منذ أن راجت مفاهيم المدارس النقدية المعاصرة،أخذ المُناص يحظى باهتمام الباحثين والنقاد. وأصبح العنوان من المنطلقات الأساسية للدخول إلى النص، حين تكون للعنوان امتداداتُه في المتْن. فلعلَّ كثيرين من الكُتَّاب يضعونه اعتباطاً أو لغرض تجاري لا يُراعَى فيه هذا البُعْد الذي يجعل منه مفتاحاً أو علامة مركَّزة تختزل النص بحيث يحيل كلاهما على الآخر. فإذا هو حقَّق هذا النوع من الإشارة والإثارة منذ البدء بأن تمتدَّ ظلاله على طول المتْن، فلا جدوى من التفكير فيما إذا كان الكاتب قد
وضعه قبل تحرير النص أو بعْده، في مرحلة الاختمار أو أطلَّ برأسه لحظة الكتابة.
من هنا يمكن القول إنَّ اختيار الفعل المضارع في:((أعشقني))، لا يدل على حاضر خالص ولا على مستقبل خالص، إنَّما هو تجسيد لحالة من الديمومة والاستمرار، ناهيك عمَّا يحمله العشق من شحنة صوفية تجعل من الحب سرَّ الوجود.
فلو قالت:(أعشق نفسي أو ذاتي) لكان ذلك صحيحاً على المستوى اللغوي لولا أنَّ هذه الصيغة تزرع الإحساس بقدْر من الانفصال بيْن الفعل/الفاعل والمفعول، وحيث تتَّسع المسافة بيْن اللفظيْن نطقاً وشعوراً. فأمّا-وقد اختارت الكاتبة ضمير المتكلّم مستتراً ثمّ متَّصلاً- فإنَّ المسافة تضيق بكثير ولا تمثِّل نون الوقاية سوى حاجز بسيط لينكفئ الأنا على الأنا فيستحيلا كلمة واحدة أو جسداً واحداً.
هكذا يكتمل الانسجام في الصورة التي تجعل من شخصية (باسل المهريّ)يبقى بدماغ ذكوري بعدما خسر جسده((في حربه المخلصة للدولة في مواجهة الأعداء والثوار والمخرّبين))().فيفكِّر الأطباء- بمساعدة مخابرات المجرَّة- في أن يُجْروا له عملية جراحية فريدة من نوعها ليرتدي جسد امرأة في انتظار أنْ يجد له الأطباء جسداً ذكورياً.
ما يشبه هذه الصورة التخييلية استعملها الكاتب الجزائري (الطاهر وطار) في روايته:((العشق والموت في الزمن الحراشي))()بطريقة مختلفة،حيث يحضر المؤلف في صورة “براهما”الذي شطر جسمه فجعل شطراً في صورة رجل وشطراً في صورة امرأة.كما وردت بطريقة أخرى لدى الكاتبة المغربية(حليمة زين العابدين)في روايتها: ((لم تكن صحراء))()حيث تقول:
((عقدت الآلهة اجتماعا للتفكير في كيفية الخروج بالكون من حالة الصمت و من فراغها الأزلي الممل، المسئم… بعد تدبر وتأمل طويلين. تخلق كائنا يشبهني، لكنه ملتصق بآخر من الظهر، له رأسان وأربعة أياد وأربعة أقدام، في حالة اقتتال دائم، شد وجذب على الدوام.))()
لكن الوضْع مختلف لدى(سناء شعلان)، فالمرأة التي اختارتها ليُركَّب على جسدها دماغُ هذا الرجل ليست ككل النساء.((يقولون إنَّها زعيمة وطنية مرموقة في حزب الحياة الممنوع والمُعارِض)) كاتبة مشهورة تُسجن وتُعذَّب، بينما كان (باسل المهريّ)شخصاً مأموراً يحارب الثوار والمناضلين خدمة لدولة المخابرات.إنَّه يملك دماغاً آلياً ويحيا بلا قلب،لقد فَقَد كلَّ إحساس بالإنسانية وبالحب.في حين تتميَّز المرأة بالعطف والحب والحنان.ومادام كان ينقصه صدْرٌ مفعمٌ بالحب والحنان، فلا مناص من إكمال ما ينقصه.ويحصل ذلك بالفعل إذ يلتحم الدماغ بالجسد إلى درجة يصعب فيها التمييز أو يكاد:
((تكاد تكون الأمور مختلطة تماماً في نفسه، فهو لا يعلم إن كان هو هي، أم كلاهما هما، أم كلاهما ليسا هما،يحتاج الأمر إلى طول تفكير وتدبُّر وتنظيم ليعدَّ سؤالاً يتقن اللعب على ضميريْ هو وهي، ويجيد التفريق بينهما، فهو ما عاد قادراً على ذلك بأيّ شكل من الأشكال))().
