س: كيف ترى واقع القصيدة المعاصرة، ومن خلالها كيف ترى المشهد الشعري المعاصر ؟
– إن إجابة عن سؤال كهذا، من قبيل المغامرة، فمن أين لي أو لغيري، أن يرى المشهد الشعري، وكيف له أن يحدد ملامح ومقومات القصيدة المعاصرة .
إن هذا السؤال ، كان من الممكن الإجابة عنه، أيام كان الشعر في حدود معيارية نظرية، أو حتى في أفق تعددية نظرية معيارية، إذ تظل هذه المعيارية ، حاضرة وفاعلة، حتى حين نرفضها، فنحاورها، ونجددها ونضيف إليها ، وحين كانت هذه المعيارية ترافق الإبداع، فهي حاضرة ومؤثرة في تقويم ما ينشر سواء في اليوميات أو الدوريات أو في عمل دور النشر ونشاطها.
وبفعل هذه المعيارية كانت منابر نشر الإبداع ، تشكل فعلاً نقدياً، هو أقرب إلى أن يكون مصفاة لا يمر منها بحدود فاعلة إلا ما هو جدير بالنشر والتلقي، وكذلك الحال بالنسبة لما ينشر ، سواء كانت مؤسسات النشر ، مبادرات ثقافية خاصة ، وهي الأكثر سعة وتأثيرا واحتراماً، أو عامة، تابعة لمؤسسات حكومية واجتماعية، غير أنهما في الحالين لا يتجاوزان المعيارية في النشر.
أما في المرحلة الراهنة ، ولأن الكثير مما ينشر بلا حدود أو مقومات،فقد ينشر في اليوم الواحد من خلال المنابر الورقية والألكترونية ما كان ينشر على امتداد عام ، وهذا الحال لم يشكل إساءة للشعر فحسب، بل جرد المواهب الشعرية من فرص الحضور والرسوخ والتأثير، وعلى سبيل المثال، أتابع منابر ألكترونية، تنشر نصوصاً إبداعية، تقترن بما يؤشر قراءتها والإعجاب بها ، وهذه الممارسة حتى لو كانت عرضة لفعل المجاملة ،لكنني أجد في كثير من الأحيان، إن عدد الذين قرأوها أو الذين أعجبوا بها، لا يتجاوز عدد أصابع اليد ، وتكون أحياناً من دون قارئ أو معجب واحد .
لذا ، من العسير وأنا أتحدث هنا عن نفسي ، على الأقل، أن أرى واقع المشهد الشعري المعاصر، ومن ثم كيف يمكن رصد المواهب الحقيقية والنصوص الاستثنائية ؟! لذا ضاعت مواهب جديدة في خضم فوضى النشر، حتى حين تلفت نظرك قصيدة أو يستأثر باهتمامك شاعر جديد .
لذا ظلت أسماء محددة، هي التي تشكل المشهد الشعري المعاصر وتستأثر بالتلقي على صعيدي القراءة والنقد، وهذه الأسماء ، قد تكرس معظمها في مرحلة كانت المعيارية فيها، حاضرة ومؤثرة في النشر أولاً وفي التلقي ثانياً.
س: ما هو منظورك للحداثة .. هل تراها في اللغة أم في الفكر أم في الرؤية ومقوماتها ؟
– في الإبداع ،لا تشغلني المصطلحات، وما يقترن بها من تعريفات، إذ رأيت الحداثة في التعبير عن الراهن، من خلال تمثل إبداع الماضي ومن ثم أن يكون النص المعاصر، جسراً إلى المستقبل، فليس من إبداع استثنائي لا يتوفر على مقومات تؤهله إلى أن يحقق الكلاسيكية الخاصة، أي أن يكون إضافة محددة ومحسوسة وفاعلة إلى الإبداع الكلاسيكي، ومن ثم يمتلك موقعاً في التراث الشعري ، بحيث لا يغيب عن محيط التلقي في المستقبل.
إن السؤال ذهب إلى تفريد اللغة والفكر والرؤية الإبداعية، في مجال لا مكان للتفريد فيه، أن الرؤية الإبداعية ، هي نتاج تفاعل اللغة والفكر والوعي الجمالي ، بمصادره ومقوماته ، وبخاصة الموهبة التي هي نتاج استعدادات خاصة، يتم إغناؤها وتفعيلها بالتجربة الثقافية ، في مصادرها الحياتية والمعرفية
س: وما هو دور النقد في تكريس النتاج الإبداعي، بمواصفاته التي أشرت إليها في إجابتك السابقة ؟
– النقد قراءة، غير أنها قراءة تصدر عن وعي وخبرة وإدراك، وقد يرى الناقد في قراءته ما لا يراه القارئ العادي، لذا نجد أن ليس كل النصوص تستهوي الناقد، بل طالما تخير منها ما يسعفه على إعمال أدواته النقدية، والإفادة منها في قراءة النص.
والقراءة النقدية، ليست نشاطاً خدمياً من قبيل الإعلان وغيره من نشاطات الدعاية، كما أنها ليست نشاطاً أحادياً، يعمل بمعزل عن النص، لذا فإن النص الذي لا يتوفر على المقومات الإبداعية الفاعلة، لن يغير النقد من صفاته ولا يحيي فيه ما هو ميت.
إن القراءة النقدية هي التي تخرج النص الإبداعي من منطقة الثبات والاطمئنان وتدفع به إلى منطقة الحركة والأسئلة ، والنص الإبداعي منتج أسئلة لا مصدر إجابات.
