كريم عبدالله هاشم :
– 1 –
لقد حانت مواسم العودة . .
وجاء الوقت لكي تغير الأقدام المغادرة وجهتها نحو هويتها الحقيقية . . .
لكي نستشعر مسامات جلودنا ، وعروقنا . . .
كم جميل الأن ،
وبعد هذا الزمن الصعب الطويل ، أن تعود رؤوسنا التي كللها الشعر الأبيض تتحلق حول المدفأة النفطية التي لازالت رائحتها تملأ انفي برغم السنوات الطويلة ،
بحلقة من نوع آخر ،
أكثر وقارا وتعقلا . .
مرة أخرى ،
سنجتمع في مساء شتاء عراقي جديد في بيت بهيجة مرة أخرى . .
ونجلس حول المدفأة النفطية العتيقة بحلقتنا المعهودة . .
ستكون احاديثنا اكثر عمقا ، وأوسع معنى ،
ستتحدث لوحدها وجوهنا المدعوكة بكل تلك السنين ، وستحكي عن وقع كل ذلك الوقت الثقيل الضائع . .
ستتحدث وجوهنا تلقائيا حين سنجتمع من شتات الأرض ونلتئم في بيت بهيجة من جديد . .
سيكتمل عنقودنا من جديد اذا قرر عماد العودة من تلك البلاد والاكتفاء من الغربة ، كما فعلت انا ، بأستثناء حارث الذي لن يعود أبدا . .
وسيتحدث المكان الخالي لحارث في هذه الحلقة ،
وهنا ستخاطبنا خيبتنا في الاقدار ،
اذ ان حارث وصل الى هنا قبلنا ،
يتنفس الان رائحة العراق من المساحة الضيقة التي توارى فيها في احدى مقابر النجف رحمة الله عليك ياحارث ، لو أمهلك الموت حتى هذه الايام ، لتستعد ، وتمارس لذة لحظة الرجوع هذه ، والتي كانت حلما للكثيرين ممن غادروا ، وكانت ضربا من المستحيل . .
رحمة الله عليك ،
كم خاب ظنك في الدنيا . .
لم تمسك خيطا ، لافي أرضك ولافي الأرض الغريبة . .
لقد حانت مواسم العودة ،
وكم جميلا أن نعود ونلتئم . .
من جديد ..
على الأرض التي مابعد تلك الشاخصة المعلقة على مدخل المركز الحدودي (( جمهورية العراق ترحب بكم )) .
أرضنا . .
التي لابد ان تحتوينا هذه المرة . .
حيث ،
سيترقرق الكلام ،
عذبا ،
ودودا ،
كما كنا نسمعه في بيت بهيجة . .
هل ستحتوينا البيوت التي لنا ، كما احتوتنا ونحن صغارا . . ؟
بيت ابي ، واخوتي ، وأمي . .
ولعل أكثرها قربا والفة ،
بيت بهيجة . . .
اذكر ،
ان بيت بهيجة كان في المنتصف ، بين القرية ووسط المدينة ، وهو في الطرف الاخير من المدينة بأتجاه قريتي . ولأجله كان بيت بهيجة مزارنا شبه اليومي ، وملتقانا ، ومفر لنا نهرب اليه من كبار عوائلنا المعقدون .
ونسميه بيت بهيجة ، وليس بيت فتحي أوأبو وليد زوجها ، لأن بهيجة هي الأقرب منا ، فهي ابنة خالي .
وبهيجة كانت الأكثر تعلما من بنات جيلها من قريباتنا ، فهي الوحيدة من بينهن التي درست واخذت الشهادة المتوسطة في ذلك الزمان . .
كنا ،
نتسلل من مدارسنا ، ونجتمع عندها . .
