في باحة بيت القديسة مريم بواردي في عبلين، أقيم حفل توقيع ديوان “عبير شوق السنين” للأديب جاسر داود، وذلك بتاريخ 20-6-2017، ووسط حضور من أدباء وأصدقاء وأقرباء ومهتمين بالشأن الثقافيّ، وبحضور وجود من سرايا عبلين الكشفية المسيحية والإسلامية، الذي أضفى لمسة جماليّة وتنظيميّة على الحفل، وقد تولت عرافة الأمسية آمال عوّاد رضوان، بعدما بارك الكهنة الحفل بصلاة خشوع قصيرة، وتحدّث عن الديوان كلّ من الأدباء: زهير دعيم، ود. صالح عبود، وعلي هيبي الناطق بلسان اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين، وأضفى إلى الأمسية لمسة موسيقيّة فنّيّة كلٌّ من: الزجال شحادة خوري أبو مروان، ونهاي بيم بمقطع كلثومي، ومعزوفة كلثوميّة أدّاها صافي دعيم على القانون، وضارب الإيقاع شادي حاج، ثمّ قدّم نادي حيفا الثقافيّ -ممثّلًا برئيسه فؤاد نقارة وحسن عبادي- درعَ تكريم للأستاذ جاسر داود، وكذلك الأستاذ جوزيف نشاشسبي قدّم درع تكريم، وكلمة مباركة قدّمها الحفيد جاسر إلياس داود، واختتمت اللقاء الحفيدة جويل نزار بربارة بقراءة كلمة الأستاذ جاسر داود- شكر من خلالها الحضور وكلّ من ساهم في تنظيم وإحياء وإنجاح الحفل، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة مع المحتفى به.
مداخلة آمال عواد رضوان: مساءاتكم عطرة بالنور، وأهلًا ومرحبًا بكلّ الحضور مع حفظ المقامات والألقاب، تحيّاتنا جمّة لكلّ ضيوفنا الأطياب، وبكل مَن حضر من عبلين وخارجها. أهلًا بالمتحدّثين القادمين من البلاد المحيطة، رغم صعوبة اللقاء والسفر وتزامن الأمسية مع مع وقت الإفطار الرمضاني المبارك، فبوركتم جميعا وجوزيتم كلّ خير وبركة.
معًا وبصوت واحد نتمنّى لأستاذنا جاسر بميلاده ال 65 سنين عديدة حافلة بالصحة والإبداع، وإيمانًا منّا بكلّ إنسان وبقدراته وبنجاحاته الحثيثة لارتقاء سلم الإبداع، نلتقيكم الليلة احتفاءً بأستاذنا الأديب جاسر داود، في حفل توقيع ديوانه الشعريّ الأّوّل (عبير عشق السنين)، إضافة لى إصدارات أخرى، فألف مبارك لنا بهذا الإصدار الشيّق، ونتمنى لك أستاذنا نجاحاتٍ تتعالى صوبَ السحاب وتعانق الأفق العالي.
نعم أحبائي، نحن نفخر ونرفع هاماتنا عاليًا واعتزازا بمبدعينا، ويُغبّطُ قلوبِنا كلُّ إنجازٍ بنّاءٍ يُساهم في رقيّ بلداننا وحضارتنا، فطوبى لكلّ زارع وردة، وطوبى لكلّ مَن يُساهمُ ولو بحصْوةٍ صغيرةٍ في بناء وطنِنا، وترسيخ وحدة أهلنا وزرع المحبة في البلد الواحد.
مداخلة الأديب زهير دعيم: إنّك في حضرة الأستاذ جاسر داود، وحينما تعانقُ طيبةُ القلبِ همسَ الحروفِ ووشوشاتِ الرُّوح، قد نرى السّماءَ مفتوحةً، وحينما يُحلِّقُ الحرفُ الملوّنُ فوق رُبى المشاعرِ الجيّاشةِ، قد نَلمسُ المجدَ، وحينما تعبَقُ الصّفحاتُ بشذى المحبّةِ المُزركشةِ بالرّجاءِ، قد نُلامسُ الانسانيّةَ الجميلةَ، وحينما تصولُ الرّوحُ الوثّابةُ وتجولُ في أفلاكِ الايحاء والصّورِ الشِّعريّةِ، قد نلتقي بهوميروس ودانتي وجبران وسعيد عقل، وحينما تجتمعُ كلُّ هذهِ المزايا الجميلة في بوتقةٍ واحدة، فاعلم يا صاحِ، أنّك في حضرةِ أبي الياس استاذِنا الكبيرِ جاسر، الذي يثقلُ حروفَهُ ويُحمّلها من قلبه ووجدانِهِ أثمارًا طيّبةَ المذاق.
ألَم يقل الشاعرُ الياس ابو شبكة مرّة: اِجرحِ القلبَ واسقِ شعرَكَ منهُ فدمُ القلوبِ خمرةُ الأقلامِ/ رُبَّ جُرحٍ قَد صارَ يَنبوعَ شِعر تَلتَقي عِندَهُ النُفوسُ الظَوامي/ وَعَذابٍ قد فاحَ منهُ بَخورٌ خالِدٌ في مَجابِرِ الأَحلامِ.
هذا هو شاعرُنا واستاذُنا ومبدعُنا جاسر الانسانُ الجميلُ الذي يأبى الّا أن يجرحَ القلبَ، ويسقيَ الحروفَ ويُحلّقَ في أجواء الشِّعْرِ وتلاله، وأوداء النثر وفضاءات الله، فيغوص في عمقِ الموعظةِ على الجبلِ، ليقطفَ ما شاءَ من الاطايبِ ينثرُها بلغتِه الجميلةِ البسيطةِ عطرًا ورذاذًا وأغنيّةً وشروقَ شمس.
ينادي الحسناء تارةً، ويناغيها ويؤرجحها على نوافذِ الغسقِ فُلّةً وفوْحَ ياسَمين، ويلمُّها مع الفجر قطراتِ ندى وزقزقةِ عنادل، ولا ينسى أبا الياس سماءَ الرُّوح، فينثرَ من دُررِ غزله في العِشقِ الالهيّ والعريسِ السّمائيّ القصائدَ الطوال، فها هو يناجي الكاعب الحسناء فيقول: سِنون مرّت وأنا أنتظرُ نسمةَ دفءٍ من ثغرِكِ الوهّاج، وأصلّي ربّي زِدني عِشقًا فأنا قاصدٌ وطامع بِلُقاكِ.
وها هو يناجي كما بولس الطرسوسيّ عريسَ الأجيال يسوعَ قائلًا: ربّاه، ما طمعتُ بشيءٍ غيرَ رحمتِكَ، فساعدني وأظهر لنا نحنُ الأطفالَ النُّورَ الألهيِّ الذي وعدتنا بهِ، لنقوّيَ عودَنا عودَ التقوى والمحبّةِ لا عودَ الشّرِّ والنّار، ولنحملَ تُرسَ الايمان ولنطفئ َ سِهامَ الشّرير المُلتهبةَ. أحبّكَ.. أحبُّكَ أحبُّكَ لا تتركنا غُرباءَ في هذا الوطن باقةً من الوردِ الجوريّ، أزفّها لك شاعرنَا الغالي بمناسبة صدور ديوانك الجديد “عبيرُ شوقِ السّنين”، سائلًا الإلهَ المحبَّ ان يطيلَ بعمرِك حتى تتحفَنا بدواوين َ أخَر. وأخيرًا قالَ السَّلَفُ: “وراءَ كلِّ رجلٍ عظيمٍ امرأة” وأنا أقول: وراءَ كلِّ شاعرٍ أمرأةٌ فاضلةٌ، وكذا الحال مع جارتِنا سيدر أمّ الياس، فهي السَّنَدُ والكَتِفُ ومنبعُ الحنانِ لاستاذنا الشّابّ، فلها منّي أجملُ التحايا.
