد لك ايها المبدع الكبير والشاب المتجدد والحاضر دائماً بيننا . اقول ان اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة هو بحاجة تفعيل دوره ورفد لدوره ، لكن يأخذ مكانته من نشاط الفعل الثقافي ويكون دائماً مبادراً وليس نابعاً .. ان تكون لشخصيته المعنوية القوية .
ولتعزيز هذه الفاعلية فأني أبادر من الجلسة القادمة باستضافة الرائد المسرحي الكبير بنيان صالح بقراءة مسرحيته الرائعة / حذاء الراقصة/ ومداخلتي النقدية عليها . وأطالب الهيئة المشرفة على هذا النشاط الجديد بوضع برنامج عمل يحدد فيه اسم النشاطات والفعاليات الثقافية وتاريخها .
وشكراً لاستماعكم ..
………………………………………………………………………………..
احتفاء رابطة (إبداع) الثقافية في البصرة للديوان الأخير للشاعر وديع شامخ (ما يقوله التاج للهدهد)
ما يقوله التاج للهدهد: أربعة عناصر
خالد خضير الصالحي – البصرة
1
حينما كتب الناقد شاكر حسن آل سعيد مؤلفه الأخير (البحث في جوهرة التفاني بين الأنا والأخر، تأملات في الأسطورة واللغة والفن، الشارقة 2003) حرص منذ العنوان، وفي مقدمة الكتاب، ان يوضح عناصر استراتجيه النقدي وهي: الأسطورة، واللغة، وشيئية اللوحة، فكان ذلك الأمر حافزا لنا في البحث عن عناصر غير تقليدية كمكوّن ومولد نصي في بعض التجارب الفنية، ومن ثم الشعرية التي حاولنا دراستها، وحين وقع الديوان الأخير للشاعر وديع شامخ (ما يقوله التاج للهدهد) الذي صدر عام 2008 عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، تحت يدي، أحسست ان وديع شامخ، هو الأخر، كان يبني استراتجيه النصي على أربعة عناصر هي: أولا، الجسد (الرأس، يد، انف، أذن، عين، لسان، فم)، وثانيا، التقاويم (التي تؤرخ لفعل الزمن والإحساس بفعلة بشكل كمي أي رقميّ)، وثالثا، الأماكن وغربتها وسرّيّـة أحلامها، ورابعا، اللغة كموئل للوجود.
2
ينطوي نص (الوجود في ظلمة النفق) على كل الاستراتيجيات النصّيّة عند وديع شامخ فالعنوان يتضمن: (الوجود) بمعنى الوحدة الوجودية، ويتضمن (ظلمة النفق):
“كلّ يوم أشطب عاما من التقويم، أرفع مظلتي خوفا من سقوط رأس اليوم الجديد على حلمي.
رأسي حائر بحملّ هذه الحواس المعطّلة .
الفم البليد، ينطق ما تقوله الأذن!
فجور العين تفوح روائحه من الأنف الباشط .
جثة متعفنة تقود رأسي، إلى متاهة اليوم التالي.
كيف أرفع رأسي أذن، لميلاد السنة القادمة ؟
……….
الأيام حواس تتعطّل أمام إشارة مرور تتصابى في حافلة، تَشيخ في حديقة عامة.
أيام رأسي لا قلب لها.
تؤرخ للخليقة تقويما ومسلاّت.
هكذا دون حياء .
العين بالعين والسن بالسن.
كيف يبتسم رأسي الُمحنّط في متحف الجسد!؟
………
لا ذنب لرأسي ، كان ينتظر الطوفان .
لا تموز أمطرَ والباب خَلف (آب) أوصدته المسامير.
صيام في صيام.
يا مُكثّر الأعناب أغثنا.
يا صاحب النخيل: جفّت الخمرة.
الرأس يُطوّحه جسد بلا –جمّار-
………
نصف ربيع لرأسي المطرود من نفق التقويم.
لُحاف واحد لشتائه البارد الوحيد.
عصا بيضاء لسنته القادمة.!!
من المُبصر إذن؟؟
………” (الوجود في ظلمة النفق) ص5
3
ينطوي نص (غابة الشوك … أو …. لمن افتح بابي.) على الروح السرية للأمكنة:
“لم يعد لديّ متسع لإنفاق أحلامي على قارعة الحياة.
مضيت إلى مجاهل روحي ، أتسكّع بها. اُخرج بيضة السؤال من دجاجة العقل،
أضع الغيمة فخا،للطيور !!
أيها الغافل عن طحينك في الحقل، إلى أين تمضي؟
لم يكن هذا الصوت صوتي ،الذي يجيئني من كهوف روحي القديمة.
كان حجرة تعثرت بها، ووردة قطفتها ، وكرمة خمّرتها.
إلى أين امضي ، أنا المقذوف بصرخة إلى الحياة.
أنا الحيمن السائر سريعا لنصف قبره!!”
(غابة الشوك … أو …. لمن افتح بابي.)
4
يتصدر غلاف المجموعة الشعرية كائن (آدميّ) مجنح قد يكون صنوا لذلك الهدهد الذي تهيمن أسطورته على جملة العنوان، وربما هو ملاك ماركيز الذي عاد إلى الأرض فانتهى إلى قن دجاج في نهاية قصته القصيرة فلاقى مصيرا مؤلما و مؤسيا في آن معا.
يبدو العنوان.. معنيا باتجاه واحد للخطاب، خطابا يصدر من التاج إلى الهدهد، فالهدهد هنا متلقّ للخطاب، انه مؤوِّل له، وبذلك يمتلك (كل) الحقيقة.. فكما يقول نيتشه “لا توجد حقائق بل تاويلات” (امير دوشي، تاتو 9، 15 تشرين الثاني 2009، ص10):
“طلسما أطوّح الهواء ، وأتنفس المساءات الثقيلة بجناحيّ
وكأيّ عابر إلى المستحيل
لابد من سنارة وغشاوة عيون
وعظم هدهد
وكرسي
…..
أهبطُ …
نافخا قربتي وقروني ..
نازلا من أبراج عاجي وسماواتي الحامضية
المدججة بالأوحال
أمطر ..
أمطر
غير آبه بسورة الغياب .
أتعثر بجثث كانت تطير قبل صعودي
أشرب ماءً من زمهرير الأجساد،
ومن عَرقها يتفصد الزمن .
كيف كنت أطيرُ وتلك المأساة تطنّ على جناحيّ كقارِ زورق مثقوب ..”
(ما يقوله التاج للهدهد)
5
في نصوص (ملامح سيئة الصيت) تتم استعادة شهادات لأطراف الجسد يوم “تشهد عليهم أيديهم و….” في كرنفال من الاعترافات التي يدلي فيها كل طرف (يد، انف، أذن، عين، لسان، فم) بما لديه.
” يد
في الغرفة المشبّعة بثاني أوكسيد الكاربون ، والنوافذ مقفلة على أبوابها ..
تتشظى اليد لتعبثَ بخصلات الشعر المنهوك أمام رأس مستباح
تتلوى كأفعى درداء خارجة من شرنقة الحواة في قيء سفاهة حناجرهم .
ثاني أوكسيد النايات ، يرسم على الأنفاس َسورَة.. يلوّح للأبواب .. ويغمز للنوافذ ..
واليد كعادتها تقبض على ما ترمّد من فسائل الجسد ..
………………….
أنف
مالح وعيونه مدفونة بدموع ملساء،
الموقد في الغرفة التي لا باب لها ولا ندماء
يتحسس اللصوص ويشرب على مقامة الغياب كأسا مترعة بالزبَد..
لا يستجير بأحد .. يطوف عاريا والمكائد تنزّ من خاصرتيه
انه وحيد، كما جرت العادة … أن يتسلق اللبلاب نواصي الشرفات دون خطى..
………………………..
أذن
في المساء تماما ، وقبل ان يتشمع كبد النار .. أطفأت الأذن جذوة خلوتها
واستعارت من القرود خفتها، ومن الغزلان دموعها، ومن الصقور شهوة الانقضاض…
الغربان توصوص على جثث الغرفة …
والاذن تسدّ بخواتم الشمع .. استغاثة الناجي من أوكسيد الرطانة.
………
عين
تترقرق على مشارف الدخان .. والنار على مبعَدة طرفٍ
لا عصا تهش بها الجمر
لا جفون تغلق أبوابها وتفتح النوافذ
منحنيّة .. منكسرة
لكن الرمال دائما تجد في صبواتها وسائد آمنة
والرعاة يتصيدون بشهواتها ، غزلان السرّ
……………
لسان
في الغرفة ذاتها .. المبللّة بماء الشبهات
يتدلى لُيرتق باللعاب فوهة النزوة..
النزوة التي تنبعث من ثنايا المطارق ..
الداخلون مع الأوكسجين..
مشعلو المواقد التي لا تترمّد
نافخو الشواء على مجسات اللسان ..
اللسان الأخرس إلا من الرنين
…………………..
فم
بوابة البوق .. نافخ الكير
حافظ أسرار الجسد المسجى على المواقد المُلبّدة بأوكسيد الغياب..
مثلُ قرنٍ غبي ُيكلِلُّ رأس تنين مُحنط
مثل رأس يترهل من اللغو..
مثل وسادة رخوة..
يندلق على الغرفة المبللّة بالكلام المباح
كلام الذين ناموا في الغرف المختومة بأكاسيد المواقد
………………………………………………………………..
(ملامحٌ سيئة الصيت)
6
الرأس عند وديع هو إطاحة بهاجس البدايات في كل شيء “سقوط رأس اليوم الجديد”ص 15 ، “راسي حائر…” ص5:
“كلّ يوم أشطب عاما من التقويم، أرفع مظلتي خوفا من سقوط رأس اليوم الجديد على حلمي.
رأسي حائر بحملّ هذه الحواس المعطّلة .
الفم البليد، ينطق ما تقوله الأذن!
فجور العين تفوح روائحه من الأنف الباشط .
جثة متعفنة تقود رأسي، إلى متاهة اليوم التالي.
كيف أرفع رأسي أذن، لميلاد السنة القادمة ؟
،،،،،
الأيام حواس تتعطّل أمام إشارة مرور تتصابى في حافلة، تَشيخ في حديقة عامة.
أيام رأسي لا قلب لها.
تؤرخ للخليقة تقويما ومسلاّت.
هكذا دون حياء .
العين بالعين والسن بالسن.
كيف يبتسم رأسي الُمحنّط في متحف الجسد!؟
،،،،،
لا ذنب لرأسي ، كان ينتظر الطوفان .
لا تموز أمطرَ والباب خَلف “آب ” أوصدته المسامير.
صيام في صيام.
يا مُكثّر الأعناب أغثنا.
يا صاحب النخيل: جفّت الخمرة.
الرأس يُطوّحه جسد بلا –جمّار-
،،،،،،
نصف ربيع لرأسي المطرود من نفق التقويم.
لُحاف واحد لشتائه البارد الوحيد.
عصا بيضاء لسنته القادمة.!!
من المُبصر إذن؟؟”
(الوجود في ظلمة النفق)
7
لا يكترث وديع شامخ كثيرا للعناية بالشكل البصري للنص على الورق، حينما لا ينتبه كفاية إلى رسم القصيدة على الصفحة من خلال الفراغات وأساليب القطع والوصل، فكانت تبدو قصيدته موزعة كنص (نثري)، وربما يعود ذلك إلى هيمنة الشفاهية على بنية القصيدة التي لم تغير عملية كتابتها من بنيتها الشفاهية، فهنالك تعريف للشعر بأنه النص الذي يقطعه الشاعر نفسه إلى اسطر بينما يقطع عامل المطبعة اسطر النثر.
يقول سركون بولص في مقابلة أجراها معه خالد المعالي ونشرت في مجلة (عيون، العدد 12 عام 2001، ص94) “ان العالم في النهاية مفردات… لكل منها خزان للأفكار والمشاعر”، و” كما “تاتي الحياة كولاجا”، (نص (لزوجة) ص9)، تأتي قصائد وديع طافحة (بالشعرية) التي تكتظ القصيدة بها من خلال حشود من الإشارات، والعلامات التي يبثها الشاعر في جسد القصيدة، وكما تقود الأفعال متجه السرد تقود علامات وديع شامخ خارطة طريق القصيدة، ان قصيدة (لزوجة) تشابه لوحات ثامر داود أو شداد عبد القهار او صدر الدين أمين أو هاشم حنون، فهي حشد من الإشارات المبثوثة دون خط متجه سردي.
“تأتي الحياة كولاجا،
لشهوة فنان في جمع شتاته،
لمراهق يريد تلصيق العالم بحيامنه .
لمجنون يرفع صورة جيفارا، يستجدي سكرة في البارات الأممية.
تأتي الحياة، صديقا نزل توا من خانة الخفافيش.
مع الصباح، نرطن في فك الاشتباك.في الظهيرة تتكفل الشمس بصحائف اليوم.
من ينام على سريري ؟
وقيلولتي مُصابة بدَبقِ اليوم.
الليل لي ، أريد أن أحلم خارج النفق.
……..
كلّ القبعات
انحنت، لليوم العقيم، لليلة العانس !
أنا النادل في التقويم،
أقدّم لمتاهة الأجساد فاتورة لظلمة الرأس .
صباح الخير: أيتها المعاطف المعتّقة على مشجب الفصول،
قُبعات الصيف غادرت يومها، لتنحني للبوم الماثل على المواسم”.
(لــــزوجـــــة)
8
حفرت الغربة في نفس وديع شامخ (حين يتكلم الرمل في حضرته ويصدأ الكلام) ص81:
” (كنت أُطارد حلما هَرب مني،…. نمت ثالثة ورابعة.. كي أستعيد كنوزي .. )
هكذا
تنام أنت ، منتظرا دورك في مطهّر قادم.
،،،،،،،،،،،،
لا عجب ان تصحو لتجد الأبجدية صافنة في رصّ حروفها،
لا تعجب كثيرا، إن أمطر سريرك شوكة وسكين…
امرأة مكتنزة، وصباح من سراب، والطابور الى الفردوس طويييييل.
،،،،،،،،،
لك كلَّ حنجرتي والذهب ونحاس النهايات، وفضة العطر المؤجل في استقامتي.
لك عثة الانحناء
لك التاج والغواية
ولك ان تتوب عن حلمي.
أنا الذي أرعى العجاف الى بئر يومها…..
هو الكنز إذن!!؟”
(حين يتكلم الرمل في حضرته ويصدأ الكلام)
9
كانت نصوص وديع شامخ تتجه من الذات إليها، أحيانا في خطاب مر، وأحيانا في وصف مر لمحنة الأخر الذي هو وديع شامخ ذاته!…(سلالم الضوء) ص 88:
“ينطفيء مثل غبار
يحلّق بأحلامه العاطلة
يتقرّد ، يتلوى
يمسك باليد ، يده ، لن تُصبح حبلا
الشرفة صنو الأعالي
وفرعون لا يصنع سلّما للذين خرّوا ساجدين
العين ترقب الانطفاء
تتلبد الحواس بغيومها
المطر عند الباب
والهدهد يحلم بطوفان
يذبل ، يذوب
أمام مطارق الشمع ،الذي انطفأ بحلمه..
يرسم على الأبواب شارة لظل صليب
منتظرا زمنا آخر للمعجزات
المعجزات داخل البيت ،…
يُفقسن أحلامهن في العيون
العيون التي لا تتعلق بغبار النافذة”
(سلالم الضوء)
أحيانا يتجه الخطاب من السارد المتكلم الذي يبث خطابه الذاتي المليء بالغربة والحزن .. (في راسي قبائل) ص91:
“يا لهذه السنة
كانت سياط أبى رطبة والماء حولي وفير
أتنفس الأوكسجين المذاب على قدر ظلمتي
وارفس العالم كله
لماذا ألج عالم النور بالصراخ والدم
لقد سرقوا مشيمتي
جفت سياط أبى
السلالم لأدرك الظلمة الأولى تعطلت
أتدحرج …. أتدحرج
كنفايات جرثومية تبحث عن قبر
والقبائل تتحالف بالرايات لدفني ثانية”
(في رأسي قبائل)
………………………………………………………………
وديع شامخ
wadea1956@yahoo.com
عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين
أصدر في حقل الشعر
1- سائرا بتمائمي صوب العرش ،،،،، مجموعة شعرية عام 1995
2- دفتر الماء،،،، مجموعة شعرية عام 2000
مخطوطات شعرية
(تحت بيت العنكبوت)
( مراتب الوهم)
(كيف ارسم حلما في دائرة الرأس)
وله رواية مخطوطة بعنوان( العودة إلى البيت)
وأخرى بعنوان (شارع الوطن)
في حقل التاريخ أصدر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان
(الإمبراطورية العثمانية من التأسيس الى السقوط)
(تاريخ الأندلس من الفتح الإسلامي حتى سقوط الخلافة في قرطبة)
كُتبت عن مجاميعه الشعرية العديد من الدراسات من قبل شعراء ونقاد عراقيين من مختلف الأجيال
كتب العشرات من الدراسات في حقل النقد الأدبي والحقل السياسي
أجرى حوارات مهمة مع مثقفين ومبدعين عراقيين ستصدر في كتاب لاحقا
يقيم حاليا في استراليا – سدني
…………………………………………………………………………………………..
روح الشعر .. و مصير الكلمات
وديع شامخ
أحبتي وبصرتي
لا أود الخوض في متاهة النظريات والأقوال، أريد الآن أن أدلق روحي اللائبة إليكم بكلمات عبر الأثير … أمامكم ، كيف أصحو على فجر حلمي وهو يرتق حكاية وجودي الآن بعيدا عن ” الأهل والأحبة والمكان ” .
أحرث ذاكرتي وأزرع الكلمات .. أرسل قطافها إليكم ” فالكلمات أرواح ولها ذاكرة، ومن شأنها ان تطرق بابك في الليل لأنها لا تريد ان تتأوه وحدها في الظلام) كما يقول الشاعر الأسباني خوسيه انخل بالنت..
كلماتي شفاه تطبع القبلات على سحناتكم التي تناهبتها الشمس والظنون والشوارع المقددة بالمكائد واللحى .
كلماتي قصب بردي يخط على أخاديد الزمن معنى الحروف ، هي الروح الأولى والنار والهواء ،هي الجهات المُثقلة بماء مُطهر من صدأ النحاس وأكاسيد الحناجر.
كلماتي ليس بوقا بل وردة، كلماتي رسالة من عبق الروح الإنسانية الخالية من رصاص الموت ومكائد القول والدسيسة.
كلماتي عرس مدينة تكللت بوشاح الموت ، وكثرة الحطابين ورعونة الأرباب.
كلماتي شهقة وزفرة من حوامض ورطانة جحيم الكرة الأرضية .
كلماتي هدهد يتلصص على ما جاء في أخبار اليوم ومعناه ، وَملك حالم يقف على أقصى سورات المحيط .. أقصى الأرض هنا في أستراليا، تقف كلماتي مُفكرة بكم ، تتلو عليّ قامتي وقوامي وتقويمي..
