سمير الساعيدي :
(1)
قصة الطفلة “دوللي” قصة واقعية :
إنها السنة الثالثة من التعليم الابتدائي، بدأ فيها العقل الصغير يروض بالمعارف ويشكل بالأفكار ويكتسب القناعات والمبادئ الأساسية للتفكير، وبدأت معالم رجال ونساء الغد تطفوا للملاحظ، في هذه المرحلة، تأتي المدرسة لتعلم الطفل حسن السلوك وقبيحة بعد مؤسسة الأسرة. لكن على ما يبدو فالشرخ واضح بين أهداف الأسر التقليدية بالواحات وأهداف وغايات المنظومة التعليمية التي تبنتها البلاد.
ففي الوقت الذي تستمد فيه المدرسة أسسها من مرجعيات متعددة دينية، إنسانية، نجد الأسر الواحية تعتمد مرجعيتها العرفية بمواقفها الشاذة والسوية، وهكذا نجد في فضاء المدرسة عادة نماذج لأطفال لا يعفرون كيف يتصرفون في عدة وضعيات تفاعلية؛ هل بالحفاظ على تطبيع الأسر والمحيط أم باعتماد قيم مدرسة الدولة المستحدثة.
قصتنا ها هنا تبدأ مع دوللي، وهي فتاة تبلغ العاشرة من العمر، نشأت في كنف أسرة بيضاء في إحدى قصور الواحة، وتربت على حب الذات والاعتزاز بالإنتماء والإفتخار بلون البشرة البيضاء الذي ورثته من والديها. كانت والدة دولي فلاحة مجدة تشتغل بجد في أراضي فلاحية ورثتها من زوجها المتوفى. و لم تكن الوالدة شأنها شأن نسبة كبيرة من ساكنة الواحة من الذين يعرفون الحرف، لذلك نشأت على أعراف الواحة ولم يتح لها أن تتعرف على قيم إنسانية أخرى، فجاء فكرها محدودا بحدود جغرافية الواحة وثقافتها البدائية العقيمة، ولم تستطع أن تفكر أكثر مما يفكر فيه الواحيون الجهلة ممن نشأوا وترعرعوا على ثقافة القفار ولم يستطيعوا الخروج بفكرهم بعيدا عن هذه الثقافة المحدودة الأفق. لهذا علمت ابنتها وربتها على شاكلتها؛ علمتها أن تحس بأنها أفضل بكثير من جاراتها السمراوات، كما طبعتها على فكرة التفوق العرقي للبيض على السود في أمور الذكاء والجمال والمكانة الاجتماعية. باختصار كانت دوللي مشروع إعادة انتاج نفس البنية المتخلفة للعقلية الواحية التقليدية.
ذات يوم، حاول استاذ اللغة العربية أن يعلم تلامذته أنه لا فرق بين إنسان وآخر إلا بالتقوى وفقا لتعاليم الدين الاسلامي، وأن الأبيض والأسود سيان ولا فرق بينهما إلا بالعمل الصالح والأخلاق الرفيعة، وأن ما يتكون منه الانسان الأسود هو نفس ما يتكون منه الانسان الأبيض وغير ذلك من الأمور، لكن دولي قاطعت – بجرأة طفلة ساذجة- معلمها وأكدت له أن للأبيض صفات تميزه عن الأسود، وبأن الأبيض جميل بينما الأسود قبيح، وقامت دولي في أعقاب تدخلها بوضع مقارنات بينها وبين طفلة سوداء في القسم، فقالت لأستاذها أنا أفضل من تلك السوداء..
لم يستطع الأستاذ أمام خجله من جرأة دولي وتهجمها على طفلة أخرى إلا أن قام بتوبيخها بشدة ملزما إياها الصمت، لكنه أدرك في البداية بانه أمام مواجهة ثقافة ومنظومة فكرية جامدة وليس في مواجهة طفلة بريئة هي الأخرى ضحية لتنشئتها الاجتماعية. لذلك جاء رد الأستاذ على خطوات. حيث فكر في تغيير مجموعة من الأفكار العنصرية في ابناء البيض داخل المدرسة، كل ذلك تم وفي قلبه رغبة جامحة في نشر ايديولوجيته الاسلامية في صفوف مجتمع واحاتي لا يزال وفيا لأعرافه السقيمة.