وبهذه الحركة الانتقالية ، قد يتحقق تكريس النتاج الإبداعي ، ليس كهدف للقراءة النقدية وإنما كناتج من نواتجها ، لكن في الوقت نفسه يتوفر النقد على فرصة لأن يُكرس هو أيضاً.
إن القراءة النقدية تأخذ أهميتها من أهمية النص الذي تقرأ، وبالتالي من عمق ما تتوصل إليه، وهنا يمكن القول، إن نصاً ساذجاً وضعيفاً لا يمنح الناقد القدرة على كشف ما توصل إليه من خلال توظيف أدواته النقدية ، معرفية وجمالية.
وقد يحصل هذا، لكن من منطلقات غير موضوعية ، وحين يحصل مثل هذا ، فهو ليس سوى مأزق للنقد والناقد، وليس سوى وهم للإبداع والمبدع .
س: لكن نقاداً كثيرين يحجمون عن الدراسات التطبيقية ؟
– إن من يحجم عن الدراسات التطبيقية ، لا يعد ناقداً، فالقراءة النقدية هي التي تتوصل إلى اكتشافاتها عن طريق الدراسة التطبيقية ، أما سوى ذلك، أي الدراسات التي تعتكف في النظرية فيمكن أن نعد أصحابها منظرين أو أكاديميين لأن الفكر النقدي النظري إنْ لم يتحول إلى مفاتيح في القراءات النقدية، يظل مجرد أفكار، قد تكون في منتهى العمق والأهمية ولكنها من دون فاعلية نقدية.
إن جميع النظريات ، ليس في نقد الإبداع فحسب، بل في الفلسفة والاجتماع والاقتصاد وغيرها، تبدو أهميتها وتمتحن جدارتها في التطبيق، ومن دونه لا تتجاوز أن تكون مجرد أفكار ومقولات قد تحظى بمكانة في معاهد التعليم وقاعات المحاضرات ، ولكنها لا تقترب من الواقع ولا تؤثر فيه التأثير الذي يؤدي إلى التغيير والتحولات .
س: الإبداع مشروع كتابة لا ينتهي، ما هو مشروع حميد سعيد الشعري ؟
– هو كذلك، سواء في استمراره وتواصله أو في البحث عن جديد، والجديد هنا، ليس الموضوع ، بل هو جديد مكونات النص ومقوماته، لغة وإيقاعات وموضوعات ورموزاً، وهذا ليس مجرد قول، يدخل مدخل الادعاء أو المبالغة،أو تخيل ما هو غير واقعي وغير حقيقي.
1 بل هو وصف للتحولات التي شهدها نصي الشعري على امتداد زمن تجربتي الشعرية .
إن هذه التحولات لا يستأثر بها ما تطرح من موضوعات وما تتبنى من قضايا، ولكنها تفيد من متغيرات الموضوعات والقضايا، في متغيرات بنى النص الفكرية والجمالية، فلا تكرر نصاً ولا تستهلك رمزاً، ولا تعيد كتابة قصيدة ، كما يحدث لدى شعراء كثيرين إذ يكررون قصيدتهم في مقوماتها الفكرية والجمالية ، حتى في حال تغيير الموضوع الذي تتناوله وتعبر عنه .
س: هل تقصد في إجابتك السابقة ، كثافة البناء الدرامي في قصيدتك وتشير إليه ؟
– ليس تحديداً، وكانت البنية الدرامية وما زالت ، من مكونات قصيدتي منذ بداياتها،وحين صدرت مجموعتي الشعرية الأولى ” شواطئ لم تعرف الدفء” رأى ناقدان مهمان ، هما الدكتور عز الدين اسماعيل ومحمد مبارك ما تتضمنه قصائدها من توجه درامي، بل اقترحا علي أن أكتب مسرحاً شعرياً.
إن البنية الدرامية ، مما ميز القصيدة الحديثة فكانت علامة فارقة ميزتها عن القصيدة الغنائية، في انسياب لغتها، وهذه البنية – الدرامية – بعض من خصوصية القصيدة الحديثة وعمقها وتعدد طبقاتها .
س: ألا ترى إن الكثير من مقومات التميز والإضافات الجمالية، اقترنت بجيل الستينيات من القرن الماضي، هذا الجيل المتميز، هل يمكن تحديد إضافات هذا الجيل ؟
– لا شك إن متغيرات كثيرة وإضافات مهمة ، عرفتها القصيدة العربية الحديثة من خلال شعراء موهوبين وجادين، ينتسيون إلى هذا الجيل الذي بدأ تجاربه الأولى في المحيطين العربي والعالمي، بالغة التميز، حيث شهد المحيطان المذكوران توجهات اتسمت بوعي نقدي لكثير من الأفكار والممارسات التي كانت تبدو من قبيل المسلمات، أديولوجية وسياسية وجمالية، وهذا ما أعطى النشاط الإبداعي طاقة فاعلة، ظهرت ليس في الشعر حسب، بل في السينما والمسرح والقصة القصيرة والرواية، والفن التشكيلي.
وقد اقترنت هذه المتغيرات بحركات اجتماعية ذات توجه نقدي فاعل شملت العالمين الرأسمالي والاشتراكي في آن، فأخرجت الإبداع بما فيه الشعري من ثوابت القناعات الباردة إلى حيوية الحوار والأسئلة والرفض والإضافة .
