الدكتور علي القاسمي الأكاديمي والمبدع معروف،ولكن ماذا تقول عن علي القاسمي الإنسان الذي لا يعرفه إلاّ من اقترب منك؟
ــ اسمحي لي أولاً أن أشكرك على تفضلك بإجراء هذا الحوار معي. وأنا سعيد به، لأنني أحد المعجبين بأدبك الرفيع، خاصة في مجال القصة القصيرة، فأنت أميرة القصة العربية، إضافة إلى كونك أستاذة جامعية متميزة. أما الجواب على سؤالك، فهو أنّ علي القاسمي طالب علم. يبحث عن المعرفة في بطون الكتب، وصدور الرجال، وبحار الشابكة (الإنترنت).
* الخبرة الطويلة والإبداع الموصول والمكانة العلمية والاجتماعية والأكاديمية الرفيعة التي وصل إليها علي القاسمي ماذا علّمته؟ وماذا أخذت منه؟
ــ ممارستي القراءة والكتابة والبحث العلمي، علّمتني وأمتعتني وأعطتني الشيء الكثير ولم تأخذ مني شيئاً. فالعمل، بوجه عام، يزيد الحياة متعة وجمالاً، لأن الإنسان يصبح أكثر إحساساً بجماليات الأشياء، وروعة الناس، ومباهج العالم الذي يعيش فيه.
*ماهي المحطة الأهمّ في تجربتك الأكاديمية والإبداعية؟ ولماذا؟
ــ أعدّ أيام الدراسة الجامعية أجمل محطات الحياة، لأني كنتُ أقطف ثمار المعرفة دانية. تعلمين أنني ارتدت عدداً من الجامعات العربية والأوربية والأمريكية، وكنتُ مولعاً في قاعات الدرس، وأروقة المكتبات، وحلقات النقاش والمذاكرة. وما زال طعم تلك الأيام الحلوة على شفتيّ ومسمعيّ وحنايا الروح وشغاف القلب. والسبب في ذلك أنني كنتُ آنذاك أمارس هوايتي المفضلة التي نشأت عليها منذ صغري، وهي اكتشاف الأشياء واكتساب المعرفة بماهيتها. وما زلتُ أشعر بهذه اللذّة عندما أشارك في مؤتمرات المجامع العربية وأستمع إلى علمائها. إنها لذّة التلقّي وجمالياته.
* ماهو الجانب الجميل الذي لا يعرفه النّاس عن علي القاسمي،ويتمنّى لو يعرفونه عنه؟
ــ لا أظن أنّ القارئ اللبيب يخفى عليه جانب من شخصية الكاتب، فهو يعرف الشيء الكثير عن أخلاقه، وطباعه، وميوله، وأفكاره، من مجرد قراءة إنتاجه الأدبي. فأسلوب الكاتب ينم عليه. ” الأسلوب هو الشخص”، كما يقول النقّاد الفرنسيون.ربما لا يعرف القراء العرب أن الأغلبية الساحقة من كتّابهم وأدبائهم ليسوا محترفين، بل يمارسون الأدب هوايةً في أوقات فراغهم. فأنتِ نفسك أستاذة جامعية، وتكتبين في أوقات فراغك أو في الأوقات التي ينبغي أن تريحي نفسك فيها من عناء العمل، ولكن وهج التجربة الفنية يجتاحك ويحرقك في الأعماق، فتشكّلين من ألسنة اللهب نصاً أدبياً رقراقاً مثل مياه الجدول المنسابة، لعلك تطفئين الحرائق في الوجدان.
*هل الوطن عندكَ هو حقيقة جغرافية أم معطىً إنساني وتواصلي؟
ــ في كتابي ” مفاهيم العقل العربي” تطرّقت إلى مفهوم الوطن. فهو لدى بعضهم الفضاء الجغرافي المحدود، ولدى بعضهم الآخر الأهل والناس، ولدى فريق ثالث الثقافة والقِيم. وعندي أنَّ الوطن كلُّ ذلك وأكثر. فهو المحبّة المتبادلة، والوفاء المتجذّر، والطفولة الهنيئة في أحضان الأم، وابتسامة الأخت، ووجوه الأهل والجيران، والماء الذي نرتشفه، والهواء الذي نستنشقه، والطعام الذي نتذوقه، والتاريخ الحضاري الذي لوّنَ وجوهنا.
