عبد الفتاح المطلبي :
أنسَرِبُ كمخلوقٍ مفترضٍ من بين ألأصابعِ عبرَ مدادٍ يَخرجُ بعُسرٍ شديدٍ من فتحةِ القلمِ الضيّقةِ مُختطَفاً لستُ حراً، ليس هناك ما أبررُه ُ ،الأمرُ يتعلقُ بذاكرتهِ صبيحة اليوم الذي استدرجني فيه من فضائي الممتد ليشم تلك الرائحة الفريدة لسدرٍ كان قد استافَ عطرَ أوراقه يوما قبل كثيرٍ من السنين،الأمرُ يتعلق بالهندي ، الرجلُ الذي عرفَهُ مصادفة وهو يمارسُ تجواله مخترقا ًشارع الرشيد منطلقا نحو الشورجة منعطفا في دهاليزها المسكونةِ بعطورٍ كثيرة و منوعة مستخدما أنفه العتيد الذي ما زال يلتقط الروائح ولو كانت افتراضية، ثم يواصل سيره الى ساحة التحرير ، شعر بالأسى بعد كل تلك السنين على أفراسِ وثيرانِ جواد سليم و تنبآته إذ أن المارّة َ لم ترَ فيها إلاّ خيلٌ وثيرانٌ معلقةٌ على كلاليبَ جزارٍ، هذا الذي يرونه بعد عمله الذي استنفذه تماما ثم مات بعد تنفيذه بقليل، ثم بهزتين من رأسه يلقي بكل ذلك خلفه ، يشيح بوجهه هاربا من النصب صوب واجهات دور السينما المهجورة منذ عقود وقد تحولت الى محلات بيع الأقراص المضغوطة نسيَ فيها المرتادون إسم الخيام وانشغلوا بأسماء شتى لممثلي أفلام الأكشن ، هناك وفي لحظة باهرة التقىاه،كان جالسا على كرسيه الحديدي بشعر هندي لامع ، عارضا الى جانبه الأيسر إعلانا صوريا كبيرا لممثلٍ هندي و وهو يطبع قبلة أخويه على خد الممثل
-أهذا أنت؟
نعم أنا هو ، يلقبونني الهندي، ماذا ؟ ألم تسمع عني؟
راح الحديث يسيل بيسر من شفتي الهندي عن رحلاته الى الهند و صداقاته و غرامه بالهند وختم حديثَهُ : ها انا ، لا اعرف شيئا غير بيع الأفلام الهندية ، الحقيقة أنا مرجع فيما يتعلق بذلك.
-أترى إن الأفلام الهندية رائجة؟ أقصد هل تدر عليك مالا؟
-أه يا أخي .. ولو أن الرزق على الله لكن الشعب مغرم بالأفلام الهندية .
-أنت على حق فما حملني إليك إلا فلمٌ هنديٌ
تذكر السدرة وغرامه الأول بعد خروجهما من صالة السينما
-آه هل لديك فلم ( سنكم )؟
…أنت لا تعرف لمَ أود اقتناءَه ؟، …ظلّ يعيش في داخلي مثل دود البطن …يعيش في الجوف ولا تشعر به.
-أوه نعم، راجندر كومار فيجانتي مالا ، راج كابور ، مترجم
– أعطني نسختين رجاءً
-!!!!!!! ولماذا نسختان؟
-واحدة في البيت واخرى في محل العمل.
تابع فلم سنكم وكأنه ذلك الفتى ذو العشرين و في لحظة حاسمة تسللت إلى دماغه تفاصيل يومٍ محددٍ احتشدت على باب واعيته، سرح ببصره بعيدا ، راح يحثني بسياط لوعته لأسعافه حتى استويت على ما يفترض بي أن أصف، أغمض عينيه تنفس ببطئ شديد، صدحت (فيجنتي مالا)، تسلل شيء من عطر السدرة، أحس برائحتها تتغلغل في أعماق روحه ، كان يوما ربيعيا ماطرا و المطر يبلل أوراق السدرة فتشيع الرائحة يختلط صوت فيجانتي مالا بالعطر و يستقران في تلافيف مخه ، راحت تشكو البلل ، لم تكن المسافة بعيدة ، بضعة أمتار إلى شجرة السدر، احتضنها بذراعيه الفتيين، حملها كما يحمل طفل أختلطت رائحتها الأنثوية الطازجة بخليط عطر السدرة و صوت (فيجانتي مالا )، كان المطر يسيل من أنفه الأقنى و يسقط على عنقها الوردي منسلا بجذل بارع الى منحدرات نهديها المكورين الصغيرين البارزين من خلال حافة الدانتيلا البيضاء وعند هذه اللحظة توقف القرص المضغوط، سكتت (فيجانتي مالا)، فتح عينيه زفر هواء صدره بعمق، جلس و البُشرُ يطفحُ من ملامح وجهه العجوز استحضرني راح يرسم الطريق الى شجرة السدر الواقفة أبدا قرب باب المشفى الجمهوري ، حيث لا تبعد أطلال سينما الخيام كثيرا ، دفعني الى هناك لا طاقة لي لرفض طلباته ، فأنا صنيعته، مفترضا انني كالعفريت وصلت فورا لكن من الجهة المقابلة لرصيف السدرة ، كان الوقت صيفا و السدرة ما كانت بأوان زهرها ، تحت السدرة من اليمين عربة أمريكية نوع همفري،و على اليمين منها حاجز اسمنتي عال ،خطت على الحاجز لافتة بالعربية ( ابق بعيدا) لا أثر للمطر، الرصيف مترب ، لكنني عندما اقتربت و كنت تحت الشجرة ، كان الجنود الأمريكان منهمكين بأمر ما ، هم لا يرونني فأنا كائن مفترض، تيبست أغصان السدرة لا أثر لعطرها ، ليس هناك غير رائحة مجندة أمريكيه لم تستحم منذ زمن بعيد، و في اللحظة التالية زفر هواء صدره ثانية أخفاني تحت خطين عميقين، شطب علي بخطوط أخرى أغلق دفتره الذي كان يطلقني على ورقه الأبيض، نزع غلاف القرص المضغوط، القمه لآلة تشغيل الأقراص، اغلق بوابات دماغه الواهن إلا بابا صغيرا ظل مواربا تنبعث منه ذكرى ذلك اليوم الربيعي، تسلل عطر السدرة الى انفه وراح في غفوة ، استيقظ منها على صوتٍ مجلجل ، لماذا لا تنام على السرير؟ ، تسلل بصمت الى سريره ونام نومةَ فتىً في العشرين.
—