لذا كانت قصيدة الجيل الستيني ، وأنا لا أقصد ، العقد الستيني، فقصيدة تنتسب إلى عقد زمني واحد، قاصرة وتفتقد الطموح ، بل أقصد الوعي النقدي والتوجه الرافض لكل ما ينسب إلى الثبات الذي كتب به الشعراء الموهوبون من الستينيين قصائدهم ، لذا كانت المتغيرات تتوسع لتشمل كل مقومات القصيدة، فكراً وشكلاً ولغة وإيقاعاً وتمثلاً ثقافيا للماضي وللآخر.
ولعل هذا الجيل بما امتلك من طاقة تجريبية شجاعة ، لم يتجاوز من سبقه فقط، بل أثر فيه أيضا، حتى اقتربت قصيدة الرواد من قصيدة الستينيين ، بعد أن تمثل الرواد قصيدة الستينيين فتعلموا منها وأفادوا من تجاربها، كما ابتعد الستينيون عن تقليد قصيدة الرواد وتكرارها .
ومما ينبغي الإشارة إليه، إن الأصوات الشعرية المهمة من الستينيين ، التي تواصل تأثيرها ، لم تتوقف عند بداياتها بل استمرت تجرب وتكتشف وتضيف واستمر حضورها فاعلاً حتى الآن.
س: وهل من دور للشاعر على صعيد اللغة ؟
– اللغة ، لغتان، الأولى أدائية وهي لغة التواصل ، سواء كانت محكية أو مكتوبة، وهي وإن كانت ذات طابع ودور وظيفيين يمكن تحديدهما، بالتواصل، بين القائل والمتلقي أوبين الكاتب والقارئ ، وهي تتجدد بفعل المتغيرات الثقافية والاجتماعية ، فتتراجع مفردات وتتقدم أخرى، وتضعف بنى لتظهر أخرى. وهي ليست ذات طابع واحد ، حتى في اللغة الواحدة ، إذ تميزها الأساليب كما يميزها تأثرها بالمحيط وباللهجة القريبة منها، كما تتأثر بمصادرها التراثية والتعليمية والشفهية.
والثانية ،هي اللغة الشعرية، التي كانت وما زالت المحيط الحيوي للتجديد، ليس في المفردة بل في استعمالها إلى حد تجديد المعنى بالتجاوز والجوازات.
ويبدولي إن القصيدة الحديثة أو لنقل إن شاعرها أكثر جرأة في اقتحام مختبر الجوازات اللغوية وأكثر تجاوزاً في تظليل المعنى، وهو بقدر ما يوسع أفق المعنى، يوسع معجمه أيضاً.
لذلك إن قراءة محض لغوية في القصيدة الحديثة ، تكشف لنا متغيرات كبيرة وجريئة على صعيد تجديد اللغة.
س: الشعر دهشة إبداعية، في المحاكاة والتفاعل، ما هي المؤثرات في الإبداع الحقيقي وهل من سبيل إلى تطويرها ؟
– لا تعجب حين أجيبك، عن سؤالك هذا بالقول :أخشى تحديد ذكر المؤثرات في الإبداع ، ليس لأنها غائبة عن الذهن، بل هي حاضرة ، وحضورها هو الذي يدفع بي إلى الخشية من ذكرها، ذلك إن الدهشة الإبداعية، كما وصفها السؤال، لا يمكن وصفها أو تحديدها، وبالتالي لا يمكن ذكر المؤثرات في تشكيلها ويمكن ذكر جملة من هذه المؤثرات ، ولكن قد تتوفر لكثيرين ممن يحاولون أو حاولوا ، الكتابة الإبداعية ، لكن كل أو معظم ما كتبوا لم يرق إلى مستوى الإبداع الحقيقي ، حيث الدهشة الإبداعية.
إن كيمياء الإبداع معقدة جداً، وعملها معقد هو الآخر، ونتائجها استثنائية جداً.
س: تشتغل قصائك في محيط ثلاثة اقتضاءات فنية مؤثرة، بصري ولغوي وإيقاعي، أيها أكثر تأثيراً ، ويزيد من شعرية القصيدة وجماليتها ؟
– ماورد في السؤال ينتمي إلى قراءة نقدية، تحفر وتكتشف وتقترح مواصفات النص أو تحددها، أما الشاعر أو أي مبدع نص، فيشتغل في ما هو عام وشامل ومطلق.
أي لا يجزئ مكونات نصه،وما يراها مفردات ، فيجمعها ، والنص كما الشجرة، فهي تنمو موحدة بكل مكوناتها ، ولا تنمو مجزأة، الجذع والأوراق والثمار، وكذلك هي القصيدة في مكوناتها.
أي أنها، ليست تجميع للموضوع والصورة والإيقاع واللغة، بل هي وحدة جميع مكوناتها، مهما كانت هذه المكونات، وتكمن عبقرية الإبداع ، بل عبقرية المبدع أيضاً، في هذه الوحدة التي تجتهد القراءات النقدية في اكتشافها وتحديدها، واكتشاف الفعل الجمالي فيها واقتراح حدوده.
إن الجمال ليس في جمع مفردات ، يمكن وصفها بأنها جميلة ، بل في ما تخلق هذه المفردات ، جميلة كانت أو غير ذلك من وحدة جمالية، ونحن نعلم إن الجمال نسبي فيها.
