نشأ والدي وترعرع في كنفِ أسرة تحفظ القران أباً عن جد في عام 1946 وقد أطلق لقب الملا على آبائنا لاختصاصهم في تدريس الفقه واللغة والعروض, فتلقى والدي رحمه الله في سن مبكرة أولى الدروس في اللغة على يد جده الكبير الملا حمدون الذي كان يحفظ ألفية ابن مالك عن ظهر قلب فاتحا أمامه أبواب اللغة والعروض وعوالم ستفتح ذراعيها له فيما بعد.
وكان جدي أحمد الملا حمدون موظفاً في جوازات ربيعة في الثلاثينيات من القرن الماضي وهو أحد أعضاء جمعية الأدباء 1921 ولكنه مرض حيث أصيب بحالة نفسية أدت إلى اختلال ذاكرته وأبي لم يولد بعد وقالت النسوة حينذاك لجدتي رحمها الله : نسال الله أن تنجبي منه ولدا يرعى أخواته الأربع من بعده ..
حين ولد أبي صحا جدي أحمد وكأنه لم يمرض من قبل مانحا أبي أسمه ” معد” وقد سألوه لماذا هذا الاسم بالذات ؟ فقال : ” معد تعني العرب وجدنا هو معد ابن كرب الزبيدي”
وهكذا تربى والدي في أسرة فقيرة في بيت جدي الكبير هناك تنتصب في وسطه شجرة التوت الباسقة لتكون منهل شعر له فيما بعد ورمزا من رموز قصائده ترعرع في محلة القنطرة في منطقة باب الجديد.
فوق بلاط الاسمنت المختلط ببقع الزيت اثر التقادم بين خشونة الحيطان الجصية المالحة ورائحة المرمر الرطب, السراديب الموصلية الهادئة تقبع خلف شبابيك حديدية متشابكة كالأيدي يتناغم معها برقصة ساخرة حفيف أشجار التوت الشامخ المخضوضر وسط تفجر لحاكيا الأجداد ذوي الوجوه المجعدة ناصعة البياض بأفواه خالية من الأضراس تلفها فانتازيا صامتة ,لقد أتاح النسيم لبعض الجرار أن تتعرق فوق أسطح خشنة الملمس خضعت لمعارك الأمطار الموسمية الغزيرة وثمة مستطيل النجوم المقبل على وجوه غافية مستسلمة لعناق منتصف الليل ففي زاوية يقطر إيقاع الزير مانحا مساحة للشمس كي تهبه لمعانا باهتا.
هاهي سنادين الورد الصبار براعم النرجس أوراق الكروم المتدلية من بين اسيجة حديدٍ حلزونية الشكل تنشد رونقا يفضي إلى غرف مكتظة تشمخ بأقواسها الزخرفية وسقوفها المقعرة عاشقة الصدى، يسري إلى إذنه صفير بلبل اتخذ من قفصهِ عرشا يطلُ من شرفة خشبية لها عدة شبابيك على زقاق معوج أشبه بجدول وهو نائم في أزقة تضج بالحركة , ستائر تُفتح على مشهد الصباح الأول مارة شتى زقزقة عصافير فوضى الخطوات تزيح الستار عن إفاقة النائمين , قناطر كالأفواه تنفثُ النسيم الرطب في وجوهِ أمهات الزقاق وهن يلتحفن بعباءات سوداء .
من هنا خرج ” معد الجبوري ” وأنا ابنه كذلك فيما بعد وكانت جدتي أم أبي التي تربيتُ في أحضانها الدافئة تهمس في أذني قائلة : ” والدك وحيد وليس لديه أخ فأنت أخوه ” هكذا حملت هذه التوصية طيلة حياتي فكنت له ولداً وأخا وصديقاً بارا وكانت جدتي تتطلع إلى أن تجعل من والدي رجلاً تفتخر به فدعمته وأرشدتهُ بخبرتها الرصينة وحثته لإكمال دراسته في كلية الشريعة جامعة بغداد وتخرج منها عام 1968 بدعم مادي من عمتي الكبيرة التي كانت هي الأخرى مدرسة باختصاص مادة التاريخ وهناك جمعته أجواء العاصمة بأدباء وشعراء من بغداد والموصل والمحافظات الأخرى فكتب القصيدة العمودية قبل أن ينهي دراسته وهو يسعى للتفرد وكتابة ما هو مغاير ومثير فكان يميل لكتابة الشعر الحر متأثرا بهذا النمط الأدبي الجديد وقد نشر قصائده في الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية ومجلة الأقلام وصحف أخرى بين الأعوام 1965.. 1967 ولم يتخل عن القصيدة العمودية فاشترك في احتفالات الكلية بنصوص جميلة.