فهي لاتبحث عن سيئاتنا كالاخرين من اهلنا ، بالرغم من انها توبخنا على بعض اخطائنا ، لأننا نسرد لها كل حكاوينا ،
وأحلامنا ،
وأوهامنا ،
ترحب بنا بهيجة ، نحن الثلاثة ، عماد وحارث وانا ،
تحتوينا ،
ويحتوينا بيتها الحلو الصغير . .
وحين يكون زوجها فتحي غائبا خارج بغداد لعمل يستمر لعدة ايام ، فنحن الحراس والانيس لبهيجة ، وهذا يجعله يغيب مطمئنا ، وحين يعود نلزمه بعلبة الحلويات الكبيرة . .
لم أنس ذلك البيت الصغير . . الفسيح المترامي بأمتداداتنا جميعا ،
الواسع لعوالم وخرافات كل واحد منا . .
فأنا ابن العمة ، والصديق المملوء بأشياء كثيرة عن القرية والمدينة ،
المسكون بهواجس الخوف والخشية والرغبة . .
وعماد المتحامل على كل الأشياء المحيطة ، ولايروق له منها شيء ، المهووس برغبة الفرار الى جنات وراء الأفق المنظور . .في البعيد . .
عماد هو الوجه المتجلد فينا ، العيون القاسية التي لاتخشى ولاتستحي ، هكذا كنا نصفه جميعنا .
وحارث ،
الراضي دائما ، الرضا كله ، السماحة كلها ،
والسكون الدائم . والصمت ،
لحد فوضى الاشياء وتداخلها عليه . .
وكانت بهيجة ،
والبيت الصغير الذي لاحدود له ،
كلهم اولاد خالي واصدقائي الأقرب ،
فحين نفترق ليوم او اكثر ننتظر بعضنا في بيت بهيجة ،
فنجدها ،
تشرئب من وراء سياج الدار بعنقها المتين وشعراتها القصيرات المتكورات ، تمد بصرها عبر الزقاق تنتظر قادما منا ، انا او عماد اوحارث اخويها . .
كان حلو يمر الصيف ونحن نلتقي في بيت بهيجة ، ودافيء يمر الشتاء . .
– 2 –
سحاب خاطف . .
يبدو الان في الذاكرة ، كسحاب خاطف . .
لكنه ثقيل الوقع على الروح والنفس ،
يمزق طمأنينة الذات ،
ويقطع اوصال الحياة ويناثرها في شعاب متباعدة . .
كل الذاكرة مليئة بهذا السحاب الخاطف ،
الأسود الثقيل . .
شريط صور متداخلة ، مترابطة ومتباعدة . .
تمر كالبريق ،
أقلب بعضها ، أطوي بعضها قبل ان يمر منفلتا مني ويتجسم امامي بتفاصيله وبوقعه الثقيل على روحي . .
لامزيد ،
يكفي ، هذا القدر الكافي من الاشياء المتمددة بي ،
الملتحمة ،
المضطربة . .
تقبض على الوريد ،
تدوس الاشياء . .
تعجنني .
سنين مليئة بالمتناقضات والمتقاطعات ، والأمور غير المعتادة . .
فتحت أبواب الرحيل والمغادرة ،
فتعاكست الاقدام على الارض ،
وتقاطعت الارتحالات . .
عماد ، هو اول من فتح هذه الابواب علينا .
الاول منا الذي اخذت قدماه تسعى تجاه الابواب المغادرة . .
كنا أصغر ،
طريين للريح والنشيد ،
تأسرنا فكرة السفر ،
والرحيل ، صار حلم جميل عندنا . .
أعلنا الغربة ونحن صغار ،
قررناها .
فتح عماد علينا ابواب الريح الاتية من بعيد ،
تلوح على وجوهنا .
فيوم اوصلناه الى المطار وودعناه كأول واحد منا يغادر ،
يومذاك كنا جميعا معلقين كالأغصان بالحقيبة التي حملتها الطائرة المغادرة . .
بكينا بعمق ونحن نودعه ، لاادري لماذا . .؟
وبقينا . .
