كانت الرسالة من مدينة جدة/السعودية حيث بيَّن أن له مكتب سفريات وسياحة، ثم كتب:
” كان بودنا أن نكتب إليك منذ زمن بعيد لولا أننا لم نحصل على عنوانك إلا خلال سفرتي الأخيرة إلى لندن، وقد حصلت عليه من السيد خالد القشطيني. بودنا أن نعرف عن أحوالك وظروفك في الوقت الراهن، وأن تستمر بيننا المراسلة، تجديدا لأيام حافلة بأطيب الذكريات.” وتتحدث الرسالة عن زوجته السيدة زهرة – وهي من العائلة – وعن أولاده، ومنهم المرحوم بختيار، الذي توفي في القاهرة عام 1991 بعد حادث تعرض له في بغداد في آب 1981- [ لم يشرح ما الحادث]- واستمرت معاناته عشر سنوات. كما حدثني عن جولاته في لندن وبرلين واستوكهلم حيث نظم أمسيات شعرية هناك.
أفرحتني الرسالة، وبعثت لديَّ ذكريات حافلة فيها المفرح وفيها المؤلم والمر.
زاهد محمد زهدي كان شاعرا مبدعا، بالعامية والفصحى، وكان مناضلا معروفا، ولا أراني في حاجة للتعريف به.
استمرت المراسلة بيننا، وزار مع زوجته باريس عام 1996، وقضينا وقتا سعيدا معا وإن كان قصيرا. ولما استقر في لندن، وكنت أقوم من وقت لآخر بزيارتها، خصوصا منذ 2000، فقد كان من بين يستضيفونني في بيته، ببشاشته وسخائه وأريحيتهن كما كان يستقبلني، وبنفس الروح الكريمة، الدكتور نجم الدين غلام وزوجته السيدة يولا والصديق غالب الجنابي، وحيث تعرفت هناك على أصدقاء وشخصيات عراقية، ومنهم الصديق الدكتور عبد الخالق حسين.
وقد رافقت زاهد محمد في مرضه الخطير، وكنت أزوره في المستشفى خلال وجودي بلندن. ومع أنني لم أستطع المشاركة في تشييعه [توفي صباح 28 سبتمبر 2001]، فقد ذهبت للمشاركة في الاحتفال بأربعينته، حيث لقيت ذكراه كل التكريم الذي كان يستحقه عن جدارة.
دخل زاهد صفوف الحركة العمالية والحزب الشيوعي وهو يافع، وسجن عام 1948، ونقل لسجن الكوت، حيث كان قادة الحزب الشيوعي، فهد وزكي بسيم ومحمد حسين الشبيبي. وتعرفت عليه في مركز للشرطة ثم في سجن الكوت ونقرة السلمان. والتقيت به، رغم زحمة المهمات والنشاطات، بعد الثورة حيث اشتهر بأحاديثه الإذاعية ونشيده الشهير عن الاخوة العربية – الكردية. والتقيت به مرة مع القائد التقدمي الكردي الإيراني، عبد الرحمن قاسملو، وكان صديقي منذ وجودي في براغ عام 1961، [له فصل خاص في هذا الكتاب]. كان الفقيد زاهد صديقا، وقريبا، ورفيق نضال لعقدين من الزمن، وفرقت بيننا الأيام والأحداث، حتى كان اللقاء الذي لم يفرقنا بعده غير الموت.
لقد كانت مراسلاتنا مستمرة وهو في لندن، وغالبا ما كانت شعرية وعبر الفاكس، إذ لم يكن لدي، ولا لديه، جهاز كومبيوتر، ولم أتعرف على هذا الجهاز إلا فيما بعد. وقد نشر الفقيد طرفا من مراسلاتنا الشعرية في ديوانه، [الإخوانيات]، وأنا ألحق بهذا الفصل بعضا منها. كما نشر منها خالد القشطيني في زاويته بصحيفة “الشرق الأوسط”. ونشر القشطيني أيضا خلاصة جلسة ضمتني في بيت زاهد مع الدكتور فؤاد معصوم، الذي راح يسرد الكثير من الطرائف التي يعرفها، علما بأنه متبحر بالعربية وآدابها.
كان الشاعر زاهد شديد الإعجاب بالجواهري ويعتبره أستاذه الشعري وصديقه، وقد أصدر كتابه عن الجواهري بعنوان “الجواهري، صناجة الشعر العربي في القرن العشرين”. وقد علقت على الكتاب في نشرتي الشهرية [النافذة] التي كنت أصدرها من باريس، وذلك في عدد [ النافذة] لتموز 2000 .
لقد كتبت:
” عندما قرأت كتاب الدكتور زاهد محمد زهدي، ثم أعدت قراءته، شعرت باستمتاع فريد، وحنين طاغ، وتداعت في قلبي وذاكرتي مسلسلات من الذكريات.