وحين عودته للموصل وكان لأول نص نشره في مجلة الآداب التي تصدر في بيروت بالعام 1970اثر كبير في مسيرته الأدبية فقد كان ذلك بمثابة شهادة أدبية مهمة لأي مبدع آنذاك وتوالى النشر في عشرات المجلات والصحف العراقية والعربية لتتبعه نصوص أخرى في العام نفسه.
وقال حينها : ” ها أنا ادخل منزل الشعر العراقي من نوافذه ” ثم أصدر كتابه الشعري الأول
اعترافات المتهم الغائب عام 1971 الذي أثار ضجة في الوسط الأدبي وفي العام نفسه كان يطرق أبوابا مغايرة فوضع تجربته أمام جنس جديد من الكتابة هو المسرح الشعري ففي أواخر ذاك العام كتب مسرحيته الشعرية ( آدابا ) والتي ترجمت عام 1972 إلى الاسبانية في مجلة المنارة التي تصدر في مدريد ثم ترجمت بعدة لغات منها الألمانية والكردية وقدمت أكثر من مرة على مسارح العراق ..
بعدها فتحتُ عيني وأنا معهُ في عمر الرابعة إلى الخامسة في عام 1977 في الصومال موفدا من قبل الحكومة العراقية ليكون مدرساً للغة العربية هناك وقد سجلنا في مدرسة صومالية لمدة ستة أشهر اذكر إننا تعلمنا العد من الواحد حتى العشرة وبعض الكلمات الصومالية أنا وأخي رائد وأختي الكبرى هديل تلك كانت أولى سنواتي وأنا أراه يضع أقدامه على طريق الطموح والنجاح
وتوالت الأحداث بعروض مسرحياته الشهيرة آنذاك على مسارح العراق وبالأخص في مدينة الموصل اذكر منها مسرحية آدابا ..ومسرحية شموكين اللتان عرضتا عدة مرات.
كان هو الطائر المحلق المفعم بروح الشموخ والكبرياء أينما حل تحيط به نخبة من مثقفي المدينة والعراق ينظرون إليه نظرة إعجاب وتقدير ومحبة عالية وأذكر من أصدقائه الذين جايلوه في الساحة الثقافية :
” الشاعر عبد الوهاب إسماعيل ،الشاعر امجد محمد سعيد، المخرج المسرحي شفاء العمري القاص والروائي امجد توفيق، الشاعر ارشد توفيق، الكاتب القاص محمد عطا الله، الفنان الشهير عبد الواحد إسماعيل، الشاعر سالم الخباز، الروائي نجمان ياسين، الفنان صبحي صبري ، المخرج محمد فوزي طبو، الشاعر حيدر محمود عبد الرزاق، الشاعرة بشرى البستاني، الشاعر ذو النون الاطرقجي، الشاعر غانم يونس سعيد، أستاذ اللغة العربية ورفيق سفره ورحلاته يوسف البارودي، القاص طلال حسن، الفنان حازم الاطرقجي ”
وأنا في سن صغير كان يحاول أن يريني تألقه وإبداعه مشيرا إلى انجازاته أمامي محدثا أياي كأنني احد أصحابه : ” يا ابني علك تصبح يوما ما شاعرا أو مسرحيا أو كاتبا افتخر به ”
من هنا بات يزرع فينا نحن أولاده روح الإبداع وتقديم الإنسان من خلال الأعمال الإبداعية المتميزة عن باقي الناس واذكر أنني في عمر العاشرة اصطحبني إلى سينما سمير أميس الكائنة في منطقة الجمهورية في مدينة الموصل قائلا : ” لا تخف سترى الفارس وهو ينقذ الحسناء من القرد الضخم ! ” كان ذلك أول فلما أشاهده بعنوان ” كنك كونك ” والذي تأثرت به جداً وفي عمر الثانية عشر شجعني لقراءة كتاب ألف ليلة وليلة ليصبح كل ذلك طريقا لي إلى عوالم مشاهدة الأفلام وقراءة الروايات والقصص والشعر .