* ما الذي يمكن أن يحزنك؟ وما الذي يمكن أن يجعلك تضحك من أعماق قلبك؟
ــ في حقيقة الأمر، ما يحزنني كثير، مع الأسف، وما يضحكني قليل. فما زال جرح فلسطين نازفاً في الفؤاد. ولكوني معلِّماً، يحزنني أنَّ أنظمتنا التعليمية في الوطن العربي أنظمةٌ طبقية، حيث يرتاد أبناء رجال السلطة والمال المدارس الأجنبية، ويتعلّم أولاد الطبقة الوسطى في المدارس الأهلية مقابل أجور باهظة، ويبقى أطفال الفقراء في مدارس حكومية سيئة التجهيز أو بلا مدارس. وهذا النظام التعليمي الطبقي لا يساعد على تحقيق التنمية البشرية المنشودة، بل على العكس يؤدّي إلى اضطرابات اجتماعية وثورات شعبية، يذهب ضحيتها خيرة شبابنا.
يحزنني أن أرى بعض أطفالنا بلا مدارس، وبعض شبابنا بلا عمل، وبعض أهلنا بلا طعام ولا سكن.
يحزنني انتفاء العدالة الاجتماعية، وغياب حقوق الإنسان في بلداننا بحيث يفقد العاطلون عن العمل والشيوخ ماء وجوههم بالاستجداء من الأهل والأصدقاء، لأن دولنا تحرمهم من حقهم في التعويض عن البطالة والشيخوخة، على الرغم من أن الحقوق الاقتصادية منصوص عليها في دساتيرنا.
يحزنني أن أرى شوارعنا ” العربية” مليئة باللافتات المكتوبة بالإنكليزية أو الفرنسية وليس بلغتنا الوطنية، وأن دولنا تتّخذ من لغة المستعمر القديم، الإنكليزية أو الفرنسية، لغة العمل في الحياة العامة والمؤسسات الاقتصادية والمالية، وأحياناً في الإدارة، ولغة للتعليم العالي. باختصار، إن الاستقلال الذي منحته الدول الاستعمارية لبلداننا العربية كان مشروطاً بالتبعية الثقافية والاقتصادية للمستعمِر.فمتى نحصل على الاستقلال الناجز؟
*يقولون إنّ القادم هو الأجمل.فما هو الأجمل الإنساني والأكاديمي والإبداعي الذي تحلم بإنجازه؟
ــ طبعاً القادم هو الأجمل، لأنَّنا نتعلَّق بالأمل، فبدون نبض الأمل في النفس، تنتفي بهجة الحياة، ويتوقَّف نبض القلب.
* لك تجربة خاصة مع المعاجم .فكيف تقيّم هذه التجربة؟
ــ كانت دراستي في مرحلة الدكتوراه في جامعة تكساس في أوستن، في مجال اللسانيات ـ تخصُّص المعجمية ـ وقد مارست العمل المعجمي والمصطلحي عندما كنتُ خبيراً في مكتب تنسيق التعريب بالرباط. وقد اضطلعتُ بتنسيق عمل فريق اللغويين العرب الذين صنفوا ” المعجم العربي الأساسي”. ووضعتُ خطّة هذا المعجم ليكون أداة لتعلم اللغة العربية من قبل الناطقين باللغات الأخرى. وعلى الرغم من نواقص هذا المعجم فإنَّه من أفضل المعاجم الحديثة. بيدَ أنَّ السياسات التعليمية والإعلامية في البلدان العربية ترمي إلى تهميش اللغة العربية الفصيحة المشتركة، وترويج اللهجات العامية ولغة المستعمر القديم، الإنكليزية أو الفرنسية. ولهذا فإنها لا تعبأ مطلقاً بتشجيع تعليم العربية لغير الناطقين بها. ونتيجة لذلك فإن استخدام ذلك المعجم محدود جداً. غير أنَّ المعجم الذي أعتز به هو ” معجم الاستشهادات” الوحيد من نوعه في مكتبتنا العربية. فهو يرتب الموضوعات ألفبائياً، كالحبّ، والحرِّية، والحسد، والحياة، إلخ.