فالجواهري العظيم كان صديق أبي منذ الثلاثينات، ثم صديقي الحميم في براغ الستينات. وقد شغفت بشعره وأحببته أكثر من شغفي بالمتنبي وحبي له، وهما شاعريّ الأثيران. فالجواهري يقترن في فكري وعاطفتي وذاكرتي بمزيج من ذكريات أبي، والسجون، والصمود، والغربة الجميلة في براغ. وعندما عاد للعراق في أواخر 1968، فقد كتبت في تحيته كلمة حارة على الصفحة الأولى من الصحيفة السرية للقيادة المركزية.
وأما الدكتور زاهد، فهو الآخر صديق قديم، وقريب، ورفيق نضال لأكثر من عقدين. كما أنه شاعر مطبوع ومبدع، يسير على نهج الجواهري ويستقي من ينابيعه. والذكريات السجنية الطويلة معا تريني هذا الرجل الكهل اليوم – [ولادة 1930]- وهو آنذاك في بداية الشباب – شاعرا بالعراقية الدارجة، وناظما لأناشيدنا الوطنية و”مربعاته” الساخرة النافذة، ومنها “المربّع” الذي يسخر من الانتخابات الصورية، ومطلعه:
” صوت وانتخب وحدك بحريةْ ياهو اللي تريدهْ من الحراميةْ” -[ أي من تختار من اللصوص]!
كانت أغاني زاهد، وأهازيجه تلهب حماسنا أكثر الأحيان، وتسلينا أحيانا. وها هو منذ سنوات يبدع شعرا بليغا محبوكا ومبدعا، دون أن يخفي – بل ويعتز- بأنه من تلامذة الجواهري.”
حديث السجون الملكية عزيز عندي، فقد تعرفت هناك على عالم من الشخصيات المؤمنة بعقيدة نضالية، ولكل شخصيته ومزاجه، وطباعه، ونقاط قوته، ونقاط ضعفه. وكان الأكثرية الساحقة نماذج طيبة وثمة قلة من الرديئين في التعامل مع الآخرين. وكان زاهد من النماذج الإيجابية الطيبة. وكنت بعد خروجي من السجن في أعقاب ثورة 14 تموز 1968 قد جمعت لبضع ليال في دارنا مجموعة من زملاء السجن لنكتب معا بعض ما جرى، ولكن مشروعنا لم ير النور بسبب توالي الأحداث.
في رسالة أخرى من زاهد، عام 1996، يتحدث عن شغفه بتبسيط التراث الشعري والنثري للجيل الجديد. وينتقل للحديث عن لقائنا لأول مرة في موقف “العباخانة”، ونحن جميعا في الطريق لسجن الكوت، و كنت قد نسيت الحدث. ثم ينتقل للحديث عن والدي الحاج، قائلا: ” كان الحاج علي حيدر يعلم أن له ولدا واحدا في السجن هو عزيز الحاج، ولكنه كان يزور السجن خلال المواجهة ومعه 100 بجامة قد لا يحصل عزيز على إحداها. ربما يراك الناس مقصرا في أشياء كثيرة، خاصة وحزبية وغيرها، وليس هذا من شأني. إنما أنا أراك مقصرا بالفعل في شيء مهم، وهو فشلك حتى الآن في التوفر على كتابة ما تستطيع كتابته من سيرة الوالد رحمه الله، وهو الذي لعب دورا أساسيا في إنشاء مدارس الفيلية، وكان واحدا من أغنى أغنياء الفيلية، وكان يمتلك الكثير من أراضي بستان الخس، فباعها عن طيب خاطر لعلاج ولده المريض [أي شقيقي الكبير المرحوم عبد الأمير]. وكان الحاج يشغّل الكثيرين من الأقارب في الجمرك لمجرد أن يحصلوا على راتب ولو من جيبه. حاول أن تتذكر، وأن تكتب ولو كراسة صغيرة تحوي بعض الصور إذا كانت موجودة لديك أو لدى سواك. أخيرا، بالنسبة لملاحظتك الأخيرة عن [ريمي]، فإني أدعو له بطول العمر إذ هو عزيز لديك إلى هذا الحد، وأنا أعلم أنه عشق قديم، إذ قيل لي إنك عدت من القاهرة وقطعت دراستك شوقا إلى قطة كانت لديك ولم تطق فراقها. بالمناسبة، أنا لم أربّ القطط ولكنني أحببتها، وكانت لدي واحدة في جدة أسميتها [سوسو]. وكانت جميلة، يتهافت عليها الفحول في شباط. وقد قلت فيها:
سوسو، وما أدراك ما سوسو؟ إني بها في البيت محروسُ…”
أريد أن اعلق قائلا:
إنني لم أقصر لهذا الحد في التذكير بولدي وفضائله ومزاياه في مختلف كتاباتي حتى ذلك الوقت، فقد خصصت له صفحات كثيرة من روايتي”دفاتر الشخص الآخر”، وله صفحات في كتبي الأخرى، وخصوصا ” بغداد ذلك الزمان”. ورددت على ما ورد في كتب حنا بطاطو حول مهنة والدي. مع ذلك، فقد حركتني ملاحظات زاهد لأكتب أكثر عن الحاج، وهو ما جرى فعلا.