كان رحمه الله يكتب الشعر معظم الأحيان في المنزل ظهراً مستلقيا على بطنه كالسائح فوق رمل البحر أو متربعا وأوراقه فوق الوسادة في غرفته في جو هادئ له خصوصيته بعدما يطلب من والدتي قدحا من الشاي وسيجارته متقدة طيلة فترة الكتابة وأصابعه تبرم شاربيه من اليسار إلى اليمين وكان يحدثنا أحيانا عن أسفاره وما اكتنزه من معرفة تاريخية عن الشعر وغيره
والحقيقة تقال كان الشعر يقاسمنا أبوته مانحا وقته الكبير للكتابة وإدارة المناصب التي شغلها بإخلاص كبير.
لم يكن أبي بخيلاً ولم يكن مسرفاً أيضا ولكنه كان يحرص على ألا تنفذ النقود من جيبه خشية ألا يحتاج لأحد كونه تربى في بيئة فقيرة أنهكها العوز كان يعتز بأشيائه المحيطة به مهما كانت صغيرة أو قديمة يعتبرها حسب قوله ” روحا تتنفس وتتكلم ” ومن الصعب أن يستبدل تلك المقتنيات بسهولة وكانت الكتب في بيتنا في كل مكان هنا وهناك ولكن بطريقة منظمه هو من ينظم ذلك ويقول كل كتاب هو شخص يتحدث معك دون أن يتحرك أو عالم بأكمله تدخله متى تشاء ..
وفي بداية سنواته الوظيفية عمل مدرسا للغة العربية في قرقوش ( بغديدا ) استطاع أن يستنهض حركة مسرحية وشعرية أدت إلى بروز مواهب كثيرة وأسماء معروفة الآن بالوسط الثقافي والفني
اذكر منها : الفنان ريكاردوس يوسف، الشاعر والكاتب شاكر مجيد سيفو، القاص هيثم بردى الشاعر زهير بردى، الشاعر الدكتور بهنام عطا الله، رمزي هرمز ياكو، والأستاذ إبراهيم يوسف حنو، الأديب نمرود قاشا، وعد الله إيليا، بهنام حنا عجم ، متي عبو ، نجيب خضر هدايا ، حنا نيسان ، كريم إينا، سعد الله بهنام قاشا، الفنان ثابت ميخائيل ، الفنان سمير بهنام جحولة والعديد من المدرسين والفنانين .
وعندما عمل مديرا للنشاط المدرسي وشغل منصب نقيب الفنانين آنذاك أدار تلك المناصب بما حقق خدمة صادقة للمدينة والحركة الثقافة والفنية فيها من خلال كتابته للاوبريت باللهجة الموصلية الذي يعكس هوية المدينة وجذور الفلكلور بما يشمل الحِرف الشعبية والأزياء الفلكلورية والأغاني الشعبية الخاصة بالمناسبات الاجتماعية كالزواج وختان الأطفال والحصاد وحركة الأسواق الشعبية واذكر مهرجان الربيع الذي كان يقام في مدينة الموصل سنويا في أواسط نيسان حيث تشترك كافة مدارس المحافظة وجامعة الوصل ودوائر المحافظة لتسير مواكب تعبر عن الاحتفال بالربيع وبهجته وكان والدي عضوا باللجنة العليا المشرفة على نشاطات المهرجان بما في ذلك استقدام المطربين الكبار من العراقيين والعرب لإحياء حفلات غنائية تتسم بالبهجة والفرح في مختلف المناطق التاريخية مثل الحضر والنمرود مما أتاح لفناني المحافظة الفرصة لإبراز قدراتهم الفنية وعطائهم الجميل والاحتكاك بفنانين عراقيين وعرب مما أثرى قدراتهم الفنية والأدبية.