، وتحت كلِّ موضوع يأتي بما يستشهد به الكتّاب والمتحدثون من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، أو نصوصٍ من الكتاب المقدس، أو أمثال سائرة، أو حِكمٍ مرعية، أو قواعد قانونية، أو أقوال مأثورة. فهو خلاصةٌ مبوبة للفكر العربي وقِيمه ومُثله. وقام الناشر، مكتبة لبنان ناشرون، بإصدار ثلاث طبعات منه: ” معجم الاستشهادات” ، و ” معجم الاستشهادات الموسَّع” ، و”معجم الاستشهادات الوجيز للطلاب”. وهو كتاب مرجعي ضروري للكاتب، والأستاذ، والطالب، والمحامي، والصحفي، والواعظ، وكلِّ مَن يمارس الكتابة أو الخطابة. وإضافة إلى ذلك أصدرتُ عدداً من الكتب الأكاديمية في المعجمية والمصطلحية مثل: ” علم اللغة وصناعة المعجم”، “لغة الطفل العربي” ، ” الترجمة وأدواتها”، السياسة الثقافية” وغيرها (وجميعها من منشورات مكتبة لبنان ناشرون في بيروت) وضعتُ فيها خلاصة دراساتي النظرية وتجاربي العملية في الموضوع، ليستفيد منها أبناؤنا الطلبة. ولهذا فهذه الكتب تستخدم مراجع في عدد من جامعاتنا. وسعدت حقاً عندما علمتُ أنك تستخدمين بعضها في جامعتك.
*من هو علي القاسمي؟ أهو الأكاديمي أم المبدع؟ وأين تجد نفسك بالتحديد؟
ــ يضطلع كلُّ فردٍ منا بأدوار متعددة في آن واحد على مسرح الحياة. وكما ذكرتُ سابقاً، فأنا أستاذ جامعي بالمهنة، وكاتب بالهواية. وحينما أقوم ببحث علميّ، أجدني أتقيّد بمبادئ البحث الموضوعي. وعندما أكتب نصاً أدبياً، أجد نفسي سارحاً في التخييل الذاتي. وكلاهما يمنحني لذة ومتعة.
* عاينت تجربة التّدريس الجامعي في كثير من الجامعات العربية وغير العربية.فكيف تقّيم الواقع الأكاديمي العربي في ضوء تجربتك الواسعة في هذا المضمار؟
ــ عزيزتي، لقد فشل تعليمنا الجامعي في قيادة التنمية البشرية وتحقيقها في بلداننا، على عكس الحال في بلدان عديدة كانت في الخمسينيات والستينيات أقل نمواً من بلداننا مثل فنلندا، وكوريا، وماليزيا وغيرها، وأصبحت اليوم من أرقى الدول بفضل تعليمها الجامعي. ولقد خصصتُ هذا الموضوع بكتابٍ كاملٍ عنوانه ” الجامعة والتنمية “، أشرت فيه إلى أنَّ تعليمنا الجامعي بحاجة إلى إصلاح شامل في أهدافه وهياكله وبرامجه وطرائقه ووسائله، ولا يمكن تحقيق هذا الإصلاح بدون إصلاح المنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية برمتها في بلداننا.
من مشكلات جامعاتنا أنها تدرّس العلوم النظرية والتطبيقية بلغة المستعمِر القديم، الإنكليزية أو الفرنسية، التي لا يجيدها أغلبية الطلاب الساحقة. ولهذا فإنهم لا يتمثلون المعلومات العلمية ولا تصبح جزءا من منظومتهم المفومية، ولا يستطيعون الإبداع فيها، ولا يتمكّنون من نقل معلوماتهم إلى غيرهم من المواطنين. ويبقى العلم في وطننا أجنبياً وللخاصة فقط. ولصعوبة لغة التعليم العلمي الجامعي، يميل معظم الطلاب إلى الانخراط في التخصُّصات الإنسانية، في حين أن التنمية البشرية تحتاج إلى أعداد أكبر من المتخصّصين في العلوم والتكنولوجيا.