مداخلة د. صالح عبود: الصورة الشّعريّة في مجموعة: “عبيرُ شوقِ السِّنين” للمبدع جاسر إلياس داود
جازَتْ بكَ الأشعارُ والشّعراءُ/ يا جاسرًا مِنكَ الحروفُ تُضاءُ/ بعبيرِ شَوقٍ للسِّنينَ أجَرْتَنا/ يا مَنْ بِشَوقِ الحالمينَ تَشَاءُ/ كَتَبَتْكَ مِنْ أُمِّ المحابرِ آيةٌ/ وَعَشِقتَ أرْضًا قَدْ رَعَتْكَ سَماءُ/ وَعَقِلتَ أنَّكَ للنُّذورِ بِشارَةٌ/ وَمِنَ الكَنائِسِ ظَلَّلتْكَ قِباءُ/ صَلَّيْتَ مَعمودًا يُناجي رَبَّهُ/ وَالقَلْبُ شَذْوٌ عُودُهُ الحِنَّاءُ/ صُلبَ المسيحُ على الفِداءِ مُخلَّدًا فَسَمى يَقينًا ينضَويهِ فِداءُ/ صُلبَ المسيحُ على الفِداءِ مُخلَّدًا فَسَمى يَقينًا ينضَويهِ فِداءُ/ فطَفِقْتَ تُكْسى بِالمناقبِ مِثْلَما/ بِرٌّ تهادى طِينُهُ وَالماءُ/ فَاسلَمْ عَزيزًا وَاعصِبَنَّ قَبيلَةً/ مِنْ قريةٍ فيها العُمومُ عَطاءُ/ يا جاسرًا فَاهْنأْ بِعمرٍ ماجدٍ/ وَاسْلَمْ وَفِيًّا فالحياةُ وَفاءُ
السيّدات والسّادة، قد جمَعَنا الليلةَ رجلٌ جميلٌ في حروفهِ وسجيَّتهِ، واختارَ لنا أن نشهدَ وإيّاهُ حفلَ توقيعِ وإشهارِ وولادةِ مجموعةٍ شعريّةٍ في ذكرى ميلادهِ هوَ، وَكأنّي بكَ تحتفلُ وَحروفَكَ وكلماتِكَ في هذهِ المسائيّةِ العبلّينيّةِ المريميّةِ الهانئةِ، وأنتَ ترصدُ كلَّ ما حبَّرتَهُ وزوَّرتَهُ في مجموعَتكَ الأنيقةِ لهذا اللقاءِ، أو لعلَّ تلكَ الموادَّ الّتي احتشدتْ في مجموعتِكَ قد اجتمَعَتْ لكَ هذهِ الليلةَ؛ كي تفيَكَ نذْرَها وتقولَ لكَ: كلُّ عامٍ وأنتَ مولانا وصاحبُنا والقائمُ فينا برضوانِ الربِّ والقدِّيسينَ والأتقياءِ..
السيّداتُ والسّادةُ، مجموعةُ شاعرنا المحتفى بهِ الليلةَ، جاسر إلياس داود، تجمعُ ثمانيةً وعشرينَ نصًّا وقطعةً شعريّةً تتراوحُ بين مفهومِ التّحديدِ والإيحاءِ بتناسبٍ غيرِ رتيبٍ، وعنوانُها مكوّنٌ من ثلاثِ كلماتٍ هيَ: “عبيرُ شوقِ السّنين”، وفي بعضِ أحرفِها تجتمعُ كلمةٌ عزيزةٌ جدًّا لدى شاعرِنا دونَ ريبٍ، ولدينا بطبيعةِ الحالِ، هيَ كلمةُ عبلّينَ..
“عبيرُ شوقِ السنين” مجموعةٌ شعريّةٌ رشيقةٌ قِوَامُها قطعٌ متجاورةٌ، تعتمدُ الإيحاءَ تارةً، ويغلبُ فيها التّحديدَ تاراتٍ أخرى. سوادُها الأعظمُ مدوّنٌ بلغةٍ عربيّةٍ فصيحةٍ جزلةٍ، وثمّةَ نصٌّ محكِيٌّ عبلّينيٌّ يتيمٌ يتوارى بينها على استحياءٍ، وهيَ في جِماعِها نصوصٌ تتراوحُ بينَ القِطَعِ القصيرةِ وَالقصائدِ المتوسِّطةِ غيرِ المطوَّلةِ، الّتي تنسجمُ كَلماتُهَا وتتناغمُ إيقاعَاتُها انسجَامًا سيمفونيًّا يتمَاهى معَهُ القارئُ أوِ السّامعُ المتلقِّي، فَتُخضعُهُ لِحالاتٍ شعوريّةٍ جميلةٍ رائقةٍ هادئةٍ، تُحيلُهُ إلى نَفْسهِ التي بينَ جَنبَيهِ ذَكرًا كانَ أَم أُنْثى.
أيّها السيّداتُ والسادةُ، أتناولُ من خلالِ إطلالَتي الحَيِيَّةِ المقتضبَةِ هذهِ، وبشاكلةٍ سريعةٍ وجيزةٍ بعضَ الموتيڤاتِ الرئيسةِ المهيمنةِ في المادّةِ الأدبيّةِ في مجموعةِ “عبيرُ شوقِ السّنينَ” لشاعرنا الجاسرِ.
1. عبلّين فاتحة المجموعة: يستهلُّ الشّاعرُ نصوصَ المجموعةِ العبيريّةِ بنصٍّ فاتحٍ بعنوانِ “يا أغلى حبٍّ عرفْتُهُ”، وهو استهلالٌ موفّقٌ من حيثُ المضمونِ، ففيهِ يعبّرُ الجاسرُ عنْ حبّهِ الثّابتِ الجليلِ لبلدتهِ العزيزةِ الغاليةِ عبلّين، فتراهُ عاشقًا لها، يرى فيها لؤلؤةً جليليّةً وجوهرةً تتوسّطُ جَنانَهُ المرهفَ بِعزَّتها وشموخِها وصلواتِها قارعةً أبوابَ السّماءِ جاثيةً في ملكوتِ الربِّ وَرِحابِهِ الأبديّةِ..
يذكرُ الشّاعرُ محاسنَ عبلّينِهِ، فيأتي على ذكرِ هوائِها وَعينِها النّميرِ الّتي رَوتْهُ طفلًا صَغيرًا وأشبعتْ ذاكرتَهُ الغضَّةَ كبيرًا، ويأتي على الصّالحينَ السّاكنينَ فِناءَها وتراتيلهِمْ الرّقراقةِ، ثمَّ تراهُ يذكرُ ما تنضحُ بهِ من محبّةٍ تُبطلُ البغضاءَ وتَجبُّ الشّنآنَ منَ النفوسِ، وكمْ هيَ بديعةٌ تلكَ الذكرياتُ الحالمةُ القائمةُ في تبصرةِ الجاسرِ، وهوَ يستذكرُ عُمُرَهُ العبلّينيَّ الأنيسَ المُستأنسَ بقمرٍ جميلٍ وَسَهرٍ طَويلٍ، يَجعلُ العمرَ كلَّهُ يومًا واحدًا تالدًا خالدًا، لا تعرفُ شمسُهُ إلّا شروقًا أزليًّا يأبى الغيابَ، ثمَّ تَراهُ يوقِّعُ نصّهُ الفاتحَ هذا بقَسَمٍ مُضعَّفٍ يعلنُ فيهِ وفاءَهُ لعبلّينَ التي ملَكَتهُ ومَلَأتْ صَدرَهُ وكيانَهُ رِضًا وقناعةً بأنّها المكانُ والزّمانُ الّذي لا بديلَ لهُ ولا نظيرَ..
السيّداتُ والسادة، هيمنتْ في سطحِ الدّلالةِ والمعاني في مجموعةِ “عبيرُ شوقِ السّنين” عدّةُ موتيفاتْ تُبرزُ في رأينا ركائزَ مادّةِ المجموعةِ برُمَّتها، وسأتعرّضُ الآنَ لِجُلِّها تعرُّضًا أوّلِيًّا غيرَ مُعمَّقٍ؛ كيْ أُيسِّرَ أمامَكمْ وأهيِّئَ لكمْ صورةً عامَّةً جامعةً لِما تكتنزهُ المجموعةُ منْ مضامينَ وموضوعاتٍ محوريّةٍ تُشكِّلُ إلى حدٍّ ما الهيكلَ المعنويَّ الدّلاليَّ للمادّةِ الأدبيّةِ الشّعريّةِ فيها..