وعلى صعيد الغناءِ والموسيقى والتمثيل ومعارض الرسم ومعارض الزهور حيث كان كل ذلك تظاهرة ثقافية ضخمة بجهود كبيرة منه ومن بقية المهتمين بتلك النشاطات وقد كانت قاعة الربيع بمسرحها وقاعة ابن الأثير مثابات أنطلق منها شعاع الثقافة الموصلية العريقة حيث أقيمت مهرجانات شعرية وعرضت أعمال مسرحية عديدة كان منها مسرحية آدابا من إخراج الفنان محمد نوري طبو وأخرجها مرة ثانية بعد أكثر من خمسة عشر عاما الدكتور الراحل جلال جميل وأما مسرحية شموكين فقد أخرجها المخرج المسرحي الراحل شفاء العمري والاوبريتات المشتركة والمسرحيات الغنائية مع الشاعر الكبير عبد الوهاب إسماعيل والذي كان اقرب أصدقاء والدي في مسيرته الإبداعية .
أما عن مشاركاته فهي لا تعد ولا تحصى فقد شارك في العديد من المؤتمرات والمهرجانات والأيام الثقافية أذكر منها :
مهرجان أبي تمام الدولي الذي أقيم بمدينة الموصل في كانون الأول عام 1971والذي حضره نخبة مرموقة من الشعراء العرب والعراقيين , الأيام الثقافية في المغرب عام 1984, مؤتمر الأدباء والكتاب العرب 1986, الأسبوع الثقافي العراقي الأول في اليمن 1987والثاني 1989 مهرجان الشعر الآسيوي في دكا بنغلاديش 1989’مهرجان بغداد للمسرح العربي الأول والثاني والثالث في التسعينيات ، الاحتفالية الثقافية الفنية في دار الأوبرا بالقاهرة 1997، مؤتمر الأدباء والكتاب العرب 2001،مهرجان أبي العلاء المعري الحادي عشر في سوريا 2007 ومهرجانات المربد الشعرية منذ دوراتها الأولى حتى عام 2002 ، ثم مهرجان أبي تمام عام 2012 في الموصل .
وكان له حضور شعري في مدن عديدة حل فيها عبر اللقاءات والقراءات الشعرية منها دمشق, القاهرة ,الرباط ,تونس ,صنعاء ,عمان ,مقديشو ,طنجة ,جدة ,ومراكش ,الدار البيضاء ,اصيلة ,سوسة ,المنستير ,تعز ,عدن ,حجة , حلب, دير الزور , الحسكة , معرة النعمان ,مكة المكرمة, اسطنبول أنقرة ,صوفيا بودابست , بوخارست، بلغراد، براغ , لندن , دكا بانكوك
وفي العام 1989انتقل من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة والإعلام حيث عُين في ذلك التاريخ مديرا للمجمع الإذاعي والتلفزيوني في نينوى وشغل هذا المنصب لمدة تتجاوز الثلاثة عشر عاما وفي علاقاته الطيبة مع دائرة الإذاعة والتلفزيون في بغداد استطاع والدي أن يكسب نصف ساعة أسبوعية من البث المركزي في بغداد لتقديم أخبار وتراث المدينة في شتى المجالات ومن هنا انبثقت جريدة أم الربيعين الشهيرة العالقة في ذاكرة أبناء الموصل والعراق إلى يومنا هذا، وجاء العدوان الأمريكي على العراق عام 1990وتعرضت أبنية الدولة آنذاك للقصف ولم يسلم حينها المجمع الكائن في الجانب الأيسر للمدينة في منطقة الفيصلية من الأضرار واضطرت الكثير من الدوائر لإيجاد أماكن بديلة ومنها المجمع حيث أصبح مكانه البديل جزءا من المتحف الحضاري الكائن في منطقة الجمهورية، وتتالت منجزاته من خلال تلك الجريدة في رحلتها الجميلة مع بداية الحصار على العراق .