هذه الحيلة الأدبية التي تهتدي إليها الكاتبة تعبِّر عن حالة عصرنا.عصر صار فيه الإنسان أشبه بآلة وهو يحتكم إلى صرامة العقل المادية والإلكترونية، إنَّه زمن الفراغ الروحي. لذلك تُفضِّل أن تطير على جناح الخيال إلى الألفية الرابعة لعلَّ هذا الإنسان الطائش المغرور أنْ يكون قد اهتدى إلى ضرورة الجمع بيْن العقل والقلب.إلى هناك حيث (خالد)الأمل الذي يمثِّل رمز الإنسان الصافي والذي يستحقُّ العشق، وهو جديرٌ بأنْ ينعم بالخلود.
إنَّ هذه الصورة في الوقت الذي تبدو فيه غريبة غير مألوفة ، فهي في الوقت ذاته تخلق حالات من التوُّتر من خلال تساؤلات مُحيِّرة، تحمل القارئ على ترقُّب الآتي.
هل سيحقد على جسد أُلْصق به وهو لم يرتكب ذنْباً،أو لأنه الأضعف أو لأنه الأجمل؟؟
((أو ربما لأنه الأكثر حناناً عليّ ورفقاً بسخطي الطفولي المتعاظم على فقْده، جسدها يكرِّس معنى الفقد في روحي، وكل ما حولي يكرِّس معاني الخواء كلّها في ذاتي))().
فالرجل مُقْبل على عملية جديدة غير مسبوقة وليس متأكِّداً من نجاحها، ثم إنَّ الجسد هو لامرأة نحيلة لطالما نخره التعذيب، وكيف سينسجم معه دماغ كان يحمله جسدٌ قوي مفتول العضلات؟ وهل حقّاً سيجد له الأطباء جسداً ذكورياً في المستقبل القريب أمْ أنَّه أمرٌ ميْئوس منه؟؟
فضلاً عن أنَّ هذا الجسد الدخيل بدأ ينتفخ شيْئاً فشيْئاً ليفاجئه بوجود جنين سيشرع في التحرُّك.وما يزيد التوتُّر حدَّة أنَّ هذه الأحداث لا تُقدَّم دفعة واحدة، بل تتداعى تباعاً وتُشعر المتتبِّع بضرورة بالانتظار والترقُّب.وفي الرسم التقريبي التالي يشير السهم ذو الرأس الواحد إلى اتجاه الكلام من الراوي إلى المروي له، بينما يشير السهم ذو الاتجاهيْن إلى تبادل بينهما.
إذا ما صرفنا النظر عن بعض الشخصيات التي تحضر بصفة شبه دائمة أو تمرُّ عابرة ومنها:
(المخابرات المركزية،زوجة باسل وَولَداه،المساعد الأول الآلي،زوج شمس(بيرق نوفل الأشقر)،الأطباء)،فإنَّ الشخصيات الرئيسة لا تتجاوز هذا العدد المحدود المشار إليه في الرسم أعلاه.لكنَّها- على قلَّتها وبتسمياتها الدالة:(باسم، شمس، خالد، وَرْد)- تفتح أفُقاً واسعاً للسرد فيتماوج على عدّة مستويات:
1-الكاتبة تروي في بداية النص ما من شأنه أن يؤثِّث للبناء العام للرواية باستعمال ضمير الغائب فالمتكلم:((وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعْد خامس ينتظم هذا الكوْن العملاق،أنا لست ضد أبْعاد الطول والعرض والارتفاع والزمان،(…)ولكنني أعلم علم اليقين والمؤمنين والعالِمين والعارفين والدّارين وورثة المتوصوِّفة والعُشّاق المنقرضين منذ آلاف السنين أنَّ الحب هو البُعْد الخامس الأهمّ في تشكيل معالم وجودنا..))().ولا تجد من مكان مناسب لِبَشر مَرْضى غير المستشفى،فيكون الحيِّز الوحيد الذي ينتظم فيه النسيج الروائي.
لذلك فإنّ(شمس) تبدو بلا والديْن، لأنها تنتسب للناس جميعاً بفضل الحب الذي تكتنزه، وأن العلاقة الزوجية المحكومة بوثيقة مصطنعة، ليست أصيلة كما ليست كفيلة بأنْ ترقى بالمرء من درك الممارسة الحيوانية للجنس إلى ما هو أرْفع وأسمى.
2-تتوزَّع الرواية على ثمانية فصول، اختارت أنْ تُعنْونها بأبعاد: بُعْد الطول في امتداد جسدها-بُعْد الزمن بمفاهيم جديدة ونظريات نسبية أخرى-بُعْد الارتفاع- بُعْد العرض.لكنَّ البُعْد الخامس هو الشريان الذي يُغذِّي سائر الفصول إذْ ((بالحبِّ وحْده تتغيَّر حقائق الأشياء وقوانين الطبيعة))، فتأتي الفصول الثلاثة التالية تعبيراً عن انطلاق طاقة الحب الكامنة .وتتوالى الفصول في فيْض من التدفُّق اللغوي يُغري ولا يعيق الاسترسال.