موتيڤُ تغلبَ، حاضرٌ في بعض النّصوصِ، وقد عنونَ الشّاعرُ عنْ وعيٍ منهُ ودرايةٍ نصَّهُ الثّانيَ بـ: “واتغلباه”، وهي صيغةُ نُدبةٍ وتفجِّعٍ أَلِفتها العربُ قديمًا، وتغلبُ قبيلةٌ عربيّةٌ عريقةٌ مِن قبائلِ ربيعةَ العدنانيّةِ، وقد برزَ فيهمُ شخصيّاتٌ مجيدةٌ في تراثِنا العربيّ القديمِ منهمُ: كُليبُ بنُ ربيعةَ أعزِّ العربِ، وأخوهُ المهلهلُ أبو ليلى صنديدُها، وحفيدهُ من ابنتهِ، الشّاعرُ صاحبُ المعلّقةِ النونيّةِ عمرو بنُ كلثومٍ التغلبيّْ، وهو الّذي تكرّر اسمهُ غير مرَّةٍ واحدةٍ في المجموعةِ..
يوظّفُ الشّاعرُ موتيڤَ تغلبَ في سياقٍ إنسانيٍّ هادفٍ، إذ وجدَ فيها نموذجًا للقبيلةِ العربيّةِ النّصرانيّةِ التي لم تدفَعها نصرانيَّتها إلى الخروجِ عنْ عُصبةِ العربِ وَأمَّتِهم العربيّةِ في الجاهليّةِ، فكانت مثالًا ملائِمًا وموفَّقًا للإخاءِ بين الدّياناتِ المنصهرةِ في بوتقةِ الانتماءِ القوميِّ الشّريفِ لأرومةِ العربِ.. يجدُ الشّاعرُ في تغلبَ مجالًا لتضميدِ الذّاكرةِ الآنيّةِ المكفهرَّةِ بواقعِ التَّشَظِّي العربيِّ في عصرنا الحاضرِ الغائبِ عنِ الحضورِ، فتراهُ يقولُ في بعضِ القصيدةِ:
مقطع مقتبس رقم 1 ص: 6، يؤكّدُ الشّاعرُ من خلال القصيدةِ المقتبسةِ آنفًا أهمّيّةَ الإخاءِ العربيِّ الّذي يُرتَقُ بهِ كلُّ خَرْقٍ مِلَلِيٍّ طائفيٍّ أو عَقَديٍّ يَهتِكُ اللُّحمَةَ وَيُشيعُ الفُرقةَ بينَ مُحمَّدٍ وعيسى، فتأتي عنونتهُ وكلمتهُ الأخيرةُ في النصِّ: “واتغلباهُ! نداءً مُدوِّيًا لاستدراكِ الدّواءِ الكفيلِ بالقضاءِ على الدّاءِ المستشري في جسدِ الأمَّةِ زُهاءَ قرونٍ تترى..
تأتي مقطوعةُ بعروبتي لا أخجلُ كي تعضُدَ ما وردَ في قصيدتهِ “واتغلباه”، فيركّزُ الشّاعرُ على العروبةِ كمقوِّمٍ شموليٍّ جامعٍ مانعٍ يُنأى بالعربِ جميعهمْ دونما استثناءٍ عنِ الخلافاتِ والانقساماتِ الدّينيَّةِ المُفتِّتَةِ للكيانِ الأبِ القاتلةِ للرّوحِ الأمِّ..
تظهرُ رسالةُ الإخاءِ الإسلاميّ المسيحيِّ المتبادلِ في شعرِ الجاسرِ بجلاءٍ في قصيدتِهِ “عبيرُ الياسمينِ الشّاميَّةِ خالدةٌ”، ففيها يطالبُ بإصرارٍ وتكرارٍ لافتٍ للانتباهِ بضرورةِ الانضواءِ تحتَ خباءِ العروبةِ والانصهارِ في مفهومِ الأصلِ القوميِّ المشتركِ الّذي يُعوِّلُ عليهِ الشّاعرُ في وأدِ بناتِ التّفرقةِ والضّعفِ والهوانِ الّذي يَدُكُّ الكنائسَ والمساجدَ على حدٍّ سواءَ..
يلازمُ هاجسُ العروبةِ شاعرَنا في سياقاتٍ عديدةٍ في نصوصِهِ، ولا يغيبُ عن بالِهِ استثمارُ كلِّ فرصةٍ لتذويتِ مفهومِ العروبةِ واعبارِهِ حلًّا للآفةِ الكبرى في واقعنا المعاصرِ، فتراهُ وهوَ يُغنِّي لعكَّا في قصيدتهِ الغرَّاءْ “عكَّا يا قاهرةَ الأعداءْ”، يَذكُرُ التّآخي المسيحيّ الإسلاميّ فيها ويُثني عليهِ ثناءَهُ الجميلَ، فتسمعُهُ وهُوَ يقولُ: هناكَ جارةٌ تنادي جارَتها/ لتُعطيَها صحنَ طعامٍ تتذوَّقُهُ ظُهرًا/ معَ رفعِ الأذانِ/ مِنْ جامعِ الجزَّارِ/ وَقرعِ النّاقوسِ من كنيسةِ مارْ جِريسَ المُجاورةِ/ هكذا كانوا/ إخوةً معَ الأيّامِ والليالي/ وَسَيبقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ/ هناكَ”
عكّا الّتي يراها الجاسرُ في معمعةِ الحاضرِ، تَمنعُها أسوارُها عنْ أذى الأعداءِ المعتدينَ دائمًا، وَفي سُكَّانها أسوارٌ بَشَريَّةٌ منيعةٌ تُحصِّنهم منَ الفُرقةِ المذهبيّةِ الزائفةِ الضّلاليّةِ، وتنأى بالمكانِ عن لَوثةِ الزّمانِ وآفَتهِ. السيّداتُ والسّادةُ، الصّورةُ معيارٌ فنّيٌّ في نقدِ الشّعرِ ومادَّتهِ في كلِّ عصرٍ، وهيَ قيمةٌ جماليّةٌ وحيّزٌ إبداعيٌّ ترسمُها أخيلةُ المبدعينَ شُعراءَ وشاعراتٍ..
بدأَ مصطلحُ الصّورةِ الشّعريّةِ يَظهرُ في الدّراساتِ الأدبيّةِ والنّقديّةِ معَ نهايةِ القرنِ التّاسعِ عشرَ ومطلعِ القرنِ العشرينَ الماضِي، وذلكَ بعدَ أنِ استقرَّتْ غالبُ قواعدِهِ في الأدبِ الغربيِّ، إذ صارتْ دراسةُ الصّورةِ الشّعريّةِ في الآدابِ الأخرى عنصرًا هامًّا من عناصرِ بُنيةِ القصيدةِ نزولًا عندَ اعتبارِها- أيِ الصّورةِ الشّعريّةِ- من مصادر العملِ الشّعريِّ والتّجربةِ الشّعريّةِ على نحوٍ مَا.
تستطيعُ الصّورةُ الشّعريّة بِما تَملُكُهُ من مُقوّماتٍ فنّيّةٍ رَفيعةٍ أن تهبَ المبدعَ الشّاعرَ قدرةً وَمجالًا للخروجِ عنِ العاديِّ المألوفِ، ومَا ذاكَ الخروجُ إلّا شاهدٌ ساطعٌ ودليلٌ ماتعٌ على موهبةِ الشّاعرِ وطاقتهِ الشّعريّةِ الفذَّةِ وَثقافتِهِ الفنِّيَّةِ والتّقنِيَّةِ وَمَلَكَتِهِ الحِسِّيَّةِ الجَامعةِ.
أزعمُ أمامكُمْ- السّيّداتُ والسّادةُ- أنَّ الشّاعرَ لا يَتفوَّقُ علَى غَيرِهِ بسهولةٍ وَيُسْرٍ، وَلَا يَتَمكَّنُ مِنْ هَزمِ تَرَدُّدِهِ وَإحْجَامِهِ عَنْ حَملِ نَعتِ الشّاعرِ أوِ الشّاعرةِ إلّا بِشُقِّ الأنْفُسِ، وَمَا أرَى فَضْلًا لِمنْ زَعَمَ الشِّعرَ وَلَمَّا يُنازعْ نَفسَهُ وَهَواهُ وَقَصِائَدَهُ وَذَاتَهُ تلكَ القَضِيَّةَ، هَلْ هوَ شاعرٌ فِي مِرآةِ ذَاتِه؟ أمْ أنَّهُ نَهبٌ مُقَسَّمٌ بينَ شِعرٍ صَادقٍ يَخرجُ مِنْ سُويداءِ مُهْجتِهِ، وَلَقَبٍ يَتَعاوَرُهُ النَّاسُ وَفيهمُ العارفُ النّاقدُ البَصيرُ وَالجَاهلُ الطّائشُ الغَريرُ، وَهوَ- أيِ الشّاعرُ أوِ الشّاعرةُ- علَى رَغبَتهِ الشّديدةِ في معرفةِ ذاتِهِ الشّاعريّةِ يَعيشُ حالةً منَ الضّوضاءِ والفِتنةِ الّتي لا تُعكِّرُ رغمَ مَشَقَّتِهَا وَتداعيَاتِها سَلامَهُ وَاستسلَامَهُ لسَكينَةِ الشّعرِ وَجِوارِ البيتِ وَآصِرَةِ الحَرفِ وَذِمامِ القَريحةِ عندَ نَظمهِ الآتِي..