*أيّ السياقات الفكرية والإبداعية والذّاتية التي تستحوذ عليك في تجربتك القصصية الممتدة في أكثر من مجموعة قصصية؟
ــ في كتاب الناقد الدكتور عبد المالك أشهبون ” علي القاسمي: مختارات قصصية مع دراسة تحليلية” (2012) قسّم هذه السياقات إلى أربعة أقسام: الطفولة، الغربة والحنين، الوطن، الحب الخائب.
وهذا ما يتّفق معه عليه الناقد إبراهيم أولحيان في كتابه ” الكتابة والفقدان: قراءة في التجربة القصصية عند علي القاسمي” (2011) الذي يعدُّ تلك السياقات المختلفة مظاهر لفقداني طفولتي ووطني وجميع من أحببتهم. فموضوعة الفقدان هي السائدة في قصصي. بعبارة أخرى، يقول النقّاد إنَّنيكاتبٌخاسر، فقدَ بطَّته في صغره، وفقدَ وطنه في كبره، وأضاع جميع ما لديه، وخسر حتى أوهن أحلامه.
* إلى أين تسير تجربة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين فيها وفق تجربتك الشخصيّة؟
ــ أعلم أن سؤالك هذا نابع من اشتغالك الجادّفي ميدان تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في الجامعة الأردنية، تدريساً وتأليفاً وبحثاً. وكان بودّي أن أجيب عليه بصورةٍ ترضيكِ وتشجعك. ولكن الأمانة العلمية تقتضي أن أقول لك بصراحة إنَّ تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها عبث ضائع لا مستقبل له في ظلِّ السياسات العربية الراهنة. وباختصار، كيف تريدين أن يُقبِل الأجانب على تعلّم لغةٍ يحتقرها أهلُها ويهمشونها، بل يعملون على تدميرها في مختلف معاهد التعليم، ووسائل الإعلام، وجميع المؤسسات المالية والاقتصادية، وفي الحياة العامة؟؟؟!
دعيني أضرب لك مثلاً عملياً. تعلمين أنَّ اللغة العربية هي إحدى اللغات الرسمية الست في منظَّمة الأمم المتحدة وفي جميع المنظَّمات الدولية الأخرى، منذ أوائل السبعينيات. ولكن ممثِّلي البلدان العربية في تلك المنظَّمات لا يستخدمون اللغة العربية مطلقاً، بل يتشبَّثون باستخدام لغة مستعمِرهم القديم، الإنكليزية أو الفرنسية.
قبل بضعة أشهر قررتْ منظمة اليونسكو قبول فلسطين عضواً كاملاً فيها. تابعنا الخبر بفرح. وسمعتُ مندوب فلسطين في هذه المنظمة بأُمّ أذني ورأيتُه بأمّ عيني، وهو يشكر المنظَّمة على قبول فلسطين عضواً كاملاً فيها، ولم يتكلّم باللغة العربية وهي إحدى اللغات الرسمية في اليونسكو، بل باللغة الفرنسية. وفي الوقت نفسه كان زميله مندوب فلسطين في منظَّمة الأمم المتّحدة بنيويورك يقدّم طلبه لقبول فلسطين عضواً كاملاً فيها، باللغة الإنكليزية. ما الرسالة التي يريد هذان المندوبان إيصالها إلى تلك المنظَّمات وإلى العالم. دعيني أقرأ لك المضامين الضمنية:
أولاً، فلسطين لا تستحق العضوية الكاملة، فهي لا تمتلك لغة وطنية ولا قومية، بدليل استخدامهما أية لغة أخرى عدا العربية. واللغة هي جوهر الهوية الوطنية، وإحدى ركائز الدولة المستقلة الكاملة العضوية، تماماً كالعَلم.
ثانياً، نصيحة واضحة خالصة لجميع الطلاب الأجانب بعدم تعلُّم اللغة العربية، فلا فائدة تواصلية منها، بدليل أن ” العربي” نفسه لا يستعمل لغته الوطنية.