وبقيت بهيجة تنتظر عودة الغائب .
هو الذي دق المسمار الأول ،
هيأ لنا كل الحقائب التي حملناها بعده . .
عماد هو الذي فتح الباب ، ومن يومذاك ظل مشرعا ،
والريح تأتي من بعيد تلوح على وجوهنا . .
وألابواب ،
هي نفسها كانت تهيئنا لفتحها والمغادرة والتناثر من أعشاشنا ،
فقد كانت مشحونة بالهجير والصيف والسموم اللافح ،
تغرينا بالوثوب والرحيل بعيدا ،
خلف الابواب . .
والريح ،
تأت من بعيد ،
تلوح على وجوهنا ، كأنها ندية منعشة ،
نسائم البلاد البعيدة . .
تكوينات اخرى ، ووجوه أخرى ،
كأنها ندية منعشة ،
نسائم البلاد البعيدة ،
تكوينات اخرى ، ووجوه اخرى ، وتفاصيل اخرى ،
طرية ،
سهلة ، ومطواعة ، اكثر من هنا :
– هناك ، تستطيع ان تكون انت بذاتك وتحترم نفسك .
– بسرعة ستجد نفسك .
– ليس كما يجري هنا ، يوم بعد يوم تنجرف تحت السيل الذي يضغط على رأسك .
هكذا دارت بيننا احاديث الصبا ،
وهكذا دارت بنا الدوائر .
فتقافزنا . .
حارث قفز خلف عماد . . هولندا . .
وأنا ،
قفزت متأخرا بعد حارث ،
لم يحتمل قلبي الترحال البعيد فأنخت قافلتي ببلاد قريبة ،
عمان ،
وطن آخر . .
ومنذ وقتذاك لم تشرئب بهيجة بعنقها المتين من وراء السياج ،
ولم تنتظر بعد احد منا . .
توطنت الغربة فينا قبل ان نسافر .
وماكانت دليل حياة ، مهما حاولت . .
وقد كان الفقدان فينا دليل حياة حقيقي ، يعيدنا حيث ننتمي . .
كان حارث قد غادر العراق قبلي بثلاثة أعوام ، ذاهبا وراء الجنات التي يسكنها عماد . .
في يوم مفاجيء ، بدأ حارث بحزم الحقيبة ..
حاورته من كل الوجوه ،
تداولت معه في كل النواحي ،
لافائدة ،
جهز اوراقه :
– تعبت يااخي ، كلنا تعبنا بلا جدوى . .
أمعن بالحلم البعيد ،
جنات عماد في الدنيا الاخرى البعيدة ،
أوهامنا جميعا ونحن صغار والتي اصبحت فيما بعد حقائقنا نحن المفقودين هنا في أوطاننا ، والمسحوقين تحت ركام التفاصيل الفوضوية الصغيرة والكبيرة . .
ورزمت الحقيبة . .
وحين سافر حارث ، لم اصل معه الى المطار لتوديعه . . اكتفيت بأيصاله الى اخر الشارع ،
متوقعا ان يرجع عن قراره في اية لحظة . .
ان يعيد فك الحقيبة ونثرها ،
أو على الاقل ستطول غيبته اسبوعا ، او شهرا بالكثير ،
وسوف يعود ،
لكنه لم يعد ، وانقطع . .
ترك لي الفراغ المترامي ،
الفضاء الخالي . . وحدي . .
وليس غير بهيجة التي صرت ازورها وحيدا بشكل متقطع . .
أصبحت انا المتبقي الاخير من عنقود بهيجة التي كبرت منذ سفر اخويها ،
يوم ، بعد يوم ،
ايام مضاعفة ،
تبصم على الوجه والعين والرأس بصمة التسارع والأنقضاء . .
أبواب الذين خرجوا ، وسافروا ، بقيت مشرعة . .
مفتوحة ،
تصفق فيها الريح جهة الاقدام المغادرة . .