يبلغُ شاعرُنا الجاسرُ في صورهِ الشّعريّةِ حدًّا خَليقًا بالثّناءِ، فهوَ رغمَ تورّكهِ على صورٍ شعريّةٍ مبسَّطةٍ غيرِ مُتقعَّرَةٍ ولا مُعقّدةٍ، فإنّهُ يُؤثُرُ رسمَ الصّورةِ الشّعريّةِ في نصوصِهِ بألوانٍ زاهيةٍ أليفةٍ يَألَفُها القارئُ فلا يَأنفُ منها، ويلعبُ أسلوبُ التّقريريّةِ دورَهُ في تيسيرِ الصّورِ الشّعريّة في المجموعةِ، إذ يَطغى ذلكَ الأسلوبُ بِدَورِهِ فَيَصرفُ الشّاعرَ نحوَ صورٍ شعريّةٍ محدَّدةٍ بحدودٍ قائمةِ الزّوايا لا تعرّجَ فيها ولا التواءَ..
قصيدةُ “اسمعْ صَوتي”، ص: 10-11، في قوامِها صورةٌ شعريّةٌ جليَّةٌ موجَّهةٌ للنُّخبةِ القياديّةِ في الوسطِ العربيِّ في البلادِ، تَحثُّهم وَتحضُّهم على إيلاء الاهتمامِ بمعشرِ الشّبابِ، مذكّرةً إيّاهمُ والقارئَ الافتراضيَّ أنَّ الشّبابَ في المجتمعِ همْ كنزُ المستقبلِ.. يَرسمُ الشّاعرُ في النصِّ المذكورِ آنفًا صورةً تُحدِّدُ واقعَ الشّبابِ في وقتنا هذا، فهم زهورٌ معطَّرةٌ، دائِمو الحركةِ والتَّجوالِ، أصواتُهم عاليةٌ تملأُ الأمكنةَ، لكنّها أصواتٌ لا تطولُ قهقَهَتُها، فسَرعانَ ما ترحلُ وتتوارى خلفَ نغمةٍ قاتمةٍ تُواري حسرتَهمْ وحزنَهُم وفراغَهم المقيتَ، وهمْ عالقونَ في رِحلةِ البحثِ عنِ الأملِ البعيدِ البعيدِ..
تنهضُ الصّورُ الشّعريّةُ من عقالِ التّحديدِ في الخطابِ الشّعريّ السّياسيّ لدى شاعرنا الجاسرِ، فتلحظُ في نصوصهِ السّياسيّةِ والمُسَيَّسةِ صورًا أكثرَ إقناعًا وأرفعَ منزلةً، وهوَ ما ينسحبُ على قصيدتهِ السّياسيّةِ “إِلْحِمني بثرى الوطنِ أكثرَ” ص: 12-13، فيصفُ النصُّ صورةَ طفلٍ فلسطينيٍّ يَبطحهُ ثلاثةُ جنودٍ على الأرضِ كي يعتقلوهُ ويودعوهُ السِّجنَ العسكريَّ، وهنالكَ يحاورُ الطفلُ المعتقلُ ذاتهُ مونولوجيًّا مُعبِّرًا عن صمودهِ الأسطوريِّ أمامَ العُتوِّ والقهرِ والاعتقالِ المريرِ، فتراهُ يقولُ:
مقطع مقتبس رقم 2 ص: 12-13، يَبُثُّ الشّاعرُ صورًا شعريّةً أخرى في مجموعتهِ، وتقعُ صورةُ الأمِّ ضمنَ شبكةِ التوظيفات المُعتمدةِ في نصوصهِ، فيبرزُ موتيڤُ الأمِّ في كثيرٍ من القصائدِ والقطعِ الشّعريّةِ المُكوِّنةِ للمجموعةِ، ومنها صورتُها في نصِّ: “أمَّاهُ… أنا بجانبكِ” ص: 14-15، وَصورتُها في نصِّ: “الأمومةُ الوديعةُ” ص: 16-17، وتبلغُ شَأوًا في نصِّ: “الأمُّ المقدسيّةُ” ص: 18-19، وتراهُ يُوقفُ للطّفولةِ الفلسطينيّةِ نصُوصًا عديدةً كما فعلَ في نصّهِ الجميلِ: “طفلُ التّحدّي”، ص: 25-26، وهو يَعتمدُ صورةً شعريّةً تُحاكي الطّفولةَ الشّاقّةَ العسيرةَ الّتي يُولدُ من رَحمِ شقائِها رجالُ المستقبلِ المتسلّحينَ بالعزمِ والحزمِ والجَلدِ على نوائبِ الدّهرِ وَصُروفِهِ ونوازِلِهِ، وهذَا ما ترسمهُ صورةٌ شعريّةٌ مباشَرةٌ في نصّهِ “طفلُ الألمِ” ص: 27، وفيهِ رصدٌ للطّفولةِ العَصيبةِ الّتي تُنجبُ العظماءَ الأشدّاءَ..
السيّداتُ والسّادةُ، تتعدّدُ الصّورُ الشّعريّةُ المرسومةُ بلونِ الواقعِ المريرِ، فتشهدُ المجموعةُ على صورٍ حَرِيَّةٍ بالذّكرِ، غيرَ أنّنا نَضربُ عنها صَفحًا لضيقِ الحيِّزِ والوقتِ، وكيْ نتركَ لكم، معشرَ الحاضرينَ، فرصةَ القراءةِ والحُكمِ والفصلِ في ذلك، كلٌّ حسبَ قراءَتِهِ وثقافتهِ وتدبّرِهِ في الكلامِ، ولعلَّ من أبرزِ الصّورِ الّتي ينبغي الإشادةُ بها في المجموعةِ: صورةُ المرأة (قصيدة أنوثتي لا تساوم)، الصّورة الغزليّة الواردةُ في النصّ الغزليّ (نصّ في حيِّنا فتاةٌ ص: 57)، وفيه ذكرُ محاسنِ النساءِ ونحوَ ذلكَ..
من الجديرِ ذِكرهُ أنَّ عنونةَ النّصوصِ لدى شاعرنا الجاسرِ تستجيبُ في كثيرٍ من الأحيانِ لنظامِ العنونةِ الاختزاليّةِ المحدَّدةِ والمباشَرةِ، فتقعُ معظمُ عناوينِ المجموعةِ ضمنَ إطارِ العنوانِ الّذي يرتبطُ ارتباطًا مباشرًا ووثيقًا معَ مادّةِ مَتنِهِ ونصِّهِ المرصودِ من أجلهِ..
أصُبُّ خلاصةَ ورقتي هذهِ في مسألةٍ ترتبطُ بالشّعرِ والشّعراءِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهيَ مسألةُ التّأرجحُ بين المباني والمعاني، وتلكَ نُكتةٌ من أصولِ الشّعرِ العربيِّ القديمِ، وفيها يدخلُ تفاوتُ الشّعراءِ في الأغراضِ الشّعريّةِ، وذلك في مثلِ قولِ الجاحظ: «والشعراءُ أيضًا في الطبعِ مختلفونَ، منهمُ منْ يَسْهُل عليهِ المديحُ ويَعْسُرُ عليهِ الهجاءُ، ومنهمُ مَن تَيسَّر لهُ المراثي وَيتَعَذّرُ عليهِ الغزلُ”..