كلماتي حبل سري بينكم وبين الفزع الكوني .. والكرة الأرضية تدور والمعنى واقف في خانة السؤال .
مَنْ يدور حول من ؟ مَن يُعزيّ من ؟
الشمس أم الأرض؟
الكائن أم الطين ؟
الله أم الفجيعة ؟
البصرة تاجي والهدهد قلقي ، كيف أزيح الرائب من الهمّ على وجوه الناس بكلمات ملساء .. آه يا قلمي المبري بحبر الروح .. لماذا تكتب كلماتك وأنت بعيد .. بعيد .. بعيد.
الكلمات طائر السيميرغ وعاج السر ومملكة السؤال .. وأنا باذخ بكم . أيها “المتوسدون” خراب الأزمنة بشروق عميق، العابرون ظلمة الأيام ودم التقاويم بسحر مديد..
إليكم عبر الكلمات… لا أجزّ قامتي ……………
كلماتي نور يشرق من هذا الاقيانوس لبصرتي مدينة الشمس،
أنا دورة استحالة الكلمة ، وهذا هو تاجي وهدهدي ، إخبار عن وجودي الحيّ في أقصى الأرض.
أريدكم الآن .. يا نبضي وحدوسي المتكلسة في متاهة السؤال ..
أفكر كثيرا قبل الولوج إلى خانة الشعر ، فالشعر خان وطريق وبهجة وكشوفات وألم ومعرفة، وأنا في الطريق إلى المنازل ، أو قل أنا في قلعة المصائر المتناهبة ..
كلّ طريق مآل ، والشعر أبن الطرقات والأبواب العصية على مطارق النحاس.
الشعر نزيف الروح ساعة المواجهة، واكسير الحياة حين يكف الكائن عن التصدي لهدير الأسئلة .. حين يُشيّع القلق جنازة اليقين..
للشعر أسماؤه الحسنى ، هي أنتم .. أيها “القاعدون” ها هناك . منتظرين الموت في كل لحظة .
وأنتم تتلحفون السماء أدعية بائرة ، والأرض أرغفة فارغة المعنى..
كيف يحلّ ليّ أن أكون قِبلَة وانت القربان ؟
سلاما على البصرة ويدي على قلبي ..
…….
الشعر دودة في مضجع الآلهة .. ومسمار في نعش التاج …، التيجان …
أغلقت ْ فمي في مدارات الأبراج ، أنا ابنكم الذي ساحت قهوته على بروج حظوظه، وتشظى في أحضان المدن باحثا عن معنى المعنى ، باحثا عن مياه لإطفاء حريق الحروب المستعرة في قلبه ، باحثا عن مروج خضراء لاستصلاح ما فسد من الحلم في أرضنا اليباب ، أنا أبن البصرة في عروجها للمجد ، وسحنة السارين الى طبولها المُغمسة بآهات وأنين الحلم..
نحن أبناء العقول الباذخة ، والطبول والسواحل ، نحن أبناء الحلم .. وراكبو قيلولات النهار ..
البصرة ليست عين تمر أو ملح أو نفط .. إنها ثالث أوكسيد الله .. ولها من الأسماء والصفات ما تغار منها الآلهة . للبصرة الأسماء كلّها ، ولها في الطين مراسٍ ،و في الضلع الأعوج رطانة التفاح ..
إنها بطن العراق الرخو ، لبن لا يروب وماء لا يتوب .. عاشقة تكافح المكوث في عروش السلاطين .. وعمائم الواعظين .. ومكائد التقاويم ..
منها حكاية الكدر الطافي في صفو الأيام،
مدينة بيضاء ، وأيامها ملقاة على قارعة الطريق .
شكرا لجاحظ القول ، وسلاما على الحسن البصري ، وعلى الكواز و السياب وعلى بريكان الدم المراق، سلاما على ُكلكِم ، من الماء إلى الغرين ، ومن شجرة آدم إلى الزبير ” عين الجمل” ومن ثمرة الخطيئة إلى شجرة الانتصاب .
“لا تقايضنا أيها السيبويه بلغة تحمل ماء المكيدة “
لا تقف على لَحن أرواحنا بقواعدك الصارمة ..
سلاما عليكِ يا بصرة الحكاية الموؤدة بالشبهات
وسلاما حين أغلق فمي، لأن شفاهك تيبستْ من باطل الحب ورياء الرحيق
سلاما علينا ونحن نتهاوى لارتقاء النخيل الناشز في الحياة، كإله لا يرغب في الكمال .. كملك يحترق على أسوار البصرة.
أقفُ .. ليس كسارق النار ، ولا مغني على أوتار السؤال ..
من يسرق من ؟
نرسيس ، نيرون ، أنا… أنتم ،
ما الفرق أن نحرق البئر ، أو نحرق المدن والحكايات ، ونغرق في جبّ الذات؟؟ .
…………………
أحبتي وأهلّتي في تقويم عمري الجديد
اليوم تضعون حداً باشطا بين خرافات الداخل والخارج من أبناء العراق .. الحالمين على مصاطب اللعنة وأخيلتها ..
اليوم وفّيتم بسقوط جدار البهلوانات على سرير الإبداع
اليوم هو يومكم المتكرر في التقويم الحضاري…
فالبصرة ليست مجموعة دكاكين تتلو حكاية الأسواق والمواسم ..
البصرة ليست أسوارا من التمر تُبنى وتنهدم وتأكلها الرعاع …. البصرة ليست خيامَ مرابد الموزون من مشانق القول والحكاية !
والشعر ليس شاهد زور ولا شاهدة تتحنط في قبور الكلمات ..
الكلمات أرواح ، والإله نزلَ من عرشه ِ ليطرق باب الكائن قبل الكاهن ..
يا سدنة الكلمة، ومروج القول، وعشب الاحلام الخضراء..
أصفق لقامتكم المثقله ببقايا الزَبد الطافح على سواد الأرض ..
أيها الأحباء ….
الشعر طاقة للصيرورة الإنسانية والجمالية، وكرنفالا للحب والسؤال عن معنى الوجود الإنساني ..
في الشعر لا يصح الكلام عن جغرافية ،لذا فأنا هناك وانتم هنا أيضا ، ولا يصح الشعر أن يكون تأريخا، لأن التاريخ يكتبه الغالب تارة والمغلوب ثارات .. وأنا والشعر وأنتم قلب واحد ، ونبض لا يتوقف ، وأسئلة لا تكف عن إشهار سباباتها .. الشعر كيمياء الحياة وفصل من فصول جحيمها وفردوسها معا..
في الشعر لا يصح الحديث عن الحقيقة، تلك التي اشتهى ” رامبو” ان يمتلكها في روحه وجسده ، وقد فَشل.
الشعر شجرة القلق الإنساني الرفيع ، ورؤيا لا تكف عن مساءلة ثمارها ..
يا بصرة ألوذ بكِ من مرارة الغربة
ألوذ بعطرك ، فامنحيني قواما أبشّر به المدن
………………..
في البصرة، لو أرادوا أن يصهروا أجسادنا لخرجوا بمعدن الله وروحه منّا
لخرجوا بجبّة الحب وحنجرة الِعبارة ..
نحن سواحل المياه وعمق ورائحة الكلمات وكيمياء حياتها نصا وواقعا .
البصرة …
أم رؤوم وشجرة من عسل الكلم وقوام المعنى ..
شكرا لكم وانتم ترسخون وفاءً، وتبشرون بنسغ حضاري في رحم الإبداع العراقي الواحد وأن تعددت الحاضنات .
شكرا للبصرة وهي الراعي للإبداع ، والمبدعين …. الذين نثرتهم الأقدار كنثر الدراهم تحت سماء الله الواسعة !
…………………….
أمسيتكم الآن بوحٌ روحيُّ، ومحبّة لا تحدّها الحدود ولا تعكر صفوها حكاية الخارج والداخل .. وأنتم أحبتي “القائمون والمشاركون والحاضرون ، والغائبون أيضا ” يا ملح ويا روح الثقافة الأصيلة، كيف أنحني لقاماتكم المديدة وكيف أستظل بظلال محبتكم الوارفة .
إن الاحتفاء ب” وديع شامخ” أو ” الهدهد والتاج” يحمل مدلولات عميقة سيكون لها الأثر الكبير لرأب الصدع في الحقل الثقافي العراقي المتشظي والمتناثر في أصقاع الكرة الأرضية والذي تناهبته أهواء السياسية وأمراض الكائن المختلفة وذيوله .
وديع الذي شهق صرخة حياته الأولى في مدينة الجمهورية الخالدة بعد ثلاث سنوات من موت الملكية وتحولت “الفيصلية” إلى “الجمهورية” والتي شهدت، طفولته ومراتع صباه ، وحب بنات الجيران والصبوات التي لم تزل خضراء في القلب .. البصرة لوديع شامخ العاشق والشاعر هي المرجع الحياتي والثقافي والروحي العظيم.
وانتم اليوم تحتفون به وهو في أقصى الأرض الآن، فهذه رسالة هامة في معنى الاحتفاء بالغائب برسم الحضور،ليس نعيا ولا رثاء ، وهذا تقليد حضاري وإنساني وثقافي رفيع ، يجب ان ُيرسخ ويصبح طقسا ثابتا في الحقل الثقافي العراقي عموما للإحتفاء بالمبدعين ومنجزاتهم وفق برنامج دوري بعيدا عن الرغبات الشخصية والميول غير الثقافية .. فالثقاقة هي ما يتبقى فعلا ..
أيها المبدعون ، أحبتي . كلّ عام والعراق خيمتنا الأكيدة بألف خير وسلام ومودة ..
كل عام والشعر رسالة عشق وهيام بالكائن والطبيعة معا ، كل عام وأسئلة الشاعر لا تكف عن النمو في المآقي والأحلام .. والظنون .
كل عام والبصرة عروس الدنيا والعراق ضرعنا الحميم وحصننا الدافئ وسورنا الوثير .
…………………………………………………………………………………………….
من بطائح الجنوب .. مرجعيات النص وحقول القصيدة
التاريخ: الخميس 08 يناير 2009
لطفية الدليمي
قراءة لقصيدة (جاؤوا من تخوم الكلام) للشاعر وديع شامخ .. قصيدة توقفت عندها للشاعر وديع شامخ ، لعلها تمثل مرحلة متقدمة من اشتغاله الشعري، تشتغل القصيدة بوضوح وخصوصية تعبيرية في حقول تناولها معظم الشعراء العراقيين من جيل السبعينيات في فورة المواجهة العنيفة مع الفواجع العراقية، غير ان لوديع حقوله المعرفية ومرجعياته المحلية روحية ومادية، مما يمنح القصيدة تفردها وأداءها الهادئ الذي يموه على توترات الأعماق، في عمل وديع الشعري إدراك خفي للعلاقات التي تشكل شبكة المستويات في القصيدة ، نعثر لديه على مشاكسة للصورة المنمطة ليس بمعنى الإزاحة بل بجهد الكشف الشخصي عن فعالية المفردة وشعريتها الكامنة قصيدة :جاؤوا من تخوم الكلام لم أكن يومذاك سعيدا ..لم أكن تعيسا أيضا ربما كنت بليدا…ألوك حنجرتي وأقهقه عاليا ..ما كنت ضجرا ، ولساني أبيض القلب.
لكن شفتيّ أعلنتا إفلاسي عن الإبتسام القراءة الاولى تبدو قصيدة وديع خادعة في احتكامها الى لغة بسيطة ، لكن سرعان ما تنكشف لنا إجراءات الشاعر في تمويه شحنته
الشعرية بتلك الأردية المراوغة من بساطة المفردة المألوفة التي تنتظر من يفجر طاقتها التعبيرية ،
بساطة المفردة في المتن الشعري العراقي ، نادرة بخاصة في أعمال مجموعة من شعراء قصيدة النثر المتأخرين الذين يحشدون النص بمفردات واستعارات وكنايات ثقيلة وشائكة ، تتنافر فيما بينها وتؤرجح النص على هاوية معتمة وتهدده او تسقطه في الافتعال والتصنع ، وتجعل نصوصهم متماثلة حتى ليصعب القول بوجود سعي لغوي خاص لدى بعضهم ، لانهم يستخدمون قاموسا واستعارات وأوصافاً وكنايات واحدة..
البساطة الخادعة لدى وديع تقود الشعرية الكامنة في طوايا النص الى مديات رحبة تهب المتلقي مفاتيح النص ، وتمضي غير آبهة بالظلال والتأويلات، غير معنية بالإبهار والصدمة اللغوية التي يراهن عليها بعض الشعراء ، وديع يراهن على القصيدة في عزلتها ، وبراءتها وشغبها وغربتها وبذلك يحتفي بجوهر الشعر ذاته ..
هذه القصيدة تنبت في بطائح الماء وجبهات الانهار وتتضافر فيها رقة الماء وشجن النهر مع تلك الروحانية الزاهدة المكتفية بذاتها ، وما بين السردية وتواشجها مع الومض الشعري تتقدم القصيدة في منحاها الدرامي لتكتمل صورة الكارثة في إطارها التعبيري عبر الإستعارات الخفيفة..
هي حنجرتي المكيدة
…. …
لا أجيد العزف على ربابة صاحبي
إنه القحط ..
لا أريد لوجوه اصحابي ان تتحنط في الكرنفال
هي حنجرتي الحلبة ما كنت آسنا هم يعكرون ماء روحي على جبهة النهر
تتوازي في هذه القصيدة حقول ثلاثة :
حقل الضد(المواجهة) وحقل الروحانية(الخلاص) وحقل الصوت ( البوح (
ولكل حقل وظيفته المتحكمة في معمار القصيدة وتقاطعه مع الحقلين الآخرين. نجد في حقل الضد تقاطع النقائض : مكيدة النطق مع مكيدة الخرس والشاعر بين المكيدتين في برزخ خطر ، صراع البوح مع الخرس وتضاد الكلام مع الصمت.
والشاعر لا يستعير ربابة صاحبه ، فله صوته وقيثارة حضاراته التي يهددها زحف الآتين بالقحط من( تيه الرمال) والحنجرة مكيدة الإفصاح وربابة الآخر لا تنطق بهوى الشاعر وجرح خساراته لأنها انوجدت لأصابع أخرى تضاد بياض السريرة والقصيدة والموسيقى ..الحنجرة مكيدة القول تزج الكلمات في ساحة التناحر بين من يؤول وبين من يدوزن صوته على ايقاع الغد .
جاؤوا من منتصف الحكاية جاؤوا من ملح الكلام ومجّ الماء
جاؤوا من خريف الوتر ومن وبر الجٍمال
……….
يحدون
يحدون
الآتون من تيه الرمال لا يميزهم عن العدم سوى صوت الحداء الرتيب ، هم قادمون من جنازة الجمال وذبول الموسيقى في ( خريف الوتر (لقصيدة وديع سيماء مائية لها تدفق الماء ومراوغته ، هناك مياه متعددة تحفل بها القصيدة ، (ماء الروح الذي لم يكن آسنا) يعكره القادمون من تخوم الكلام وجبهات النهر تؤطر المشهد الشاسع للكارثة ، مائيات القصائد تحيل إلى ذلك الارتباط الروحاني بالتطهر والتعميد وتفصح عن بيئة نهرية سخية مهددة بالآتين من أقاليم الرمال الفظة..
القصيدة تمضي في افقها والشاعر يقف في منتصف اللغو.
أنا الذي أقف في منتصف اللغو وأقول سلاما لرطانة الذين جاؤوا ..
سلاما للريح وهي تعبث بمتاهة الكلام ..
الأضداد المدجنون بوبر الجمال ماء أجاج، لا يروي ولا يسعف ، ماؤهم اكذوبة الوعد
وهم زيف الحكايات وأوتارهم لا تموسق الزمن بل تصادر الصوت والغناء ، الشاعر يدوزن الأوتار والاتون من تيه الرمال يصادرون الصوت بالضجيج وحنجرة الشاعر
مصيدة الكلام ، لن توصد الحكاية على صمت، فهي التمرد الاخير على سلطة القمع والمنع لا شأن لها بالصفقة والقحط الذي جاء به القادمون ..
الآن أدوزن حنجرتي
لأوتار تكفي للفرح .. للحزن لربيع يبتكر سورات الكلام واللغو والهرج والمرج
من يترفق ببلاهتي البيضاء .. وأنا ألوك السعادة أبدا
أنا على مشارف الكلام من يذهب بي إلى التخوم..
في القصيدة ذرى متعددة ، الذروة الأهم : من يذهب بي الى التخوم فيها ارتقاء بلاغي
ويمكن ان تكون خاتمة المشهد كله ..
وتكون الذروة الأسمى للجهد الدرامي في النص..
أخيرا تأتي ملاحظاتي هذه في سياق إعجابي بالنص قارئة ومتذوقة للشعر ومطلعة على جهد الشاعر الإبداعي وتحولات النص لديه ..
……………
النص جاؤوا من تخوم الكلام .. وحطّوا على حنجرتي وديع شامخ
استراليا -بيرث لم أكن يومذاك سعيدا .. لم أكن تعيسا أيضا ربما كنت بليدا.. ألوك حنجرتي ، وأقهقه عاليا..
ما كنت ضجرا ، ولساني أبيض القلب…
لكن شفتيّ أعلنتا إفلاسي عن الإبتسام!!!
هي حنجرتي المكيدة!!!
لا أجيد العزف على ربابة صاحبي
إنه القحط
لا أريد لوجوه أصحابي أن تتحنّط في صالة الكرنفال.
…………………………………………………………………………………….
ما يقوله التاج للهدهد.. حين يتذكر النول تأريخه شعراً
ريسان الخزعلي
-1-
..لبلقيس التاج..
ولسليمان المعجزات..
ولنا سبأ والفيضان..
لا ذنبَ لنا ببعث الهدهد الجديد..
../ما يقوله التاج للهدهد/لا/ما قاله التاج للهدهد/.. انه المروي القادم بين قطيعة الماضي والحاضر، وتضاد الحاضر مع الماضي، حيث يكون التاج لبلقيس ولسليمان المعجزات، ولنا سبأ والفيصان. غير ان ثمة نفقاً يوازي الوعي والأتجاه، حيث الوجود في ظلمة النفق أساساً وما سيكون خارج النفق من لزوجة (وجود أم نفق) .. الا ان العلامة الاتية (نور في نهاية النفق) ومن ثم (لمن انتسب؟).. وهكذا تتوالد وتتكامل/ القطيعة / معرفياً وروحياً في مجموعة الشاعر المبدع/ وديع شامخ/…، تتوالد وتتحرك كحركة /النول/ في تشكيل النسيج:
.. حين تذكر النول تأريخه..
أحيل على التقاعد بتهمة خصخصة النسيج الوطني،
واخفاء الفضلات المحرّمة..