كانت إرادة الأستاذ كبيرة للغاية فعمل على التوفيق في مشروعه بين عمله في المدرسة وأنشطته خارجها؛ يحاضر في الجمعيات وينبه الأطفال داخل الفصل إلى ضرورة احترام بعضهم البعض، يحاول جاهدا أن يسلط الضوء بكل ما آتاه من جهد فكري على جانب من تاريخ الإسلام المضيء فيما يخص علاقة العرب والمسلمين بالعبيد السود، ويحاول أن يقنعهم بأن الاسلام عمل على القضاء على العبودية عبر مراحل ليحرر الانسان من استعباد أخيه الانسان واحتقاره. لكن مجهوده في آخر المطاف اصطدم بترسانة عرفية وبكومة من الرواسب الثقافية التي جعلت أمر تغيير العقليات الواحية الصلبة أمرا صعب الحدوث، خصوصا إذا تعلق الأمر بمجهود فاعل خير يغرد وحيدا خارج السرب.
لحظة بكاء دوللي:
أخذ الأستاذ ذي المرجعة الاسلامية ذات يوم منديلا أبيضا وقام بمسح وجه شاب أسمر به، فظهرت رقعة سوداء على المنديل الأبيض، فضحكت دوللي بشكل هستيري، معتقدة أن الإنسان الأسود يفرز باستمرار أوساخا سوداء.
لكن الأستاذ لم يمهل دوللي الكثير من الوقت فأخذ منديلا آخر وقام مباشرة باستدعائها إلى الصبورة، فمسح بالمنديل وجهها وكانت النتيجة؛ ظهور بقعة سوداء على المنديل الأبيض من جديد.
كان هذا الحادث أكبر صدمة “واقعية” تتلقاها الطفلة المدللة، خصوصا وانها نشأت على أنفة وعلى منظومة من الأفكار التي تربط الأوساخ بالسود وتقرن النظافة بالبيض، ولم تكن مدركة البتة بان بشرتها البيضاء ستخلف رقعة سوداء على المنديل، لهذا بكت بحرقة معبرة عن رفضها لنتائج تجربة الأستاذ الذي لم يكن وقتها قادرا على إقناع دوللي بأن تلك البقعة السوداء لا علاقة لها بلون البشر ،إنما؛ كل جسد مهما بدا نظيفا قادر على إفرازها حتى ولو كان شديد البياض.
أصيبت دوللي بعد ذلك بصدمة كبيرة بددت آمالها وحطمت اعتقاداتها الساذجة التي بنتها في تنشئتها الاسرية، وكان رد فعلها بعد أن رأت الرقعة السوداء على المنديل الأبيض أن أجهشت بالأنين والبكاء. حاول الأستاذ أن يوضح لها أن الحالة “طبيعية” ولا تدعوا لكل هذا. لكن يبدو أن قوة ما تطبّعَتْ به الفتاة في أسرتها جعل من الصعب اقناعها بالأمر. فاستمرت دوللي بالبكاء والأنين واعتقدت أنها ورثت لعنة السواد من السمراوات اللائي كن يجلسن بجوارها داخل الفصل.
(2)
كرامة الانسان أغلى من كل شيء..
بدأ الجدال بين فتاة عشرينية (جنوبية الأصول) حول موضوع الانسان الأسود في البلاد، وبين امرأة ثلاثينية تزعم أنها مدرسة لمادة التاريخ في إحدى الثانويات العامة بالعاصمة الرباط، وكان الحوار في البداية مجرد مناوشات بين زملاء فصل دراسي جمعهم حب تعلم إحدى اللغات الأجنبية.