وبالرغم من هذه الظروف الصعبة إلا أن الوالد كان لا يتوقف عن العطاء فكنت أراه في المجمع المدير الفني المنتج والمخرج والمُعد لا يولد شيء من رحم تلك الجريدة إلا وهو يشرف عليه وبجهود حثيثة من الموظفين المخلصين، للعمل في تلك السنين واذكر هنا بعض الأسماء
المخرج طارق فاضل، المخرج خليل إبراهيم، المذيع التلفزيوني إبراهيم الحلو، المذيعة فرقد ملكو، المصور صباح إبراهيم، المصور محمد المهدي، المونتير امجد كريم وهناك فقرة بارزة في الجريدة وهي (اللقطة) التي شارك في أدائها مجموعة خيرة من فناني المدينة لعلي اذكر منهم الراحل حسن فاشل، الدكتور نجم الدين عبد الله، الفنان الكوميدي عبد الواحد إسماعيل، الفنان صبحي صبري، الفنان مثنى إبراهيم، الفنان الشاب رائد معد، الفنان محمد الزهيري، الفنان واثق الأمين، الفنان احمد الماجد، جمال أبو عذاب وفنانون آخرون وليعذرني من لم تسعفني ذاكرتي لذكر اسمه، وكان يقول لنا في البيت في كل جمعة : ” تعالوا لنشاهد ما قدمه والدكم للمدينة ” فكنا نجتمع جالسين في هدوء تام كي نرى ذلك الانجاز بشغف ونتابع بلهفة فأصبح للقطة شعبية هائلة حيث كانت تعالج سلبيات المجتمع بطريقة كوميدية وأذكر انه زجنا أنا وأخي رائد في التصوير والتمثيل في اللقطة الشهيرة آنذاك لا أترك أنا هذا المجال بعدها ويتحول أخي رائد إلى منتج ومصور وممثل في غضون فترة قصيرة, ومما يجول في ذاكرتي أن طرحا قدمه الروائي المعروف نجمان ياسين الذي كان يشغل رئيس اتحاد أدباء العراق آنذاك ومعه الوالد حول إقامة مهرجان يضم جميع العروض الفنية والثقافية والتراثية والفلكلورية إلى بغداد فجاءت الموافقة وأقيم المهرجان في ناحية الحضر عام 1994 وشارك فيه العديد من فناني ومثقفي المدينة في شتى العروض فكانت التغطية الكبرى تقع على عاتق تلفزيون نينوى بإشراف والدي وظل ذلك العطاء متدفقا طيلة تلك السنوات وصولا إلى عام 2003 عام سقوط العراق بيد أمريكا وحلفائها
ومن هنا بدا التحول في كل أركان الحياة وصار الزحام على المناصب فاتخذ والدي موقف المترفع عن التهافت على الفرص التي تزاحم عليها المتسلقون وآثر أن لا يلوث نفسهُ بذلك المستنقع الآسن الذي تمثل بسلطة الاحتلال حيثُ رفض العروض العديدة من قبل الاحتلال مباشرة واذكر أن جنرالا أمريكيا كبيراً استدعاه وعرض عليه منصبا إداريا في مجال الإعلام وبملغ كبير جدا فأجابه والدي حينها اعمل بأي منصب في بلدي العراق ولكن حين خروجكم , وبهذا أحال نفسه على التقاعد قبل بلوغه السن القانونية في عام 2006 ليتفرغ لكتابة الشعر كما قال : ” حتى يتوقف النبض”