لابد للنول ان يتذكر!…
ان تتذكر.. يعني بالقياس ان تروي.. والشاعر يتذكر ويروي الإشارة الدالة (بلقيس، التاج، سليمان، الهدهد، سبأ، الفيضان، الهدهد الجديد)… وحين يكون بعث الهدهد الجديد ممكناً.. فإن التحول من (ما قاله التاج للهدهد) الى (ما يقوله التاج للهدهد) هو الدلالة التي تكشف قوة الاستمرار (استمرار الحكاية والدلالة معاً) في توليف الشعري بشكل /قصيدة نثر/ يرتكبها الشاعر بوعي الشعر والفكر والفلسفة في اختلاط يصح فيه من القول الكثير (كان بودي ان أكون علامة استفهام..؟ السيف علامة استفهام، الخنجر علامة استفهام، الرغيف الذي لا يستدير بيد الخباز علامة أيضا)..، ان الأسئلة محنة الفكر والوجود، والسؤال الفلسفي محنة مضافة، وما هو فكري وفلسفي تعلق بقوة في قصائد المجموعة وأزاح /الغنائية/ في سرية القول (ما يقوله) الى منطقة /الذهن/ والتجريد وتعددت التأويلات التي هي ليست بمصلحة /الشعر/ في الفهم التداولي له، وبذلك مالَ القول إلى ما هو خارج المركز في دائرة توليد القصيدة وكثُر /الاستيضاح/ في المحيط، محيط دورة القصيدة (لماذا ألح عالم النور بالصراخ والدم؟ لقد سرقوا مشيمتي).. والمشيمة مركز، والنور محيط المركز الا ان الشاعر يمسك بالمركز والمحيط..، هذا ما آلت إليه آليات البناء في المجموعة… وهذه مزية جمالية/ فنية قلما تتوافر عليها قصيدة النثر حينما يكون الانفتاح باتجاه تشكيل /صورة نص/
-2-
../وديع شامخ/ لا يكتب عن الحياة كواقعة ومواجهة يومية، بمعنىً انه لا يتماس مع السطح مباشرة بل ينفذ الى العمق الكلي بوعي متشكل من صدمة الواقعة (الغناء لا صنو له.. ثمة حياة هنالك لابد من السير اليها بأقدام حافية من القرون والببغاوات)..، وان الذهاب الى العمق الكلي يستوجب التضحيات بالكثير من المسببات التي تبعث على المسرّة، المسرّة التي ينشدها التلقي الجاهز، من هنا يمكن ان نصف /وديع شامخ/ بأنه شاعر أعماق وبؤر روحية (لستُ سيفاً كي أقاضي العسل، انا الحصان الذي كبا فاتحهُ، في دائرة الحدوة وطلقة الرحمة أصابت ركبتي وانطلق اللجام لترتيق الحكاية).
في /ما يقوله التاج للهدهد/.. يشع السرد في تواشج مع التوصيف /ما يقوله/..ويتمكن الشاعر من هذه الخاصية البنائية /الصورّية في تشكيل القصيدة، لإيجاد نموذجه الشعرية/ السردي بدراية العارف بالضرورة الفنية..
.. وقبل التدوين وعصر السلالات
وخريف القول..
كان الكلام طلسماً..
وكان الهدهد ينتظر الإشارة
..،
أنت ابن ماء السماء
تتسربل بأوحال أبراجك..
ماطراً، راعداً، مضيئاً، خابياً..
كطرفة عين.. والحلم بعيد..
وعندما يكون /الهدهد/ رمز الشاعر، فان الترميز هذا يكتسب الوقع الصوتي الدال (الأشارة) حيث التنازع بين الواقعتين /رؤية التاج/ وتوصيل الرؤية هذه صوتياً الى المرسل (كان الكلام طلسماً) وبذلك تحققت تعادلية وضوح الحكاية صوتاً واشارة في النص الشعري:
..الحكاية.. أحلك من طلسم
وأعمق من هدهد..
وأجل بريقاً من كرسي..
وأنت النازل والهابط من طين سيوف المهزلة!
تحارب مَنْ؟
إلا ان الشاعر سرعان ما يُهدم أصول الحكاية، ويسقطها /رمزاً/ جديداً.. غير انه الرمز المثلوم.. (وفي كل هذا الغياب.. كنت مساءها الثقيل، ونهارها الهارب من طلاسمها ونصف هدهدها، ونصف تاجها، وحكايتها المثلومة وقمرها الغاطس في الوحل وأصنامها التي فخرتها الشمس).. وبهذا يكون الشاعر قد نفذ من سطح الحكاية الى /بعدٍ/ آخر..، في تأويل فكري فلسفي يسعفهُ القول:
.. الفلاسفة الذين نزلوا من زرقة الحجر الى زرقة الموت
ومن بخور الآلهة الى زعفران الحناجر
يتدلون على الأيام كتقويم مديد
فلاسفة وأسفلت وطريقة!
.. ان ما يربط /النول/ بالهدهد.. حكاية التكرار، الحكاية التي تكررت وتتكرر رمزياً في الحضور الحياتي/ الشعري.. مع فارق الدلالتين/ الإشارتين، وقد جعل الشاعر منهما مساحةً لقوله لكشف العمق الكلي الذي أشرت إليه وبسياق قصيدة النثر/ حيث الأيقاع القادم من دهشة المخيلة:
..يا أخي السوط..
أنام على فتوى، وأصحو على طريقة..
منتظراً أقواماً تجيء أو تهبط،
هاربة من فزعها..
أين أعلق ملابسهم يا أخي!
والبيت مشجب للوصايا والبنادق والسياط..
.. في/ ما يقوله التاج للهدهد/.. براعات/ لغوية وصورية ورمزية وبنائية/.. تتقدم في مواجهة الخصوصية، خصوصية توليد قصيدة نثر منسوبة للشاعر.
…………………………………………………………………………………..
ما يقوله التاج للهدهد للشاعر وديع شامخ
انفتاح على أفق معرفي
منذر عبد الحر
يتمتّع الشاعر وديع شامخ بمزايا شعريّة ، منها ما هو عفويّ آتٍ من طبيعة فيه ، ومنه ما هو إبداعيّ خالصٌ له يد طولي في تأثيثه وصناعته وإطلاقه إلي فضاءات التعبير الخلاّق الذي يستحقّ الوقوف والتأمل، وما قصدتُه بالعفويّ هو ذلك الذي ينشأ من علاقاته بالطبيعة والأشياء ومفردات الحياة المحلقة منه، فجاءت علاقته بديوانه من خلال ترقّب، وخجلٍ في السؤال عن المولود الذي سينطلق إلي الوجود وهو بعيد عنه ، وكان لي أن أتعقّب قلقه، وأتابع مراحل كتابه ، الذي خرج أنيقاً جميلاً جذاباً في شكله ومحتواه .
قد أجدني هنا عاطفيّاً ، فلا أذهب مذهب الدارس الصارم الباحث المتصيّد عن الهنات والأخطاء والعيوب، والعاطفة هنا ليس عيباً، لأنني وأنا أدخل عالم وديع ، الشعريّ، وجدتني متفاعلاً معه، لا علي أساس الاتفاق الأسلوبي ، أو التعبيري، فهو ينظّم ألمه وبوحه بمفردات دون غيرها، تكاد لا تفارق بوحه وشجنه ، وأكثرها مثولاً أمام انتباه القارئ ، هي التقويم والأيّام، التي تنم عن وحشة وغربة وتوحّد يراه الشاعر ويشعره وهو في بلاده البديلة.
العنوان مدخلاً
يبدأ الشروع بالدلالة الشعرية من العنوان المركّب علي أسس فنيّة تنهل من الموروث والأسطورة تعبيرها ودالتها علي مشروع الشاعر، حيث التاج والهدهد ، الذي يحيلنا مباشرة إلي هدهد سليمان، وتاج الملكة بلقيس، وما حصل في هذه القصة الفريدة في إيقاعها وأبعادها وإشارات سورة (النمل) في القرآن الكريم، ودور الهدهد في جلب أخبار التاج، وما آل إليه مصير الملكة التي سلّمت أمرها للنبي (سليمان)، و (ما) التي أدخلها الشاعر علي رؤية الحدث، هي التي تشتغل عليها العملية الشعرية هنا ، وعليه تكون بنية فنية تمتثل كبؤرة ينطلق منها الشاعر لتحقيق شعريته ، لذلك تتقدم التعريفات ، مشظاة وفق الرؤية التي يتبناها الشاعر، فنأتي إلي (الوجود في صيغة العدم)، والتي تساوي دلاليا فكرة العدم ، حيث يقول الشاعر :
كلّ يوم أشطب عاماً من التقويم/ أرفع مظلّتي خوفا من سقوط رأس اليوم الجديد/علي حلمي.
نلاحظ هنا الإحساس بفجيعة الوقت، وثقل الزمن الذي يشير إلي الأزمة الإنسانية التي يعيشها الشاعر ، كفرد ضمن جماعة ، لا كفرد منعزل، وهو إحساس يرتبط بكابوسيّة الرؤية إذ يقول:
جثث ٌ متعفنةٌ تقود رأسي/ إلي متاهة اليوم التالي/ كيف أرفع رأسي إذن/ لميلاد السنة القادمة؟
وتستمر قصيدة (الإحساس بالعدم) هذه بلغة تتلفع مفرداتها باستعارة المعاني بدقّة حرفيّة عالية من أجل إعطاء النصّ بعدا إشاريّا يقود المتلقي إلي معرفة هواجس الرائي – الشاعر.
أما القصيدة الأخري التي تنطلق من رؤية فلسفة الوجود والعدم ، فهي اللوحة القصيرة الغنية بالإشارات الإبداعية ا التي هي (خارج النفق)، حيث تبدأ بصرخة لأنشتاين (الله لا يجازف)، وهذه اللوحة تتضمن متقابلات معني، حيث الرأس والجسد والقلب وهي تفضي إلي الذهن والحواس والعاطفة أو الوجدا ، والسؤال المتدفق الدائم التجدد، والذي لا يحقق أية إجابة:
بين الرأس والجسد والقلب/ لا بدّ من فضّ الاشتباك / من يسأل وردة الليلك عن سوادها ؟
من يوقظ زهرة الصباح ؟/ أيّام رأسي تتكوّم علي متاهة الجسد.
والضربة الأخيرة هي عودة لثقل الزمن وإشاراته والإحساس بأحجاره الثقيلة، لتكون اللوحة مجسّدة بصورة معبّرة ، حيث الأيّام التي تتكون علي متاهة الجسد، تدعمها الأسئلة النازلة مطراً من أفق الرؤية.
أما قصيدة (لزوجة) فهي تتناسق أدائيا مع سياق المجموعة ونسق بنائها ، فتؤكد توليد الشرارة الشعرية المنبثقة من فكرة (الجملة الأولي) الاستهلالية التي تولّد مصبّاً من الدلالات المتداخلة التي تشير إلي طابع اللصق (الكولاج) الذي تتداعي معانيه ليؤسس رؤية كاملة منتزعة من أشلاء:
تأتي الحياة كولاجاً / لشهوة فنان في جمع شتاته/ لمراهق يريد تلصيق العالم بحيامنه/ لمجنون/ يرفع صورة جيفارا/ يستجدي سكرة في البارات الأممية/ تأتي الحياة/ صديقا نزل توّاً من خانة الخفافيش .
وتتواصل القصائد ، لكلّ قصيدة منحي جماليّ ونفسي وفكري ، يقتضي الإشارة والكشف ودراسة الرؤية الفنية المعطاة، ورغم الانفصال الشكلي بين النص والآخر، إلا أن هناك وحدة رؤية تجمع القصائد، وبؤرة فنيّة تتجاذب لغة البوح ، فيكون المناخ واحداً، والتعبير عن مفاصله، متعددا، فمثلاً، نقرأ جملة طويلة، تأخذ نسقها النصي المنفصل من شراراتها الشعريّة، لكنها تنساب طويلة لا تسمح بتجزئتها وهي قصيدة (كل القبعات) التي تتأسس علي طقس اجتماعي يدخله الشاعر إلي حيز تعبيره وهو حزين ٌ يائس ٌ يرسم صور الملل والإحباط ، وقد نجح الشاعر بنقل هذه الأحاسيس المحتدمة لقارئه ، وعبر الجملة الطويلة التي جاء فيها:
انحنت ، لليوم العقيم ، لليلة العانس/ أنا النادل في التقويم (نلاحظ هنا الإلحاح في مفردة التقويم التي تحمل دلالاتها العميقة الخاصة)/ أقدّم لمتاهة الأجساد فاتورة لظلمة الرأس/ صباح الخير: أيتها المعاطف المعتقة علي مشجب الفصول/ قبعات الصيف غادرت يومها، لتنحني للبوم الماثل علي المواسم .
وهكذا تتسلسل قصائد الشاعر المرتبة – كما أظن – بهندسة عالية أرادها الشاعر ليصعد مع نسق قصائده سلالم البوح ويؤدي مشروعه كما يريد أن يطلقه، ويكرّس وعيه وموهبته الشعرية فيه ، حيث أدي فيها حرفيّته وطبيعة قراءته الفاحصة للشعر الجديد:
سنحتاج إلي لغة أخري/ جسد لا يناوب الديكة/ لا يقطع الجسور نكاية بالنهر/ هكذا تغدو الأشياء وتبدو مؤنسنة ، تشير إلي تجاور ممكنات الحياة من خلال فضاءات الشعر المنفتحة علي العالم بأقصي سعة ممكنة، لا يصل أبعادها إلا الشاعر المجيد، الذي طالما تطفح علي أحاسيسه الرؤية البودليرية، التي تظهر بهاجس نفسي ، فتؤدي جملاً ، صادمة ً، فتولد الجمال الفني من خلال الإطلالة الواعية الرائية علي القبح الذي يسقط فيه الإنسان بحياته العسيرة.
السؤال الحائر
في قصيدة ( لمن أنتسب ) التي وردت على الغلاف الأخير للمجموعة ، صرخةٌ دلالية ، وسؤال ٌ عميقٌ تتناسل منه أسئلة وارفة الوقع عن الوجود الإنساني ، ودور السؤال الأكبر في نشيج حياته المليئة بالأسئلة المتراكمة التي لا تفضي حتما إلي نهاية تشير ؟إلي جواب ، بل هناك سؤال يطلّ علي سؤال ، برؤية متداخلة معقدة ، تؤدي إلي صرخة ( لمن أنتسب ؟ ) :
كان بودي أن أكون علامة استفهام؟/ السيف علامة استفهام/ الخنجر علامة استفهام/ الرغيف الذي لا يستدير برأس الخبازة علامة أيضاً/ المرأة في المرآة/ من النار وإليها يذهب الرأس/ تاركاً كلّ قوارب النجاة/ تاركاً فضلات الطعام للنعامة/ تاركاً الخبز للطيور….
بعد هذه الصرخة تأتي الأسئلة ، متناوبة ، ويأخذ شعر وديع طابع السؤال الفلسفي – الحياتي – النافر، الخارج وجوداً حائراً، باحثاً عن حلولٍ ذهنيّة ، فتتوالي قصائده (عسل السماء، وزرقة الفلاسفة )، وهو عنوان ذهنيّ يكتسب شعريته من إفصاح اللغة عن علاقات ٍ خاصة بين مفرداتها، وهي تبدأ بإفصاح سرديّ ، يشير إلي الحكائية:
يوماً ما.. مرّ الفلاسفة كلهم علي طريق معبّد بالإسفلت..
ثم تتوالي الأسئلة العميقة :
أليس من السهل أن نبني إهرامات بغير فراعنة/ أليس من العدل أن نبني مسلاّت دون دماء؟
وهكذا تنطلق هذه القصيدة الطويلة نسبيا، في بناء ملحميّ، تنهض به مقاطع متواصلة تفصل بينها حدة النبرة ، لتتصاعد دراميا ، وهي تنهل من الأسطورة تارة ومن الأفكار الفلسفية تارة أخري، لتنجح في النهاية في تحقيق مدي شعريتها والصعود بالنصّ إلي عافية تعبيره الفني والموضوعي أيضا ً.
أما قصيدة (لحظة مكتنزة لرأس ماطر) ، فهي تبدأ بعنوان جميل يتضمن إزاحة لغوية وبعداً جماليأً آسراً، ثم يمضي النص ليؤنسن الأشيا ، حتي يصعد إلي لغة الخطاب المسرحي من خلال أفعال الأمر والنهي وحدة النبرة:
لا تنطق أيها الببغاء المتوّج بالصدي/ ابلع لسانك ونم/ فيما تأتي (ما خرم من اللوح) لتكون إشارة دلالية علي أزمة راهنة يصوغها الشاعر برؤية عالية الأداء الشعري:
يا أخي السوط/ أنام علي فتوي/ وأصحو علي طريقة/ منتظراً أقواماً تجيء/ أو تهبط/ هاربة من فزعها/ أين أعلّق ملابسهم يا أخي ؟/ والبيت مشجبٌ للوصايا والبنادق والسياط؟
بعد هذه القصيدة تتدفق الشرارات الشعرية عبر قصائد قصيرة ترصد لحظات وإشارات وحالات متنوعة ، فيما يذكرني عنوان قصيدة (ملامحٌ سيئة الصيت) بعنوان مجموعة شعرية للشاعر جمال جاسم أمين وهو (سعادات سيئة الصيت )، والشاعر هنا استدعي العنوان فقط ، فيما جعل الملامح عبارة عن نصوص قصيرة تشير إلي الجسد وتعبر عنه ، لتأتي بعد ذلك ، صرخة ألم جديدة هي (كمّادات منتصف الليل)، وفيها تلحّ مفردات الوحشة والألم وثقل الزمن وجسامة حركة الوقت عبر بوح جميل يصنع منه الشاعر كمّادات لتخفيف حمّاه الشعرية! .
أما قصيدة غابة الشوك، التي لم ترسُ كما أراد لها الشاعر ذلك علي عنوان ، فاقترح عنواناً بديلاً هو لمن أفتح بابي ؟ ، وكما نلاحظ الابتعاد الكلي في مؤدي العنوانين، اللذين ينفصلان بـ (أو) التي ترسم إشارة دلالية عميقة في نسق العنوان، وهو أسلوب تعبيريّ ، ينمّ عن طبيعة اشتغال الشاعر ، وقصديّة تحريك عنوان نصّه، فغابة الشوك دالة علي رؤية نفسيّة ترسو علي شاطئ مستقر الدلالة ، فيما لمن أفتح بابي؟ ، تنطلق إلي فضاء سؤال يبتعد عن المكوث في هاجس معني أو دلالة ثابتة ، وهذه العملية الفنية – الشكلية هي في كل الأحوال خارج جسد النص، وتجري بمعزل عن أدواته وهواجسه ونسق حركته.