تدخلُ في مسألةُ الشّعرِ والنصِّ الشّعريِّ بينَ المبنى والمعنى، تدخلُ في صميمِ تعريفِ الشّعرِ وكونِهِ إبداعٌ يعتمدُ الموهبةَ والكسبَ في آنٍ واحدٍ، وذلكَ ما نوّهَ إليهِ القاضي الجرجانيُّ (392هـ) من جهته، فذكر في سياقِ تناولِهِ قضيّةَ الطبعِ والصَّنعةِ، وذلكَ في مؤلَّفِهِ الوساطةُ بينَ المتنبّيِّ وخصومِهِ: “الشعرُ عِلمٌ من علومِ العربِ، يشتركُ فيهِ الطبعُ والروايةُ والذّكاءُ، ثمَّ تكونُ الدَّرَبَةُ مادّةً لهُ، وقوّةً لكلِّ واحدٍ من أسبابِهِ”..
خلاصةُ الأمرِ أنَّ قدراتِ الشّعراءِ تفاوتت وفقًا لعاملِ الميلِ إلى واحدٍ منَ المذهبينِ، مذهبِ شعرِ المباني أو مذهبِ شعرِ المعاني، وكانَ أوفقُ الشّعراءِ مَنْ توسَّطهُما وجمعَ بينهما في شِعرهِ تَبَعًا للشّروطِ والضّوابطِ الّتي أرساها نقّادُ الشّعرِ العربيِّ طوالَ العصورِ الأدبيّةِ..
أبو إسحاق الحصريّ (ت 413 هـ) يؤكّد في سياق حديثه عن الشّعر الّذي يؤدّي غرضَ المعنى والدّلالة الّذي وضعَ لأجلهِ، فيقول: “والكلام الجيّدُ الطبعُ، مقبولٌ في السمعِ قريبُ المثالِ بعيدُ المنالِ، أنيقُ الديباجةِ رقيقُ الزجاجةِ، يدنو مِنْ فهمِ سامعِهِ كدُنُوِّهِ منْ وهمِ صانِعهِ، وَالمصنوعُ مُثَقَّفُ الكعوبِ مُعتدلُ الأنبوبِ، يطردُ ماءُ البديعِ على جَنباتهِ، وَيحولُ رونقُ الحُسنِ في صفحاتِهِ، كَما يحولُ السِّحرُ في الطَّرَفِ، والأثرُ في السيفِ الصَقيلِ، وَحَمْلُ الصانعِ شِعرَهُ على الإكرامِ في التَعمُّلِ وَتنقيحِ المباني دونَ إصلاحِ المعاني، يَعُضُّ آثارَ صنعَتهِ وَيُطفِئُ أنوارَ صيغَتِهِ وَيُخرجُهُ إلى فسادِ التعسُّفِ وقبحِ التكلُّفِ”.. بذلكَ ينصرفُ العربُ للمعاني معَ حرصِهمْ على ضوابطِ المباني والشّكل في القصيدة الشّعريّةِ، وبذلكَ- في رأينا- يَستقيمُ المنسمُ!
السيّدات والسادةُ، رَغمَ بساطةِ الشّعرِ الحديثِ بمعانيهِ ومُفرداتِهِ إلّا أنّه يَحملُ معانيًا ومضامينَ أعمقَ من المعنى الحرفيِّ، فالشّاعرُ الحديثُ لا يبحثُ عنِ المُفرداتِ فَحسْبْ، بل يتحرَّى في انتقاءاتِهِ اللفظيّةِ عُمقَ المعنى. معَ ذلكَ، طرحتْ حركةُ الشعرِ الحديثةُ مسائلَ عديدةً ومعقّدةً في مختلفِ مجالاتِ الإبداعِ الشعريِّ، ولعلَّ من أبرزِ تلكِ المجالاتِ مسألةُ شكلِ القصيدةِ، وليسَ من نافلِ القولِ إنَّ الشكلَ الشعريَّ قد اكتسبَ مكانةً هامّةً في المفاهيمِ الشعريّةِ التقليديّةِ الكلاسيكيّةِ، حتّى بلغتْ حدًّا توهَّمَ معَهُ بعضُهمْ ولا يزالونَ أنَّ الشكلَ وحدَهُ كافٍ للتفريقِ بينَ النصِّ الشعريِّ والنثريِّ.
قصيدتا الغربة ص: 36 والمُعذَّبة ص: 37-38، وقصيدةُ لا وألفُ لا ص: 53، تفتحُ المجالَ أمامَ تساؤلٍ يرتبطُ بقضيّةٍ تؤرّقني وتدعوني للتوجّه لكَ يا شاعرنا المحتفى بإصدارهِ المشرقِ في عبلّينَ، ولثُلّةٍ من أصحابنا ممّنْ ينظمونَ الشعرَ ولا يحرصونَ على العدلِ والاعتدالِ بينَ المبنى والمعنى، فمِنهم مَن يسلبُه حرصهُ على الشّكلِ والمباني التّنبّهَ لدورِالدَّلالاتِ والمعاني في نظمِهِ، فيخرجُ نظمُه عاريًا كاسِفًا من المعنى، شَحيحًا لا يعدو عن كونِهِ ألفاظًا متَّصلةً لا تُدركُ البصائرُ منها إلّا الرّكيكَ المذمومَ، ومنهم من يوقِعهُ تقديسهُ للمعاني في نَبوةِ التّفريط بما لا يليقُ التفريطُ بهِ من أصولِ المباني! وذلكَ عيبٌ ومثلبةٌ ينبغي بالشّاعرِ التوجُّسُ منها أيّما توجّسٍ!
وقعَ شاعرنا الجاسرُ في ورطةِ التعادلِ بينَ المبنى والمعنى، فقدّم المبنى على المعنى، فأفسدَ بذلكَ النصَّ وحرمهُ منَ الجماليّةِ الّتي كانَ بالإمكانِ تحصيلها فيما لو عدلَ بينَ مبناهُ ومعناهُ، فجاءَ الاهتمامُ بالمبنى باعثًا في ركاكةِ المعنى، ونصيحتي لكَ يا أخي، واعصبها برأس أخيكَ صالحٍ، كَدِّسِ المعاني، ولا تُكرِّسِ المباني!
باتَ معلومًا أيّها السيّداتُ والسادةُ أنّ الذي يفرّقُ بينَ الشعرِ الحديثِ عن التقليديِّ ليسَ الشّكلَ الخارجيَّ وحدَهُ، رغمَ أهمّيّتِهِ عندنا، بل إنَّ المناخَ النفسيَّ والإيحاءَ معًا يشكّلانِ فَيْصلَ الفروقِ بينهما، وليستِ المسألةُ كما وُصِفتْ ذاتَ مرَّةٍ أنّها خمرٌ قديمةٌ سُكبَتْ في دنانٍ جديدةٍ، بل هيَ في المقاربةِ الواقعيّةِ خمرٌ جديدةٌ مذاقُها مغايرٌ ونكهتُها مُخالِفَةٌ.
مداخلة الأديب علي هيبي: أسعد الله مساءكم/ رمضان كريم على الجميع. المحتفى به الكاتب والشاعر أخونا جاسر داوود. الأخوة على منصّة المتكلّمين. الحضور الكرام مع حفظ الألقاب. نودّع الآن شهر رمضان المبارك ونحن لخمس ليالٍ بقين منه، ونقف الآن على عتبات ليلة القدر ومن ثَمّ نستقبل عيد الفطر السعيد، ننتهز هذه الأمسية المباركة بوجودكم وبهذه الأجواء، لنعايد عليكم مسلمين ومسيحيين سائلين الله وأنبياءه: المسيح ومحمّدًا أن يعود علينا وشعبنا العربيّ الفلسطينيّ ينعم بالاستقلال والسلام والأمن في دولته فلسطين وعاصمتها القدس، مهد المسيح ومعراج الرسول. وشعوبنا العربيّة في سوريا وليبيا واليمن والعراق تنعم بالتخلّص من الإرهاب الداعشيّ والسعوديّ والقطريّ والتركيّ والأميركيّ.