تصدى ،
تتدلى منكسرة ، ومعوجة على الجدران . .
وتظل الابواب مفتوحة ،
مفوهة ،
على امتداد الزقاق ،
بأنتظار الذي يعود ، ليمد يده ويغلق خلفه طرفي الباب ، ويدخل . .
فمنذ تلك الساعة ، فتحت الابواب . .
وازدادت فتحا ،
وصارت تضغط على الرؤوس يوما بعد يوم . .
– تعبت يااخي . .كلنا تعبنا بلاجدوى . .
هذا هو القاسم المشترك ، هذه هي المعادلة التي أوجدناها لكي تتجه اقدامنا جهة الابواب ، والمغادرة . .
الرحيل تجاه الريح الأتية من جنات عماد البعيدة . .
نلهث خلف الشوارع الغريبة ، لنوطن الغربة فينا ،
نطارد الغربة ونسعى اليها لتستوطننا ،
لكي نلبسها أو تلبسنا ،
كوطن . .
نبحث فيها عن دليل حياة ،
ننسلخ ، أحيانا ،
أو تسلخنا عنوة . .
وتبقى المعادلة الغائبة ، انها ماكانت يوما للكثيرين دليل حياة ،
والفقدان هو دليلنا الحقيقي . .
وماكان حارث لبوسا لها ، لم تتلبسه ، أو تحتويه ، أوتسلخه . .
لم يجد عند عماد الجنة التي كان يتوقع وينتظر . .
فكان العناء أكثر ، وأشد وقعا . .
وكانت روحه تائهة بين أرض وسماء ، وبين طقوس جديدة من التمزقات والانسلاخات . .
لم ينسجم ،
لم يلبس غربته ، كوطن له . .
فلملم أسماله ، وماتبقى منه ،
اطفأ الفانوس وقال ، خذوني . .
فهوى ،
وكان أول العائدين من عنقود بهيجة . .
ترك الحقائب خلفه ،
الفقد الأول فينا . .
– 3 –
في عز غربتي . .
وانا لازلت بعد لم اكمل سلخ نفسي وأتوطن في عمان ،
جاءني الهاتف من بعيد ، من هولندا . .
اننا عدنا اليك . .
سنأتيك الى عمان . .
– أمر الله . . . سنعود به في الطائرة القادمة من هولندا الى عمان . .
– سأكون بانتظاركم في مطار عمان .
أغلقت الهاتف . .
تشطرت . .
ضاع الشعور الحقيقي . .
الاتصال والوصل المعاد بعد انقطاع طويل ،
مرة اخرى ، وعلى ارض اخرى . .
والواجب المطلوب مني حيال أمر كهذا وعلى ارض كلنا فيها غريب . .
حزن الفجيعة . .
غيمتها السوداء التي تستولي على اية ومضة قد تكون حلوة في لقاء كهذا . .
لقاء المتناثرين في أودية بعيدة . . بين الوادي والآخر شاسع من الزمن المتعرج بالصعود ، والنزول ، والارتفاع والانخفاض . .
شاسع من النفوس المتعرجة التي استوت وفق انحناءات الارض الواقفة عليها . .
وكل منا على أرض مختلفة ،
وكل منا عرجته الارض والسفوح التي وقف واهتز عليها . .
الفجيعة . .
الفقد ،
الموت الأول فينا ،
الثلاثة ناقصا واحد . .
وسيتبقى وجهان غريبان . .
حارث ، هو الفقد الاول الملموس فينا . .
ربما ، كان العزاء الذي يشعر به أي واحد منا حين نرد في ذاكرته هو اننا أحياء جميعا . .
لكن الان ، الفقد الملموس ،
فقد المفقود والى الأبد . .
ستعود الحقيبة فقط ،
ويعود هو معبأ في الحقيبة الأخرى . .
حقيبتان تعودان للوطن ،
فيشطب واحد من ثلآثة وجوه ضائعة . .