ثم تنساب شرارات شعرية أخري، تتضمن رؤي شعرية وصورا جميلة ، وأحياناً ، تلجأ إلي الطرافة ، والسخرية المرة أو الكوميديا السوداء (آلام خمس نجوم) مثلاً، وأحيانا اعتماد الضربة المؤثرة في نهاية النص لتفصح عن موقف ( أين يذهب الباب والملوك يصنعون رعاياه؟) ، وكذلك قصيدة الألم الأخري (الألم بكامل أناقته) حيث ترد فيه:
لماذا ترتبك أيها الألم / في الطريق إليك كان الشوك عدّتنا للرحيل؟
بعد هذه القصائد القصيرة ، تطلّ علينا قصيدة ( أتذكرك دائما .. كحمّي طازجة .. وأهذي ) وهي قصيدة تتنوع فيها نبرة الأصوات، وتدلي بالوصايا العشر، ضمن طقس يأخذ المنحي المسرحي المحلّق في عالم غرائبي ، ثم ينصبّ في صرخة الاحتجاج الإنساني من خلال النزول من هرم التعبير الهادئ إلي نبرة الصراخ ودلالاته الإنسانية، مبررة بما تمرّ من أحداث وغرائب ، حتي يهدأ الصوت ليميل إلي الشجن الصادح بالغناء:
يا نخلتي/ ويا زيتونتي/ ويا ما اخضرّ من يابس الروح/ أعزل أنا/ لا سيف لي ولا ظل/ أسري
وأعرج/ في متاهة حلمي/ أرسمك/ بميسم وردة/ وأطير بك نحلة/ أحط بك علي دار أحلامي
ومملكتي عسلا…
الحديث عن (ما يقوله التاج للهدهد) يطول ويتشعب، ويأخذ جوانب كثيرة، في اللغة وقاموسها، والمفردات وطبيعة أدائها وخلق علاقاتها الجديدة، لذلك سأختصر الحديث مشيراً إلي القصيدة الأخيرة في المجموعة والتي حملت عنوانها ، وهي أطول القصائد وأكثرها احتشاداً برؤية الشاعر، وطبيعة اشتغاله الشعري، فهي ذات رؤية ملحميّة، تبدأ بتمهيد دلاليّ، ثم تفضي إلي مفصل حكائيّ، يشير إلي أسطورة يتمثلها الشاعر، وهو يصغي لإيقاعات علاماتها الواضحة، ليشتغل عليها من جديد ويعطيها أقنعته، وقناعاته أيضا فينجح في ذلك ويقدّم نموذجا حيويّاً حرا، للقصيدة الشعرية العراقية الجديدة.
………………………………………………………………………………………..
وديع شامخ طلسم .. فكيف نقرأهُ ؟
قراءة في قصيدة) ما يقوله التاج للهدهد( لوديع شامخ
كريم الثوري
ما يقولهُ التاج للهُدهد* مجموهة شعرية جديدة للشاعر وديع شامخ صادرة عن دار التكوين في دمشق للعام2008، وهي المجموعة الشعرية الثالثة بعد- سائر بتمائمي صوب العرش- ودفتر بغداد- ولصعوبة بمكان أرتأينا ان نتطلسم لكي نقترب ولو قليلاً
في مركب ابحاره ، ونطوف بمحاذاة قصيدته التي هي عنوان ديوانه الاخير .
كان بودي ان اكون علامة استفهام؟
استفهامية تتصدر ظهر الغلاف تحت صورته شأنهُ شأن السيف والخنجر والرغيف :
( السيف علامة استفهام الخنجر علامة استفهام الرغيف الذي لا يستدير بيد الخباز علامة استفهام ).
****
الطلسمات : اسماء وكلمات وحروف وارقام ومربعات مجهولة المعنى لغير السحرة فيقوم الساحر بكتابتها بطريقته الشيطانية…..ومنهُ ما يربط بأجنحة الطيور وأرجلها).
المدخل:
أن تكون طلسماً فهو بحد ذاتهِ تمويه وايحاء لكي يتاح لك ان تعيد تشكيلك من جديد بلغة وادوات مبتكرة جديدة تستجيب معها المغاليق دون ان يطالك التجريح ( تطير- تحط ـ تفصح – تمتنع) هذا في العموم وعند وديع شامخ المسألة ابعد من ذلك فهو قد تكلفَ بترحاله الطلسمي الى المستحيل – اللانهائي غير المُعرّف- لنقرأ ونكتشف ذلك من خلال الابيات التالية:
طلسما أطوّح الهواء، وأتنفس المساءات الثقيلة بجناحيّ
وكأيّ عابر الى المستحيل
لابد من سنارة وغشاوة عيون
وعظم هدهد
وكرسي
…..
أهبطُ …
نافخا قربتي وقروني ..
نازلا من أبراج عاجي وسماواتي الحامضية
المدججة بالأوحال
أمطر ..
أمطر
غير آبه بسورة الغياب .
أتعثر بجثث كانت تطير قبل صعودي
أشرب ماءً من زمهرير الأجساد،
ومن عَرقها يتفصد الزمن .
كيف كنت أطيرُ وتلك المأساة تطنّ على جناحيّ كقارِ زورق مثقوب ؟؟..
إذن ادوات ترحاله هي:
السنارة : الصيد
غشاوة العيون: التنكر
وعظم الهدهد :المُغايَرة
واذا ما اردنا استنطاقها وجَبلها في بوتقة واحدة نكون قبالة الترتيب التالي:
السنارة: للصيد ولكن اي صيد لابد انه صيد استثنائي بدليل الاسناد المرادف اللاحق:
غشاوة العيون: لان شاعرنا المُحلق في عنان السماء وإن شاء نزل هابطاً لا يريد ان يرى مشاهد بعينها لعظيم ما ينوي صيده
عظم الهدهد: يريد ان يقول لنا شامخ بانه سوف يكون مثابة اللغز الاسطوري الموكل باعادة توليف الاشياء على حقيقتها بعد ان تمادت في نفورها، ونشازها
لكنه هبط…
نافخا قربتي وقروني : النفخ مداد الروح الجديدة ليمطر وايِ مطر – غير ابه بصورة الغياب- وليفصح عن معناه الجديد :
أتعثر بجثث كانت تطير قبل صعودي
أشرب ماءً من زمهرير الأجساد،
لاكتشاف كيمياء فسادها والتعثرمن الارتباك وهي دلالة على كونهِ قد تجاوز محطات فشل فيها الكثير ممن لم يسعفهم التطلسم قًَبله فتحولوا جثثاً كان يتعثر بها لذلك كان عليه التسلح بـ (لابُدَ):
لابد لكَ اليوم من حماقة لتدوين السفر قبل الهرم
لابد لكَ من قوام جديد تنحتُ به رؤياك
لابد لكَ من شمس تحرق شمع أجنحتك ونزق جليدك.
لابد لكَ من إسئلة تواريكَ التراب
وتهيل عليك الحجارة
…..
أنتَ ابن تلك الطرقات وهذه الشمس التي لم تكن منخلا
وأنتَ ابن القمر الذي لم ينحنِ ساجدا لسطوة الشموع
كلها الليالي
“تموع” في عقد
وتنصهر في ليلة
وتتجمد تحت أرقكَ
….
لابد ناتجة من قصور وشحذ الهمم وهو استنجاد له ما يبرره بعد ما تجاوز محطات الجثث التي كان يتعثر بها بعد ركوبه موجة
المستحيل ولِيُبررلمترصدهِ ويقنع بعض دواخله المُمتنعة من أن قوامه القديم لم يعد صالحا وهذه دلالة تطال المنظومات الفكرية والسلوكية بل يزيد ذلك الى شمس ربما استثنائية وهي دلالة الاشراقات الفكرية والتجديد على مستوى المتبنيات الايديولوجية لكنه في النهاية يتنبأ بالنتيجة لرحلة المستحيل وهي إن اجوبة الاسئلة المستحيلة سوف تواريه التراب وتهيل عليه الحجارة.
يحاور روحهُ المُلتهب مُذكرا ومستذكراً عِبرَ:
…
أنتَ اللائذ بمدن كنت تحسبها سماوات
أنتَ العائد من قيلولة العقل وسيف رطانته
طلسما تتجول في الهواء
تفك أسراركَ للريح
وتفتح جرحكَ المتقيح لشهوة الحكايات
تعالي : يا آلهة الكلام
ويا حوريات الليالي
تعالي يا “سعلوة الطفولة”
و”ياكربة الشط”
تعالَ يا أرقي
وتعالي أيتها النابتة على أهدابي ، كزغب يتصابى
تعالوا: اليّ …تعالي يا سمكة الحلم
لنصطاد الطُّعم ونبتلع الدموع خلسة..
لا تفزّزي العصافير
ما زلت أحلم في نهارات أشد بريقا من هذا الطلسم
…
ها هو يستنجِد ببقاياه الشاخصة في وجدانهِ الضاحك المشرق بمملكتهِ التي انتجتهُ وانضجتهُ- فتعالي- فتحت له طواقم نجاة -الهة الكلام وحوريات الليل وسعلوة الطفولة وكربة الشط وسمكة الحلم -وكلها من متممات أرقه وللحبيبة مكان وهي بمثابة النابتة في الاهداب كزغب يتصابى
هذهِ المقاطع الجياشة بمثابة المقدمة التي تُفضي الى نتيجة متوقعة يكون شامخ قد ابتلع الطُعم والسنارة التي هيأها لصيده ‘مكيدة اعدها لما تبقى من ذاكرة ما زالت ترفس ويستدرك راجياً:
لا تفُزَزي العصافير
مازلت أحلم في نهارات اشد بريقاً من هذا الطلسم
رجاءُ مرير لان ثقلَ جَلجلة استدعاءاتهِ وموته بعد ابتلاعه الطعم الثقيل
وأنت النازل والهابط من طين سيوف المهزلة !!
تحارب مَنْ؟
قيلولة حلملك .. أم صراط نزوتك
أم خيبة التاج وعزاء هدهد حكايتهم!!؟
……
قالوا لك : أنت ابن ماء السماء
وابن التاج
وابن الطلسم ووارث الحكاية..
وأنتَ كما أنت ….
لا تاج لك ، لاحلم
لا كافر ولا ناقل كفر ….
أنت صاحب الأرق، وبوابة المدن المختومة بالغياب
غياب أبنائها وقوارب أحلامها وشمس أرصفتها
…..
النازل والهابط معنيان مختلفان فالنزول مع الارتياح والهبوط اضطراري وان تلازمهما ارتباكا ً لاقترانهما بـ ( طين سيوف المهزلة) فالحرب ما عادت مُعرفة بقوانين العدالة والشرف لذلك التفَ الشاعر في تساؤلهِ لنفسه: تُحارِب من؟
حلمهُ المستقطع او عقائده الموجعة
خيبة الكرسي(التاج) او المروي المسنود بما نقله لنا الهدهد واتخذناه قانوناً للتأسيس والانطلاق.
سيظل التنكر على شاكلة الطلسم واحدا من الدروب الملتوية الاقرب الى عالم الشعراء في عالم كل مافيه لايمكن استساغتهُ بسهولة ذلك هو ديدنهم وقد اطمأنوا فيما يبدو اليه
لخلق معادلهم الموضوعي.
……………………………………………………………………
الشاعر وديع شامخ معضلة الحداثة والثقافة ؛ أو سؤال الرؤيا والرؤية
حسين سرمك حسن
(( أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر ، ونثر كأنه نظم ))
( أبو حيان التوحيدي )
يقول الشاعر ” وديع شامخ ” في قصيدة : ” الوجود في ظلمة النفق ” وهي القصيدة الأولى التي يفتتح بها مجموعته الشعرية الأخيرة : ” ما يقوله التاج للهدهد ” – دمشق ، دار تكوين ، 2008 – :
(( كل يوم / أشطب عاما من التقويم / أرفع مظلتي خوفا / من سقوط الرأس الجديد على حلمي / رأسي حائر بحمل هذه الحواس المعطلة / الفم البليد ينطق ما تقوله الأذن / فجور العين تفوح روائحه من الأنف الباشط / جثة متعفنة تقود رأسي / إلى متاهة اليوم التالي / كيف أرفع رأسي إذن .. لميلاد السنة القادمة ؟ )) .
وحين تكمل قراءة المجموعة قراءة نقدية متفحصة تقوم على تشكيل الصورة الكلية : الجشطلت – gestalt التي تضع الجزء في موضعه من الكيان الكلي وفي تفاعله الخلاق مع الأجزاء الأخرى ، ولا تؤمن بأن الكل نتاج للجمع الآلي للأجزاء المكونة له ، بل هو كيان يفوق حاصل الجمع الرياضي لمكوناته . أقول حين تكمل القراءة النقدية للمجموعة ستجد أن الشاعر لم يختر هذه القصيدة : ” الوجود في ظلمة النفق ” لاستهلال مجموعته لأنها أفضل قصيدة لديه كما يحصل عادة ، ولكنه قدم ، في الواقع ، ” البيان الشعري ” لمجموعته – ولمشروعه الشعري – الذي لا يحدّد المكونات الفكرية ؛ المضمونية – الرؤيوية للقصائد المقبلة حسب بل رسم الأسس البنائية الفنية والجمالية لكل قصائد المجموعة المتبقية أيضا . وهذه السمة تعبر عن وعي حاد باشتراطات العملية الشعرية الحديثة . وقد برزت هذه السمة بصورة أولية لكن مميزة في مجموعتيه الشعريتين الأوليين : سائرا بتمائمي صوب العرش ( 1995 ) ودفتر الماء ( 2000 ) ، وكلتيهما احتفي بهما انطباعيا ولم يحتف بهما نقديا بصورة تحليلية وكما تستحقان كعملين تجديدين .
تأتي المجموعة الثالثة الأكثر نضجا وفعلا تجديديا فتجد صيغة الإحتفاء السابقة التي هي تمظهر لالتزام نقدي اجتماعي – وأحيانا آيديولوجي – أكثر مما هو محاولة لتحليل وتفكيك واستنباط دروس تشكل مرتكزا لتطوير العملية الشعرية . سأحاول في هذه الدراسة الموجزة تقديم الخطوط العامة والأساسية التي تتيح للقاريء فهم الفرضية التي طرحناها ، وهي أن القصيدة الأولى هي ” بيان شعري ” للمجموعة ، حكم كل مبناها ومعناها ، طبعا في صورة خطوط ومباديء شعرية رئيسية لكن حاكمة وحاسمة . من ناحية عنوان القصيدة وهو : ” الوجود في ظلمة النفق ” ، يستمر في القصيدة / المقطوعة الثانية : خارج النفق . تأتي القصيدة الخامسة تحمل عنوانا مرتبطا بالعنوان السابق لغويا من ناحية اللعب على مفردتين أساسيتين من المفردات الثلاث وهما : الوجود والنفق ، وهو :” وجود أم نفق ” ؟ . أما القصيدة السادسة فقد حملت عنوانا هو : ” نور في نهاية النفق ” يرتكز على مفردات مضادة وليست مترادفة ؛ فالنور مقابل الظلمة والنهاية مقابل نسبي لـ ” الوجود في ” . وليس معنى ذلك أن القصيدة الثالثة والرابعة ، هما حلقتين خارج سلسلة حلقات المجموعة . إنهما ترتبطان بها عضويا من مقترب مضاف هو البناء الشكلي ( تنتهي القصيدة الثالثة : ” لزوجة ” بالأبيات التالية :
(( من ينام على سريري ؟ / وقيلولتي مُصابة بدبق اليوم / الليل لي ، أريد أن أحلم خارج النفق )) ، وكذلك في التركيب المضموني وموجهات البنية الداخلية حيث تدور المقطوعة الرابعة حول المحاور المركزية التي تحكم عقد الموضوعات الفكرية والنفسية للمجموعة بأكملها . وهذا التقارب والتشابه ليس شكليا بل هو محكوم بحركة منظمة تشبه حركة عدائي رياضة جري البريد حين يعتمد الفوز على المهارة والدقة التي يسلم بها كل عداء عصاه لزميله العداء اللاحق . ولكننا هنا أمام عملية شعرية ولسنا أمام عملية “رياضية ” ميكانيكية . فالعصا ستأخذ أشكالا مختلفة مموهة تتكفل بها اللغة بإمكاناتها الهائلة التي يوفرها لها اللعب الرمزي والمجازي . وإذا كانت القصيدة الأولى قد استهلها الشاعر بإعلان حيرته الوجودية من خواء حياته ورتابة أيامها المميتة :
(( كلّ يوم أشطب عاما من التقويم / أرفع مظلتي خوفا من سقوط / رأس اليوم الجديد على حلمي / رأسي حائر بحمل هذه الحواس المعطلة )) .. فيرسم بذلك مسار الخواء والخراب المضموني الذي يلوب في أحشاء النصوص جميعا . وهذا الخراب لا يلف وجود الشاعر الفرد بظلمته الخانقة حسب بل الوجود العام ؛ في الحياة والمجتمع والكون . فعلى المستوى الفردي هناك لعنة التمزق الجسدي وغربة الشاعر عن أوصاله التي يفترض أن يشعر تجاهها بالصلة الحميمة والإلفة الدافئة التي يخلقها التعود على الأقل . وهو لا يعاني من محنة اغترابه عن أعضاء جسمه – بتعبيراتها الرمزية طبعا – فقط ، بل يعيش جحيم صراعات تلك الأعضاء الممزقة فيما بينها كتعبير عن التشظي الفاجع بين العقل والعاطفة والإرادة :
(( بين الرأس والجسد والقلب / لابدّ من فض الإشتباك / من يسأل وردة الليلك عن سوادها ؟ / من يوقظ زهرة الصباح ؟ / أيام رأسي تتكوم على متاهة الجسد )) .