لم يكن الواحي الأسمر الذي يحضر الدرس لأول مرة إلا شابا جديدا في فصل دراسي أغلبه مكون من طالبات وموظفات عاشقات لتعلم اللغات. تقدم إلى الفصل بخطى مدروسة وانتقى مقعده في زاوية معلومة في فضاء الفصل خصوصا وأنه طالب جديد سيلفت الأنظار…
لم تكن اللحظة التي دخل فيها الفصل سانحة ليقدم نفسه إلى عموم الطلبة ويتعرف عليهم واحدا تلو الآخر. لأن النقاش بلغ مرحلة “الحسم” فبدا له من غير المقبول مقاطعته. وهكذا جلس مباشرة على كرسيه واكتفى بوضع إحدى يديه على وجهه والثانية فوق الطاولة، متأملا الوجوه الشاحبة ومتتبعا بشغف شديد جدال السيدتين حول السود المغاربة.
الفتاة العشرينية:(منفعلة) أولا يجب أن تعلمي أن مدينة ورزازات التي تتحدثين عنها لا يسكنها السود فقط كما تعتقدين، بل هي خليط من السود والبيض ويجب أن تعلمي أن السود في المركز الحضري لا يستوطنون إلا ثلاثة شوارع فقط بينما ينتشر البيض في كل المدينة، لهذا فورزازات بيضاء وليست سوداء (…)
استغرب الواحي الأسمر من طريقة الفتاة في الرد، ومن حرصها المتزايد بإثبات بياض ورزازات، وكأن سوادها سيحط من قيمتها.
وكان أكثر ما أثاره؛ تدخلات أستاذة التاريخ التي يبدو أنها لا تعرف عن السود المغاربة أكثر من جيش عبيد البخاري وتجارة الرقيق، وهذا ما جعلها تقع في أخطاء فادحة..؛ خصوصا عندما انتقلت للحديث عن الزواج بين السود والبيض.
طال الجدال وانتبهت السيدتين لوجود شاب أسمر بينهن أخيرا، فبدأتا تدخلانه شيئا فشيئا في لب الموضوع بطريقة ماكرة، خصوصا وأنه هذا الشخص الأسود بإمكانه أن يضيء عتمة الموضوع أكثر فيثبت الأفكار الصائبة في الجدال من غيرها.
أستاذة التاريخ: (ملتفتة إلى الأسمر الواحي) لقد اخبرتني إحدى صديقاتي بأن السود في (الجنوب) يسافرون إلى مدن الشمال من أجل الزواج من شقراوات تلك المناطق (…)
الواحي الأسمر: (بهدوء) أنت تتحدثين عن نسبة قليلة جدا لأنه ليس كل السود معجبون بالنساء البيض!
أستاذة التاريخ: (شبه مصدومة من الرد) ماذا ؟
الواحي الأسمر: (محاولا التوضيح) أولا يجب عليك أن تعلمي أن الجنوب فيه بيض وسود، عرب وأمازيغ، فيه زعرة وبياض، سمرة وسواد.. كل شيء موجود في هذه المناطق (…) تنوع اثني وغنى ثقافي لا يضاهيه غنى، ثم اختلافات كبيرة على مستوى الاذواق ومعايير الجمال…
ثم إن الفتيات البيض في الشمال هن من يبحثن عن الشباب السّمر لمزاياهم العديدة على المستوى الأخلاقي وعلى مستوى القوة الجنسية وأن تعلمين هذا.
تسكت أستاذة التاريخ لمعرفتها أن لهجة الواحي شديدة وصارمة نوعا ما..
تتدخل من جديد الفتاة العشرينية: هل انت من زاكورة ؟
الواحي الأسمر: لا، أنا من الرشيدية..
أستاذة التاريخ: محاولة التغطية على كل ما فات بالقول: سراحة سكان الرشيدية (كُودْ) (مشيرة بيدها)؛ وكانت تقصد بذلك أنهم مستقيمون ولا يعرفون أي مراوغات…فهم واضحون وجديون..
الواحي الأسمر: (متهكما) ماذا عنك ؟..ألست هكذا (كود).