لن ينتظر احد بعد اليوم عودة منه ،
ربما بصدفة مفاجئة ،
أو ربما تختلف الدنيا ، فيصبح الرجوع والعود الى أولنا ممكنا . .
والآن ، علي ان اكون غدا ، عند منتصف الليل في مطار عمان لأستقبالهم واستلام طرد وارد بأسمي من هولندا . . وهو عبارة عن حقيبة خشبية تختوي على انسان . . جثمان حارث . .
ومن هنا ، كمحطة مرور وسطية أقوم في اليوم التالي بشحنه معادا بالحقيبة برا الى بغداد ، الوطن ، الحقيقة الوحيدة الحلوة ، نحن صغار ونحن كبار والمفقود فينا . .
التويت . .
اتكأت على الجدار ،
وتقاسمت ثقل رأسي بيني وبين الحائط . .
والمطار . .
مرة أخرى ، في منتصف ليلة شتوية بغيضة . .
المطار ، الذي لاانتهاء له ،
لاحدود ، يحتوي كل العالم . . احشاء كل الناس . .
تشحب الاضواء الساطعة في المدى البعيد . .
تتعاكس أضواء القبب العالية ، وأضواء الصالات تتكاثف على صفحات الوجوه ، تنفذ فيها فتلتمع صافية ، ساطعة ، صفراء ، جافة من دمائها . .
كنت اتطلع الى اللوحة الرقمية للطائرات القادمة ،
دفء الصالة يحلل أطرافي من التجمد . .
المطارات على كل أرض هي ذاتها ، هي المنفذ والمرتجى ، وهي مأوى وغاية الفارين أو العائدين أو الذاهبين الى جنات النعيم . .
وهي ، صدر ينفض عنه عزيز ، أو يضم اليه عزيز . .
وهي ارض الحقائب ، التي دقت فيها مسامير نعوشنا .
تحملنا الحقائب المعبأة بنا ، وتطير ، كما حملتنا حقيبة عماد ،
وكما حملت الآخرين بحقيبتي . .
تلك الريح الصرصر أمام ابوابنا في أوطاننا ، وتلك الريح الندية خلف الابواب التي تأتي من بعيد تلوح على وجوهنا تبدو ندية ، وما ان تفرغك الطائرة من احشائها على ارض اخرى حتى تشعر بالفجيعة . .
فالأرض اخرى ،
والوجوه أخرى ،
والجفاء ،
وبدلا من تحلق كما كانت اوهامك تشتهي تبدأ بالتلاطم بين أمواج هذه المدن المضاءة الى نقطة معينة لن تعرف ماوصفها . .
والان انتظر عودة الحقائب ،
وانتظر اكبر حقيبة في العالم ، الحقيبة التي تحمل آدمي ، جثمان حارث . .
رجل يوضع بداخلها ويختم على مفاتيحها بالشمع الاحمر وتشحن بأسمي بطرد قادم بطريقة العبور من هولندا الى عمان ، ثم الى بغداد بالسيارات ، كأي طرد . .
وتناثرت المعاني من ضمات الصدور حين جاؤوا . .
وصفت رؤوسنا البيضاء عند حامل اختام الدخول والعبور . .
كان عماد يبدو اكبر مما اعرف بكثير حين استقبلته في المطار ، وكان حارث محقب في النعش الخشبي . .
استلمت الطرد ، ووضعته في ثلاجة المطار حتى الصباح . .
– شكرا للمطار . . جمعنا بعد دهر في ظرف من الظروف السيئة المعتادة . .
اجتمعنا في بيتي في عمان . . على ارض اخرى . .
لم ننم حتى الصباح لأن الأحاديث لن تكفيها ليلة واحدة ، كأننا نحلم جميعا بتلك الأيام الصافية ، ايام كنا نجتمع في بيت بهيجة في بغداد . .
في الصباح ،
نقلت النعش والحقائب من ثلاجة المطار الى سيارة اجرة ليكملوا طريق عودتهم برا من عمان الى بغداد . .