وهذه الأبيات من قصيدة خارج النفق وهي القصيدة ( المقطوعة ) الثانية ، ليتكرر الأمر – ولكن بصورة أكثر قسوة وشراسة – في القصيدة / المقطوعة العاشرة : ( ما خرم من اللوح ) ، فهنا يختنق الوجود الفردي بفعل قبضة القمع الفكرية المميتة وطوفان الذعر الجمعي المنتظر الذي يضاعف من لعنات العجز المتأصل وشلل الإرادة ؛ إرادة الشاعر :
(( يا أخي السوط / أنام على فتوى ، وأصحو على طريقة / منتظرا أقواما تجيء أو تهبط / هاربة من فزعها / أين أعلق ملابسهم يا أخي / والبيت مشجب للوصايا والبنادق والسياط ؟ )) ويمكن ملاحظة النقلة التمويهية الذكية من بيت الإستهلال الذي خاطب فيه الشاعر ” أخاه ” السوط إلى استبداد السياط في اكتساح المكان الشخصي واختراق حدود خصوصية الشاعر المكانية مع الوصايا والبنادق . وصايا فتاوي وطرق منذرة ، وبنادق رعب وتهديد . وتشتد قتامة الصورة مع مقابلة العجز عن تعليق ملابس الزوار الافتراضيين المنتظرين بتحول البيت بأكمله إلى مشجب لتعليق البنادق والسياط . لقد تم تبليد مشاعر الشاعر وأحاسيسه حتى صار متآلفا مع ” أخيه ” ومصدر عذاباته وهو : السوط . إنه متعايش مع أداة اضطهاده بانخذال في حين نجده شديد الإغتراب عن مكوناته المبتذلة ضمن انحطاط شامل وسطوة خراب موغل في الأذى ، كما يتضح في القصيدة العشرين : ” فم ” : (( بوابة البوق .. نافخ الكير / حافظ أسرار الجسد المسجى على المواقد الملبدة / بأوكسيد الغياب )) . ولعل أبشع حالة من الخراب الفردي تتمثل في الإستهانة بالصورة الجسدية التي هي مكون أساس من مكونات احترام الفرد لذاته واشتراطات الإعتبار الذاتي . فقد انزاحت هذه المكونات عن الفعل الوظيفي الذي يوقّر الإنسان ويعزز مهابته وانحدرت إلى هاوية الإبتذال والأداء الحيواني الفج الذي يجعل الفم بوابة بوق ومصدرا لطوفان الثرثرة : (( مثل قرن غبي يكلل رأس تنين محنط )) فهو زيادة لا معنى لها وتاج من النفايات الكلامية : (( مثل رأس يترهل من اللغو / مثل وسادة رخوة / يندلق على الغرفة المبللة بالكلام المباح / كلام الذين ناموا في الغرف المختومة بأكاسيد المواقد )) . ووديع – في أغلب نصوصه – يبرع في توفير مرتكز لوحدة قصيدته ” الشكلية ” من خلال التوظيف المخطط له بقصدية عالية للمفردات التي يستهل بها القصيدة في البيت أو الأبيات القليلة الختامية . فقد استهل القصيدة بـ (( المواقد الملبدة بأوكسيد الغياب )) وختمها بـ (( الغرف المختومة بأكاسيد المواقد )) . وليس هذا التوظيف مجرد ” لعب ” – رغم أن الشعر كله ” لعب ” – لغوي باهر حسب بل هو مناورة توسع الرؤيا المركزية : رؤيا الخراب . فقد كثّر الشاعر من مفردات الخراب ونمّاها ووسع من سطوتها .. فالجسد المسجى الواحد صار ” الذين ناموا ” والمواقد صارت غرفا والأوكسيد تحول إلى أكاسيد .. وقد وسع الشاعر – في الواقع – مكوني بيت الإستهلال الذي يخاطب فيه فمه ـ : ” بوابة البوق .. نافخ الكير ” مستندا إلى وظيفتين عاديتين للفم وهي ” التصويت ” و ” النفخ ” وكلاهما يعنيان الحركة نفسها في البوق والكير . والوظيفتان كلتاهما ابتذلتا وصدأتا .. فالبوق لم يعد صادحا أبدا وصار مصدر لغو مترهل ومنبعجا كوسادة رخوة ؛ أما الكير ؛ فإن عزيمة نافخه من الوهن بحيث أن أكاسيد المواقد ختمت الغرف وخنقت من فيها . وكل شيء محاط بـ ” ظلمة ” خانقة وبلادة مرعبة وترهلات فادحة ، والصورة الكلية الكامنة غير المعبر عنها علانية والتي نستشفها من تفاعل الأضداد الرمزية هو أن الشاعر المستلب ما زال رازحا في ظلمة نفق طويل مظلم ومخيف .
وهذا ما يعود ليتجلى في المقطوعة الثلاثين : ( المهلكات يطرقن الباب ) التي يبرع فيها الشاعر في خلق ” متضادات ” من نمط جديد يصعّد من خلالها حدة وضراوة الخراب المحيط به من خلال التطويح بإيحاءات وظائف أو خصائص المفردة التكوينية المادية أو الحركية أو العلاقاتية بنقيضه الذي يؤجج قدر الدمار المؤكد : (( هذا الباب لا يحفظ سرا / كان ريحا ، فتناهبته الوشاية / كان صوفا / أدركه نول الساحرات / كان حجرا ، فباتت الأصنام على خلوته / صار خشبا ، فأينعت مطارق النحاس في كوابيسه )) وفي الأبيات الثلاثة الأولى التي يستهلها بالفعل الماضي ” كان ” – والغريب أن النحاة يسمونه ناقصا وهو تام الكمال هنا – الذي ” يؤرخ ” لماضي محنة ” باب ” الشاعر التي استولت على ماضيه ، أما البيت الرابع الذي يرصد ” الصيرورة ” الحاضرة التي ارتد بها مهادنا بعد أن ” صعد ” من هلامية الريح إلى هشاشة الصوف إلى صلادة الحجر ، لينكص نحو تماسك الخشب في تحول هروبي لائذ بعد أن عجزت الانتقالات السابقة عن مواجهة عوامل الخراب الفاعلة التي تلاعبت بمقدرات ” باب ” الشاعر . لكنه الآن يتحول إلى سندان مستباح للطمات مطرقة العذاب الذي ينبثق هذه المرة من الداخل .فالباب مشرع بانخذال والمهلكات يطرقنه بعزم لا رجاء في الخلاص منه . أما في القصيدة الأربعين : ” حافر ليدي ” والتي يعلن رثاء الذات البشرية المستلبة عن نفسه من عنوانها ، ليتصاعد هذا الإعلان في متن النص الذي يتماهى فيه الشاعر مع حصان الفجيعة الخائب بعد مدخل إنكاري يائس ينفي فيه عملية التوحد القسرية المذلة من خلال الدور المسخ الذي رُسم له :
(( لست حصانا لأدوّن للفاتح سيرته اللاهثة / لأدون تاريخ سلالة الصهيل / لأدون للحرير نهاية النطع )) .. لكنه يفاجئنا فورا برثاء ذاته الموجع متماهيا ، بعد الرفض ، مع حصان الفاتح فيعلن خساراته الماحقة : ففاتحه هوى ، وطلقة الرحمة أصابت ركبته ، وهي إصابة تتبعها عادة رصاصة الرحمة حيث يصبح حصان الوجود بلا معنى ولا حاجة لبقائه ، بل إن من ” الرحمة ” إنهاء حياته إلى الأبد . وبعد كبوة الفاتح / فارسه وإصابة مقتله تكتمل دائرة الخراب المسفة حين لم يتبق غير سقط متاع حكاية العذاب والدمار كي يتصدى لترقيعها : (( أنا الحصان الذي كبا فاتحه في دائرة الحدوة / وطلقة الرحمة أصابت ركبتي / وانطلق اللجام لترتيق الحكاية )) .
ثم تأتي أم قصائد المجموعة وخلاصتها الجامعة المانعة ، وهي قصيدة : ” ما يقوله التاج للهدهد ” – والتي تتطلب وقفة تحليلية خاصة بها – لتشكل السفر “الملحمي” لغربة أنا الشاعر الباهضة وجحيم استلاب ذاته وخيباتها المدويّة . فيها يستهل الشاعر خطابه بصوت أناه – ضمير المتكلم – ليعرض كيف صار الآن وجوده الطعين ، بل هو ذاته – ” طلسما ” عصيا على فك أسرار لعناته ومغاليق مفارقاته المستحيلة التي يشرع في سفر مراجعته التمهيدية لها ثم التوغل في مجاهيل غابة ليل تساؤلاتها المدلهمة مسلحا بسنارة وغشاوة عيون وعظم هدهد وكرسي :
(( طلسما أطوّح الهواء ، وأتنفس المساءات الثقيلة بجناحي / وكأي عابر سبيل إلى المستحيل / لابد من سنارة وغشاوة عيون / وعظم هدهد / وكرسي )) . ولأن من مداورات النرجسية الجريحة بعد رحلة الخراب الطويلة في نصوص المجموعة الإعترافية والمقرة بواقع الخيبة الشاملة الأسود هو الهروب من استعراض انكساراتها المريرة بلسان أناها المهدور ، فإن الشاعر يتحول إلى استخدام ضمير المخاطب بعد المقطع الأول مباشرة : (( لابد لك اليوم من حماقة لتدوين السفر قبل الهرم / لابد لك من قوام جديد تنحت به رؤياك / لابد لك من شمس تحرق شمع أجنحتك ونزق جليدك / لابد لك من أسئلة تواريك التراب / وتهيل عليك الحجارة )) .
ويستمر الشاعر في العزف على وتر ضمير المخاطب خالقا مسافة نفسية علاجية إذا جاز التعبير حتى نهاية القصيدة التي يختمها ببيان الخراب بعد ” ملحمة ” رحلة العذاب الشعرية والفعلية التي أضفى عليها مسحة أسطورية ودينية مستثمرا سعة ثقافته ، وموسعا دائرة التردي الذي صار لعنة أبدية لا تمحق وجود الشاعر الفعلي في الواقع الموحش المتهالك وهو في لهيب اليقظة حسب ، بل ترافقه في أرقه الباهظ حيث الأحلام – وهي التي ، وياللمفارقة ، لا تنبثق وتتنامى إلا في أثناء النوم – التي “تبيض” له رموز الكابوس المستحيلة : (( كنتَ مساءها الثقيل / ونهارها الهارب من طلاسمها / ونصف هدهدها / ونصف تاجها / وحكايتها المثلومة / وقمرها الغاطس في الوحل / وأصنامها التي فخرتها الشمس / الشمس التي تحجب ظلك وتأكل جناحك وتملأ بطنك بكوابيس ثقيلة / وأنت مازلت تنحت أرقك حلما / يبيض : هدهدا وطلسما وتاجا )) .
وإذا كنت قد أخذت القصيدة الأولى والعاشرة والعشرين والثلاثين والأربعين والخمسين ، فلأنني اخترت طريقة حسابية هي طبعا ” لاحسابية ” في حساب العوامل اللاشعورية الفاعلة في أعماق الشاعر وهو مزحوم بمؤثرات العملية الشعرية ، لأثبت قصدية الشاعر في تعاطيه مع أوجه الخراب الفردي والوجودي والكوني ، أي بلوغ الغائية الشعرية من خلال العشوائية الحسابية ، من جانب ، ولأمسك بالخيط الناظم الذي يربط النصوص كلها من جانب آخر . فعلى سبيل المثال وفي مجال عنونة النصوص يعاود الشاعر الطرق على مفردة أو أكثر من نص معين ، في قصيدة تالية أو يعيد تشكيله ليخلق إيحاءات دلالية جديدة وثرة . خذ على سبيل المثال :
– الوجود في ظلمة النفق …. القصيدة رقم (1)
– خارج النفق … القصيدة رقم (2) .
– وجود أم نفق …. القصيدة رقم (5) .
– نور في نهاية النفق … القصيدة رقم (6) .
وخذ مثلا آخر يرتبط الآن بتوظيف مفردة ” اليد ” :
– يد … القسم الأول من قصيدة ” ملامح سيئة الصيت ” وهي القصيدة رقم (15) . وبالمناسبة فقد نسى الشاعر تثبيت عنوان هذا القسم في ” فهرست النصوص ” . ومن المعروف أن عنوان القصيدة قد تم نحته على غرار عنوان مجموعة الشاعر “سعد جاسم”:”سعادات سيئة الصيت ” .
– يدي … قصيدة رقم (34) .
– أصفق بحرارة ليدي … القصيدة رقم (36) .
– حافر ليدي …. القصيدة رقم (40) .
ومثل ذلك يمكن قوله عن مفردات أخرى مثل الرأس والأذن والأنف . وأؤكد من جديد على أن الأمر ليس ” لعبا ” شعريا باهرا على المفردات اللغوية لغايات جمالية حسب ، بل هي مناورات محسوبة يستغل فيها الشاعر المفردة لـ ” يعصرها ” حتى ثمالتها الدلالية الأخيرة . وفي لعبة باذخة موازية يكرر الشاعر المفردات والرموز والصور الموازية في النصوص وكأنه يعد في النص السابق ” طبخة ” مكونات وجبة الخراب الشعرية التي سنواجهها في النص اللاحق الذي ليس شرطا أن يكون تاليا بصورة مباشرة بل قد يأتي بعد شوط قد يطول أو يقصر . فعلى سبيل المثال لا الحصر حين نتأمل المقطوعة التي تحمل عنوان : ” ذلك الحلم الجميل ” – وبالمناسبة قد يذكّرك العنوان بعنوان مجموعة قصصية للمبدع ” أحمد خلف ” ” ذلك الخراب الجميل ” وأعتقد أن وديع يتعمد ذلك دون أي إشارة مرجعية ضمن قصديته الشعرية العالية – والتي يتحدث فيها بضمير الغائب – وهو في الواقع يخاطب ذاته مراوغا ومربكا توقعاتنا التقليدية – عن حصان محنته الذي أنهكته الحروب :
(( هو الذي اشترى حصانا للجموح ( وهذا يعيد إلى ذهنك وبتشويش ماكر الوصف الشهير لجلجامش : هو الذي رأى ) / ترك ذاكرتي على قارعة الطريق / حصان حلمي أنهكته الحروب / وأخطأته طلقة الرحمة )) فإنه لا يوفر جزءا من المادة اللغوية للنص الأربعين : ” حافر ليدي ” فقط ، بل يبذر النواة التي ستتفرع أخاذة لتشكل شجيرة النص الأخير الذي تناولناه قبل قليل . وفي لعبة العناوين أيضا ، ومن جديد ، – والشعر كما قلنا لعب ، لكنه اللعب الضروري لسلامة الوجود – يظهر التخطيط المسبق لدى الشاعر جليا أيضا . فليس العنوان مفتاح دهشة وجذب كالمفاتيح التي تمثلها إعلانات أفلام السينما بل هو مفتاح نصي فعلي لا يفتح مغاليق النص بالصورة التقليدية بل يفتح مراكز استجابات ومدارك المتلقي لأن المتن الذي سيطالعه هو مخطط تطبيقي – شعري طبعا – لعنوان النص . إذا عدنا مثلا إلى القصيدة الأولى : ( الوجود في ظلمة النفق ) فسنجد متن النص ” يفصّل ” المعاني المتراكبة للوجود والظلمة والنفق . بل حتى لحرف الجر ” في – وحرف الجر يرى النحاة أن لا معنى له إلا مع غيره ، في حين ينهار بنيان ” غيره ” لدى وديع من دونه – الذي يتربع على عرش دوره من خلال شبكة علاقات المتغيرات التي لا يتحقق لها فعل أو حتى وجود إلا إذا وضع المتلقي في حسبانه أن هناك ” في ” غير مرئية تتحرك وراء ستارة علاقات متغيرات النص :
(( لا ذنب لرأسي / كان ينتظر الطوفان / لا تموز أمطر ، والباب خلف ” آب ” أوصدته المسامير / صيام في صيام / يا مكثر الأعناب أغثنا / يا صاحب النخيل : جفت الخمرة / الرأس يطوّحه جسد بلا – جمّار – … ))
فهنا وجود فعلي لكنه غير محبوك كوحدة بسبب مخالب الخراب الباشطة الممزقة ؛ وجود متشظي تمسك به ظلمة مجازية مستخلصة من حاصل جمع أشلاء جسد الوجود المحطم . ولأن الشاعر لا يترك لنا – بل هو لا يجد – منفذا للخلاص فسنقف أمام استنتاج لا مفر منه هو أن الشاعر بوجوده المخرب وظلمته العاتية يعيش في حالة هي أشبه بالسقوط في جوف نفق اللعنات . وفي هذه القصيدة مثلما هو الحال في بقية القصائد والمقطوعات هناك ” تسلسل متواليات رمزية ” إذا جاز الوصف . كل حلقة في سلسلة القصيدة تليها حلقة تختلف في الشكل اللغوي نسبيا لكنها متعشقة معها وتوفر لها جسر عبور إلى حلقة ثالثة مختلفة اللون اللغوي لكنها من معدن الخراب نفسه .. وهكذا .. نتنقل من حلقة خيبة الرأس في مجيء الطوفان .. فلهيب جفاف تموز وباب آب الذي أوصدته المسامير التي لم يعد قادرا أن يذيبها حسب العرف الشعبي .. مرورا بالصيام المهلك الشامل .. وخيبة جديدة لنداءات استغاثة متلاحقة ؛ فلا مكثر الأعناب يستجيب .. ولا صاحب النخيل يحيي جفاف الخمرة .. ملاحظين أن الخمرة كمسلمة شائعة مرتبطة بتعتيق الأعناب .. لكنها نقلة ماكرة تلحقها نقلة أخرى تعيدنا إلى النخيل وخمرة الأعناب من خلال الرأس السكران الذي يطوح به جسد بلا ” جمار ” .. بلا لب الحيوية بتعبيرات بياض نقائه الراكز . من هنا نعود بحركة تراجعية – لكنها في الواقع شكل آخر للحركة ” التقدمية ” السابقة – من جمار الجسد المفقود إلى صاحب النخيل – والنخلة رمز للجسد .. بل هي الرأس – الذي عجز أمام جفاف الخمرة ، ثم إلى العجز الكلي لآب الذي لم يعد ” يرطّب ” الأعناب ولا يحرق المسمار في الباب ولا ينزّل ” الأرطاب ” حسب المأثور الشعبي الذي تحول هنا من ” ترتيب ” سجعي ساذج إلى تسلسل حلقي شعري مسموم يثبت لنا بلا أدنى شك أننا نحن أنفسنا وليس الشاعر – ممثلنا – حسب ، قد تم اصطيادنا في ظلمة نفق مديد ومتطاول ولا منفذ له .. نفق لعبة الحياة والموت الدامية .. فالشعر بأكمله محاولة مستميتة لعمل ” شيء ” مقاوم في وجه عجلة هذه اللعبة الساحقة .. والمشكلة أن هذه المحاولة تأتي على شكل ” لعبة ” آسرة لكنها تخديرية نواجه فيها صحوة الفكرة الوجودية الماحقة بعد أن يرفع الناقد ” السادي ” و صاحب ” الفضول ” المؤذي أحيانا ، غشاوة السكرة الإبداعية الباذخة عن أعيننا ( وصف أحد الشعراء الإنكليز شكر الشاعر للناقد بمثل عرفان عمود الكهرباء للكلب الذي يبول عليه !! ) . والمشكلة أن الشاعر يتحالف أحيانا – وضد مصلحته الشعرية الرؤيوية – مع الناقد فيجهض ذاك المنفذ التخديري الخلودي الذي لا يقدر بثمن الكشف المبهر :
(( نصف ربيع لرأسي المطرود من نفق التقويم / لُحاف واحد لشتائه البارد الوحيد / عصا بيضاء لسنته المقبلة / من المبصر إذن ؟ ))
وهنا – وقبل أن نجتهد لتصيبنا حسنة ونجيب على تساؤل وديع عن : من المبصر ؟ – نقول أن الشاعر قد وظف المفردات الحاكمة في استهلال قصيدته ليبني خاتمتها من الحجارة نفسها . لكنها حجارة اللغة التي يطوّح بها الشعر إلى آفاق سماوات الإبداع القصية . فقد بدأنا بالرأس والنفق والتقويم والعام / السنة وانتهينا بهما مع لعبة تمظهرات ترادفية ومجازية واستعارية لمفردات أخرى . وكل هذه الأمور تثبت أن هناك تخطيطا مسبقا وقصدية قبلية عالية حكمت تصور الشاعر الشكلي والمضموني ، المبنى والمعنى ، ليس لكل عنوان واستهلال ومقطوعة وقصيدة في المجموعة ، بل للمجموعة كلها .. من صفحة عنوانها وحتى خاتمتها في قصيدة : ( ما يقوله التاج للهدهد ) وهو الذي يعيدنا إلى صفحة العنوان في دائرة محكمة . الفطرة الشعرية – أو ما يسمى بـ ” الموهبة ” لم تعد شرطا حاكما للشاعر الحديث ، قد تكون لها أهميتها لكنها لا تكفل شرط الحداثة في ما ينجزه المبدع ولا توفره ، بل هي قد تجهضها أحيانا – وقد أدرك وديع ذلك بقوة .. أدرك أن الثقافة ضرورة للشاعر الحديث وليس إدعاءات جنيات الإلهام وسكرته وأحلامه . يقول ” هاينه ” شاعر ألمانيا العظيم : ( يتحدثون عن الإلهام وأنا أعمل كالحداد . . أطرق حلقة في حلقة وحلقة بحلقة وحلقة مع حلقة ) ..وها هو سخام كور العملية الشعرية المثقفة يكلل جبين قصائد وديع المباركة .. سخام مقدس وجليل يعبر عن الرؤيا والرؤية المتلازمتين حد الإنصهار .. والرؤيا كما قلت في دراسات سابقة تعني الجواب على سؤال : لماذا أكتب الشعر ؟ أما الرؤية فهي ترتبط بالجواب على سؤال : كيف أكتب الشعر ؟ . وقد أمسك وديع بأزمة الجوابين على السؤالين الجامحين بعقلية فذة ، وبعناية ” نحتية ” للمفردة بذاتها وللنص بكمال جسده البهي . في هذه القصيدة ، مثلما هو الحال في أغلب قصائد المجموعة هناك مفردة أو مفردات حاكمة متسيدة – بل متجبرة – تتحكم بروابط نسيج القصيدة . هنا في القصيدة الأولى : ( الوجود في ظلمة النفق ) يتحدث الشاعر عن الرأس الحائر والعام الذي يشطبه من التقويم كل يوم والجسد المتطوّح والأنف الباشط و .. و .. و .. وهي على الصفحة الأولى من المجموعة . وإذا كانت مشكلة الشعراء التقليديين هي أنهم ” ينسون ” أحيانا ليس ما بدأوا به مجموعتهم الشعرية ، بل ما بدأوا به قصيدتهم الواحدة نفسها . فإن الشاعر الحديث مخطط ماكر .. فبعد ( 93 ) صفحة من العدو الشعري اللاهث نعود في القصيدة قبل الأخيرة : ( الصندل يتجول في أنفي ) ، عودة ” تفسيرية ” تعزف الآن على الوتر النحاسي المضاف الذي ابتكره الشاعر “لعود” المجموعة ليخدعنا بأنامله الحاذقة بلحن ” جديد ” ساحر يتحول فيه الرأس المستلب ، بل الوجود كله ؛ الفردي والعام المنسحق إلى ” يوم ” في ” تقويم ” الفجيعة الشخصية والجمعية والكونية :
(( أنظف أسناني وأعطر جسدي / لليوم الجديد / أشطب ذاكرته من التقويم ، لكنه يلاحقني / يوم يرافقني كجسدي / يعرق معي ، ويبرد معي / هل أنا اليوم الذي أشطبه من يومي ؟ / أم أن اليوم الذي خرجت منه بحذاء يطاردني ؟ / كان يوما وشطبته / العطور والمبيدات تقيمه لي / وأنا أتطوح بين رائحة اليوم والصندل الذي خطوت به / لليوم الجديد )) .
