الإنسانُ، قِيلَ عنهُ خُلق في كبد1. يُكابدُ عناءَ الواقِعِ ويُصارع أمواجَ بحرهِ العالية. الحياةُ وجعٌ حَتميّ، بها فترات متراخية تبرقُ قليلا.. فتختفي.
تَشتدُّ الرغبةُ إلى الحَكي والسَّرد، قصدَ بناءِ قصِّ يُوازي مَضمُونُهُ الواقعَ في كل تجلياتِه واحتلالاتِه وانتصاراتِه، فتَستقلُّ النصوصُ ببنائِها الدرامي؛ وبِخصوصياتِ شُخوصِها؛ ونَمَطِ تفكيرهم؛ وتَضَارُبِ مشاعرهِم.. وتتناسَلُ الأحداثُ باختلافِها؛ وتَتَعَدّدُ الأماكن بكل أسمائِها ودلالاتِها. ولكن، بين كل هذا وذاك يتأسَّسُ المشترك ويتوحد في مفهوم وَرُؤية مُعينة، مُؤطِّرة، تُلخِّص عناءَ الإنسان وغُربتَه داخل فضاءات التيه، وفي دهاليزِ عَوالمِ الإخفاق والسّقوط، والإرغام على الانجرافِ نحو أفقٍ ضبابي غامضَةٌ تفاصيلُه، كـ «شارع يؤدي إلى السحاب»2 .
نعم، أجمعت قصص توازيات على أن تتوحدَ في دائرة مشتركها، وهو معاناة الإنسان وعناؤُه وتغريبته في مدن الشقاء، وتعبه في الركض خلف مصير بين تبدّلات وتحولات مَعَاشية – اجتماعية قاهرة. شخوصٌ اختارها القاص محمد الشايب لقصصه تطابقًا مع الواقع وحركته وتناقضاته، تُطاردُها (لعنة التذكر) واسترجاع الماضي بحمولتِه المُثقلة، وبإخفاقات وانكسارات وتحولات رغم أنها ماضوية إلا أن الحاضر نتيجتها وجزء تولَّد عنها وانسلَّ من رحمها…
و«الذاكرة لعنة الإنسان المشتهاة ولعبته الخطرة، إذ بمقدار ما تتيح له سفرا دائما نحو الحرية، فإنها تصبح سجنه. وفي هذا السفر الدائم يعيد تشكيل العالم والرغبات والأوهام»3.
شخصياتُ هذه القصص تركت شيئا في الهُناك وجاءت حاضرها لتبحث عنه في الهُنا، كمثل “مرْبيل” في قصة “مطر الوصل” فهي عادت لتبحث عن “أحمد الحوات” في مكانه أو في مكان لقائهما الأول بعد سنوات الإبعاد والبعاد. أو كشخصية قصة “العين في العين” الذي أقسم أن لا يعود.. ثم عاد من حيث انطلق: « مدينة تتحالف ضده وشارع لم يبتسم قط في وجهه» 4، عاد ليسأل: « لماذا يغتال الزمن كل وردة زرعناها في وجه الليل !؟ ». وكأن هذه الشخصيات تتحسس ملامحها المتعبة عبر السَّعي إلى سَفر في الزمن، أي إلى الماضي المُشْعِل لَحَنين مُتلبد، تمامًا، كشخصية عثمان في قصة “كبريت أحمر” حين يقف أمام المرآة، فتفيض عينه بالدمع كأنَّه يُبصر ما فات عبر مرآة متشظية، أو يبصر ذاته الحاضرة وذاته الماضية في نَفس الآن.. إنَّها نصوص تُسافر « في اتجاهات شتى، (فنرى) كيف أن الحكاية بارعة في الكر والفر، كيف أنها تنط هنا وهناك، وتزاوج بين الماضي والحاضر.. »5
ومما يبدو أن للماضي سلطة وقوة تأثير على مصير حياة هذه الشخوص عن طريق الاستلاب، فهم يعيشون الحاضر بألم الماضي بوجعه وانكساراته، ويجرون «أطنانا من الجراح والذكريات »6. وبهذا الشكل الناجح في الصياغة اعتمد الكاتب على استخدام تقنية الاسترجاع والارتداد والفلاش باك دون الخضوع لسلطة المتابعة والتوالي في الأحداث (فالسابق هنا يجاور اللاحق) ويتمازج حينا، ليكون دور المتلقي/القارئ مهما، وهو ترتيب التفاصيل وتنظيمها، كي يزيد اقترابا من هموم الشخصيات ويتوغل حتى يفهم نفسيتها، ويدرك حجم المعاناة وقوتها، وشكل الأنين المستحوذ على هذه النصوص الضاربة في عمق الألم الإنساني.