وعلى سبيل المثال، نحن نرى هذه الوحدة الجمالية في المرأة وفي الطبيعة واللوحة التشكيلية وفي الموسيقى، وكل منها يتشكل من عدد من المكونات يتحقق الجمال فيها بفعل وحدة جمالية في تكامل هذه المكونات.
س: وكيف تختار عناوين قصائك، وهل من عناوين تكون أقرب إلى شخصيتك ؟
– لا أذكر أنني اخترت عنواناً لإحدى قصائدي قبل كتابتها أو بتعبير أدق، قبل الانغمار في كتابتها، فإذ تراودني القصيدة أو أراودها وأتعايش معها ، أطاردها فتتمرد ، وتقترب مني بكل غوايتها فأستجيب لها، وفي لحظة تتوحد فيها الفكرة بالأداة، ويكون اللقاء على صفحة ورقة، فأكتبها، وخلال الكتابة في كثير من الأحيان ينبثق العنوان في الذهن فأسارع من دون تردد إلى اختياره، وفي بعض الأحيان لا يأتي انبثاق العنوان في الذهن إلا بعد الانتهاء من كتابة القصيدة ، ولا يخطر ببالي، بل لم يخطر ببالي يوماً إن كان العنوان الذي أختاره لقصيدتي قريباً أو بعيداً عن شخصي، ولأنه عنوان قصيدة، فلا بد أن يكون بعضاً منها، وفي الوقت ذاته يكون قريباً مني ، فنحن، القصيدة وعنوانها وأنا، نتوحد في التجربة، حتى يكون أي تجاوز على هذه الوحدة فعلاً خارجيا ومحاولة لا تمس جوهرها.
س: هناك من يرى إن شعر حميد سعيد ذو منزع سريالي ؟
– ربما ، لكنني لا أقلد في ما أكتب من شعر، النصوص السريالية، بل أقرأها ، كما لا تستلبني اللوحات السريالية بل أتأملها وأعجب ببعضها، ولا تأسرني الأطروحات النظرية السريالية ، بل أحاورها.
نعم ، إن أكثر من ناقد أشار إلى المؤثر السريالي في قصيدتي، وهي إشارات أحترمها، فهي قراءة من القراءات في شعري.
ولأنني أنفتح بنصي الشعري على عدد من المصادر والمؤثرات ويتشكل من مجموعة من الاستجابات، فلمَ لا يكون المؤثر السريالي واحداً منها ؟
وبالتالي قد يكون شعري ذا منزع سريالي ، لكنه ليس شعرا سريالياً .
س: تحاور في شعرك الرموز والشخصيات التاريخية، في مساقات درامية محتدمة، ما أهمية هذا الحوار في الشعر ؟
– من خلال هذا الحوار أصل إلى حالات شعرية ، تنتسب إلى جوهر الشعر، إذ أستحضر تجارب الماضي من جهة، ومن خلالها أعيش تجارب الحاضر، من جهة ثانية.
وفي كل رمز أو شخصية من الماضي في قصيدتي، ما يخرجها من رمزيتها أو من ماضيها ، ليدخلها في صميم الحالة الشعرية، موضوعاً وجمالاً وفكراً وهدفاً ، وباستحضار الماضي من خلال رموز وشخصيات ، يكون تنشيط البنية الدرامية في القصيدة وإبعادها عن التسطيح وامتداداته السائبة، بالتكثيف الدرامي وتعدد أصواته وفضاءاته .
وكما قلت من قبل، وكررت القول في أكثر من مناسبة، إن الشخصية الشعرية ، سواء كانت من الماضي أو من الحاضر، ليست هي الشخصية كما هي في الواقع، بل هي شخصية شعرية أولاً وأخيراً، يخلقها الشاعر بأدواته الشعرية، ولو تأملنا في جميع النصوص الشعرية، غنائية أو درامية، التي تستحضر الشخصية ، سواء من الماضي أو الحاضر، في الشعر العربي أو الأجنبي ، لاكتشفنا إن الشخصية الشعرية فيها من الشاعر بهذا القدر أو ذاك، إلى حد إن في كثير من النصوص الشعرية تطغى فيها الشخصية الشعرية على الشخصية الواقعية .
ويتكرر هذا الحال ، في الأعمال التشكيلية أيضاً، في النحت والرسم، حتى إن المتخيل التشكيلي للشخص ، يحل محل الشخص ، ولطالما تذكرت مقولة النحات ” رودان” حين أنجز منحوتة لأحد البابوات ، وقيل له، لكنها لاتشبه البابا، فقال : إن البابا سيشبهها.
س: في قصائدك حنين جارف إلى الأماكن الضائعة والمدن المنسية ، فهي تبحث عن خارطة وجود جديدة وأزمنة جديدة، هل تفسر لنا ذلك ، وهل عثرت عليها ، أم ما زلت تبحث عنها ؟
– أولاً.. أنا على مذهب شيخي أبي الطيب المتنبي في قوله:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي دامع العين باكيا
ولأن المكان عندي يرتبط بالناس، الذين عايشتهم وأعايشهم في رحابه، تجدني دائم الحنين إليهم، ومن خلالهم إلى المكان الذي عايشتهم فيه، هذا على الصعيد الذاتي.