إنها عودة مفعمة بالحيرة والشك المدوّخ . خرج وديع من ” باب ” مأزق وجوده المرعب ليعود من ” شباكه ” . صعد مرتدا إلى ” نصف ربيع لرأسي المطرود من نفق التقويم ” الذي يختم به القصيدة الأولى ؛ لكنها رجعة مختلفة رمزيا وصوريا رغم الوشيجة المعنوية الرابطة . ومن الأدلة المضافة على القصدية الهائلة ، نتاج الثقافة الموسوعية ، للشاعر ، هي أنه ، وبعد أن يطرق مرارا على موضوعة الرأس من جوانبها الوظيفية والجمالية والرمزية والدلالية في النصوص رقم ( 1و2و4و5 و6 و7 و9 ) يقدم نصا ” تفسيريا ” لهذا الرأس يستعرض ملامحه في قصيدة : ” ملامح سيئة الصيت ” . في المقطع الأول من القصيدة الاولى يقول الشاعر :
(( رأسي حائر بحمل هذه الحواس المعطلة : الفم البليد ، ينطق ما تقوله الأذن / فجور العين تفوح روائحه من الأنف الباشط )) . وهي هنا صورة موجزة عامة لرأس الشاعر ( أو المتكلم ) . لكنه في قصيدة ” ملامح … ” يشرع بالإستعراض الشعري التفصيلي لمظاهر و”جواهر” تلك الحواس المعطلة ، وأقول جواهر لأن أنامل الشاعر الخيميائي تحيل التراب ذهبا وتجسد ألمنا المميت بـ ” كامل أناقته ” – راجع قصيدة ” الألم بكامل أناقته ” ، ص 61 – . والإستعراض الذي يقدمه الشاعر عن مكونات رأسه : اليد ص 33 ، والأنف ص 34 والأذن ص 35 والعين ص 36 واللسان ص 37 وأخيرا الفم ص 38 ، يأتي ، من جديد ، تحت خيمة الخراب السوداء التي ضمت أسرة المجموعة النصية كلها من ناحية ، ومتخمة بالصور الشعرية من ناحية ثانية ومتعشقة بالنصوص السابقة دلاليا ولغويا من ناحية ثالثة . لنقرأ قصيدة ” يد ” :
(( في الغرفة المشبعة بثاني أوكسيد الكاربون / والنوافذ مقفلة على أبوابها / تتشظى اليد لتعبث بخصلات الشعر المنهوك / أمام رأس مستباح / تتلوى كأفعى درداء خارجة من شرنقة الحواة / في قيء سفاهة حناجرهم / ثاني أوكسيد النايات ، يرسم على الأنفاس سورة / يبوّح للأبواب … ويغمز النوافذ / واليد كعادتها تقبض على ما ترمّد من فسائل الجسد )) .
وارتباطا بسؤالي الرؤيا والرؤية ، يمكننا القول من دون إطلاق منفر وتعميم لاموضوعي إن أغلب الشعراء القدماء قد أجابوا على سؤال الرؤية (كيف أكتب) ، وبعضهم بصورة رائعة ، لكن القليل منهم من استطاع الإجابة على سؤال الرؤيا ( لماذا أكتب ؟ ) ، والأقل هو من تمكن من المزاوجة العظيمة بين إجابتي السؤالين الخطيرين الكفيلتين بإنضاج كل منجز إبداعي دخل تاريخ الإبداع . وهذه المزاوجة الخلاقة رهينة في جانب كبير منها بثقافة الشاعر كما قلنا . يقول وديع في قصيدته : ” حين يتكلم الرمل في حضرته ويصدأ الكلام ” :
(( يا ” نرسيس ” وجهك في بئري ، والطائر في عنقك غاطس في ماء الحكاية / من أقاصي الشفاه .. قبلة سوداء يزفها القادمون على ظهور الخفافيش / يا متسولي رماد العنقاء … البيضة القادمة ستلد نعامة بيضاء / نعامة ترث لحاف الرمل وعين الصقر / أيها البئر الصامت ، الإخوة في مراياهم يدفنون جدائل الشمس / البئر هو البئر / من مدونة الصمت إلى السبع السمان / من تيجان الملوك إلى الشبق اللامع في سرير العزيز / من قدّ قميص حلمي ؟ )) . ومن قصيدة : ” عسل السماء وزرقة الفلاسفة ” :
(( في اليوم التالي لبدء الخليقة/لم يقل الله :إن الطريق للوصول في كنانة أحد/لم يقل الله:إن حجر الفلاسفة على مرمى عرينه/لم يقل:إن روما ولودة بالطرق / وسومر ممهورة بالحكمة والمسلات والطين والدم والآلهة / لم يقل الله : إن المدن مبغى والحكماء سبعة على مرّ الدهور )) .
أما في قصيدة : ” لحظة مكتنزة لرأس ماطر ” فيقول وديع :
(( يا كهنة الليل ، القيصر على العرش ، والببغاء نائمة / لماذا تضعون رأسي ساكنا في الفضة ؟ / يريد أن يرقص مثلكم أمام غيبة القيصر / يا دراويش الطريقة ، لماذا تهزون رأسي والقيصر نائم ؟ )) .
وفي هذه النماذج – المقتطعة من سياقها طبعا ، هذا الاقتطاع ، يخل بموقعها الدلالي ضمن إطار الصورة الكلية للنصوص – تتكشف خلطة عجيبة ومدهشة من الرموز والمخزون الفردي والجمعي من الأساطير السومرية واليونانية والموروثات المسيحية والإسلامية والحكايات الخرافية والمأثورات الشعبية وغيرها ، تعكس أدوات الشاعر المعرفية المقتدرة التي يجسد أداؤه فيها ذكرى كتاب ” تحولات ” أوفيد حيث تتبادل فيه الكائنات هوياتها ، فيتحول الرجل إلى صخرة ، وتتحول المرأة إلى موجة وتتحول الشجرة إلى إنسان ، والرغبة إلى بحر … إلخ ، وفي بحر الرغبة الشعرية الهائج غاص بنا ” وديع شامخ ” لنرى ” التحولات ” الشعرية الإحيائية الخالدة ، ونسمع : ” ما يقوله التاج للهدهد ” .
*- المقاطع الشعرية مأخوذة من مجموعة الشاعر ” ما يقوله التاج للهدهد” دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر -دمشق – 2008
……………………………………………………………………………….
قراءة وتأويل لمجموعة
( ما يقوله التاريخ للهدهد ) للشاعر وديع شامخ
تمثيل التجربة الحياتية شعريا
رياض عبد الواحد
تشتغل المجموعة الشعرية آنفا على مجموعة من السمات المشتركة التي تتقلب بين ما هو داخلي وما هو خارجي ، وخاصة القصائد الست الاولى . فالبعد الخارجي ينهض من التماثلات الذهنية الجارية في المخيلة ، اما البعد الداخلي فيشرئب من كينونة الاولى متخذا” صورا” رمزية . هذا التداخل يرتب كيانا” منشطرا” على نفسه يتم عبره التدخل مرة من الداخل الى الخارج ، واخرى من الخارج الى الداخل . هذه التداخلات يستلهم ابعادها التخيلية من منبع واحد هو الزمن الذي تدور في فلكه والذي يحفر مجراه من قوته المطلقة . فالبنية الرئيسة او النواة المركزية التي هي / النفق الذي هو رمز للمرور والانتقال ، او رمز للدخول الى حيز وجودي معين ، او الخروج من ذلك الحيز الى حيز اخر مغاير . وقد يأخذ النفق تأويلا” ابعد متصورات الشاعر الاسطورية ، اذ يرتبط // النفق بالحياة او الموت او العبور او اللاعبور، انه ( برزخ ) حياتي ، او نقطة عبور من الواقعي الى اللاوقعي ، او من الظلمة الى النور او من الموت الى الخلود . ان النفق هو الحياة او الوعي الذي يطبق في بعض الاحيان على صاحبه ، فقد ندخل النفق خائفين ولكن نخرج منه فرحين او يحصل العكس . وقد يوحي النفق الى تزايد الشعور بالوحدة والعزلة وااللاجدوى ….. وما الى ذلك من التأويلات .
اذا” المسألة الرئيسة في المتصور الذهني للشاعر هي رحلة الانسان الباحث في غياهب الوجود واسئلته المركزية . قد تكون تجربة شخصية بيد ان بعدها المركزي انساني ، أي انه تتوالد من نواة تنتج نويات جارية على ارض الواقع ، او باقية في خضم تلاطم الافكار وصراعاتها داخل الذات . ان عالم / النفق / عالم مبهم ، فضاء محصور واقع بنحو عياني لكنه مفتوح دلالي” انه الزمن المطلق بكل حيثياته ، هذا الزمن المنغلق في دائرة مبهمة لا نعرف بدايتها ولا نهايتها ، اذ انها تسير بخط متعرج بسبب من تلك التداخلات . هذه هي مقتربات الدائرة الاولى ، اما الدائرة الثانية التي يتحرك فيها الزمن فهي دائرة التوتر الذي ينتاب الشخصية المركزية ، وفعل التوتر هنا ليس عارضا” على تلك الذات بل انه جوهري ، اذ ان هذه الذات تستمد عزمها من قلقها حيال الكثير من معطيات الزمن الذي يعزل اكبر عدد من المفردات عن تلك الذات مما يجعلها عذراء . والدائرة الثالثة التي يتحرك فيها الزمن فتبدأ من تماسات حلم الراوي حيال ما يواجهه . فهو يعيد بواسطة حلمه صياغة زمنه ويضع اجوبته على اسئلة الوجود التي تثقل كاهله والتي لايمكن الاجابة عنها وهو في دمامة هذا التوتر .
كل يوم اشطب عاما” من التقويم ، ارفع مظلتي خوفا” من
سقوط رأس اليوم الجديد على حلمي
رأسي حائر يحمل هذه الحواس المعطلة
ان هذه الافعال افعال غير واعية لامور غير موجودة في الاصل بمعنى انها داخل المتخيل . انها نتاج اللاوعي الماثل في تخيل ما سيحصل من القادم . انه الخوف من ذلك القادم المتشح بلباس الزمن . فعملية / الشطب / هي بداية فعل التوتر لكن / رفع المضلة جزء من الحماية الذاتية لما سيحصل او حاصل بالفعل . لهذا ، يكون تحويل ماهو بصري الى ماهو رؤيوي به حاجة الى لغة تعمل في مجال الوصف ، لذلك جاءت الجمل بواسطة العدسة التصويرية الواصفة للراوي . انه يصور لكن صوره ناطقة . هذا الاستبدال بين ماهو بصري وماهو تخييلي يزيد من سعة توتر الذات الراوية ، وفي الوقت نفسه يزيد سعة خطاب تلك لانه في الاصل توتر داخلي منعكس بنحو ارادي على لغته ، حتى انه يعترف في الاخير بتعطل حواسه كافة
رأسي حائر يحمل هذه الحواس المعطلة
ان عملية وعي الحواس المعطلة جاءت متأخرة على مستوى الخطاب لكنها على مستوى التأويل محكومة بمقصدية الكشف عن المتصور الزمني الذي يلف وجود الرواي برمته ، والذي يدفعنا بأتجاه تحصيل المدركات العقلية التي لابد من تواجدها حيال ما ينبثر عن المغزى المتخفي في اهاب الزمن والذات والمواجهة له.
الايام حواس معطلة امام اشارة مرور تتصابى في حافلة
تشيخ في حديقة عامة
ايام رأسي لا قلب لها .
في هذا المقطع ينتقي الرواي صورة جاثمة في مخيلته عبر التداعي . فألاصق ما هو غير محسوس بما هو محسوس ( الايام حواس ) يجري بنحو مخالف للطبيعة العامة (( للايام )) فتعطيل الحواس امام اشارة المرور هو خرق لعرف متداول عام بيد ان عملية التصابي الملصوقة مرة اخرى بأشارة المرور . خروج اخر على ما هو مألوف كل ما سبق مرتبط بدافع او واعز داخلي غير مصرح به علنا” ، اذ ان الراوي يرفض ان يكون السبب وراء قلي هذه المتصوارات على الرغم من الجمل مشحونة بصور ذات سيرورة مقلوبة مما زاد من كفاءة البعد الرمزي الذي يحيلنا الى المقصدية الرئيسة التي في ضوئها يتبرئ الجسد من كل التهم الحاصلة في مداراته والتي تنطوي علة غائية همها الاول والاخير الادانة ، ادانة الذات حيال ما يجري ، او ادانة ماهو موضوعي ازاء الذات والاخر متمثلا” مرة بالزمن المطلق ، ومرة بالامكنة المطلقة بدليل القرينة الواردة في المقطع الثالث:
لاذنب لرأسي ، كان ينظر الطوفان
لاتموز امطر والباب خلف اب اوصدته المسامير
صيام في صيام .
هكذا يتخلى / الرأس / المركز عن إضفاء اللوم على كينونته ، اذ ا ن الراوي يرى إن الرأس كان بانتظار المخلّص / الطوفان / الذي يغسل كل الادران المتعلقة بالجسد . ان ياء النداء التي تحاول التشبث بالغيب هي خرط القتاد كما يقال ، او ( صيحة الغريق ) حيال ما يحل ويحصل . فهذا البعد الميتافيزيقي المتحصل في نهاية المقطع الثالث يرينا احد المسالك المقترحة التي يسلكها العقل وصولا” الى المبتغى حين تسدل الستارة على المسالك الارضية. اذن انه بحث في المجهول وعنه ، والذي يحاول العقل التشبث به من اجل خلاصه وخلاص الجسد / المكان الذي يأويه وبشقيه الذاتي والانساني عندما تستحيل الامور رمادا” . ان الراوي يبحث عن عنقاء جديدة تخرج من ركام الاجساد / الرماد الذي خلفته سنوات العمر وارهاصات الزمن / المطلق /.
تتكرر هذه المقصدية في قصيدة/ خارج النفق / لكن الرؤية – هنا – تأتي من بنية خارجية تشخيصية من دون تحوير ماّلات تلك الرؤية ، او مجرياتها بسب ان تلك الذات منقسمة على نفسها من خلال ذلك التصارع بين اجزائها الفاعلة في عملية الوجود بشقيها العام والخاص . فالتصارع مخبوء وراء الجسد حيث يمكن إن يكون الرأس وسيلة قهر ، أو ربما يكون الجسد وسيلة لإشباع رغبة عابرة أو قد يكون القلب مركزا” لنفث السموم الصفراء . أنها تتصارع بغية السيطرة والهيمنة على المكان والتربع على العرش من اجل إن تلبس التاج ، تاج الهيمنة والسيطرة والتحكم بكل الأجزاء الأخرى . إن الجسد هنا قناع ظاهري تتحرك بواسطته كل الصراعات التي تنتجها أعضاء ذلك الجسد . ففك الاشتباك هو استبيان للأمور على حقيقتها ومحاولة رسم صورة جلية للجهة المسؤولة عن هذا الغثيان الروحي . إن الخط المغذي بين الرأس والجسد من كل معطيات الوجود هو الذي يتحكم بالعملية برمتها، لذلك فان ثقل عامل الزمن بكل حيثياته على / متاهة الجسد / قد افقد ذلك الجسد ، وذلك الرأس ، فعلهما المؤثر والصحيح حيال ما يستجد من أفعال الزمن .
إن التوكيد على المغزى الوظيفي للمفردات انفا” يبلور مغزى الوجود ، اذ إن تصادم هذه الأعضاء يعطل فعل الحياة ، او يقلبه بنحو غير سليم .
إذن الدعوة إلى / فض الاشتباك / دعوة إنسانية كي يبقى هذا الكائن فاعلا” في وسطه وإلا حدث ما لايحمد عقباه كون الخلل الحاصل في احدها سينعكس سلبا” على المجمل العام .