ثالثاً، نصيحة واضحة خالصة لجميع طلاب اللسانيات العرب والأجانب بعدم التخصُّص في الترجمة من العربية وإليها، بدليل عدم الحاجة إلى الترجمة من العربية وإليها في المحافل الدولية، لأنَّ المندوبين العرب لا يستعملون اللغة العربية فيها.
صدِّقيني، عزيزتي، لو استخدم المندوب الفرنسي في منظَّمة الأمم المتحدة في نيويورك شيئاً من اللغة الإنكليزية سهوا في خطابه، فإن حكومته ستطرده حالاً من وظيفته وتسجنه ستة أشهر، تطبيقا ًلقانون ” حماية اللغة الفرنسية” الصادر عن الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1992، وهو تأكيد لقانون فرنسي صادر سنة 1792. نعم، العرب كذلك عندهم نص بوجوب استخدام العربية وردفي ما هو أرقى من القانون، أي الدستور، الذي ينصُّ على رسمية اللغة العربية، ولكن من سمات الدول المتخلِّفة أنَّ لديها قوانين راقية ولكن لا تطبقّها، تماماً كما تنصّ دساتيرنا على صيانة حقوق الإنسان، وحقوقه الاقتصادية.
عزيزتي، إذا قال لك أحد المندوبين العرب في المنظّمات الدولية إنّه يستخدم الفرنسية أو الإنكليزية، لئلا يسيء المترجمون مقاصده، فاعلمي أنّه جاهل بعمل أقسام الترجمة في هذه المنظمات. فأيُّ مندوب يستطيع أن يترجم خطابه إلى اللغة التي يريدها مسبقاً، ويسلّم نسخة منها إلى قسم الترجمة الذي يتولّى تلاوتها في حينه بنطقٍ أفضل من نطق المندوب العربي، لأنَّ القاعدة المتَّبعة في هذه المنظمات هي أن يترجِم المترجِم الفوري (التُّرجمان) إلى لغته الأمّ. بمعنى أن مَن يترجِم مِن العربية إلى الفرنسية هو مترجم فرنسي يتقن العربية، ومن يترجم من الفرنسية إلى العربية هو مترجم عربي يتقن الفرنسية.
اسمحي لي أن أضربَ لك مثلاً آخراً عن احتقارنا نحن العرب للغتنا العربية: تعلمين أنَّ دول الخليج ” العربية” تستخدم أكثر من عشرين مليون عامل أجنبي معظمهم من دول آسيا كالهند والفلبين وتايلند، على الرغم من وجود حوالي خمسة وعشرين مليون عاطل عربي، طبقاً لإحصاءات منظمة العمل العربية. ويشتَرط في هذا العامل الوافد معرفته باللغة الإنكليزية، فتقوم الدول الآسيوية بتنظيم دورات مكثفة بالإنكليزية مدتها حوالي ستة أشهر للراغبين في العمل في دول الخليج. ولما كانت نسبة العمالة الوافدة إلى السكان العرب الأصليين هي حوالي 90 بالمائة، أصبحت اللغة الإنكليزية فعلياً هي اللغة السائدة، وأمسى ابن البلد لا يستطيع شراء الخبز أو ركوب سيارة الأجرة إلا باستعمال اللغة الإنكليزية الآسيوية المكسّرة. وأصبح من الممكن بسهولة تحويل هذه الدول إلى بلدان ناطقة بالإنكليزية لا علاقة لها بالسكان الأصليين الذين سيبقون أقلية ذليلة، كما حدث في تحويل سنغافورة من بلاد ماليزية إسلامية إلى دولة ناطقة بالإنكليزية لا علاقة لها بالإسلام والماليزيين. وهذا ليس كلامي، بل مقتبس من كلام اللواء ضاحي خلفان قائد شرطة دبي، الذي نشره في مقال بعنوان ” نبني عمارات ونفقد إمارات” في جريدة ” الشرق الأوسط” السعودية الصادرة في لندن في عددها 11021بتاريخ 30/1/2009. وقد توصَّل لهذا الاستنتاج عددٌ من مفكري الخليج وأكاديميِّيه مثل الدكتور صالح الكواري من قطر والدكتور حسين غباش من الإمارات العربية المتّحدة وغيرهما.