أستاذة التاريخ: ضاحكة بشكل هستيري؛ أحيانا نكون ملزمين على التأقلم مع طبيعة الحياة داخل المدينة، المكان الذي نعيش فيه لا يحمي الانسان (المستقيم)
الواحي الأسمر: لا أوافقك الرأي، فلا خوف على الإنسان المستقيم، إنما الخوف على الانسان الساذج، أو تريدين أن تقولي بأن سكان مناطق الجنوب سذّج ؟
أستاذة التاريخ: في الواقع شيئا من هذا (ساخرة)
الواحي الأسمر: الفرق بين الجنوب والشمال في نظري ليس فرقا في درجة التحضر، لأننا جميعا مغاربة ونحن بهويتنا نشكل مجتمعا متخلفا ولا يستثنى بذلك أحد، بيد أن الفرق بيننا وبينكم أنكم تغطون تخلفكم بالملابس والمظاهر، ونحن نترك الأمور كما هي عليه لتظهر وتنكشف للعيان.
تسكت الاستاذة ويسكت الجميع ويدخل استاذ اللغة الأجنبية وينهمك الجميع بالدرس.
لم يكتب للنقاش أن يمتد أطول مما كان، لكن تداعياته بدت واضحة فيما بعد، خصوصا وأن الجميع أصبح حذرا من ألفاظ ذلك الأسمر ذي الردود “العنيفة” فلا سبيل للمزحة والدعابة غذا ما تعلق الأمر بمساس بالهوية الجغرافية أو العرقية.. لا مزاح ولا دعابة، وعلى الجميع أن يعرف هذا.. فكرامة الإنسان أغلى من كل شيء.
(3)
فتنة السمراوات -قصة واقعية-
زارني قبل أسبوعين صديق من مدينة “وجدة” فوجدني في حالة سيكولوجية نشيطة بفضل دنو آجال مجموعة من الأعراس والأفراح التي عادة ما تشعرنا طقوسها بالغبطة والنشوة، لم يكن بإمكاني أن أحضر حفل زفاف في إحدى قصور “واحة غريس” بدونه، وقد أقنعته بسهولة بضرورة مرافقتي لحضور الحفل الكبير والتعرف عن كثب على تقاليد وعادات أهل المنطقة في الاعداد والاحتفال بالأعراس، وما أن حللنا غريس حتى قوبلنا بترحاب كبير من طرف عدد من افراد المنطقة، أخذنا قسطا من الراحة وبعدها خرجنا إلى ساحة الاحتفال للمشاهدة والتتبع، وطبعا أعجب الصديق الوجدي أيما إعجاب بطقوس الزواج وتقاليدها كما أعجب أكثر على حد تعبيره بعيون الفتيات السمراوات ؟!
لم أكن في البداية على علم بأن من بين أسباب زيارة الصديق الوجدي لمناطقنا رغبته في الزواج من فتاة جنوبية الأصول (صحراوية) بالنظر لأفكاره الإيجابية التي حملها اتجاه بنات هذه المناطق من قبل بعض أصدقائه المتزوجين ، لكنه بعد أن أخبرني برغبته بالاقتران من فتاة من مناطقنا سعدت لذلك وأيقنت أن سمعة مناطقنا لا تزال بخير، فكان ذلك الاحساس سببا جعلني أقبل فكرة مساعدته على إيجاد فتاة مناسبة له، خصوصا وأنه شاب مستقيم يبحث لنفسه عن الاستقرار.
لم أفكر مطلقا في إمكانية أن يعجب هذا الصديق بالفتيات السمراوات، لأن العادة أكسبت الانسان الواحي أن ينظر إلى أمور الزواج من منظور خاص؛ حيث يصبح الأسمر للسمراء والأبيض للبيضاء، لكن هذه القاعدة العرفية حطمتها رغبة صديقنا الذي فاجئني عندما قال لي بالحرف الواحد؛ إنني يا صديقي معجب بالفتيات السمراوات وبعيونهن البنية، وإني لأرجوا أن أقترن بسمراء وأعيش معها ما تبقى من عمري..؟!
