الاستشارة في المجتمعات المتقدمة، أصبحت ثقافة وعلم وتجارة، أفادت الأمم في إنجاح المشاريع ووضع الخطط
وصياغة الاستراتيجيات، وتعزيز التفوق الاقتصادي والعسكري والعلمي.
لم يعد الرئيس او الزعيم، وحده، هو الذي يحيط نفسه بعدد من الخبراء، وتعدى ذلك الى رجال الاعمال والشركات الكبرى، التي تعزّز تأثيرها بخبراء، ليس في التقنيات فحسب، فهذا أمر لابدّ منه، بل في الاجتماع والاقتصاد والثقافة والإتكيت والعلاقات.
بل إنّ عوائل سياسية، وأثرياء، يستعينون بمستشارين حتى في الأمور الحياتية البسيطة، وما في ذلك من اختلال، ذلك ان الحياة العصرية المتطورة والصحية، تتطلب حضورا جذابا، ومتمدنا، تتداخل فيه عوامل جذب عديدة.
وفي العمل، فانّ المدير الناجح هو الذي ينظر من حوله الى أصحاب الكفاءة والخبرة، ليضع خططه على هدي نصائح فرق عمل، وليس رأيه الشخصي، فحسب.
لا تخلو حتى المؤسسات الصغيرة من المجموعة الاستشارية، وهو أمر لمسْته بشكل واضح في دول مثل ألمانيا، هولندا، بلجيكا، وحتى في داخل الحي، والأسرة، حيث تُتّخذ الآراء بالمشورة، يشترك فيها حتى الباحث الاجتماعي.
ولكي لا نخوض كثيرا، فيما يعتبره البعض من “البديهيات”، نلمس الاستشارة التي جعلت من الرؤساء أقوياء، لكن من دون دكتاتورية في الرأي، فالرئيس بوش الابن، تعلّم من والده، أسلوب النقاش الذي يقود الى قرار جمعي، وكان يستمع الى والده الرئيس السابق، والى أخيه حاكم ولاية فلوريدا، في جلسات هذه العائلة البترولية الغنية.
ويذكر الرئيس الأمريكي جون أدامز الذي تولّى رئاسة أمريكا، العام 1824، انّ والده الذي سبقه الى رئاسة أمريكا،
كان يستشيره، مثلما يستأنس بأفكار مجموعة العمل وحتى الأصدقاء، ما يزيد القرار تمحيصا ودراسة، قبل اتخاذه.
لا ننسى ان الحكومات الديمقراطية في الغرب، وأبرزها في هذه الصدد، الحكومة البريطانية والهولندية والأمريكية،
تدير ملفاتها بطريقة مهنية واستثنائية، فالوزير الجديد، حين يرتقي المنصب، لا يعاني من اية مشاكل في تقليب الملفات وحسم الأولويات، لأن المكاتب الاستشارية المهنية والصارمة في أمنها وعملها، أنجزت ما يتوجّب من خطط وتفاصيل البرامج على هدي سياسة الحكومة، وحاجة المجتمع.
وعلى رغم ان هذه المكاتب الاستشارية تكّلف الحكومات، مبالغ طائلة، الا انها تختصر زمن الإنجاز، وتساعد الوزارات على تقديم الخدمة الصحيحة، وزيادة الإنتاج في مرافق الدولة المختلفة، ما يحقّق أرباحا طائلة، تتفوق على تكاليف الاستشارة.
يذكر الكاتب انيس منصور، ان حكومة الرئيس كارتر استعانت بمعهد بروكنجز لكتابة نص الاتفاق بين مصر وإسرائيل، وهو معهد مستقل، لكنه مهنيّ وعميق، وقد تفوق حتى على كارتر والسادات والوزراء في الخوض فيه، وحين قرأه السادات، اعجِب به كثيرا.
وفي البلدان الناهضة، ومنها العراق، الذي شهد حقبة من حروب داخلية وخارجية، فشلت الوزارات والمؤسسات في وضع الخطط الناجحة للنهوض بالخدمات والانتاج على رغم جيوش الموظفين، وغاب دور المؤسسات البحثية،
وبنوك التفكير، والجامعات عن اعداد المناهج والبرامج، الامر الذي أتاح فوضى عارمة، في الإدارة والتوجيه،
تستهلك المال العام، من دون نتائج حقيقية.
انّ أحد أسباب تفوق الولايات المتحدة، هي بنوك التفكير (think tanks)، التي تعد اليوم بالمئات، منها ما يرتبط بالجامعات التي تحولت الى مصدر هام لصناعة الخطط والاستراتيجيات، ومنها ما يعمل مستقلا، كمراكز بحوث.وفي واشنطن وحدها هناك نحو مائة مركز بحثي.
المؤمنون بنظرية المؤامرة، يحذّرون من مراكز البحوث وارتباطاتها السرية، وأهدافها الخفية، لكن النظر بعقلانية
وحيادية الى دورها في نهضة الشعوب، يجعلنا نغيّر من موقفنا، والاهم قبل كل ذلك، هو انشاء بنوك تفكير عراقية،
تضم المفكرين والخبراء والمهندسين والأطباء والمحللين السياسيين والاقتصاديين، تنتشل عملية صناعة القرارات من السياسيين والمسؤولين وتضعها بين أيديهم، جاهزة.
مقالات ذات الصلة
14/10/2024