في قصيدة / نور في نهاية النفق / تتمرأى امامنا صورا” ذات استعمال مجازي / رمزي ، ويبقى النفق / هو البؤرة التي تتفرع منها البؤر الاخرى
ثم انه الماّل الذي بان بريق الامل في نهايته . يشكل / النور / البؤرة / الامل ، وانه بحد ذاته أي النور مناقض في كينونته للنفق في بعده المغلق ، وهذا ما يحيلنا الى ان العنوان يحمل دلالتين احدهما خارجية تتمثل في / النور / واخرى داخلية تتمثل في / النفق / ، وان المتحصل من هاتين الدلالتين هو ما يجري في كنفهما . ان الزمكاني – هنا يتعاضد لانجاز الصورة الشعرية التي تمليها المحذورات : لاتشرح ، لاتجعل ، لاتدع . هذه القرائن هي جزء من بؤرة التوتر الممتدة على جسد القصائد والتي مردها الذات القلقة حيال اسئلة الوجود التي تلح عليها زمكانيا” . على المستوى التأويلي هذه اللاءات تكبح تحقيق ماهو مرجو وان كان هذا المرجو حلما” بدليل القرينة المتمثلة في اخر سطر من المقطع الاول
انت في الحلم ، لاتدع النهارات تسكب قيلولتها على الرؤيا
ان هذا السطر يوحي اكثر مما يدل ، اذ ان الراوي لم يجد مسلكا” للخلاص الروحي سوى الحلم الذي يحدد نطاق العمل على المستوى السوقي . انه يكتسب بعده الوجودي مما يحققه على مجال الرؤيا . هذه الكوامن الحلمية تشي بمجموعة من الموحيات المتناقضة ، مرة مع ما تصف ، ومرة اخرى مطابقة لما تصف . فاختلاف هذه المرجعيات سببه استجابتها للتوتر الحاصل في داخل الذات وكأنها تعي ما يحدث لتلك الذات التي هي الوعاء الاكبر لها . تتداخل صورة ( المعاطف ) المكررة مرة على الجسد واخرى على الاشجار مع صورة المعطف البال لـ( وليم بتلر ييتس ) في قصيدته الرائعة ( الابحار الى بيزنطة ) . انها صورة جميلة جدا” تلك التي جاءت في المقطع الاخير من القصيدة . فعملية الفصل الحاصلة بين الرأس والجسد هي فصل بين ماهو زماني وما هو مكاني ، اذ ان الرأس بما يمثله من مركز بكل الحوادث والاحساسات والارهاصات هو الذي يمثل الزمن في بعده التأويلي . في حين ان الجسد هو المحتوى / المكان / الذي تتصارع فيه كل تلك الاعضاء لهذا يصر الشاعر على ابقاء الجسد معلق وليس متصل بالجسد . هذا الفصل – التعليق مستند الى سمات موضوعية تتعدى حدود ما هو جسدي الى ماهو عقلي راق . كما ونلاحظ تلك الخيبة التي يسجلها الراوي ضد نفسه بسبب من المراوحة الكليلة التي يمارسها الرأس مع الزمن بواسطة فعل التكرير .
ان هذه المجموعة اكبر من ان تقرأ على هذ1ه العجالة اذ ان الشاعر يمتلك ناصية الفن الشعري الرفيع الذي به حاجة الى دراسة متأنية .
…………………………………………………………………………………………….
قراءة في مجموعة الشاعر وديع شامخ
” ما يقوله التاج للهدهد”
أخبار الهدهد… وجذوة الشعر المتقدة
جمال البستاني – سدني
إن تجربة الشاعر العراقي وديع شامخ لم تنشأ من فراغ، بل جاءت من خلال سعي حثيث وتجريب وتنقيب عن جوهر الشعر العميق . ولا أغالي اذا قلت ان ” وديعا” تميز عن الكثير من أقرانه بخاصية تحسب له، وهي انه لم يمتثل لشروط الاغتراب المكاني عن لحظته الشعرية ، بل ظل متمسكا بجمرة الشعر، إنه شاعر الجذوة المتقدة التي لم تنطفيء أبدا ، ذلك قدره وهو ،كما يبدو،سعيد بذلك.
دعوني الآن أدخل عالم وديع شامخ الشعري، بدءا من العنوان نبدأ بالتساؤل، لماذا أطلق ذلك العنوان المفارق والغريب وهو ” ما يقوله التاج للهدهد”؟، انه عنوان مثير وفيه من الايحاء الكثير .
لم يكن اعتباطا أو وليد رغبة عابرة في صناعة عنوان جاذب وصادم معا ، بدليل انه لم يقل ” مايقوله الهدهد للتاج” وهو ما نعرفه عن الهدهد في الميثيولوجيا والتاريخ بأنه طائر موكول له وحده بمهمة التجسس والإخبار، أما التاج فهو رمز ” السلطة” والقهر .
الهدهد هنا مغلوب على إمره بل لا أمر له ليغلب عليه.، فالعنوان إذن مقصود تماما من قبل الشاعر، وتلك قصدية معرفية تنم عن وعي الشاعر بالتاريخ وتقلبات الزمن .
هناك ارتباط وعلاقة زمانية ومكانية بين لحظة الشاعر العابرة وبين تاريخ يدينة الشاعر بقوة ليس عبر تدوينه، بل مساءلته بأدوات شعرية وبوعي لتاريخ الألم الممزوج بالمرارة والحسرة وهناك تربص وإدانة لأخطاء التاريخ ،
ان في ذهن الشاعر تساؤلات فلسفية عميقة ،، لا يعطينا جوابا لها بل يتركنا نبحث عن سر وجودنا ، انه يضعنا في دوامة ذلك السؤال الكبير والعميق عن الوجود الانساني .
الشاعر وديع يضعنا في حقله الواسع الاخضر ولكن بسوداوية !!
كيف تسنى له ذلك؟؟ انها الموهبة الشعرية المعجونة بالرؤيا العميقة والوعي بجوهر الشعر الحقيقي لا غير .
وهنا نرى الحكمة الشعرية الذي تتضح في المقطع التالي من نص ” نور في نهاية النفق ص12″
لا تشرح للقملة سر المبيدات
أشرب صباحك وترا للابدية
لا تجعل وظيفة أصابعكَ أشارة للنهاية
التقاويم تمطر رأسها لسلّة اليوم
لاتدع النهارات تسكب قيلولتها على الرؤيا
……………….
الملاحظة التي يخرج منها القاريء لمجموعة” ما يقوله التاج للهدهد” ، هي أن الشاعر لم يتقولب في مناخ واحد كما في مجاميع كثيرة لشعراء اخرين ، بل انه يمتلك تنوعا في التكنيك والموضوعات ، وقصائده َسلِسلة جدا وتذكرني بقصائد الشاعر الفرنسي الكبير ” جاك بريفير”
لنلاحظ نص ” كرنفال ص54″
لقد تعرت الموسيقى
ماذا تريدين من شحاذ اللذة ؟
التوبة في قوس
والرب لا يمطر مرتين.
تعرّي ايتها الرغبة الآتية ، وأنا أتكاثف على الزجاج وأمطر ،
منتظرا مجيئك في زحمة الكرنفال.
……………
وظيفة الشعر
السؤال هنا .. هل ان للشعر وظيفة أخرى؟؟
نعم . لقد اوجد وديع شامخ وظيفة أخرة للشعر وهي ان ننصت بكل حواسنا وبعمق وان نفكر ، ونعيد حساباتنا تجاه الكون والوجود والمصير الانساني برمته .
إن الشعر لديه صعقة ولكنها صعقة غير قاتلة ، بل صعقة لذيذة تعيدنا الى بداية السؤال دائما ،
كما نرى في النص المعنون” غابة الشوك .. او لمن افتح بابي ..ص45″
لم يعد لديّ متسع لإنفاق أحلامي على قارعة الحياة .
مضيت..
الى مجاهل روحي ، اتسكع بها .
أخرج بيضة السؤال من دجاجة العقل …
الى أين امضي انا المقذوف بصرخة الى الحياة
أنا الحيمن السائر سريعا الى نصف قبره!
بذا يكون وديع شامخ قد امتلك رؤيا شعرية ناضجة ، وادوات عالية الاتقان والمهارة .. وهذا يعني وجود مخيلة خصبة ووعي حاد ومجسات مرهفة تلتقط مايدور حولنا بدقة من أحداث ووقائع .. ان الشاعر يضعنا في لحظة التاريخ المرّ دون جغرافية محددة . قد نكون معه أو ضده فيما يدونه من اخبار تاجه والهدهد لكننا نشعر دائما بلذة الشعر وانطلاقه .
انه شاعر الانعتاق من قوالب ومحددات الشعر .
في نص ” حدائق الحياة.. 86″
أشدو وتصمت الببغاء
الريش لا يسع القفص
القفص يعني أنك لا زلت تغني
الغناء لا صنو له
ثمة حياة هناك لابد من السير اليها
بأقدام حافية من القرون والببغاوات !
………
الشاعر وأسئلة الوجود والألم
هناك تردد لوجع أبدي، لكن الشاعر هارب بأسلئته التي يبثها علينا دون أجابة ويتركنا في حيرة مع اسئلته المثيرة والتي تحمل في طياتها الشفافية المفرطة في العمق.
هكذا يتم التساؤل في نص ” اي جنون ص87 “..
أن تركب حمار اليقظة للوصول الى معنى الحلم
أن تصبح واعظا للحمقى
أن تقف في الطابور لقضاء ذات الحاجة
الطمأنينة ماخورة
واليقين قبعة ،
عرق الجبين لا يعني حسن المساجلة .
الندم الرخيص يعلّق يومه على شماعة الجبين البليل.
يمطر الندم ويرغي ، طوافانات من الثغاء على الرقاع الأول ..
الذي ينعم بطمأنيته خالصة..
عند وديع شامخ هناك سفر من الوجع والذكريات الموجعة في آن واحد ، إذ ان وعي الشاعر يحيلنا الى منظقة الوجود ، وجودنا نحن . أنه خطاب للآخر الذي يسمع دواخلنا ويفكر عنا ، نحن المسكونون بالألم ، انه الهاجس الجمعي والسؤال الذي يبثه الشاعر بقوة في نصه ” خارج النفق.. ص8″
بين الرأس والجسد والقلب ،
لابد من فضّ الاشتباك..
من ْ يسأل وردة الليلك عن سوادها ؟؟
من يُوقظ زهرة الصباح؟
أيام رأسي تتكوم على متاهة الجسد.
…..هكذا يبوح الشاعر دون تزييف او تملق ، حتى ترى ملكوت الشعر لديه لا يتأتى من خلال اللعب بالكلمات أو الفلذلكات الاسلوبية التي شاعت في الشعر الحديث وخصوصا في قصيدة النثر ، ان الشاعر يمتلك اسلوبا شعريا ناضج فكريا ، طارحا من خلال نصوصة رؤية واسئلة جدلية حول مصيرنا ” كبشر ” في العالم ، انه يتمثل الوجدان الانساني عامة، وكأنه يحمل عنّا أثقالا مهوله .. يالها من أحمالا ثقيلة ، ويالها من لذة حين يدوّن اسراره وأسرارنا في نص ” المهلكات يطرقن الباب .. ص 57″
هذا الباب لا يحفظ سرا
كان ريحا ، تناهبته الوشاية ..
كان صوفا أدركه نول الساحرات .
كان حجرا .. فباتت الأصنام على خلوته ،
صار خشبا ، فأينعت مطارق النحاس على كوابيسه ..
أين يذهب الباب والملوك يصنعون رعاياه.
……………..
تجربة ناصعة الجبين
أخيرا ربما لا يعرف الكثير من القراء الظروف التي أحاطت بتجربة الشاعر وديع شامخ ،
فقد شهد الشاعر الحروب الطاحنة التي جثمت على صدر العراقيين منذ الثمانينات ، والتي تسببت في تشتيت المبدعين في جبهات القتال وفي حرب قذرة ودون معنى ، ومنها رعونة احتلال الكويت وفترة التسعينات وحصارها ، لقد كان وديع شامخ واعيا لمغريات اللعبة ، لذا ابتعد عن بيع ضميره للطاغية وكان شاهدا وضحية ، مبتعدا ومهمشما بقصد عن لعبة المؤسسات الثقافية والاعلامية ” انذاك” وعلى عكس الكثيرين من الذين باعوا أنفسهم للشيطان والذين قايضوا الحياة تحت معاطف الديكتاتور مقابل نصوص صفراء لوثت الحقل الثقافي العراقي وشوهت ذائقة الانسان الجمالية . وكان وديع شامخ أمينا على تجربتة ،يصغي الى نداء روحه مع دويّ المدافع والموت اليومي المجاني ، يطوّرها بدأب وصبر وثقة مسنودة بموهبة ووعي حادين، حتى كان له ما أراد من خلال ما نشره من إبداع شعري ونقدي في حقل الأدب والسياسية والتاريخ وحيثما سمحت له الظروف الجديدة قبل وبعد سقوط النظام الديكتاتوري في العراق . فقد كان حصاده : نشر مجاميعه ” سائرا بتمائمي صوب العرش، البصرة 1995″ ودفتر الماء ، بغداد 2000، ومايقوله التاج للهدهد ، دمشق 2008، وكل هذه المجموعات طبعت على نفقة الشاعر ودون دعم او مباركة من مؤسسة رسمية ، هذا غير الدراسات والمقالات في حقول الادب والتاريخ والسياسة التي نشرت في معظم الدوريات والصحف والمجلات العراقية والعربية، وهو الآن يعيش في استراليا في ولاية سدني و يستعد لإصدار مجموعته الشعرية الجديدة ” مراتب الوهم ” وروايته المخطوطة منذ عام 2004″ العودة الى البيت “……………………………………………………………………………………………….
الشاعر وديع شامخ في
( مـا يـقـولـه الـتاج لـلـهـدهـد ):
أسـئـلـة مـثـقـلـة بـهـمـوم الـتـأريـخ والـهـوامـش والـتـفـصـيـلات الـيـومـيـة
مكي الربيعي *
الـكـتـابـة بـالـنـسـبـة لأي مـبـدع شـيء عـسـيـر ، أنـهـا أشـبـه مـاتـكـون بـالـولادة الـمعـقـدة ، حـيـث يـرى الـمـبـدع نـفـسـه أمـام مـسـؤولـيـة جـسـيـمـة وهـو يـواجـه الجـمـهـور، ولـذا أعـتـرف أنـنـي وجـدت صـعـوبـة بـالـغـة فـي الـكـتابـة عـن شـعـر وديـع شـامـخ ، لـيـس الـصـعـوبـة بـمـعـنـاهـا الـحـرفـي وإنـمـا بـمـعـنـاهـا الـراكـس فـي قـعـر الـكـلـمـة .
وأعـترف ثـانـية ، أنـنـي لـم أجـد فـي شـعـره الـكـثـير مـن الأشـارات الـمـعـلـنـة
الـتـي تـدلـك عـلـى مـقـاصـده ، وإنـمـا تـجـد نـبـعـا ً يـقـودك نـحـو بـريـة واسـعـة ٍ ،
يـكـتـنـفـهـا الـغـموض والأرق والأغـتـراب .
يـعـتـقـد أودنـيـس أن قـرار هـدم الـبـنـى والـثـوابـت الـتـي تـحـيـط بـالـلـغـة واحـدة مـن الـمـهـمات الـرئـيـسـيـة الـتـي تـدفـع بـالآخـر الـمـتـمـسـك بـالـقـوالـب والأشـكـال إلـى نـعـت الـمـبـدع بـالـمـدمـر والـهـدام ، وهـذا الأعـتـقـاد مـن وجـهـة نـظـري لـيـس فـتـحـاً
شـعـريـاً ، وإنـمـا هـكـذا هـي حـركـة الـتـأريـخ ، تـذهـب دائـمـا ً وأبـدا ً نـحـو
الأنـزيـاح ، لـشـعـورهـا الـمـسـتـمـر أن الـكون مـازال نـاقـصا ً ، وأنـنـا مـازلـنـا بـحـاجـة لـلـبـحـث عـمـا يـنـقـصـه ، وهـذا مـايـريـد أن يـعـلـن عـنـه شـعـر وديـع شـامـخ .
ولـذا يـمـكـنـنـا وبـبـسـاطـة الـعـثـورعـلـى رابـط سـري بـيـن مـا يـكـتـبـه وبـيـن مـا تـنـشـد إلـيـه الـصـوفـيـة ، لـمـا تـمـتـلـكـه مـن قـوة الأيـغـال فـي الـمـحـذورات ونـسـف الـمـرجـعـيـات الـعـقـيـمـة الـتـي تـرى فـي الـثـوابـت مـركـزا ً لـهـا .
لـقـد حـاولـت الـقـصـائـد الـتـي قرأتـهـا ، الـوقـوع عـلى الـجـزء الـنـابـض والـحـي فـي الـلـغـة وخـاصـة مـاهـو يـومـي :
( يـاصـاحـب الـنـخـيـل : الـخـمـرة جـفـت )
( هـؤلاء جـعـلـوا لـلـحـلـم قـصـاصـا ً )
( الـعـائـلـة تـشـارف عـلـى الأنـقـراض مـن يـومـي )
( كـم نـحـتاج مـن الـمـاء لـنـحـنـي عـنـق سـنـبـلـة فـي الـحـقـل ) .
هـذا الـشـائـع والـمـلـموس الـذي إســتـخـدمـه وديـع فـي قـصـائـده أراد أن يـقـول لـنـا مـن خـلالـه أن الـشـعـر لايـعـبـر عـن الأضـواء الـسـاطـعـة فـحـسـب وإنـمـا عـن الـظـلال الـممـوهـة ، ولايـكـتـفـي بـمـشـاهـدة الـحـقـائـق مـن الـخـارج ، وإنـمـا يـتـصـل بـهـا ويـتـحـد مـعـهـا .
لـم يـكـن إسـتخـدام الـعـاطـفـة فـي شـعـره صـدفـة عـابـرة أو لـعـبـة شـعـريـة يـراد مـن خـلالـهـا إسـتـدراج الـمـتـلـقي ، وإنـمـا هـي ظـهـور تـلـقـائـي تـنـبـعـث مـن بـيـن ركـام أسـئـلـتـه الـتـي تـبـحـث عـن جـواب الـشـعـر ، تـلـك الأسـئـلـة الـمـثـقـلـة بـهـمـوم الـتـأريـخ والـهـوامـش والـتـفـصـيـلات الـيـومـيـة ، والـتي يــحاول مـن خـلالـهـا إسـتـعـادة تـوازنـه الـنـفـسـي والـرجـوع إلـى شـخـصـيـتـه الـجـوانـيـة .
رغـم بـلـوغـه ذروة الأنـفـعـال فـي قـصـائـده ، إلا إنـه لـم يـتـخـل عـن الأمـسـاك بـالـذاكـرة ، لـذلـك نـراه يـتـعامـل مـع الـهـامـشـي بـمـوضـوعـيـة عـالـيـة ، لإعـتـقـاده
أن فـي الـهـامـشـي تـنـوعـا ً مـن الـتـحـولات الـتي بإمـكـانـهـا ، إحـالـتـنـا إلـى الـذاهـل الـذي تـسـعـى الـكـتـابـة لإظـهـاره إلـى الـعـلـن .