طفح بي حزن حقيقي . .
مؤكد ان بهيجة كانت تعرف انا مجتمعين هنا معا . .
ومؤكد انها كانت تشرئب من وراء السياج ، عبر الزقاق ، بأنتظار اكبر واغلى حقيبة ، مع الوجوه المعلقة بها .
مؤكد انها كانت تنتف الشعرات البيض المتكورة ، وتضرب على الوجه والعنق المتين . .
– 4 –
فأنهض . .
كمن ينهض بعد دهر من سكون ،
ألملم من رأسي ، من كل زواياه المتشعبة ، كل العلق والأسمال ، واكداس الالوان الجميلة ، والقبيحة . .
اعبئها في حقيبة فولاذية . .
واودع الحقيبة في احد شعاب رأسي . .
فأنهض كمن ينهض بعد دهر من سكون . .
سأطوي غربتي ، واكتفها ،
الف حولها السلاسل ، واقطع تمدداتها في اوصالي ،
امتد بقامتي فوقها . .
حان وقت العودة . .
سقطت الأصنام ، وحان وقت انتهاء غربتنا . .
سقط الصنم ، وستعود بهيجة فرس ذهبية رغم السنوات والعمر والرماد ،
ورغم القيض والهجير . .
قالوا :
(( تحرر العراق )) . . .
وقد ذهبت كوابيس الغربة ،
وعاد الوطن أليفا وحانيا . .
– يافرج الله على عباده . . يامزيل كل غمة . . لك الحمد والشكر . .
عدت ،
يابهيجة الحلوات ، امنا الصغيرة . .
صبانا ،
اهلنا ،
دليل حياة حقيقي ، يعيدنا حيث ننتمي . .
لن تغرينا حقائب عماد هذه المرة بالرحيل . .
لن ترنو قلوبنا لأي حقائب ،
فلن تكون هنالك ريح صرصر تضغط الابواب وتغرينا بدفعها وفتحها ، وجعلها مشرعة جهة الأقدام المغادرة . .
لاحقائب بعد اليوم . .
وخفافا نهفو بأجنحتنا ،
سوف تحملنا الاقدام العائدة . .
المملكة الأردنية الهاشمية تودعكم . .
جمهورية العراق ترحب بكم .
أردت ان أعب كل هواء هذه الارض الممتدة من نقطة الدخول هذه وحتى اقاصي العراق ،
دفعة واحدة ،
أستنشقه لأملأ صدري المحشو بهواء اراض اخر ،
ولترتاح رئتاي المتوترتين . .
فاليوم سأودع الزمن المتعرج ،
وسفوح التضاريس التي لصقت نفسي عليها عنوة ، وانا الذي كنت محمولا بحقائب المسافر الغريب طيلة السنوات الماضية . .
ولعلي ، ايضا ، اعرف ملاذات هذا الوطن الجميل ،
واتوق لطعم الملح الطيب المذاق في الوجوه والعيون التي تنتظرني . .
أما عماد ، فلازال لم يحزم امره بعد ، ولم يقرر ،
توطن ،
استوطنته هولندا ،
لبس جلدها ،
اكتسى بالغربة ، لبسها ، واتشح بها ،
واستوحش العودة :
– بعد هذا العمر الطويل ، مابقي شيء ، لن اعود . .
ولعل بهيجة ،
وذلك البيت الصغير ،
المترامي في الأتساع هو الوجهة الحقيقية لقلبي الذي أرقته فصول المغادرة والترحال . .
حيث الكلام الحلو الرقراق الذي كان ينسل من بين شفتي بهيجة التي كثيرا ماتابعتنا واشرأبت بعنقها الأسمر المتين من وراء سياج الدار بأنتظار أحد منا يأتي اليها حين كنا نترك بيوت آبائنا وأمهاتنا في كثير من الايام ، ونتسلل الى فضاءنا لدى بهيجة . .