أنا من الذين يؤمنون وأعتقد أنّي مثلُ جاسر في هذا الإيمان، وفقًا لما أعرفه عنه في الحياة ومواقفها ووفقًا لما قرأت من الديوان ومضامينه وكتبه السابقة، أنا من الذين يؤمنون بأنّ المسيح ومحمّدًا رسولان عربيّان، وأنّ الاثنين لنا، وليس المسيحُ للمسيحيّين وليس محمّدٌ للمسلمين، الاثنان وفي المقدار نفسه لنا. وأنّ الكنيسة والجامع كدارين للعبادة وذويْ معنًى وطنيّ عربيّ، الاثنان لنا، وليست الكنيسة للمسيحيّين فقط وليس الجامع للمسلمين فقط، الكنيسة والجامع الاثنان لنا، وإذا أُعتديَ على واحد منهما كان الاعتداء على الآخر تحصيلًا حاصلًا، و يا ويلنا إذا اعتقدنا غير ذلك، فسيكون الجامع والمسلمون في خطر والكنيسة والمسيحيّون في خطر أيضًا. وما أخطر دعوة ذلك الشيخ الذي دعا من على درجات منبر إلى أنّ أعيادنا لنا وأعيادهم لهم، ليست هذه دعوة رجل دين حقيقيّ وصادق، رجل الدين الحقيقيّ والصادق هو ذلك الذي يقول أعيادنا واحدة، أعياد المسلمين لهم وللمسيحيّين وأعياد المسيحيّين لهم وللمسلمين. أعيادنا عربيّة والسلام.
عرفت الأخ والمربّي جاسر داوود منذ فترة طويلة، ولكنّ العلاقة توطّدت من خلال نشاطنا السياسيّ ضمن إطار الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة. ومن خلال النشاط الأدبيّ والثقافيّ الذي نما وترسّخ وانتشر حراكه بعد تأسيس اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين قبل ثلاث سنوات بالضبط. وكان الأخ جاسر من أوائل المنتسبين له. ونحن نتشرّف ونعتزّ بهذا الانتساب.
لست ناقدًا للشعر ولا لغيره من الإنتاج الأدبيّ، ولكنّي قارئ عاديّ أمتلك أدواتي الاستقرائيّة من تجربتي المتواضعة وقراءاتي المتأنيّة، وبخاصّة في الإنتاج الفلسطينيّ المحلّيّ الغزير، والذي أعترف أنّه ألهاني عن قراءة الإنتاج الأدبيّ العربيّ من بلدان أخرى، وأقول لقد غزُر هذا الإبداع فعلًا، ففي السنوات الثلاث الأخيرة أصدر الأدباء من أعضاء اتّحادنا فقط حوالي مئة وخمسين كتابًا، في ميادين: الشعر والقصّة القصيرة والرواية والمسرحيّة والترجمة والدراسة وغيرها من مواضيع الكتابة الإبداعيّة والعلميّة. ولجاسر باع طويل في هذا الإبداع والتنوّع، فقد أبى إلّا أن يكون كاتبًا شاملًا وقادرًا على الكتابة في كثير من الأنواع والفنون، فهو إذ يصدر باكورة دواوينه، متأكّد أنّ في جعبة مكتبته وذاكرته الكثيرَ من المخطوطات التي تقبع بين طيّات ظلام الجوارير، تنتظر في محطّة سفر الوجدان لتركب قطار النور وتبلغ فضاء الإبداع والنشر.
ولجاسر مجموعة قصصيّة بعنوان “خلود جذور الوطن” صدرت قبل عامين، واحتُفِيَ بها في هذا المكان بحضور لفيف من المبدعين والمشاركين، أذكر من بينهم كبيرنا – أعطاه الله الصحّة والعافية والعمر المديد – الكاتب والشاعر حنّا إبراهيم. وله في مجال السيرة كتاب هو سيرة حياة للقدّيسة الجليليّة الفلسطينيّة مريم بواردي، وكتاب عن ستّنا مريم أمّ الكلّ، أمّ يسوع المسيح، “واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيّا* فاتّخذت من دونهم حجابًا فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرًا سويّا* قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا* قال إنّما أنا رسول ربّكِ لأهب لكِ غلامًا زكيّا* قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيّا* قال ربّكِ هو عليّ هيّنٌ ولنجعلَهُ آيةً للناس ورحمةً منّا وكان أمرًا مقضيّا*.
أعرف أنّ جاسر يقوم الآن بوضع اللمسات الأخيرة على دراسته حول الحسّ الوطنيّ عند الشاعر الكبير، ابن عبلّين الأستاذ جورج نجيب خليل، وأعتقد أنّ ديوانه “يا بلادي أو إلى بلادي” كان أوّل ديوان شعر قرأته في حياتي وأنا في صباي، وكانت الكتب شحيحة، وكنّا نعتقد أنّ الشاعر قد يكون بعيدًا في برج عاجيّ أو في مجرّة سماويّة أو في بلاد خيال بعيد، وما كان ليخطر ببال أحد أنّ الشاعر رجل عاديّ وحقيقيّ، يسكن في عبلّين التي تبعد عن كابول مسافة ساعة سيرًا على الأقدام، وأقلّ من ذلك لو ركبنا الحمير.
وأعتقد أنّ جاسرًا ما زال عاقدًا العزم على إخراج دراسته التاريخيّة حول قريته عبلّين، وجاسر حائز على درجة الماجستير في موضوع الدراسات الإسلاميّة وتاريخ الشرق الأوسط. فإلى الأمام أيّها العزيز، نغبطك على غزارة الوبل وعلى تنوّع الخصوبة المبدعة.
وإذا كان جاسر داوود الشاعر وديوانه “عبير شوق السنين” هو محور هذه السهرة الأدبيّة، وإذا كان جاسر وأنا وغيرُنا قد شببْنا على النهل من الرعيل الأوّل لشعرائنا الفلسطينيّين الكبار، ومن غيرهم من الشعراء العرب والشعراء العالميّين، فلا بدّ من أن يكون الوطن والإنسانيّة والحبّ والأرض والنضال والحريّة والألم والأمل مواضيعَ في أشعارنا، وإذا كنّا قد تأثّرنا بهم، وهذا غير مشكوك فيه، فلا بدّ من أن نُراكَم تجاربهم ونعتصر من وجداناتهم المضطربة كالوطن، وننهل من حيواتهم ومواقفهم ما يجعلنا نمجّد الحياة الكريمة ونقدّس الموت المشرّف الذي يُبقي صاحبه واقفًا وحيًّا كالأشجار.
وإذا كان لا بدّ من الحديث عن هاجس رئيسيّ / موتيف أساسيّ عند جاسر في هذا الديوان، فلا بدّ أنّ هاجس الوطن الصغير عبلّين والوطن الكبير فلسطين، بكلّ تشكيلاته الماديّة وبكلّ مدلولاته المعنويّة والرمزيّة، لهو المحور الموضوعيّ والمعادل الفنيّ لمعاناة الشاعر على المستوى الذاتيّ ولمعاناة الوطن على مستوى الجمعيّ. والوطن ليس دائمًا حلمًا ومعنًى ورمزًا ودلالةً، بل الوطن وفي كثير من الأحيان هو الناس والأفراد والأشياء الماديّة الصغيرة والبيت والشجرة ولقمة العيش والفدّان وتعليم الأبناء وتزويج البنات والأعراس والغناء والموتى والقبور والشواهد ومنارة الكنسية والشماس والجرس ومئذنة الجامع وهموم الصوم ولقمة الإفطار وبهجة الأطفال في العيد والملابس الجديدة والمدرسة والدفتر، والوطن هو حبّ بنت الجيران واختلاس النظرات إلى الحسان، الوطن هو جهنّم أحيانًا نكون فيه أشقياء ونصلى نار ذوي القربى والحكّام الظالمين من أمثال حكّامنا اليهود والعرب في هذه الأيّام، ولكنّه أي الوطن، مهما اشتدّت علينا حلكته وجثم على صدورنا كجدار عازل يبقى أفضل من الجنّة التي لو وُضع فيها ناظم حكمت لصاح: “آه يا وطني” فالجنّة وأنهارُها الجارية من تحتها والملائكة المحلّقة من فوق أجوائها، كلّ ذلك لا ينسي الشاعرَ وطنَه.
الوطن عند جاسر هو الوحدة الوطنيّة بالمفهوم السياسيّ أيضًا، فلا يمكن لأجراس الكنائس أن تقرع في وادٍ وتكبير الجوامع أن يرنّ في واد آخر، فالثرى والنبع والنسيم والجبال والوديان والقمر والسهر والسعادة والهناء، والتاريخ في عبلّين وهي الوطن الصغير للجميع، والعدوّ المتربّص بهذا الجميع واحد، وقد يكون هذا العدو هو الذئب والغدر وقد يكون من ناكري جميل خيرات الوطن، وقد يكون التفسّخ والتشرذم الوطنيّ والطائفيّة والعائليّة وتغليب المصالح الذاتيّة النفعيّة وتقديم مصلحة الفرد الدنيئة على المصلحة العليا للوطن.