وأنـا أقـرأ قـصـائـد مـجـمـوعـتـه الـشـعـريـة ( مـا يـقـولـه الـتاج لـلـهـدهـد ) وجـدت فـيـهـا رعـبـا ً هـائلا ً ، وكـمـا ً مـن الأسـقـاطـات الـمـعـرفـيـة ، لـذلـك كـان شـعـره بـالـنـسـبـة لـي أقـرب مـايـكـون إلـى الـسـرد ، وكـأنـه أراد مـن خـلال هـذا الـسـرد أن يـدون سـيـرتـه الـذاتـيـة ، وتـجـربـتـه الـخـاصـة الـتي يـعـتـقـدهـا تـعـنـي الآخـر بـل
وتـرتـبـط بـه ، بـل هـنـاك حـبـل سـري يـوصـلـهـا بـذوات الآخـريـن .
(( كـل يـوم أشـطـب عـامـا ً مـن الـتـقـويـم ، وأرفـع مظـلـتـي ، خـوفـا ً مـن سـقـوط
رأس الـيـوم الـجـديـد عـلـى حـلـمـي )) .
إنـه يـحـاول أن يـخـلـق شـكـلا ً مـغـايـرا ً لـواقـعـه الـيـومـي لـيـدرء بـه الـفـاجـعـة ، هـكـذا نـجـده دائـم الـتـحـفـز لـمـواجـهـة مـصـيـره الـمـجـهـول والـملـيء بـخـسـاراتـه
وخـيـبـاتـه بـكـل مـا يـصـدم الـذاكـرة .
أن وديـع شـامـخ دائـم الـبـحـث فـي قـصـائـده عـن الـثـمـرة ، تـلـك الـمـجـهـولـة الـشـكـل
لـيـس لـهـا صـفـات مـحـددة ، ألا أنـه كـان يـراهـا مـحـلـقـة مـثـل الـحـلـم فـي رأسـه ،
كـلـمـا حـاول الأمـسـاك بـها تـسـربـت مـن بـيـن أصـابـعـه .
ثـمـرة الـشـعـر بـالـنـسـبـة لـه ، تـضـاد بـيـن حـقـيـقـتـيـن تـتـمـثـلان بـطـبـعـيـة مـفـرطـة فـي حـقـائـقـهـا ، وأخـيـلـة سـريـة تـنـشـط فـي حـفـر الـحـلـم ، بـإعـتـبـار أن أي عـمـل إبـداعـي يـنـبـثـق مـن الـجـوانـيـات الـلا واعـيـة لـلـشـاعـر ، وإنـطـلاقـا مـن هـذه الـرؤيـة يـعـنـي الـشـعـر بـالـنـسـبـة لـشـامـخ أكـثـر مـن قـضـيـة شـخـصـيـة .
أيـمـكـن لـنـا أن نـفـكـك فـي هـذه الـشـهـادة مـغـالـيـق نـصـوص وديـع شـامـخ ؟
لـيـس بـمقـدور أي مـن الـنـاظـريـن إلـى الـشـعـر بـقـدسـيـة ، أن يـأخـذ دور إبـن جـنـي
وهـو يـقـوم بـشـرح قـصـائـد الآخـر ، فـيـحـولـهـا إلـى كـلام بـسـيـط ٍ فـاقـد الأهـلـيـة ،
أن روعـة الـشـعـر تـكـمـن فـي أخـذه كـلـيا ً ، ولـيـس تـفـصـيـلا ً مـمـلا ً يـضـع عـصـا الـركـود بـيـن عـجـلـة الـنـهـر الـجـاري .
ثـمـة لـغـز ٍ أو دلالـة ، تـحـيـلـك إلـى جـمـال الـقـصـيـدة الـكـلـي ، ولـذلك نـحـن بــحـاجـة دائـمـيـة لـوجـود نـاقـد يـركـس فـي قـعـر الـمـحـبـرة لـيـسـتـخـرج لـنـا
لـون الـحـبر الـسـري الـذي كـتـبت فـيـه الـقـصـيـدة .
عـلـى أسـاس هـذا الـمـعـنـى بـقـي سـؤال يـلازم الـشـاعـر حـتى قـصيـدتـه الأخـيـرة ،
سـؤال مـقـلـق ، لـم يـجـد لـه إجـابـة كـامـلـة الـمـلامـح :
مـاجـدوى الـكـتابـة مـادام الـعـالـم مـعـبأ بـكـل هـذا الـسـوء ؟ .
*- شهادة القيت في أمسية شعرية أقيمت للشاعر في مدينة سدني – استراليا مؤخرا.
…………………………………………………………………………………………………
في ما يقوله التاج للهدهد ، للشاعر وديع شامخ
جمال حافظ واعي
دلالة العنوان، في مجموعة وديع شامخ ( ما يقوله التاج للهدهد ) الصادرة عن دار التكوين في دمشق عام 2008 ، تهيّج مجسات الاستشعار وصورته المحتشدة مفتوحة على الأزمنة، وما يقوله التاج هو محاولة لإسترداد أناه المختطفة، فالهدهد هو الذي يقول على الدوام في مرويات التاريخ والتاج ينصت له!
وهو الذي يخبر التاج عما جرى ويجري، وخلف كل هدهد يتخفّى نبأ قادم سيوقف الخلائق على سر عظيم.
فالهدهد هنا ذات عارفة (أحطتُ بما لم تحط به) كما جاء في سورة النمل الآية 22، تحاول الانعتاق من طوق اللغة لتسبق بيانها.
انه شاهد متقدم على بريد الزمن المتأخر دوما.
إذا كان الهدهد في كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار هو شيخ المريدين والراوي ومرشد الطيور في رحلتها العرفانية لبلوغ جبل قاف والوصول الى طائر السيمرغ الذي هو رمز السر الإلهي وحقائق اليقين، فانه في هذه المجموعة ،يمثل خلاصة النزوح الدامي الذي يجرده من دلالاته الماورائية لينزاح الى انفاق الوجود وقيعان المدن المنكوبة:
أنام على فتوى ، وأصحو على طريقة
منتظرا أقواما تجيء أو تهبط ،
هاربة من فزعها..ص27
فقد أستنزف الهدهد وجوده في صراع غير متكافئ وكان هبوطه من الأعالي – المتوهمة – خديعة، وقد اكتشف بأنه ليس الديدبان أو الرائي الذي يقف عند النهايات ليزودنا باخبار الماوراء والأماكن القصية بل استبدل دوره وانقذف في تيه المدن المنذورة للغياب الثقيل والكوابيس المرعبة:
و ( قمرها الغاطس في الوحل ) ص100 صورة لهذا الغياب
و (أصنامها التي فخرتها الشمس ) ص100 تم تأهيلها لتُزج في تاريخ هذه المدن!
انها صورة مواجهة، فمن التخوم المقابلة للاسطورة تبتدئ الحكاية حيث الهبوط من:
( سماواتي الحامضية المدججة بالأوحال. ) ص94
(أيام رأسي تتكوم على متاهة الجسد.) ص7
(جثة متعفنة تقود رأسي إلى متاهة اليوم التالي.) ص5
(اشرب من زمهرير الأجساد. ) ص94
حتى ليبدو ان هبوطه كان صعودا من طراز آخر وكأنه يبحث عن سماء مقابلة!
( غير آبه بسورة الغياب. ) ص94
فحياته المنتهكة في الفضاءات اللزجة جعلته بلا معنى وهو يدوّن حماقة ما قبل الهرم والانطفاء، وفي لحظة مناجاة يائسة يخاطب نفسه:
(تفتح جرحك المتقيح لشهوة الحكايات. ) ص96
( الليل لي، أريد أن احلّق خارج النفق.) ص9
ربما كان حديث التاج للهدهد خارجا من وثوقية المرويات، إلى وثوقية أخرى او تدوين لاحق لها يتخذ شكل المفارقة أو الفخ التاريخي المحوّر على هيئة سؤال:
( أليس من الحق أن يكون الطريق صالحا لعبور الحمير وعربات بيع المأكولات الشعبية، وفي ظلاله وعلى جوانبه تنامُ كتب الفلاسفة ببلاهة وحرّية …!!؟ ) ص17
ان النزوح الى الغابة، الأمثولة التي صنعها الفلاسفة، هو ما تخبر عنه الجاهزية والاستعداد الفطري والإرواء الغرائزي للتطرف حيث تتناسل:
( طوابير العبيد على الطرق المعبدة ) ص 19
لتأهيل ( غابة من كوابيس ) ص21
ثمة مرارة تحاول المجموعة تجسيمها ومن ثم ترحيلها من المجاز الى صورها الناطقة، وثمة تبادل للادوار في هذه الانطولوجيا الزمنية التي تكشف عن نموذجها الإرتكاسي عبر موتيفات باهرة تحاول ان تعيد المجرد الى صورته الأصلية.
كما ان التماهي مع الاشياء يحررها من سطوتها دون انمساخ الهوية او الشخصية التي تدل عليها، فالكل مستدعى لنزع الأقنعة واستبدالها بشخصياتنا المهملة، تلك التي طال المقام بها في النسيان الذي يجبرنا على المجاهرة باسمائنا كذريعة!
يقول الشاعر في قصيدة ( النول يتذكر):
تأتي الملوك وتذهب
والمُلك يذهب أيضا
ويذهب القضاة..
يتوالى السيافون والرواة
والولاة يتناسلون على الغزول
النول لا يتذكر هل كان فراشا لنزوة القاضي أم سرجا
لحماره!
النول لا يعرف كم مرة صار نطعا
حين تذكّر النول تاريخه…
أحيل على التقاعد بتهمة خصخصة النسيج الوطني
وإخفاء الفضلات المحرمة
لابد للنول أن يتذكّر!! ص52
اننا ذروة الفقدان، المهووسون بالرثاء، نبتكر الموت قبل ان تأخذنا الخرافة الى لعبتها، تلك اللعبة التي تداعب التاريخ كذكرى لم يبقَ منها إلاّ مراياها المتدافعة مع وجوهنا، حيث:
(نشم رائحة الهدهد المذبوح وسط قبورنا.) ص53
لقد خرج الشاعر من بيضة الحكاية وأوكسيد الرطانة، كما يقول، ليقدم حياته هدية للأحلام المصابة بتشمع الحواس؟
إذ يتصابى ( كديناصور معاد في حفلة تنكرية) ص39
( في مساء المرايا العامر بالصدى، يقدم رأسي على طبق من نشوة.) ص23
وكانت تخطيطات الفنان المبدع خالد خضير، المرافقة للنصوص، تحليقات منفتحة على العالم الذي تنشده القصائد من حيث قدرتها على التجسيد والاختزال.
استراليا ja_waai@yahoo.com
……………………………………………………………………………………………..
غربتان
صلاح الدين شكي
شاعر وكاتب من المغرب
سـلام الله عـليكم
وبعد:
بدءا، أخي وصديقي الألمعي وديع شامخ لك مني اصدق التحية والتقدير
حدث لعمري جميل ان يكرم المرء منا في بلده،حيث ان لبسمة ذوي القربى بالغ الأثر في نفسه و لأشد مرارة عليه أن يغرب غربتين؛ غربة ذات تستلزمها رؤياه الابداعية النازحة نحو تغيير العالم بفعل شهوة عارمة تأتي في الأصل من داخله ،وغربة المكان والتي تكون إما إختيارا أو غصبا تمليها ظروف الشخص الذاتية والموضوعية. أما الاولى؛ فتلك فرادة المبدع باعتباره “كـــــــائـــنا مضاعــــتفا” كماقال الروائي ميلان كونديرا إذ يعيش استثنائيه من خلال حيوات غيرية بسبب كونه اجتماعي الطبع وعضوي الثقافة أي أن الابداع لديه يتجلى في”تحــرير الآخـر فيـه”.
والثانية غربة تكون إختيارا أو غصبا دون عنتباه لباطريركية المكان، لأننا ببساطة شديدة ” نسكن مـدنا وأخرى تسكننا”
وفي هذه الحالة وديع ما أجمل ان تسكن البياض فهو وطن من يركن الى متعته القلقة ككينونة وجودية تتخلق تضاريسا لجغرافيا الذهن عبر سواد الحروف والكلمات.
وديع،يابوح الهدهد الجميل:
من سؤال الأنا الشاعرة حول الطرافة والجدة تكون الإضافة رغبت أن تصلك بعض انطباعاتي الخاصة عن قولك الشعري الجميل وأن تتأكد بأن قراءتي العاشقة والمفصلة لمجموعتك الشعرية الثالثة ستكون منجزة في المستقبل من الأيام.
وقبل الختم أود أن أتوجه بالشكر الجزيل لكل من فكر في جمع المبدعين حول خوان كلمة تحوي جميل القول وبديع الصور.
إخوتي الكرام كتاب البصرة أرجو ان تتقبلوا مني تحية الإجلال والتقدير ومن خلالكم كمبدعين أعلن تضامني المطلق واللا مشروط مع شعب العراق الصامد وأتمنى خالصا أن تنزاح غمة الإحتلال عن بلدكم الكريم.
والسلام
بني ملال: الأربعاء 30 دجنبير 2009
……………………………………………………………………………..
الشامخ بتاجه والهدهد ….الوديع حبا غضا
حبيب السامر
كان يتردد أسمه بين الأصدقاء… يتذكرون يومياته، شدني التوق الى معرفته، رغم إني لم أعرفه شخصيا، أقصد لم ألتق به سابقا وجها لوجه في البصرة،
مرت الأيام، حتى وجدت هامشا وتعليقا جميلا على أحدى قصائدي المنشورة
وأتذكر جيدا إنه كتب لي:
ــــ أيها النورس البصري
كان النت وسيلة رائعة، أضفته الى قائمة الأصدقاء، وتواصلنا .
حين أجد أيقونته صفراء .. أي انه موجود أفرح في سري.
وديع شامخ موجود.
قبل أن أبادره بالتحية المعتادة ، كان يسألني عن الأصدقاء.. وسؤاله الدائم
كيف حال البصرة؟
كيف حال فلان وفلان ولاينسى أحدا أبدا
أحببت فيه روحه التواقة الى ان يتسلل الى مسامات المدينة بالسؤال .
ونبدأ حوارنا ولاينتهي رغم فارق الساعات بيننا وبين سدني
نتحاور في الشعر، الأنسانية، يومها أرسلت اليه ( رماد الأسئلة ) فرح بها
وتواصلت معه حين أصدر مجموعته ( مايقوله التاج للهدهد ) وبقينا على تواصل دائم.
مبارك لنا التاج … الهدهد … المنجز .. وحتما نبارك وديع شامخ ونحن نتشمم عطر محبته للبصرة وللأصدقاء من خلال كتابه.
حقا له عبق بيوتاتنا وشوارعنا وله اشراقة ضوء
هنيئا للقلم ومايسر في حضرة الابداع
لك ايها الصديق – وديع شامخ – وهج فرحنا وامتنانناحين أهديتنا التاج ولم تبخل به علينا وهو لك.
وأهديتنا الهدهد وهو ينطق بحروفك… وهو لك
الفرح كل الفرح لك أيضاً
أيها المبدع يوم كنت هنا ويوم غادرتنا ويوم تتشمس تحت سماء سدني
أيها الحاضر بيننا
كن بخير … انت هنا… رغم انك هناك
نحتفي بالشعر اينما يكون دائما .. بالتاج .. بالهدهد .. بالحروف
………………………………………………………………………………………..
الشاعر مكي الربيعي:
” وانا أقرأ قصائد ( مايقوله التاج للهدهد )وجدت فيها رعبا هائلاً، وكما من الاسقاطات المعرفية :( كل يوم أشطب عاماً من التقويم ، وارفع مظلتي خوفاً من سقوط راس اليوم الجديد على حلمي ) .أنه يحاول أن يخلق شكلا ً مغايراً لواقعة اليومي ليدرء به الفاجعة، هكذا نجده دائم التحفيز لمواجهة مصيره المجهول والمليء بخسارته وخيباته ونكوص ليوصله ،أن وديع شامخ دائم البحث في قصائده عن الثمرة ، تلك المجهولة الشكل ليس لها صفات محددة ، الا انه كان يراها محلقة مثل الحلم في راسه
كلما حاول الامساك بها تسربت من بين أصابعه ثمرة الشعر بالنسبة له امراة لعوب ، تقبله مرة،ومرة تضع السكين والملح بين ضفتي جرحه .”
……………………………………………………………………………………………….
الشاعرجمال الحلاق :
” حين تأتي الكلمةُ،
عاريةً
إلا من طلسمها
فاغلق عينيك
فالشعر إصابةٌ
ينجو منها
إلا السائب
بلا طريق
الإشكال ليس في الشعر ، بل في الطريق الذي يقود اليه .
الذائقة التي تخلق ، أو تحاول مهنة الخلق ، تُعلن ، لا عن فرادتها في المعنى ، بل في شكل صياغة الكلمات أيضا . وليس سهلا الإصغاء لتجربة تحاول تبرير وجودها ، ستقف الحواس كحرس يمنع تلقي الشعر كما هو ، ستقف الذائقة ضد نقيضها ، وستنمو الفجوة ، حتى يكون الشعر هناك حين يكون العالم هنا .
“ما يقوله التاج للهدهد ” ، محاولة في ردم الفجوة ، الردم هنا بدلالة الاستنفار ، سيكون المتلقي بحواسه الخاصة جدا ، طرفا في إحياء سؤال البدايات والخاتمة ، لا وصايا ، لا طريق جاهزة ، لا دليل ، أقدام فقط ، في طلسم يحاول ربط الكائن بالممكن ، ربط الثابت بالمتحرك .
” صديقي اللدود “
” حياتي هديّة لأحلامك
هل تعدني أن لا تموت بتشمّع الحواس”
أحيي صديقي الشاعر وديع شامخ ، وأحيي إصراره المتواصل على الإصابة بالشعر” .
………………………………………………………………………………………………
الناقد والمترجم محسن بن سعيد:
” لقد تعرفت على وديع شامخ الانسان منذ اسبوع ، واما وديع المبدع فأنا اعرفه منذ زمن كاف لاقامة علاقة نقدية مع تجربته. وديع الانسان يخاف من وديع الشاعر ، والعلاقة بين حواسه ورأسه ملتبسة وملبّّدة ، فهو تارة يصفق ليده بحرارة واخرى يوبخ حواسه بوصفها سيئة الصيت كما جاء في احد نصوصه ” حواس سيئة الصيت” والشاعر هنا وفي مجموعته الاخيرة تحديدا يشيد بيتا واحدا ذو ابواب ومخارج مختلفة … دعونا اذن ندخل بيت الشاعر وعالمه .. ثم بدأ الشاعر بقراءة نصوص مختارة من مجاميعه الشعرية وبعض من جديده ، ثم أستدرك الشاعر مخاطبا الحضور ” لا اريد ان اكون منشدا أو واعظا في حضرتكم .. اطلب منكم مشاركتي لتكون الامسية حوارية نشارك معا في انجازها “.