كما أقول إن والدتي هي التي كانت تقوم بمعظم الزيارات السجنية، إلى جانب بعض زيارات الوالد، حيث كانت مضايقات دوائر السجن للنساء أقل.
أما حادث عودتي من القاهرة، وانقطاعي عن جامعتها، فقد كان حنينا في آن واحد لجدتي ولقطتي] مرجانة]. ومن الصدف أن ألوان مرجانة هي نفسها ألوان ريمي فكأنه حفيدها. أما جدتي، فما أن دخلت الدار عند تحررنا من السجن، حتى ركضتُ للطابق الأول حيث كانت موجودة وهي مريضة وعانقتها بقوة. وقد كان حبي لجدتي عميقا جدا، ومنذ الطفولة. وفي أواخر أيام سجننا في سجن بعقوبة نظمت [من دون ورق وقلمي قصيدة مطلعها “:
[ أحن إلى جدتي الغاليةْ ]. وقد نشرت القصيدة بعد أسابيع من خروجنا من السجن. وكان صديقي الغالي الشهيد طالب عبد الجبار أول من أقرأته القصيدة في السجن وفيها حنين للكتب التي أحببت.
عندما أستعرض مسلسل حياتي، وأوراقي، أجدني أودع من رحلوا من الأهل والأصدقاء والشخصيات التي عرفتها واحدا بعد الآخر. ومع رحيل كل شخص عزيز علي، أشعر بعقدة الذنب، وكأنني أنا من قرر رحيله قبلي. بل، وأشعر بشيء من هذا حتى وأنا أتابع أخبار عمليات الإرهاب في العراق وضحاياها، أو أنباء الكوارث الطبيعية التي تصيب مئات الآلاف في أنحاء مختلفة من العالم.
وزاهد؟ مما يريح ضميري أننا تواصلنا بعد انقطاع طويل، وأنني كنت أزوره مريضا، واستطعت المشاركة في تأبينه. فألف تحية لذكراه.
************
التحية:
هذه قصيدتي في تحية الفقيد وهو في المستشفى وقدمت لها بالتالي:
” يقاوم رفيق العمر، الشاعر العراقي، الكردي، الفيلي، مرضه العضال بالشجاعة والجلد المعروفين عنه. وقد وجهت إليه هذه التحية”:
قطعنا مفازات الضنى والفيافيا……….. وذقناه، ماء “خابطا” ثم صافيا
صعودا لكردستان آنا، وبعدها ……….. نزولا إلى الأهوار نقضي اللياليا
وكانت “قلاع”* الظلم والعمر يافع …….. قد التهمت منا الذي كان غاليا
وزرنا”جنان الحور”* نطلب “ثأرنا”…… نعوض حرمانا، ونمسح ماضيا.
وها نحن يا أوفى الصحاب وقد مضت….. من العمر أشواط، نعيش المنافيا
أزاهد؟ والتاريخ يشهد أنكم، ……….. كعهدي بكم، قد كنت للشعب وافيا
تحملت أعباء الحياة ببسمة، ……….. وأنشدت في عشق البلاد الأغانيا
وأبدعت في صوغ القريض لدجلة، …… وأودعت أمواج الفرات القوافيا
وناجيت في الأكراد غرّ ملاحم …….. تنازل طغيانا، وتردع طاغيا
وخلدت وديانا سقتها دماؤهم، ……… وناغيت في شم الجبال السواقيا
وأنزلت بالباغين لعنة شاعر ……….. وقد شردوا أبناءنا والأهاليا…
ويا صاحبي، والعمر يهطل ثلجه…….. علينا معا، عش رافع الرأس عاليا
عهدتك جبار الإرادة، صامدا ……… تقارع بالعزم القوي العواديا
ونحن معا نمضي، وكل ذنوبنا ……… هوى الوطن الغالي، وكنا الأضاحيا
[ * القصد قلعة نقرة السلمان. ** القصد أوروبا]
*****************
وكان زاهد قد أجاب على قصيدة لي بقصيدة منها:
أعزز علي “عزيز ” ما تكابده، ………..وما تنافح عنه حيثما يجب ُ
الشانئون عليك العيش في دعة ………. لم ينصفوك بما جدّوا وما لعبوا
وما الذي يبتغي منك الأولى شتموا،…..أو يشتمون؟ وهل للمبتغى سببُ
هل ينفسون عليك المال تخزنه ……….كسبا حراما، وهم وسط الحلال ربوا؟!
دعهم وما أسرفوا فيه وما ولعوا……… بصوغه من أساطير، وما كذبوا
أظنهم لن يكفوا عنك أو يجدوا ………لصقَ التراب توارى جسمك التعبُ
وقد أجبته في قصيدة ختمتها هكذا:
تثيرهم كلماتي وهي صادقة ………..لأن كل الذي يروونه كذِبُ
وقد صدقتَ، فلو أيديهمُ اقتدرت ……..لأجهزوا برصاص الغدر أو صلبوا!!
[ كان ذلك في أواسط أكتوبر 1999 ]