ينعكس هذا المفهوم الإنسانيّ للوطن بلا تعصّب وبلا فئويّة أو طائفيّة عند الشاعر، فعبير شوق السنين، هذا التوالي لثلاثة أسماء يشعّب الصورة لتتشكّل من العبير المحسوس والشوق المعنويّ الذي يدلّ على نقاء الأحاسيس والزمن المجرّد الذي يعطي الوطن امتداده الماديّ والسرمديّ، منذ البدايات أو ما قبلها حتّى النهايات وما بعدها، كلّ ذلك المزيج الجميل يلوّن الصورة الشعريّة ويجعلها ذات نبض وإيحاء، يضفيان على القصيدة ظلالًا جماليّة وغنيّة بالحركة والأصوات. هذه الصورة وهذه القصيدة التي لا تنتهي حبًّا وطيبًا وشمسًا هي عبلّين، التي يعتبرها الشاعر أغلى حبّ عرفه، منذ قصيدته الأولى، حيث يتحوّل الوطن نفسه ليصبح قصيدة عشق والشاعر عاشقًا ولهانَ يعاني حالة الفراق، متلوّعًا ومحترقًا شوقًا للقاء الحبيبة الغالية والبعيدة/ الوطن الغائب والبعيد.
جمال الوطن ومعانيه القدسيّة وأشياؤه ومفرداته الحسيّة على جمالها، لا تنسي الشاعر همومه، فالوطن مألوم بواقع احتلال مقيت وبوضع عربيّ مأزوم ومهزوم، والحلم كابوس والأمل لا يلوّح بيديْه من بعيد، إلى أين يهرب الشاعر؟ والمستقبل عاجز عن المجيء لسواد في ليل حاضر جاثم كالمصيبة ذات العيار الثقيل، يبدو كأنْ لا فكاك من جبروته! قد يسعف الماضي/ الهروب إلى الخلف/ إلى عنترة وتغلب وعمرو بن كلثوم. وهل يجدي السؤال إلّا بقليل من قبس اليأس الإيجابيّ، اليأس السيرياليّ. لمن نهرب وإلى أين؟ لخادم الحرمين الوهابيّ/ للرئيس السيسي الربيعيّ/ للإخوان المسلمين الأردوغانيّين/ للإخوان الوهّابيّين وثمود/ هل نعود إلى أولئك الذين “فرشوا بقلوبهم حصونًا للغريب وقتلوا رغبات شعوبهم فأذلّوها” على حدّ تعبير جاسر في قصيدة “وا تغلباه”/ فاليمن تفرّق أيدي سبأ بعد أن هدمت فئرانُه مأربَه/ والعراق يشكو من هولاكو جديد لا يذر مكتبة ولا متحفًا/ سوريا في مهبّ رياح خطير/ مشرعّة الأبواب المخلّعة نحو الجهات الستّ/ مصر نامت نواطيرها الناصريّة عن ثعالبها وساداتها/ قلنا سيسي سيسي ولم يطلع نور ولم يتنفّس صبح ولم ينبلج ربيعٌ ولم يضحك. ومع ذلك فجاسر يهرب إلى الماضي البعيد مستصرخًا ومستغيثًا “وا تغلباه”، أو إلى الماضي القريب فيعيد إلينا جمال عبد الناصر حيًّا كقائد ورمز للعروبة والوطنيّة والعدالة الاجتماعيّة وكرمز للطهارة العروبيّة. كلّ ذلك تعبير صادق عن حالة اليأس والإحباط والخمول والقدرة المذهلة على اللا فعل، التي تضطرب فيها هذه الأمّة بظلام قتل شبابها وبظلاميّة تقتل تفتُّحَ عقلها. فإلى أيّ درْك تأخذنا أيّها التديّن المبشنق بالظلاميّة والأصول المزيّفة/ في أيّ قاع صفصف تجعلنا أيّها العصف المدمّر.
في هذا الديوان ثمانٍ وعشرون قصيدة، لا اعتقد إلّا في قليلها لا يمرّ ذكر الأمّ، لا أعرف سببًا حقيقيًّا لذلك، ولكنّي أكاد أجزم أنّ للأمومة والأمّ والمرأة عامّة دورًا هامًّا في نسيج التجربة الشعريّة والفنيّة عند شاعرنا، فالأمّ هي الغنى الوجدانيّ الطافح بكلّ المعاني المقدّسة، إنّها الوطن والطبيعة والأمومة والطهارة والنقاء، وهي البداية والولادة الدائمة والتجدّد الحيويّ، وهي الصدر الحنون الذي نسند إليه همومنا، والأم هي الحبّ الطاهر الذي لا نستطيع أن نحيا ونزاول حياتنا ونمارس نضالنا دونه، إنّ هذا الموتيف الذي يتردّد في الديوان من أبرز العناصر التي شكّلت العاطفة والحبّ وبصدق داخليّ، وكلّ ذلك من صميم التجربة والمعاناة الذاتيّة للشاعر ولنا، على اعتبار أنّ صوت الشاعر الصادق هو انعكاس لصدى أصواتنا الصامتة.
هناك من يردّد في بلادنا، وفي الأوساط الثقافيّة والأدبيّة، أنّنا لم نعد نملك إلّا سلاحًا واحدًا هو الثقافة، والصراع السياسيّ والقوميّ في أحد وجوهه ثقافيّ حضاريّ، هذا إلى حدّ ما صحيح وبشكل نسبيّ، وكلّ إنتـاج أو إبداع أدبيّ هو رصيد لثقافتنا الإنسانيّة ولشخصيّتنا القوميّة ولهويّتنا الوطنيّة، شريطة أن يستوفي الأسس والعناصر الفنيّة والجماليّة، ولا يكفي في هذه الحال الموضوع والمضمون، مهما كان صادقًا من الخارج، لا بدّ من الصدق في داخل الإبداع، وإلّا صار هذا الأدب عالة على مشروعنا الفنيّ والثقافيّ والوجوديّ، فالقصيدة كي تكون سلاحًا تقاتل في المعركة إلى جانب غيرها من الأسلحة، يجب أن تكون على جودة جماليّة، وإلّا تحوّلت إلى سلاح مضادّ.
ولا بدّ من التعريج على أحد الجوانب الفنيّة في الديوان، وأقصد الشكل الشعريّ، وجاسر يلجأ إلى تنويعة واضحة في قصائده، فهو يكتب القصيدة العموديّة المبنيّة على بعض الأوزان الخليليّة، وله منها سبع قصائد، وهنا أدعو الشاعر إلى دراسة أعمق لهذه البحور وتفعيلاتها وجوازاتها. ويكتب قصيدة أعتبرُها مزيجًا من الشعر المرسل والشعر المقطعيّ المزدوج، قصيدة “المعذّبة”، وقصيدة مقاطع من الرباعيّات هي “الأمّ المقدّسة”، وله قصيدة باللغة العاميّة وهي “طفل من بيت لحم”، وما بقي من قصائد فهي من شعر التفعيلة أو من قصيدة النثر أو ما بينهما، ما يشبه الخليط من هذه وتلك. واعتقد انّ هذا التنويع مكّن الشاعر من أداء تجاربه ومعانيه وفقًا لسلّم ذي طبقات صوتيّة متفاوتة الإيقاع والوقع على الأسماع والأذواق المختلفة بطبيعتها بين القرّاء، وقد لاحظت أنّ صوت جاسر الشعريّ يعلو بنبرته وصرخات قلبه المتصدّع ليصبح خطابيّا مباشرًا حين ينادي ويخاطب العدوّ مستغربًا جرائمه بحقّ الطفل والوطن والناس، وحين يستصرخ الشعراء: درويش والقاسم وزيّاد، وقد نلاحظ هذا الصراخ في بعض القصائد الحديثة حين يثوّر ويحرّض. أمّا في رسالته إلى محمود درويش، فبالرغم من كونها رسالة، والمفروض أن تكون خطابيّة نراه فيها ذا نبرة هادئة وهامسة. شأنه في هذا كشأن معظم القصائد المتحرّرة من القيود الكلاسيكيّة، ومن هنا نستطيع أن نستنتج غير جازمين، أنّه كلّما تحرّر جاسر الشاعر من القيود كان شعره أكثر هدوءًا وانخفض صوته إلى حدّ الهمس، ولكنّه بالتأكيد يصبح أعلى شاعريّة وفنيّة من حيث جودة الصورة الشعريّة والصياغة اللغويّة.