أنت تتمنين نشر اللغة العربية في العالم، وتعليمها لغير الناطقين بها؟ كان من الممكن جداً تحقيق هذه الأمنية خلال الثلاثين سنة الماضية، لو طلبت الدول العربية من العمّال الوافدين أن يتعلموا اللغة العربية الوظيفية قبل أن يُمنحوا تأشيرة الدخول. وهذا ما تفعله حالياً الدول الأوربية مثل ألمانيا وهولندة وبلجيكا التي لا تمنح تأشيرة العمل أو الإقامة أو الدراسة، إلا بعد أن يتعلّم الشخص لغتها ويجتاز امتحاناً معيّناً فيها.
*عانيتَ تجربة التعريب في سيرتك الأكاديمية.فما مدى إسهام التعريب وفق رأيك في دفع عجلة النّمو المصطلحي العلمي العربي؟
ــ فعلا، اشتغلتُ اربع سنوات خبيراً في مكتب تنسيق التعريب بالرباط، المسؤول عن توحيد المصطلحات في الوطن العربي، واستفدتُ من هذه التجربة في تأليف كتابي ” علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية” (2008) الذي يقع في 821 صفحة، وتستخدمه كثيرٌ من الجامعات العربية. ومن بواعث سروري أنكِ أنتِ بالذات اخترتِ استخدامه في جامعتكِ، وهذه شهادة أفتخر وأعتز بها. ولكنَّ المصطلحات العلمية العربية التي تضعها مجامعنا اللغوية ويوحِّدها مكتب تنسيق التعريب، لا فائدة منها، فهي مولَّدات لا تُكتب لها الحياة إلا بالاستعمال. ولما كانت جامعاتنا العربية تدرّس العلوم بلغة أجنبية وليس بالعربية، فإنّ هذه المولدات لا تُستعمَل، بل تبقى في طريحة بطون الكتب وعلى رفوف المكتبات التي يكفّنها الغبار والتراب. ولا توجد حركة ترجمة علمية عربية تستفيد من هذه المولَّدات. فالترجمة هي سلعة تخضع لقانون العرض والطلب. وليس هنالك طلب عليها في بلادنا العربية لأننا نعلِّم العلوم بلغة أجنبية، مهما كانت تراكيبها وأصواتها مكسّرة ومتدنية، فلماذا نترجم الكتب العلمية العالمية. وهكذا تبقى اللغة العربيةمثل بطة عرجاء تمشي برجل الإنسانيات وليس لها رجل العلوم والتقنيات. هذا ما يريده مسؤولو التعليم العرب للغتنا، بحجّة التفتح على العالم والانفتاح على لغة العِلم، وكأن كوريا المتقدِّمة جداً علمياً وصناعياً، مخطئة في استعمال لغتها فقط في التعليم في مختلف مراحله ومستوياته وفي الصناعة والبحث العلمي. وكأن الكوريين منغلقون على أنفسهم، رغم أنّنا في البلاد العربية نعيش على منتجاتهم الصناعية، ورغم أنّ بعضهم يجيد اللغات العالمية الأخرى بما فيها العربية.
* لماذا كتبت كتاب” العراق في القلب”؟
ــ إنّ كتابي ” العراق في القلب” الذي تقع طبعته الثانية في 721 صفحة من الحجم الكبير، هو مجرد مجموعة من الدراسات المتفرِّقة في حضارة العراق وتاريخه الثقافي، كتبتها في أوقاتٍ مختلفةٍ نتيجةً للحنين الذي ينتابني للعراق خلال الفراق الذي دام أكثر من أربعين عاماً، على الرغم من أنّني أعدّ نفسي محظوظاً، لأنني لا أعيش في ديار الغربة، بل بين أهلي وقومي في أرض المغرب المعطاء ذي الحضارة العريقة، المشهور بدماثة خلق أهله وكرمهم الذائع الصيت.
—