عمر لحروشي :
انعدام المارة، والهدوء الذي يعصف بالزقاق الضيق، يمنحه شحنة قوية في تنفيذ فعلته.كان يحسب أن لا أحد يراه.بينما كنت للتو أرقبه من خلف النافذة..من فوق.يلتفت يمينا فشمالا. يخرج قداحته البيضاء و سيجارة من جيب سرواله، فيوقدها بيدين مرتعشتين، ثم يدخن في سر خشية أن يراه شخص ما. يتناهى عن مسمعه صوت لأقدام آتية نحوه بغتة.ينزع السيجارة من فمه، فيمعكها بأنامله على الجدار متلعثما.وبينا هو مشغول في دسها داخل جيبه، يلمح قطين يتبارزان أمام أحد المنازل.يتنهد بعمق، ثم يسند ظهره للجدار مسترخيا بما فيه الكفاية. إذ ظن وقتئذ أنه لم يره أحد. لكني…
خرجت من غمرة التيه.أسدلت ستارة النافدة فاستلقيت على الفراش البالي، نادما على ما اقترفت يدي. تذكرت كلام والدتي المسنة وهي توصيني: “أريدك أن تكون أحسن من المرحوم أبيك، لقد كان كلما أتى للبيت متأخرا إلا وهو سكران..كانت رائحته تفوح من رأس الدرب…”.
ولم يكن غير هذا اليوم المشئوم بالذات، لما كنت أترجل في الشارع مساء ككل المترجلين. أبصرت حينئذ طفلا يدخن في علانية. راقني المنظر فاقتربت منه. كان مخالفا رجليه وينفث الدخان كمحترف تدخين.أمعنت النظر في حركاته؛ كيف يعبث بالسيجارة بين أصابعه وكيف ينفض رمادها في الفراغ.أتلذذ بداخلي.عيناي الغائرتان تغازلان شكل السيجارة ولونها.أتخيلني أدخن في مكانه.رائحة كريهة تنبعث من فمه.يرمي بعقبة السيجارة، فألتقطها مرتعشا وأنا أهم في تدخينها، لكنها تحرق شفتي.ألقيها من يدي مستغيثا.ينفجر هو ضاحكا مستهزئا.يصفعني على قفاي قائلا:
-أيها البرهوش، ليس كذلك…أنظر أنظر…!
يأخذها فينفث الدخان من أنفه بحركة لن أفطن بها، وبعدها يردف خانقا:
-اذهب إنك لازلت صغيرا…
أنصرف ساخطا وصدى تلك العبارة يتكرر على مسمعي كل خطوة خطوتها.الشمس تودع السماء. دلفت إلى بيتنا.أجدها تجلس القرفصاء وهي تقشر خضر الغذاء. طلبت منها درهما. سألتني:
-ماذا ستشتري بها:
أجيبها منتفضا:
-أريدها…أريدها…
تمسح يدها المبللة بالماء في سروالها الرث، فتدسها خلف ملابسها وتخرج صرة صغيرة معقودة بخيط رقيق من صدرها، تفتحها فتمنحني الدرهم قائلة بصوت جهوري:
-إياك..إياك ورفاق السوء يا بني…!
ذهبت جريا إلى دكان”كريمو”.ابتعت سيجارة مدعيا بأنها لرجل ما.وضعتها في جيبي ثم غادرت.و في طريق العودة كنت ألتفت للخلف خائفا من أن يرقبني أحدهم.وصلت لزقاقنا الضيق المقفر، التفت يمنة ويسرة،سحبت قداحتي من جيبي وكذا السيجارة، فأوقدتها بيدي المرتعشتين، ثم أخذت أدخن في سر خشية أن يراني شخص ما. تناهى عن مسمعي صوت لأقدام آتية تجاهي بغتة.نزعت السيجارة من فمي فمعكتها على الجدار متلعثما. وبينما أنا مشغول في دسها داخل جيبي، رمقت قطين يتبارزان أمام أحد المنازل. استندت على الجدار متنهدا بعمق شديد.إذ ظننت وقتئذ أنه لم يرني أحد.رميت ما تبقى من السيجارة بعيدا، وصعدت لبيتنا فزعا مما اقترفته…
—