لا يمكنني أن أنهي هذه المداخلة دون التطرّق إلى الموتيف المسيحيّ في شعر جاسر، وهو ما ذكّرني بالشاعر اللبنانيّ يوسف الخال، وقد يتبادر إلى الذهن وللوهلة الأولى والثانية أنّ جاسرًا يتقوقع في صومعة دير أو ينطوي في ركن منزوٍ في كنيسة الذات، العكس هو الصحيح، وهو الذي نلمسه لمس اليد ونراه رأي العين ونعيه بأمّ العقل منذ الوهلة الثالثة والوهلات التي تليها، فالموضوع المسيحيّ فضاء إنسانيّ منفتح على الآخر، وبخاصّة الإسلاميّ بحكم العامل الدينيّ العباديّ، فالربّ واحد، وبحكم العامل الاجتماعيّ، فشرقنا العربيّ ومجتمعنا المحليّ هو ذلك النسيج الفسيفسائيّ الذي يتكوّن من رسالة الحبّ والتآخي والمودّة، بلا تمييز فعبلّين واحدة للجميع، والقدس بأقصاها وقيامتها، رمزان صامدان إلى أن تقوم قيامة المحتلّ ويتحرّر الوطن من أقصاه إلى قيامته، ومن المهد وإلى اللحد، فهذا التراب الطاهر والمعمّد بدماء الشهداء، إمّا أن نعيش عليه بشرف وكرامة أو نموت فيه وندفن بكرامة وشرف. أليس هذا ما تريد يا جاسر الطيّب؟ الموضوع المسيحيّ عند جاسر له جانب سياسيّ ووطنيّ، وله كذلك جانب روحانيّ رومانسيّ، يسمو بالنفس إلى عليّين، عندما يعطي لنا الشاعر شرعيّة للأحاسيس الإنسانيّة وأبرزها وأسماها الحبّ، وهذه المشاعر لا يمكن أن تتناقض مع الفطرة البشريّة، وهذه لا يمكن لدين أن ينكرها، بل تقرّها كلّ الأديان، فالدين لا يمكن أن يخالف الفطرة، أمّا من يروْن في الحبّ فحشًا، فأولئك هم الفاحشون الذين يجاهدون بالنكاح، المجرمون قتلة الناس والحريّات، الذبّاحون الحارقون، مدمّرو الحضارة والتاريخ والوعي الإنسانيّ، النهّابون الذين يسرقون الثروات ويبيعونها للأعداء بثمن بخس، فساء ما يفعلون. عندنا أنا وجاسر الحبّ هو الطهر والنقاء وصفاء النفس والسموّ بها.
الموضوع المسيحيّ يتناقض مع هجرة المسيحيّين وتهجيرهم من شرقنا، لا شرق بلا مسيحيّيه ومسيحه الجليليّ الناصريّ، الذي ولد في بيت لحم ومشى على الماء في طبريا، وعصر من الماء خمرًا في كفركنّا، وجاسر يعتبر في قصيدة “أوّاه يا قدس” أنّ الرحيل عن الوطن يعني الموت والثكل. لأنّ الوطن هو الأرض النابضة بالحياة والربيع الجميل، وهي الشهيدة المعمّدة بطهر التراب والماء المقدّس من عين العذراء الناصريّة ومدن الوطن ومناطقه ومعالمه: عكّا وحيفا وسخنين وعرّابة والشاغور والزابود وجبل حيدر وجامع الجزّار وكنيسة مار جريس وشعر درويش وسميح. فلنكتب الشعر! فلا خوف علينا ما دمنا ننبض شعرًا ووطنًا، ونحكي لأطفالنا قصّة الذئب الذي افترس ليلى، ونروي روايتنا الصادقة ندحض بها الزيف والكذب. وإلى الأمام يا جاسر، وإلى مزيد من الإبداع. ولك الحبّ والحياة.
مداخلة الأستاذ جاسر داود بصوت حفيدته جويل نزار بربارة: مساؤكم خيْرًا وأَهلًا وسهلًا بكم.
ما يَجمَعُنا هُنا في ساحَةِ بيتِ القدّيسَةِ مريَم بَواردي وفي مسْقَط رأسِها، هوَ إيمانُنا جميعُنا باللهِ الواحدِ المُحِبِّ للمَحبَّةِ الصادِقةِ والسلامِ الذاتي معَ النفسِ قبلَ أنْ نُعاهِدُهُ بهذا.
إِنَّ الإحتفالاتِ بهذهِ الساحَةِ لَهُوَ تعبيرٌ عنْ محَبَّتِنا لِتعاليمِ القدّيسةِ مريم بواردي، التي نادَتْ بالمحبَّةِ الإنسانيَّةِ بينَ بني البشرِ، وليسَ بينَ أبناءِ طائفةٍ مُعيَّنَةٍ. لِهذا دَعَوتُكُم وجَمَعتُكُمْ أَحِبَّتي لِمُشارَكَتي في مولودٍ أَدبِيٍّ جديدٍ لي من نوعٍ يختلفُ عن المولودِ القِصَصي والدّيني، نعَم إِنَّهُ عُصارَةُ فِكري خِلالَ عدَّةِ سنينَ، فيها وَضعْتُ مَحبَّةَ الانسانِ بالمَركِزِ كعادَتي في جميعِ أَوْ غالبيَّةِ كتاباتي متنوِّعَةِ المواضيعِ.
نعم، الانسانُ هو الوَطنُ الذي نبْحَثُ عنهُ في أحلامِنا أَو واقِعِنا، هو الجارُ القريبُ والبعيدُ، هو ابنُ بلدتي الغاليةِ على قلبي عبلين، هو ابنُ شعبي العربي الفلسطيني في الجليلِ والمُثلَّثِ والنقبِ وفي كلِّ مكانٍ في هذا العالمِ، لهذا لا أُساوِمُ عليهِ أَبَدًا، ولا أُبّدِّلُهُ بوطنٍ آخر، فالوطنُ وطنٌ باقٍ مهما تغيّرتِ الوجوهُ والحُكّامُ. ففي كلّ واحِدٍ منكُم أحِبّائي المشاركينَ معي هذهِ الفرحَةِ أَرى نورَ الوَطنِ المَرْجو، أَرى استمرارَ الحياةِ فوْقَ ربوعِهِ الخضراءِ، فأَهلًا وَسَهلًا بكم بوَطني الغالي، أَهلًا بكُم جَميعًا وشكرًا على مُشارَكتكُم هذهِ الفرحَةِ. شُكري لِلمُتحَدّثينَ من البلدةِ وعريفةِ الاحتفال، والذينَ تكَبَّدوا مَشاقَّ السفرِ في هذا الشهرِ الفضيلِ شهرِ الصوْمِ، شهرِ رمضانَ الكريمِ، أَدامَكُمِ الرَّبُّ نِبْراسًا نهتدي بهِ في حياتِنا الثقافيّة.
شُكرًا لِمَنْ ساعَدني وشجَّعَني وآزرَني في إخراجِ هذا الديوانِ للنورِ. شكرًا لكم يا شيوخَ وكهنةَ هذه البلدة وخارجها معِ الرّاعينَ لِهذا الاحتفالِ، والشكرُ لعائلةِ عمي عزات داود والفنّانة التشكيليّة تغريد حبيب، الشكرُ لِوسائل الاعلام ِالمختلفةِ، وشكري لأَولادي أَرز والياس وجريس وعائلاتِهِم، وللزوجة سيدر – أُمِّ الياس لِتحَمُّلِها أَحلامي وآمالي وجنونِياتي الكِتابِيَّةِ والشِعرِيَّةِ على مدارِ السنينَ.
شُكري لِجميعِ الشبابِ الذين استقبلوا وساعَدوا في التنظيمِ والضيافةِ، هذا هو وجهُ عبلين الحقيقي، وَلِتَبْقَ عبلينُ قِلادَةً ثمينَةً عَلِّقوها في أعناقكم، فهي لِكُلِّ أَبنائها من كلِّ الشرائحِ الاجتماعيَّةِ. وإِذا نسيتُ أَحَدًا فالمعذرة، فالشكرُ لهُ. وكُلُّ عامٍ والعامِ وأنتُم بأَلفِ خيرٍ على طول آمين
—