سنلظم عنقود بهيجة من جديد ،
في بيتها المليء بحكاوينا واوهامنا ونحن فتية صغار لازلنا نتهجى كتابة النقوش التي كنا نظن جميعا اننا يوما سننقش بها حياة كل منا ،
ولكنها نقشت عنوة بما لم يكن في الحسبان ،
أو ، التوقعات. .
وجرتنا الى الرحيل من بين أشياءنا الأليفة الى اراض اخرى ،
ووضعتنا ضمن تكوينات جديدة . .
وبقيت رائحة المدفأة النفطية في الغرفة الدافئة التي نلتئم فيها نحن الفتية الثلاثة في بيت بهيجة ، حيث يداول كل منا احلامه واوهامه ،
وتقوم هي بأطعامنا العشاء ومغادرتنا الى شؤون اطفالها وزوجها . .
وفي الصباح يمتليء مطبخ بهيجة برائحة الشاي والجبن والبيض المسلوق أو المقلي . .
بقيت هذه الأشياء فينا كلنا على الاراضي البعيدة ،
وهي عندي كومضة طفولية مترنمة ،
أشبه باضاءات وومضات كرنفال عيد الميلاد . .
حيث انزلق متنعما ومفعما بتلك الايام ،
حتى تداهمني يقظتي على الحال والمكان والزمان . .
فأطوي تلك الصفحات التي صارت تبدو كصور بعيدة . .
وهاهو الوقت قد حان . . .
وها انا ،
أسقط نفسي من سفوح الغربة التي لصقت نفسي عليها لصقا ،
وعشتها متوترا ، ومأزوما ،
واعود ادراجي . .
حيث بيتنا في القرية القريبة من اطراف المدينة ،
وحيث بيت بهيجة الواقع على الطريق بين بيتنا ومركز بغداد . .
وحيث اماكن الطفولة ،
وتسكعات الطلبة ، وايام المدارس . .
خطوة ،
خطوتان ،
وكنت على عتبة باب دارنا . .
تلمست المقل والجفون الراعشة بالمودة ، وفاض الشوق والحنان . .
وغرقت في بيتنا العراقي الكبير وفاضت بنا المودة جميعا . .
طوينا الظهيرات حلوة وعذبة ..
وسهرنا المساءات ,
كان لابد ان نجتر الحديث مرة اخرى عن عصر ارتحل ، وبوادر عصر جديد ،
وزمن حل . .
كانت النفوس والكلمات تنبيء عن قلق وحيرة بقدر ماتنبيء من ارتياح . .
والآراء مختلفة ،
متقاطعة ، ومتشابكة . .
هكذا فهمتها ،
أو ، هكذا كان عصي علي فهمها .
وكان الملح الطيب المذاق في الوجوه الطيبة يستجدي تفسيرا ووضوحا لبعض التفاصيل غير الواضحة التي نسمع بحصولها في بعض اماكن بغداد ، والتي يقلقنا الحديث حولها . .
لاجواب عندي . .
فغرقنا في الحيرة ،
أنا ،
وهم ،
والملح الطيب المذاق . .
– 5 –
اتجهت صوب بغداد ،
قاصدا بيت بهيجة التي تأخرت عليها ولم ازرها لغاية اليوم . .
فهي بالتأكيد تنتظر زيارتي ،
وربما كان عنقها يشرئب ايضا وبعد هذه السنين الطويلة من وراء سياج بيتها تنتظر زيارتي لها ، فوجهي سيشق لها عن باقي وجوه عنقودنا الذي كان في زمن ما ينتشر في اركان بيتها هذا ، حيث كنا نخبيء كتبنا المدرسية تحت أرائك البيت ونمضي في لهونا واوهامنا وقتذاك ، حيث كان حارث رحمه الله ، وكان عماد ، وكنت انا . .
وصرنا عنقود بهيجة . .