وفي عام 2008جمع أعماله في منجز تحت عنوان ديوان معد الجبوري الإعمال الشعرية الكاملة 1971ـ 2008 الذي طبع في مصر مطبعة دار شمس ليواصل عطاءه الإبداعي في أربع مجاميع شعرية جديدة وهي على التوالي مخطوط موصلي والذي طبع في دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع دمشق 2010 لا ستار .. لا غبار ( عشرون قصيدة عمودية ) مكتب العلا الموصل 2013, وقت لحرائق الكلمات مطبعة الديار الموصل 4 201 , والحديث عن الديوان الأخير عزلة في الرماد والذي كتبه مابين عامي ـ2014ـ2016 , سيأتي آنفا فضاء بين جمرتين ( أربع مسرحيات شعرية ) دار السياب ، وكتاب المذكرات من أوراق الضفة الثالثة ( لقطات من الذاكرة ) جامعة الموصل– دار ابن الأثير للطباعة والنشر– الموصل 2013. وفي أيار 2013 صدر كتاب الدكتورة إخلاص محمود عبد الله بعنوان ( العنوان في شعر معد الجبوري _ دراسة سيميائية ) وهو بالأصل أطروحة دكتوراه حصلت بها الباحثة على شهادة الدكتوراه من كلية الآداب جامعة الموصل وقد سبقتها رسالة الماجستير للباحثة سجى سالم بعنوان ( الشخصيات الأسطورية والتاريخية في شعر معد الجبوري المسرحي ) ورسالة ماجستير أخرى للباحث قاسم محمود الجريسي بعنوان ( بنية الإيقاع في شعر معد الجبوري ) في العام 2007 , وعودة إلى انشغال والدي بالكتابة فقد بدأ ينشر ما يجول في ذاكرته من مواضيع جميلة تخص المدينة أو حياته الشعرية في مواقع عديدة ومن أهمها :
موقع بيت الموصل الذي كان يشرف عليه نخبة من كتاب موصليون أصلاء واذكر منهم الدكتور سمير بشير حديد، الدكتور احمد عبد الله الحسو، المهندس سالم عبد الله الحسو واستمرت حالة النشر هذه مدة ليست بقليلة حتى عام 2013 حينما نشر قصيدته الشعبية الشهيرة باللهجة الموصلية ( بوسي وشمي ) والتي أهداها إلى مشتاق الدليمي المعروف بعشقه لمدينة الموصل ولهجتها الحضرية المميزة .
وأثناء المحنة التي عاشتها الموصل بداية من 10 ــ 6 ــ 2014 كنت أُلازمهُ في كل تفاصيل الحياة آنذاك وكان يأبى الخروج من المدينة إطلاقاً ومن البيت كذلك مما اضطرني إلى البقاء معه ومتابعة حالته الصحية الصعبة، ثم بدا بكتابة مجوعته الشعرية الأخيرة ( عزلة في الرماد ) وهو محاط بحزن عميق على ما يجري من أحداث مؤلمة قي مدينته التي أحبها وخلدها في شعره وقال في حرقة: ” مهما حدث وسيحدث فان الموصل مدينة لا تموت وستنهض من رمادها كما العنقاء” . وصولا إلى العام 2017 حيث اشتد به المرض وأصيب بجلطة دماغية ولكنه ظل محتفظا بتركيزه وإيمانه بالله ومواظبا على صلاتهِ بالرغم من وضعه الصحيّ ثم أرسل بطلبي ليطلعني على بعض الوصايا ومنها أن انشر له قصيدته الأولى من المجموعة الجديدة وبالفعل كان ذلك ومن ثم ابلغني أن مجموعته عزلة في الرماد مهداة إلى صديق عمره عبد الوهاب إسماعيل وخصني بإهدائه القصيدة الثالثة من المجموعة لي كما خص الشاعر سيف جميل الذي كان ملازما له طيلة الفترة الصعبة بالقصيدة الأخيرة من المجموعة وكان هذا الحديث قبل وفاته ببضعة أيام .
ثم فارق الحياة يوم 1-4-2017 في الساعة الثانية فجراً تاركاً إرثاً ثقافياً كبيرا ومحبة عميقة في قلوب أهله ومحبيه وصوتا شعريا مدويا ستسمعه الأجيال تلو الأجيال رحمه الله
لن أنسى أنك من أدخلني عالم الشعر الجميل وأنك معلمي وقدوتي وأبي الحنون
وجهك زهرةُ بيبون
حارث معد
أشهدُ أنَ أسمكَ سيبقى،
محفوراً في الصخرِ.