أما على الصعيد العام، فقد نشأنا على ذاكرة الفردوس المفقود، وسنكتشف في ما بعد، إن كل ما نفقده هو فردوس نظل نحلم به ونتذكره ونتخيله ونتمنى العودة إليه ، ثم إنني من جيل اقترنت طفولته بنكبة فلسطين ومن ثم عاش وعي النكسة الحزيرانية، حيث تشوه حلم العودة .. وإن كنا نحاول التشبث به .
في منتصف السبعينيات ، كنت في بيروت قادماً من مدريد في الطريق إلى بغداد، وسألني صحفي لبناني في إحدى الأسبوعيات عن المدن الأندلسية، فقلت له : إنها مدن عادت إلى أهلها، إن قلبي على المدن العربية التي لم تسقط بعد، وأذكر إنني زرت الشهيد طارق عزيز في مكتبه، فأخرج المجلة وقال لي: لو تعلم ماذا فعلت بي ، بحديثك عن المدن العربية التي لم تسقط بعد ، فأجبته : هذا ما خطر لي.
وها نحن.. في مسلسل فقدان المدن العربية التي نحب، حتى كأن قول المتنبي :
أبوكم آدمٌ سن المعاصي وعلمكم مفارقة الجنان
قدرٌ.. في ما نفارق من جنان، فإذا فارقناها في الواقع ، نستحضرها في الابداع، نتخيلها، ونعود إليها ونعيش فيها في فضاء هذا المتخيل، فتكون فردوسنا ومدينتنا الفاضلة وحلمنا الجمالي الفريد.
س: تناولتُ تجربتكَ الشعرية في كتابي” فضاءات جمالية في شعر حميد سعيد” وقد عدَه بعض من كتب عنه ، من بين أهم ما كتب عن تجربتك الشعرية نقدياً، هل يمكنني أن أسالك عن رأيك فيه ؟
– لاشك بأنه كتاب نقدي مهم، إذ تناول جوانب في تجربتي الشعرية كانت أرضاً بكراً، على صعيد التناول النقدي.
وأظن إن ما استقبل به من اهتمام، دليل أهميته، فعلى صعيد القراءة صار يطلب بكثافة واستمرار، وبخاصة من المكتبات الجامعية، وكتب عنه إعلاميون معروفون ونقاد بارزون وكتاب جادون .
س: ما هو منظورك للاغتراب ، وما هي معاناتك منه ؟
– لنبدأ بالتفريق بين مصطلحي الغربة والاغتراب، فالغربة مكانية ، أي الابتعاد عن مكان ، نشأت فيه وارتبطت به بعلاقات عاطفية واجتماعية وفكرية، ثم يجد المرء نفسه ، بعيداً عن كل ما أشرنا إليه، في مكان آخر وعلاقات أخرى وأناس آخرين.
والإحساس بالغربة لا يكون بالانتقال من بلاد إلى بلاد أخرى فقط، فقد تعاش الغربة بانتقال الإنسان من الريف إلى المدينة أو من مدينة صغيرة هادئة إلى مدينة كبيرة صاخبة ومعقدة في تكوينها الاجتماعي.
أما الاغتراب فهو معاناة نفسية وفكرية وإحساس بعدم الانسجام مع محيط اجتماعي يضطر المرء إلى أن يعيش في فضائه ، وقد يكون الاغتراب ثقافياً، أو اخلاقياً أو طبقياً، وليس من الوهم القول: إن الإحساس بالاغتراب ، قد يكون داخل الوطن أوالمدينة، حيث نشأ الإنسان وعاش.
وقد يكون الإحساس به داخل المجتمع وأحياناً في المحيط الأسري، وهذا الإحساس هو الأكثر مرارة في ما يحس به المرء من اغتراب.
إن مواجهة المتغيرات بين مجتمع وآخر يتطلب قوة ذاتية ووعياً فاعلاً، ومن دونهما يتحول الاغتراب إلى مصدر للاكتئاب وسبب للانفصام .
وقد يلجأ الإنسان إلى الذاكرة، ذاكرته الاجتماعية والثقافية والمكانية لمواجهة الاغتراب، وهذه المواجهة تكون لدى المفكرين والفنانين والكتاب، مصدر غنى للفكر والفن والكتابة، بينما تكون لدى البعض ما يشبه التراجيديا السوداء وتتحول بمرور الوقت إلى مرض نفسي قريب من التوحد.
وهؤلاء يعيشون انفصاماً حاداً، حيث يعيشون الحياة الجديدة بكل معطياتها ويلعنونها في السر أو في حدود حياتية ضيقة وما يكرس هذا الانفصام إن جيل الأبناء يعيش هذه الحياة الجديدة ويقبل عليها بشراهة وعنفوان، فيكون الاغتراب حتى داخل الأسرة الواحدة والبيت الواحد .
س: ما هو منظورك للزمن على صعيد الإبداع، وهل له ثمة تأثير في العمل الإبداعي ؟
– ليس الزمن ، هو الوقت المجرد أي أنه ليس في عدد الأيام والسنين، وإذا كان لكل زمن طبيعته ، حتى في المرحلة التاريخية الواحدة، أي أن الزمن في هذه المرحلة مثلاً، لا يمكن أن يكون هو نفسه في أورباوافريقيا.لأن الزمن يتشكل من المكان والتاريخ والاقتصاد والثقافة والوعي الإنساني.