مؤكد ان بهيجة اليوم حين تراني ستنصب مناحة تذكاراتها ،
ومناحة الشعر الأبيض الذي سيضيء مع الشمس من اعلى رأسي وهي تراني ادخل الزقاق قادما اليها ،
سيترقرق الدمع ، كما كانت الكلمات تخرج رقراقة . .
ربما امامي ،
وربما ستمهلني دموعها بعد ان اغادرها . .
كانت شوارع بغداد قلقة ،
رأيتها مقطعة الأوصال . .
تتراكم عند مداخلها قطع خرسانية صلدة ،
صماء ،
هامدة . .
امتلأت الساحات الداخلية للأزقة بتراكمات الاوساخ والنقايات وكسر الحجارة ،
تتطاير اكياس النايلون وسط بعض الشوارع المسدودة . .
تجولت لأشتري بعض الهدايا التي يجب ان احملها بيدي وانا ادخل اول مرة وبعد سنين من الغياب الى بيت بهيجة ، لأن هدايا ( من الخارج ) لم تأت معي كما كان متوقعا فقد طرت الى هنا خفيفا كالطير في موسم العودة . .
خطوة ،
وأخرى . .
ويخرج الدفء وعمق الكلام من النوافذ . .
علقت الأكياس التي اشتريت بأصابع يدي ،
وغلفت علبة الحلويات بغلاف وردي جميل . .
ودلفت من السوق صوب بيت بهيجة . .
نصف المسافة نحو بيت بهيجة وضعته وراء ظهري ،
خطوة ،
وأخرى . .
فيصمت الكون . .
تفغر الوجوه المحيطة أفواهها . .
يتصاعد الدخان الى عنان السماء وتتناثر في تلك النقطة ، خلف البيوت التي امامي ،
قطع من كل شيء . .
تصعد الى السماء ،
تنقلب ،
ثم تهوي . .
تراكض الناس ، ركضت معهم ،
وتعالى الصراخ ، سمعنا العويل والأنين من هناك . .
سقطت كل الأشياء من يدي ،
ركضت مع من يركض بأتجاه الدوي والنثار والدخان ،
وركضت . . .
– صاروخ أمريكي . .
– لا ، سيارة مفخخة . .
أركض . .
ارفع يدي ، فتذهب في فراغ الهواء والريح الذي تطير به قدماي ،
والمسافة نحو المكان الذي تمزق قلبي عليه أصبحت دهرا . .
وصلت . .
تجمهرت الوجوه المكفهرة ،
صفوف ،
خلفها صفوف . .
أفواج الشباب الذين يحملون النقالات والمعاول تقطع هذه الصفوف ، وتزيح بعضها . .
والدخان يتطاير ويعتم بعض المكان حول البيوت والانقاض ،
تناثرت كتل الاسمنت والطابوق والبناء الممزق في كل المحيط . .
– ثلاثة بيوت متجاورة . .
– سيارة مفخخة اصطفت بمحاذاتها ومزقتها من شدة الانفجار . .
وجدت لي طريقا من بين المزدحمين . .
اقتربت اكثر من اكوام البيوت المتناثرة ، وقد كان الفتية والرجال يحملون أشلاء الناس الممزقة من بين الانقاض . .
اقتربت اكثر ،
فرأيت . . . .
هناك ، من بعيد ،
وتحت كومة من الحجارة والطابوق ،
كانت بهيجة ،
مسجاة ،
متكوم نصفها في خارج باب احدى الغرف المهدمة ، ونصفها الآخر مطمور تحت انقاض الغرفة . .
بهيجة . .؟ ! !
نعم ، كانت بهيجة ،
والدخان الكثيف يتطاير حول المكان . .
وكانت خطوط الدم تسيل من صدغيها الى وجهها . .
ثم يسيل الدم الى عنقها الأسمر المتين ، الذي طالما كانت تشرئب به من خلف سياج الدار، تنتظر قادم منا . . .
—