بعد أن تأكدت من رغبته وميولاته، خططت لمقابلته بإحدى حسناوات قصرنا، كان الأمر سهلا للغاية فمعرفتي بالفتاة السمراء كبيرة وثقتها بشخصي أكبر؛ كما أن معرفتي بالشاب الوجدي أيضا قوية وهو كما عرفته شاب بخصال محمودة يتمناها أي شخص، كما انه في غاية الوسامة والقوة، مفعم بروح الشباب (…) تقدمت إلى السمراء الجميلة مستغلا حضورنا في حفل الزفاف لأستشيرها في أمر مقابلة الفتى الأبيض فأقنعتها بذلك. وجهزت لهما مكانا آمنا ليتكلما فيه ويتعارفا على بعض بكل أريحية، وما أن انتهى لقاؤهما حتى جدد لي الوجدي إعجابه بالسمراء مبديا لي سعادته لطريقتها في الكلام وبشخصيتها وحشمتها وأكثر من ذلك بسحر عيونها البنية؛ وقدم لي وعدا باستعداده لإتمام إجراءات الخطبة إن هي اقتنعت به وآمنت برغبته.
لم يكن استعداد السمراء للزواج من الأبيض الوجدي كبيرا، فقد خشيت من فشل هذا الزواج، لأنها ببساطة لم ترى حالات ناجحة في محيطها الواحي. وإن كانت هناك حالات لهذا الزواج والتي توجت بالنجاح فبين رجال سمر بنساء بيض وليس العكس، لذلك قررت الحسناء السمراء بعد تفكير أن تمنع إقامة علاقة مع الفتى الأبيض، ولم يكن لهذا الرفض أن يتم لولا شئين؛ أولهما لو أن لون بشرة المتقدم كانت سمراء لا بيضاء، ولو أن الحسناء تشربت ثقافة الواحة وتأثرت بأفكار محيطها الجامد..
كان صعبا على الفتى الوجدي أن يتقبل رد الحسناء السمراء ذات العيون البنية ، وبعد حديث مطول جرى بيننا في احدى المقاهي الشعبية في الواحة، أخبرته بأن يبحث عن نموذج آخر وأكدت له أن الواحة تغص بالجمال الأسمر، وعبرت له عن استعدادي لأخذه للواحات المجاورة إن لم يجد في واحتي مراده.. بعد أيام قليلة لمحت عيناه سمراء جديدة في غاية الحسن، تقدم إليها مبديا رغبته في التعارف بها، مبديا لها صفاء نيته، لكن الفتاة عبرت له عن عدم إيمانها بنجاح علاقتهما أو حتى زواجهما إن هو تم.. وهكذا كلما تقدم صديقنا إلى أخرى إلا وتلت عليه نفس المخاوف؛ فشعر الوجدي بضيق شديد وأدرك أن محاولاته الدؤوبة لإيجاد فتاة سمراء في الواحة أمر صعب الحدوث، كما أني اكتشفت عنه فيما بعد أنه أحب الفتاة السمراء الأولى بكل جوارحه لكن رغبته الملحاحة لطلب الفتاة اصطدم في النهاية برد فعلها السلبي، وهو ما انتهى بصديقنا للعودة لمدينة وجدة بقلب محطم. وبحلم مجهض في أن يحظى بفتاة واحية سمراء بعيون بنية ساحرة وأخلاق عظيمة.
(4)
الأستاذ العنصري :
المكان: هو إحدى مدارس الواحة، أما الزمن؛ فهو زمن مضى ولن يعود، لكنه خلف آثارا سلبية لا يزال “مزمار” يعيشها، يتذكر بقلب متحسر ومهموم تلك السنين العجاف التي قضاها في المدرسة الابتدائية ، يحكي عن قصته التي بدأت بحب الكتاب وانتهت بكراهية لا تضاهى للمؤسسة التعلمية ككل، كراهية لها أسبابها الذاتية والموضوعية، لكن التعليم لم يولي لمثل هذه الحالات أية قيمة في فهم عيوب المنظومة التعليمية في البلاد.
هناك أشياء تحدث للطفل لكن الطفل طفل، وشهادته واهية لا يؤخذ بها، وعندما يعرج أحدهم لوضع حد لسلسلة التهميش والتنكيب ويسعى بكل ما أوتي من طاقة على العمل ومساءلة طفولة الانسان الراشد، حينها يدرك بجلاء مدى مأساة الانسان الأسود مع التنشئة المدرسية العنصرية، مأساة لا يعرفها الانسان الأبيض قط لأنه أبيض وهو دائما يلعب دور الجلاد لا الضحية.