حتى في وقتنا هذا وفي ظل التطور المذهل في وسائل الاتصال مما يجعل القول بأن العالم قرية صغيرة ، حقيقة يمكن إدراكها والتعامل معها، فإن الزمن لا يتشابه بين مكان وآخر داخل هذه القرية الافتراضية، ومن الطبيعي أن يتأثر الإبداع بزمنه وأن يؤثر فيه أيضاً، والحركات الإبداعية الأصيلة هي التي تتمثل متغيرات زمنها وتعبر عنها وتدرك بعمق متغيرات الآتي وتمهد لها.
ورغم فردية الإبداع ، أي ارتباطه بالمبدع الفرد، فإن لكل مرحلة زمنية في حاضنتها المكانية ، ملامح خاصة بها، يمكن إدراكها، وهي التي تطبع الإبداع بطابعها ، من دون أن تفقده خصائصه الفردية.
س: في ديوانك ” من أوراق الموريسكي” حيوية في توظيف المكان، تستجيب لتجاربك، هل تراه استنفد في رؤاه ودلالاته من قبل الدارسين، أم أن أشياء فيه لم تدرس بعد ؟
– رغم التناول الإعلامي والنقدي الواسعين لهذا الديوان، فهو ما زال في فضاء التلقي .
ومن المؤكد إن هذا التلقي ، ينتج قراءات عديدة، قد تتفق في أشياء وتختلف في أشياء أخرى ، وقد تصل بعض هذه القراءات إلى مناطق في جغرافية الإبداع لم تصل إليها قراءات سبقتها.
أما أنا فلا أستطيع تحديد وتأشير رؤاه ودلالاته، فتلك مهمة التلقي ، والنقدي منه على وجه خاص.
إن للأعمال الإبداعية المهمة ، وآمل أن يكون ديوان ” من أوراق الموريسكي” مهماً، تظل مفتوحة على قراءات تتجدد ، في أدواتها ورؤاها، فتضيف جديداً إلى ما سبقها من قراءات، بل تضيف إلى النص الإبداعي، من خلال اكتشاف تضاريسه وإنارة غوامضه.
إلى يومنا هذا تقرأ المعلقات قراءات نقدية جديدة ـ ويقرأ كذلك، أبو نواس والمتنبي وشكسبير ورامبو ولوركا وعلي محمود طه والياس أبو شبكة وبدوي الجبل والسياب وغيرهم .
وفي كثير من هذه القراءات النقدية الجديدة ، يتم اكتشاف خصائص في شعرهم لم تكتشف من قبل، فنقرأ هذه الاكتشافات ونحاورها ونتعلم منها ونتمتع بها، سواء ارتضيناها وقبلنا بها أو لم نقبلها .
س: هل ثمة جديد ، في تجربة حميد سعيد الشعرية، بعد كل هذه التحولات ؟
– في هذا الوقت الذي يتواصل حوارنا فيه ، ومنذ أن انتهيت من ديوان ” أولئك أصحابي” الذي كان تجربة جديدة في مسار تجربتي الشعرية، وربما كان جديداً في مسار التجربة الشعرية العربية المعاصرة ، وأنا جد بعيد عن الشعر، يقترب مني ، ثم يبتعد، وأقترب منه فلا أدركه.
لكن هذا البعد ، ليس بُعد المقاطع أو القالي، بل هو بُعد العاشق والمعشوق، وكل منهما بانتظار لقاء جديد ، فإذا حدث وعاد إلي أو عدت إليه، وسيعود أو أعود ، فلن أكرر قصيدة كتبتها ولا تجربة انتهيت منها
بل سأحاول أن أكتب جديداً، كما كنت أفعل من قبل .
س: في قصائدك حسٌ صوفيٌ، هل تذهب إليه بدافع إثراء الدلالات الجمالية وتنويعها ؟
– للإجابة عن هذا السؤال لابد من ذكر أمرين ، أما الأول فقد حاولت باستمرارأن أفيد من لغة الصوفيين ، فهي لغة شعرية بامتياز ، حتى حين لا نجد شعراً صوفياً في الشعر العربي، بمستوى شعرية هذه اللغة، بينما نجد في الشعر الفارسي أو الأذري– نسبة إلى أذربيجان – كما اطلعنا عليه مترجماً، نماذج شعرية عالية.
بينما، نجد في النثر الصوفي العربي ، غنى ، في قاموسه وبنياته وإشراقاته، كانت وستظل مصدراً مهماً من مصادر إغناء الشعرية، وهذا ما حاولت الاشتغال عليه في قصيدتي.
أما الأمر الثاني، إن في مكوناتي ما يشبه النزعة الصوفية، تقترب بي من التقشف والبذل والحرية والمحبة والتواضع، من دون أن أدخل مدخل الفكر الصوفي وشطحاته وتطرفه وعجائبية طقوسه وانحرافاتها .
لكن كل ما ذكرت، لا بد أن يثري الدلالات الجمالية في القصيدة وينوعها .
س: وهل الخبرة الجمالية، كذلك ؟
– إي، نعم .
إنها من مقومات الشعرية الأساسية، وليس من شعرية ناضجة من دون خبرة جمالية.
س:تحتفي قصائك بإيقاع التوازي والتضاد، على مستوى الإيقاع اللغوي أو على مستوى الإيقاع البصري،مما يؤكد إن كلاً من الإيقاع الداخلي والإيقاع الخارجي يؤثران في تكوينها، وما مصدر غناها بالإضافة إلى ما ذكرنا من قبل؟
– القسم الأول من السؤال، قراءة نقدية ، أحترمها،وأجد فيها كشفاً يسعدني ، إذ طالما أكدت على إن النص الإبداعي الحقيقي هو الذي يتيح للنقاد اشتغال أدواتهم النقدية عليه، وأعترف بأنك من خلال ما كتبت عن تجربتي الشعرية ، كنت جاداً ومجتهداً، وقادراً على الوصول إلى إلى جميع طبقات قصيدتي، كما هي قراءاتك في قصائد شعراء آخرين.