* * * * * *
وبين طيات القصة الأولى المعنونة بـ “كبريت أحمر”، نجد الكاتب يورطنا في محاولة فهم شخصية عثمان، ذلك الرجل الأربعيني، رغم بساطته إلا أن غموضه يوحي بأنه شخص شديد التعقيد، وإذ يعتقد أهل حيه أنهم يعرفونه، ولا يعرفونه في الآن نفسه، فهو مجهول الأصل، كتوم لا يبوح بشيء ولا يشتكي من أمر. كما يدرك الجميع أنه يحمل سرا ما بسبب ما يظهر عليه من الانعزال، وهذا بعضُ غموضه. واعتمد الكاتب على سرد الرواة حتى يُقحم القارئ في عملية الربط بين تفاصيل ما يقولون بغية فهم هذه الشخصية الغريبة التي تركت في عمق الرواة أنفسهم كل علامات الاستفهام والتعجب – وبالأخص- لما أقبل على «جمع حقائب أسراره التي لم يفتحها قط ورحل دون إخبار أحد». ومهما يكن، فجميعهم ظلت تأكلهم الدهشة، لأن رغم إحساسهم بما يحمله من هموم لم يؤثر على ابتسامته العريضة التي لا تغرب أبدا عن وجهه أمام أنظار الناس، إلى أن استقال من الحياة فاختار الهروب/ الانتحار محتميا بالموت المجهول من قبح الواقع وجبروته.
فهل تُفضي الذاكرة بالإنسان إلى الموت؟
ربما، وعلى رأي جُونْ لانْكَستر سْبَّالْدِنْغ: » بإمكان الذاكرة أن تكون جنة لا يستطيع أحد إخراجنا منها، كما أن بإمكانها أيضا أن تكون جحيماً لا نستطيع الهروب منها «.
لكن عثمان هرب منها إلى الموت.
وفي قصة الكتاب، يضعنا القاص أمام تواز بين ما (يقرأُه الرجل السبعيني) – الشخصية المحورية- داخل كتابه، و(حياته الخاصة). ولا يتركنا ننزاح بالتأويل بعيدا، إذ يُعتبر الكتاب جزءًا من حياة هذا الشخص باعتباره هدية له من زوجته قبل وفاتها وكما أنه أثرٌ من ماضيها وسر من أسرار المؤانسة التي ورَّتَتها له بعد رحيلها. هذا التوازي يربط فهمنا بخيط واصل مع تلك العلاقة ما بين الكتاب المقروء (داخل القصة) و(حياة هذه الشخصية) التي تشعر بالانهزام، فتمتد مساحة التأويل وتتسع بعد ذلك …
كما نستنبط من القصة إشارتين:
– العلاقة ما بين الرجل والمرأة، والأهمية التي تحتلها المرأة في حياة الرجل، إذ أن حياته – أبدا- لا تكتمل من دونها (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)7
– الحياة بما تحمل من أسرار وتعب..، على الإنسان أن يعيشها بروح بطولية، مهما تسرب إليها الفشل وتربَّص بها الانهزام، عليه أن يؤثث عالما قادرا على منحه قوة المواصلة، وذلك بأن يشعر بمن حوله من محبين يحَسِّسونه بكينونته دون اللجوء إلى الهروب من الواقع لأن الهروب يُفضي إلى الانعزال أو إلى الموت، والحياة أحق أن تُعاش بالمواجهة، وكيف ما كانت مرارتها فهي بطولة، أو كما عبّر عنها عبد الرحمن منيف: «الحياة.. مجرد الحياة يا صاحبي بطولة»!8.