لكن لكل إنسان اسود قصة مع العنصرية، عاشها في المدرسة وإن لم يكن في المدرسة ففي ساحتها أو في إحدى ازقة شوارع الواحة. وبقدر ما يزداد حجم سواد وجهك بقدر ما تزداد معاناتك، لأنك امام مجتمع يحكم عنك من خلال مظهرك، ويرسم بينك وبينه الحدود والحواجز من خلال وضع التصنيفات؛ بين أبيض جميل وأسود غير جميل، بين أبيض ذكي وأسود غبي.
دفع طيش الأطفال مزمارا ليعيش أصعب لحظاته في المدرسة عندما كان عمره 11 ربيعا حيث تعرض لتعنيف من طرف أستاذ شبهه بحشرة سوداء وبعدها بقرد قاتم بعدما قام بشغب في القسم وهو التشبيه الذي جعله يحس بمضض الانتماء لفصيلة السود، كما أعلنت عن بداية كراهيته للمدرسة وانقطاعه عنها إلى الأبد.
وما الأستاذ الذي تلفظ بتلك الكلمات السامة والسخيفة إلا معلم ينتمي إثنيا إلى إحدى الجماعات البيضاء في الواحة ما يجعل فكره عبارة عن نسيج من الأفكار الإحتقارية للأسود الخمّاس. كما أن الأستاذ في نفس الوقت إمام لآحد مساجد الواحة، لنكون بذلك أمام إمام ومربي أجيال عنصري.
كيف لرجل دين عنصري يشغل في نفس الآن منصب أستاذ للتعليم الابتدائي أن يربي جيلا ؟
الحقيقة أن مثل هؤلاء الجهلة المتخفون خلف عباءة الوعظ والارشاد والعلم لا يمكنهم إلا أن يدمروا أجيال ويخلقوا ضباعا. ولقد تساءل مزمار عن عدد الذين عذبوا مثله بسبب عنصرية رجل التعليم الأبيض داخل المدرسة، وكم من أسود لم يجد في فضاء المدرسة ما يجعله يحس بالأنسة ليضطر للمغادرة اتجاه وجهة أخرى. بسبب ذلك تألم مزمار وهو يحكي عن ماضيه الطفل، الذي عاش فيها كئيبا وحزينا غير قادر على الدفاع عن نفسه ضد جور وطغيان الأستاذ العنصري.. وكم تمنى لو أن عجلة الزمن تعود به إلى الوراء ليرد له الدين فيجتث لسان ذلك الأستاذ السليط حينها. لكن الزمن لا يدور أبدا إلى الوراء لكن الأحداث العنصرية تعاود الظهور من حين لآخر، ليستمر مسلسل التنشئة العنصرية في الواحة بلا رقيب أو حسيب.
أين انت ؟
مضت شهور طوال ولم أسمع عنك خبرا، لم أراك تكتبين منشورا، ولم أسمع صوتك لا في منبر اعلامي ولا في ندوة داخل جامعة، وكأن القيامة قامت على حين غرة واخذتك بعيدا عنا إلى الأبد.
لا أعرف حتى هل أنت على قيد الحياة أم داهمتك رياح السموم بغتة، صورتك تستحوذ على خيالي كلما هممت إلى الكتابة والتعبير، وكأن قلمي يرفض أن يكتب عن اي شيء آخر ما عدا ذكرياتك التي لا تزال جاثمة على قلبي. لا زلت أراجع مذكراتي وأقرأ خواطري واعيد اجترار سيناريوهات الماضي، لا زلت وفيا لهذه العادات كلها لهذا فنسيانك عسير عليّ، والتنكب عن كل ما قمنا به وما لم نقم به سيظل عالقا في ذهني أبد الآبدين. لن أنساك ما حييت ؟! ستظلين تجربة حية أفخر بها تارة وأتعذب بسببها تارة أخرى، وسأظل اعتبرك مدرسة تعلمت فيها معنى ان أكون وفيا للكلمة الصادقة ومعنى أن أناضل وأقاتل في الحياة من أجل من أحب.