أما في ما يتعلق بالقسم الثاني من السؤال ، أي مصدر غناها، أقول: لأنها متعددة المصادر المعرفية، وقد سبق لي أن قلت إن الحياة بكل معطياتها هي مصدر قصيدتي، أي كل ماسمعت وما قرأت وما رأيت ، هو مصدرها ومن ثم مصدر غناها.
س: إنك شاعر مدهش في توظيف التراث، وهذا يعني إنك تحتفي بالتراث والمعاصرة، وهذا ما يحفز على تلقي شعرك، قراءة ونقداً ؟
– اسمح لي أن أسأل.. هل يتمكن شاعر ما أن يكتب قصيدة حديثة تتوفر على مقومات الإبداع من دون أن يمتلك قاعدة معرفية حقيقية، تبدأ بالتراث واستمرار تمثل إنجازات المراحل التي سبقته ، قومياً وعالمياً؟ إن ما وصفه السؤال بالاحتفاء بالتراث ، ليس حالة معزولة عن تأكيد المعاصرة، فالمعاصرة شجرة جديدة في غابة كان التراث يوماً شجرتها الجديدة.
إن النتاج الإبداعي المعاصر غير المنقطع عن التراث هو الذي يمنح القصيدة المعاصرة عمقها وشخصيتها وشموخها وقدرتها على الرسوخ والتأثير.
س: للمفردة القرآنية حضورها في قصيدة حميد سعيد ، وبخاصة في ديوان ” من أوراق الموريسكي” هل من إيضاح لهذا التوجه ؟
– في البدء أقول، إنني رجل مؤمن، لكنني أتحدث بموضوعية ، بل بحياد تام، حين أتناول الظاهرة التي يشير إليها السؤال، فأقول إن المؤثر القرآني ، يتجاوز كثيراً ما رصده السؤال، فالمؤثر القرآني رافق تجربتي الشعرية منذ بداياتها وكان حاضراً في معظم مجموعاتي الشعرية إنْ لم أقلْ جميعها، وهذا الحضور لم يقتصر على المفردة القرآنية ، كما يذهب السؤال إلى هذا، بل ظهر في الإفادة من البنى اللغوية القرآنية ومن الأشخاص الذين ذكروا في القرآن الكريم وما رافقهم من قصص وأحداث ومواقف.
ذلك إن القرآن الكريم، وسأتجاوز هنا القضية الإيمانية ، لأنها ليست الأمر الذي يقصده السؤال، وأتحدث عن النص القرآني في ثرائه اللغوي وإعجازه على صعيد البنى اللغوية، بالإضافة إلى ما يتضمنه من أحداث وتحولات ، تاريخية ودينية وأسطورية.
وهي جميعاً لا ينبغي لشاعر احتفى بالتراث الإنساني ، أن يغفل عن هذا الكنز الفكري واللغوي والجمالي وأن يتجاوزه .
لذا فقد أشار غير واحد من الذين قرأوا شعري نقدياً، إلى أن المرجعية القرآنية منحت قصيدتي بعض خصوصيتها وفرادتها، وجماليتها أيضاً.
س: ما هو أشد أنواع الاغتراب، أثراً وتأثيراً في تجربتك الحياتية والإبداعية ؟
– قد تفاجأ، وقد يفاجأ كثيرون ، حين أقول: إن أشد حالات الاغتراب تأثيراً، في نفسي هو الاغتراب الأخلاقي .
أي حين أكون في محيط غير أخلاقي أوحين يصدر موقف غير أخلاقي عن أناس أتعايش معهم أو ممن عرفتهم واقتربت منهم ، وطالما أدى بي هذا الاغتراب الأخلاقي إلى عزلاتواعتكافات وتوتر نفسي وسلوكي، يضعني أحياناً في حالة يأس من كل شيء.
حتى من الحياة .
س: وماذا عن الاغتراب الفكري والنفسي ؟
– يبدو لي إن الاغتراب النفسي في كثير من حالاته،ناتج عن الاغتراب الفكري ، وحين يتفاقم الاغتراب الفكري يؤدي إلى نتائج وخيمة، على صعيدي الفرد والجماعة.
إذ يؤدي إلى العدمية والتطرف والعدوانية ، فكراً وممارسة، وقد يؤدي إلى الاختلال العاطفي الذي يصل أحياناً إلى حد الإقدام على الانتحار.
قد يتمكن الإنسان فرداً أو جماعة ، الخروج من حصار الاغتراب الفكري ويتحرر من كثير من آثاره السلبية وذلك بتجاوز العزلة والانغلاق وممارسة الحوار والانفتاح الاجتماعي.
إن حالات الاغتراب الفكري اقترنت باستمرار بالانغلاق على ما يعرفه المرء حيث يجد في كل ما لا يعرفه خطأً، أو خطيئة تصل إلى حد الكفر .
ومعظم أحداث الدمار العام كالعدوانية والصراعات الدموية مصدرها الاغتراب الفكري وهي بعض نتائجه .