ويشغل الحنين إلى المرأة حيزا لا بأس به داخل المجموعة بدءا من قصة “الكتاب” إلى أن ننتقل إلى قصتي: “سحنة الخريف” و”سحابة هاربة”. هذا الحنين الذي تطور في النصين إلى شكل من أشكال الهروب من حاضر يفرض أثرا من الماضي – حتى إن تمثل هذا الأثر في أشخاص عادوا للقاء صدفة بعد بعاد طويل امتد به الزمن- مهما كان، فهذا الأثر (الماضوي) هو مجرد ذكرى كسحابة هاربة يُحنُّ إليها، لكن لا يُرجى توقفها كي لا تعيد نفس تجربة الإمطار في حاضر «لا يساوي غير الرماد »9. وشخصيات القصتين يُغالبها هاجس الهروب أو الاستسلام لواقع فرض نفسه بعد تجارب حب ماضية لم تكتمل أمام قوة أمواج الحياة المجابهة، وعراقيل اجتماعية، وأعراف وتقاليد.. فكان الهروب وسيلة للابتعاد مخافة المواجهة التي حتما تحتاج شجاعة الإجابة والتبرير والإقناع.. كما وقع – تحديدا- في قصة سحنة الخريف.
ولعل الهروب يتضح أثره – أيضا، وبشكل آخر- في قصة اعويشة التي هربت من قبح واقعها إلى شعاع الحلم البعيد، هناك خلف البحر في الضفة الأخرى.. هذا الانتقال حدد مسارا آخر لحياتها التعيسة.. وعادت بعده بشكل مختلف، وبشخصية غير التي ذهبت بها، لتبهر تلك الألسن التي نالت منها بالقيل والقال.. وتتحدى بيئة تميل إلى التملق والنفاق.
وقطعا، إن كانت اعويشة لاذت بالفرار من ظلم الواقع إلى البحث عن النعيم في ما وراء البحر الأبيض فإن شخصية قصة “العودة” فر من هذا الظلم أيضا، هاربا من ظروف اقتصادية خانقة، ومن حال يُرثى له، مبتغيا حالا أفضل وأقل تعاسة وبؤسا. بيد أنه ليس كـ “اعويشة” التي لم تترك وعدها لأحد بالرجوع. أما هو، فقد ترك خلفه وعدا بالعودة إلى التي قالت له بعد أن أَزْمَعَ على الهجرة: « لماذا قصفتني بهذه القنبلة؟ وكيف أواجه غدي وقد وأدت آخر أحلامي؟».
العودة تجديد، ولعلها مفتاح حياة جديدة لا تشبه التي قبلها، لكن هذا التجديد أو هذا الطور من الحياة يُشكل مصدر قلق وانزعاج للبنت التي أحبته وتناغمت أحاسيسهما معا، فالزمن كلما تراخى إلا وجرف معه تغيرات شتى على مستوى التفكير وعلى مستوى الوجدان.. ومجريات الحياة المعاندة (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن). ومع هذا فقد بقيت تتحسس ملامح الأمل:
»أتمنى أن يبقى في صباغته فالجسد جف والحنايا عطشت».
بعد سنوات عنائها وشقائها وصهد الانتظار: « لم تغلق نوافذ الانتظار، تركتها مشرعة في وجه كل الأيام… »10 ثم علمت بعودته فسارعت أمواجَ الشوق، التي تكسرت في لحظة خاطفة على صخور صلدة.. هكذا، تتحطم كل تصوراتها حين تلقي النظر فيرتد إليها بمشهد غير متوقع، فترى من انتظرته بأمل محتضر يعود ومعه شقراء في سن أمه.