اشهدُ أنك في ذاكرةِ الغدِ تجيء،
وأنكَ في بحرٍ الشعر،ِ
قبطانٌ أبدي
تبحرُ وتبحر .
في هداةِ المغيبِ،
ها أنا اتكئُ منفرداً …
أمام كتبكَ المغبرة الصامتة،
وفي حنجرتي.. غصةُ الذكرى .
ونظري يتحولُ إليك ،
وأنت ترمقني
منْ صورك القديمة المعلقة،
على الجدران،
تهمسُ في أذني
إجلسْ في الأمامِ،
كي تراني ..
بجناحينِ منبسطينِ
أحلقُ في أعالي البوحِ
وأمدهما،
في قلبِ العاصفة
أجعلها قبضة ريح .
ها أنا في غرفتك !
معي تراتيل وتعاويذ
تمنحني الدخول،
لمعبدِ شعرك
ممنوعٌ أن تلمس أهداب ورقي
كلمات تحرق يدك
مسلاتي .. رقُمي
طيني الممزوج بدمي !
ممنوعٌ أن تفرك مصباحي
ماردي متهمٌ في ” اعترافات الغائب”
ممنوع أن تعبث بأشيائي
أو تتنكر للأرض أو تتقمصني
شكلي أرضُ النهرين
وجهي زهر “بيبون” وربيعين
مسرحي صوتٌ
يصرخ في القاعات
( أنا آخر الأحجار في
قلعةِ باشطابيا )
صمتي، همسي
قلقي، قلمي
قرطاسي،
فأنا ملحمة
مملكة
بحارٌ تفور..
مفاوز لا تتكرر
عاصفة وبروق
زلازلٌ من كلماتٍ
فما زال شموكين يحرسُ أشيائي
وترقي آدابا وجهي
أنا السندبادُ المبحرُ في الرمل
علاء الدين
محلق من غير بساط
افتح يا سمسم،
فـ ( هذا رهاني ) أن تفتح
عن جواهري وكنوزي
عن لآلئ نصوصي
عن وردتي المسافرة
عن وجه أمي
فها هي ( أوراقُ الماء )
في كهوف تعكسها مرآة
أوراق بين كفي دجلة
تعانقُ لجته وخريره
افتح يا سمسم
عن شرفاتٍ وزقاق
عن ثرثرة العصافير
في بيتِ الجد
تحتَ شجرةِ التوت
عن أدوارِ المسرح روح وشرارة
عن أهازيجٍ وهتاف ( سيف وطبل )
من أول عتبة في الإيوان
لآخر قنطرةٍ خلف الباب
جزعاً أسرعُ في خطاي
أروحُ أجيءُ كضوءٍ المنارة
وحدي تفتك بي أحزاني
تفرُ من ورقي العبارة
قد يكونُ ( آخر الكلام )
لعلها ( آخر الشظايا )
ربما تجيءُ ذاتَ مغيبٍ
بطرديةٍ جديدةٍ
فيها شعلة آشور
وعشبةُ كلكامش
ولا مواسٍ
ولا خلٍ
يمسحُ عنْ أصابعك دمع الحروف
مِن خد المعاني
كيف الطريقُ وأنت لست به ؟
منْ يضيءُ القصائد ؟
منْ يصوغ ذهب الحروف ؟
منْ يحبس الكواكب في السطور
ويعدو بالقوافي نحو الشمس ؟
بعدكَ عتمة ولا شيء يرى
لا النجمُ لا النهرُ لا الثواني
ها أنا في ساعةِ الوداعِ
يغمرني الذهول
عند قبرك يا أبي
أصابعي مشبكةٌ على رقبتي
وراسي بينَ ركبتي
قلبي يرفضُ الوداع
وصمتي حزين
حزينٌ يا أبي
لا وقتَ للقصيدةِ
كانت هي الأخيرة
في التاريخِ محفورة
ليست صفحة أخيرة
**