س: وماذا تقول بشأن الاغتراب الفني، حيث أحس به في قصيتك ؟
– أقول : أنا لا أدافع عن قصيدتي، فهي في كل الأحوال كما في كل حالاتها ، قصيدتي ، وهذا الذي أحسست به فيها، قد يكون فيها وقد لا يكون .
لكنني لا أستطيع الحديث عنه ، ومن ثم لا أستطيع الإجابة عن هذا الجانب تحديداً في سؤالك ، لأنني لم أتعرف عليه في قصيدتي أولاً، وثانياً لأنني لا أستطيع تمييزه في النص الإبداعي.
س: ماهو رأيك في الاغترابين المكاني والزماني،ومدى تأثير هذين الاغترابين في تجربتك الشعرية ؟
– لعل الاغتراب المكاني ، هو أكثر الاغترابات شيوعاً وأكثرها تأثيراً وحضوراً في النص الثقافي ، أما الاغتراب الزماني ، فهو ينتج عن خلل ثقافي وتربوي، إذ يعيش الإنسان في زمن آخر غير زمنه الواقعي، وهذا ما يقوده إلى حالة صدام مع البيئة والمجتمع، وهو من أخطر أسباب عزلة الأصوليين وكل الذين يستبدلون الماضي بالحاضر، فيرون في كل جديد انحرافاً.
لقد استطعت دائماً أن أتواءم مع اغتراب المكان، بالإقبال على مستجداته حيناً وبإيجاد بديل إبداعي حيناً آخر، وهذا ما ظهر آثاره في شعري في جميع تجاربي مع الغربة المكانية، منذ قصيدتي الأولى” الجليد” التي كتبتها وأنا شاب يافع ، وجد نفسه في محيط غريب عنه، حيث عشت في تلك المرحلة بعيداً عن الأسرة والبيت ، عن مدينتي وأصدقائي.
وظهر ذلك أيضاً في ” ديوان الأغاني الغجرية” الذي كتبته خلال إقامتي في إسبانيا، وكذلك في ديوان” من أوراق الموريسكي” حيث كانت القصيدة هي المكان المتخيل والبديل عن المكان الذي صار بعيداً.
س: الموت هاجس مرعب، حيث يفقد المرء أحباءه وأصدقاءه ويعطل مشروعه الحياتي والإبداعي، كيف تواجه هذه الحالة المريرة وهل يخلد المبدع بعد موته ؟
– أتفهم هواجسك، بشأن فقد الأحبة والأصدقاء، كما أتفهمها حين تتعلق بتعطيل مشروع الإنسان الحياتي والإبداعي، لأنك تعيش في مكان ، يهددك فيه الموت، كل لحظة، ويهدد أسرتك وأحباءك وأصدقاءك.
وكأنك تتحدث عن نفسك، وهذا من حقك، والخطر يحيط بك ويهدد وطنك ويستهدفه كما استهدف بيتك واستقرارك ومكتبتك ومدينتك .
أما خلود المبدع فذلك أمرٌ لايستطيع الإنسان أن يقطع فيه،فالحياة تتغير باستمرار وتتغير معها ظواهر وعواطف وأفكار وقيم، لذا فليكن حلم المبدع أن يكون حاضراً في زمنه وأن يكون مؤثراً فيه.
أما الرغبةفي الخلود والتي رافقت الإنسان منذ طفولة الحياة فقد اقترن بالأساطير وأناشيد الإنسان الأولى وملاحمه.
أما أنا فأواجه الموت بألفة لا مثيل لها، لأنني أعرف أنه قادم لا محال، لذا لا أخاف منه ولا أنتظره لأنني أعرف أن لا قدرة للإنسان على التحكم بموعد قدومه أو القدرة على تأجيل موعده، حتى الأحبة الذين رحلوا أحاورهم أحياناً كما كنت أحاورهم وهم أحياء، وأكتب قصيدتي لاخوفاً من الموت ولا طمعاً بالخلود ، لكن القصيدة هي التي تطيل زمن الحياة عندي.
س: ما هو مشروعك القادم ؟
أنا بانتظاره، وحين يأتي، وسيأتي، سأتحدث عنه .
س: هل يرفع الإعلام من سوية الإبداع، وهل يكون عاملاً من عوامل انحطاطه ؟
– يعمل الإعلام على جبهة الشهرة، تكريسها أو إزاحتها، وليس له من دور في التأثير في جوهر الإبداع وحضور المبدع.
إن الفرق كبير بين الشهرة والحضور، صحيح، إن الذاتية حين تكون خارج حدود المبالغة والإسراف حق طبيعي للإنسان وإن البحث عن الشهرة من عوامل إرضاء الذات.
لكن من الوهم أن يظن المبدع إن الشهرة مقياس لأهمية إبداعه ، بدليل إن أي مقدم برامج تلفزيونية هو أكثر شهرة من أي مفكر أو روائي أو شاعر أو ناقد.
منذ سنوات، كنت مع عدد من كبار الكتاب في أحد معارض الكتاب في إحدى المدن العربية ، وصادف مغادرتنا ، دخول إحدى مقدمات البرامج التلفزيونية ، فاستقبلت استقبالاً احتفالياً من قبل المواطنين والإداريين، بينما لم يلتفت إلينا أي من الحاضرين.
قد يجمع بعض المبدعين ، بين الشهرة والإبداع، لكن ليس من تأثير للشهرة على الإبداع ولا للإبداع على الشهرة.
—