لقد قسى علي الزمن حاليا وصدمتني بعض الأحداث، ومع ذلك لا أزال واقفا على قدميّ، قلبي تائه وعقلي غارق في التخطيط، لكن جسمي مقيد بأغلال البخل والشؤم والبؤس، أغلالي تمنعني من الحراك رغم حاجتي الملحة إلى الحراك، أغلالي قيدت أفعالي فجعلتها تنحصر في مجال نظري بلا قيمة. أغلالي تعيدني دائما إلى صدماتك ودروسك القاسية، وترغمني الوقوف تأملا وتذكرا لبعض الحوادث الساذجة سواء التي اقترفتها أنا أو حتى التي قمت أنت بارتكابها.
السذاجة عنوان الماضي دائما، لهذا نتقدم في حياتنا وكأننا في صراع محموم لتجاوز الماضي- الساذج، نحاول دؤوبا ان نغير تصرفاتنا ولا نعلم أننا بإقرار التغير قد نغير حتى ابتساماتنا الوضاحةـ وروحنا المعنوية العالية، لا نعلم أحيانا أننا عندما نقرر التغيير قد نغير بعض الأشياء الايجابية أو قد نسقط في التغيير السلبي الذي يجعلنا نصاب بالاحباط في الوقت الذي أجدى به أن يحسسنا بالتفاؤل والرغبة في الحياة. التغير الذي أبصمت عليه أنا جعلني شخصا بلا طموح بعد أن كنت فيما مضى كلي أمل وطاقة وعمل.
والحال هذا أني في حاجة ماسة لاعادة الطاقة إلى كياني بعدما نخره كثرة التفكير في مشاكل الذات والمحيط، وكأني خلقت لأحمل بؤس وهموم العالم الواحي بأكمله. إن الطمأنينة لا تعرف طريقها إلى قلبي بسبب كوابيس النهار التي تصيب أحيانا إرادتي الصلبة، فتجعلني تائها في التأمل، قلقا إزاء المستقبل.
لقد كنت ذكرى أرخت لماضي ” الجرة ” كنت شمعه أنارت لي سبلا كثيرة وفتحت امامي آفاقا أكبر، لكنك في الآن ذاته كنت سببا جعلني أصاب بالإحباط وتطعم مرارة السأم والملل، وما زادني كآبة هو معاناتك المستمرة وانقطاعك عن العالم وكأن ثورتك لم تمس علاقاتك فحسب بقدر ما مست كيانك ككل.
لقد تأكدت الآن بان معاناتك كانت أعظم وأكبر، ولا أخفيك سرا إن قلت لك بانني متحسر لما آل إليه حالك. لم أعلم أنك ستصلين إلى كل هذه المعاناة وستقررين أن تقطعي صلتك بكل من حولك، بأصدقاء الدراسة، بالطلبة، بصديقك الأبيض، وبي أيضا. كنت أتمنى رغم انفصالنا أن أراك سعيدة، وأن أجد حسابك على ما يرام وفي نيتي أن أرسل إليك ذات يوم رسالة اعتذار عن كل ما بدر مني في حقك، وأن أذكرك بأفضل الذكريات كاستراتيجية نفسية لإعادة بناء هوية علائقية جديدة مبنية على الاحترام والاخوة. لكن على ما يبدو أن معاناتك جعلتك تقررين إحداث ثورة جذرية على كل شيء؛ على نفسك وعلى محيطك.
لا أعلم أي ظروف تعيشينها حاليا لكنني مدرك أنك تأذيت كثيرا في المحطة الجديدة، أدرك أنك تألمت بسبب علاقتك بي وبسبب علاقتك بالفتى الأبيض، أدرك أنك استوعبت الكثير من الهفوات التي ارتكبتها وأدرك كذلك انك لا زلت تتحسرين على ضياع بعض الفرص الذهبية في حياتك، أدرك كل هذا لأنني في الواقع أكثر من يعرفك من ضمن كل الذين تعرفت عليهم في تجربة المحطة الجديدة..
—