3-تنشأ علاقة ثنائية بين (باسل) مُمَثّلاً بالدماغ وبين الجنين بحيث يكون هذا الأخير في موقع المُخاطَب، وعلاقة ثنائية ثانية بيْن (شمس) والجنين، وثالثة بيْن (شمس) و(خالد).
في الأولى، يتّخذ الحوار شكل المناجاة لكوْن الجنين قد يتحَّرك من حين إلى آخر في صمت ولا يجيب، وينشأ من طول بقائه في الرحم قلقٌ دائم.وفي الثانية، يصبح المخاطَب طفلة مخاطَبة،لأنَّ (ورْد) هو طفل بالنسبة لـ(باسل) وطفلة بالنسبة لأمِّه.
((اسمكِ سيكون ورد، هذا الاسم اختاره لك خالد،منذ الآن أكاد أشمّ رائحتك الورْدية،تنبض في أمومتي الوليدة،الورد يا حبيبتي الصغيرة،هو جمع كلمة وردة،والوردة نبات جميل له روائح زكية(…)والورد كذلك اسم لحيوان منقرض ينتمي إلى زمن ما قبل الألفية الرابعة، اسمه الأسد أيْضاً،وهو حيوان مفترس ومتوحّش وقويّ،ونبيل كذلك، يعيش بكبرياء،ويموت بكبرياء، ويرفض الجيف،ويعتزّ بقوّته،ولذلك أسميْناكِ ورداً،لتكوني منذورة للجمال والقوّة ولحُبِّنا))().
وفي الثالثة يتمُّ التحاور عبْر الرسائل التي يكتبها(خالد) والقصص/العِبَر التي يحكيها.
وهكذا، فإنَّ لعبة الضمائر والتبادل بيْن الراوي والمروي وتداخل الأزمنة تضفي على النص مسحة من التنوُّع تمنح المتلقي فرصة التنقُّل بيْن أجواء مختلفة ومُشوِّقة ، تصبُّ جميعها في فضاء لانهائي من الحب اللامحدود والذي هو سرُّ الوجود.وهو-في الوقت ذاته- طموح إلى زمن غير الزمن الرديء الذي نعيش فيه.
4- يستمرُّ (باسل) على طول المتْن يُقلِّب مذكِّراتها ويقرأها، إلى أن يصل إلى الصفحات الفارغة، عندئذ يكون قد تشبَّع بالعطف والحنان، ولمَّا سكنه الحب الأبدي يناجي الطفل قائلاً: ((ما رأيك في أنْ ألدك في القمر يا ورد؟ هذه هي رغبة أمّك. سنسافر غداً إلى هناك، لك الكثير من الأقارب في ذلك المكان، أمّك لا تعرف أنّك ذكر، هي تظنّك فتاة، لكنّ والدك سيعرف أنّك رجل استثنائي مثله،هل تحب والدك يا ورد؟ عليك أن تفعل ذلك، أنا أحبُّه كثيراً وأحب أمّك أكثر، أقول لك سرّاً، أنا أعشق أمّك، أنا أعشقني بقوّة))().
5-هي رواية ترى إلى الحب أنّه أساس الوجود، وفي غيابه يقع الإنسان فريسة آلية أتوماتيكية مقيتة، يسبح في فراغ روحي ومستنقع من التدنِّي الأخلاقي. فتكون الرواية بهذا المعنى تنتقد واقعاً سياسياً واجتماعياً تلميحاً لا تصريحاً. فمن طبيعة الأدب الناجح أنْ يكون قادراً على ممارسة لعْبة المداورة والإخفاء.
ثمَّ إن كلمة (حب)هذه المُكوَّنة من حرفيْن فقط، تأخذ بُعْداً لامُتناهياً بفعل ما تشحنها بها الكاتبة من فلسفلة وجودية يتعانق فيها الواقعي بالخيالي، وتتمازج فيها الصور الأدبية بالإشارات الصوفية،وتتخلَّل النص قطعٌ قصيرة منثورة بلغة شعرية تعبيراً عن الشوق والاشتياق والصلوات والعَبَرات والجمرات، وما كان كل ذلك ليتحقَّق لولا ما تمتلكه(سناء) من طاقة تعبيرية ولغة قويّة تمتدّ في نَفَس طويل،تطالعنا فيه الفكرة الواحدة وقد ارتدت ثوْباً أدبياً جديداً من فقرة إلى أخرى.فأمّا منْ أراد أن يتحدّث عن لغة الرواية وحدها، فإنّها جديرة بدراسة مستقلَّة متأنية، الأمر الذي لا يفي به هذا الانطباع الأوّلي.
—