هنا تحديدا يتورط القارئ بين الشخصيتين: هل يتعاطف مع فتاة ضيعت زمنا من عمرها في الانتظار؟ أم يلتمس العذر لشاب أقدم على قبول فرصة زواج لا شيء فيه غير مصلحة الحصول على وثائقه القانونية داخل بلاد الغربة (الأوراق)؟
أم نعلق الأمر على الظروف الإقتصادية والاجتماعية والواقع.. فلو وفرت فرص الشغل للشباب ما أقدم على الهجرة.
وإن قرأنا في قصتي “اعويشة” و”العودة” ما يدل على اعتبار الهجرة إلى أوروبا هي الخلاص من قبضة الظروف العقيمة، فتصورنا أن هذه الهجرة هروب من واقع قبيح إلى واقع يلبي آمال الشباب، فإننا في قصص “العين في العين” “ولكنها لم تعرف شيئا” “لعنة التذكر” سنتوقف أمام هموم الهجرة والرحيل والغربة ومعاناتها.. وحريق الوداع وزفرات التذكر: « وفتحت الذكريات حقيبتها، وخرجت الوجوه تتشظى داخل قطار الغربة، وتتعثر في وحل الأيام… »11
* * * * * *
إننا أمام مجموعة تصفع بالدهشة بما تلمه نصُوصُها من أدوات تقنية وبناء متكامل وإيقاع جمالي رائع تؤثثه اللغة التي تختزل تارة ذاتها وتجود أخرى بمَدَدِها الشعري ونَفسِها الذي يُحيل –حينا- على التأويل عن طريق الإشارة التي تختزل المعنى في ذهن المتلقي، إذ النص «معطى غير تام معطى ينقصه الكثير لتضمنه بياضات، ولاحتوائه على مناطق غير محددة تنتظر القارئ المناسب لملئها وتوجيهها وجهة تأويلية»12 وبهذا واستنادا لنظرية القراءة كما يذهب إلى ذلك أمثال فولفغانغ إيزر: «أن النصوص الأدبية تحتوي دائما على فراغات لا يملؤها إلا القارئ» فإن المعنى هنا كثيرا ما يسير في نسق مُضمر، لتُظهر القراءة المتجددة والمستمرة أبعاده الرؤيوية التي تقوم على التنبيه إلى قيمة الإنسان ككائن وجودي يحتاج أن يستعيد كرامته وثقته بزمنه ومكانه وببلده وتاريخه، دون أن يلجأ إلى الاحتماء بوهم الهروب، أو إلى عزلة نفسية تصيّره غريبا داخل حدود وطنه، وتبعده عن استعادة عزة فُقِدت في دوامة الزمن الطاحن. ومما يدل على هذا في النصوص: الأندلس/ الفاتح/ طارق.. أسماء ومسميات تشير وتضمر عمقا تاريخيا تفتت الارتباط به وحلَّ محله الهجرة والهروب والغربة والألم من تعاسة الحال وبؤسه.
هكذا، وتظل القراءة عتبة التأويل…
صدرت توازيات للقاص محمد الشايب عن مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب سنة 2005. في اثنين وسبعين صفحة من الحجم المتوسط ، تحتوي على العناوين الآتية : كبريت أحمر، الكتاب ، سحنة الخريف ، سحابة هاربة ، اعويشة ، العين في العين ، مطر الوصل ، ولكنها لم تعرف شيئا ، العودة ، لعنة التذكر .
نشرت هذه الورقة في كتاب (تلاوين 2)، الذي أصدرته جمعية التواصل للثقافة والإبداع في المهرجان العربي للقصة القصيرة دورة القاص محمد الشايب.
الهوامش
———————————————————————————-
1 لقد خلقنا الإنسان في كبد ) الآية 4 من سورة البلد
2 توازيات – ص:43
3 عبد الرحمن منيف
4 توازيات – ص:44
5 السابق – ص 37
6 السابق – ص: 47
7 الآية 21 من سورة الروم
8 رواية الأشجار واغتيال مرزوق
9 توازيات – ص: 26
10 السابق – ص: 65
11 قصة “ولكنها لم تعرف شيئا” ص: 53
12 محمد ملياني – المنهج الأدبي.. مقالة: منهج جمالية تلقي النص الأدبي الواقع والمأمول
—