يواجه مستقبل العمل الثقافي في الزمن المعاصر ضبابية، بفعل تحولات هائلة هزت قطاع الثقافة انعكست على العاملين فيه. فهناك دواع ملحة لإعادة النظر في علاقة توظيف المعرفة في السياق الإنتاجي، أي ما يربط صنّاع الثقافة كمبدعين وأفراد، بما هو حاصل من تطور تقني-ثقافي والذي يمثّله كبار المستثمرين الذين باتوا يشكّلون طبقة موازية. حيث مرّ التحكم بمقاليد الحقل الثقافي إلى قوى أخرى تعيش قِيما مغايرة في علاقتها بالثقافة تتغاير مع ما اعتاد عليه المثقف التقليدي. وقد لاحت هذه التحولات في القطاع بعد إزاحة العاملين الأفراد عن تصدّر الدور الطليعي وتحوّلهم إلى عمّال ضمن مؤسسات راعية توجه إنتاجهم الثقافي. والكتاب الذي نتولى عرضه والدائر ضمن هذا الجدل سهر على إعداده الكاتب الإيطالي فرانشيسكو أنطونيللي، مستشرفا من خلاله مستقبل المثقفين والعمل الثقافي عامة. وأنطونيللي هو باحث جامعي في قسم العلوم السياسية بجامعة “روما ثلاثة”، صدرت له جملة من الأعمال منها “الحداثة في تحوّل” و”الفوضى وما بعد الحداثة”، فضلا عن مجموعة من الترجمات من الإنجليزية. قسّمَ الباحث بحثه إلى قسمين: عنون الأول بـ”علم الاجتماع التفكري لغولدنر وتحولات المثقفين” والثاني جاء ترجمة لنص لغولدنر بعنوان “مستقبل المثقفين”.
في القسم الأول من الكتاب يتعرّض أنطونيللي إلى المنزع اليساري الذي طالما ساد في أوساط المثقفين طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما بدأ ينحو للتبدل مع تحولات الرأسمالية في العقود الأخيرة، التي باتت تولي اهتماما الاستثمار في القطاع الثقافي بوصفه قطاعا يدرّ ربحا، فضلا عن كونه مجالا سلطويا يمكن التحكم من خلاله بالمسارات السياسية وبتوجيه الرأي العام. هذا التحول الذي مسّ طبيعة الحقل الثقافي، من العمل الإبداعي العفوي للمثقّف الدائر ضمن هموم فردية في غالب الأحيان، إلى من يتحكم في إنتاجه ويوجهه، بموجب تطورات أدخلتها الرأسمالية في الأدوات والعمل والمنافسة والعرض والطلب، خلّف تحويرا جذريا جرى في غفلة أو لنقل في ظل دهشة المثقف أمام قوة التحولات التي باتت تحيط به (ص: 27).
والملاحظ حسب أنطونيللي أن تراجع المثقف الفرد قد جاء مرفوقا بتراجع سنده الأيديولوجي الاشتراكي عامة في الساحة الدولية، في مقابل قدرة هائلة لليبرالية على التلون مع المستجدات، راهنت فيها على مجال كان حكرا على اليسار في ما مضى. فمع الرأسمالية الثقافية ثمة مسعى جاد لإخراج العمل الثقافي من طابعه المتأدلج المحكوم بالولاء السياسي إلى طابع بضائعي مجرد من سماته الإبداعية، بما يعني قدرة الإنتاج الثقافي بمختلف أصنافه: الأدبي والفني والفلسفي والسوسيولوجي إثبات جدارته وقيمته بمنأى عن اللبوس الأيديولوجي الذي يمكن أن يكتسيه. وقد انحاز شق واسع من المثقفين إلى هذا التوجه الجديد يحدوهم ما دبّ من نقد للأيديولوجيا، بلغ شوطا متطورا بالحديث عن موت الأيديولوجيا (ص: 39). من هذا الباب وجد التحول البضائعي للثقافي رواجه داخل أوساط المثقفين أنفسهم وبات له أنصاره. لكن هذا التحول أملى على المثقف دورا جديدا حوّله إلى بيروقراطي لدى الرأسمالي يقنع فيه بدور مكتبي ضمن مؤسسة إنتاجية وسلطوية، لا دور اجتماعي طليعي كما ساد في السابق.
وقد تبين لأنطونيللي أن ذلك المخاض الجديد في النظر إلى القطاع الثقافي، ضمن منظور وظيفي ودون خلفية قِيَمية أيديولوجية، كانت ساحته الأكاديميات الغربية بما توهج فيها من جدل حاد، خصوصا في مجال علم الاجتماع والفلسفة. حيث باتت المطالبة بالحياد العلمي في دراسة الظواهر الاجتماعية والقضايا الفكرية بعيدا عن الانتصار لشقّ أيديولوجي دون آخر. وهو بالأساس إلحاح للعودة إلى العلمية المعرفية الكلاسيكية المشغولة بالمنزع العلمي لا الموالاة الساذجة التي غالبا ما يتوارى خلفها الأيديولوجي. ضمن هذا الجدل مثّل عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر مرجعا وسندا للتوجه الجديد، من خلال ما عبّر عنه في كتاباته ضمن رغبته الجارفة لتنقية العلوم الاجتماعية مما سماه هيمنة “القِيم”، أي من جانبها غير العلمي. أو كما لخّص المفكر زيغمونت باومان الحالة بحاجة الواقع الأكاديمي الجديد للتعالي فوق المصالح القطاعية الثقافية وتسوية الحسابات مع المسائل الكونية للحقيقة (ص: 51). وقد تبين لأنطونيللي أن ألفين وارد غولدنر، بوصفه يساريا غير منضبط، من أبرز المراجعين للحقل الثقافي، ولم تحل قناعاته اليسارية دون توجيه انتقادات عميقة للتعاطي التقليدي مع المنتوج الثقافي والإبداع عامة. فحاول استشراف مستقبل المثقفين في زحمة التحولات الجارية في العالم دون تبنّ عقدي للمقولات الأيديولوجية السائدة في الأوساط اليسارية. فأوضاع المثقفين تبعا لمنظوره تتطلب تحررا من الرؤى المهيمنة التي تتميز عامة بتحليلات مرهونة لأوضاع مجتمعات الحقبة ما بعد الصناعية. مقرّا أن المثقف ما زال بوسعه الإمساك بالدور الحقيقي للفعل الثقافي بوصفه المنتج المباشر، حتى وإن استهين أو هُوّن من مقامه بما يلعبه منتوجه من دور في السيطرة الاجتماعية والتحكم.
في واقع الأمر ان التحولات البنيوية في قطاع الثقافة قد أبانت عن أزمة تتهدد المثقف، تتلخص في أن يكون أو لا يكون. وصحيح أن ثمة محدودية لحضوره، من حيث التأثير في مجريات السياسة وحراك المجتمعات وضبط قوى التحكم الاقتصادي، ولكن تلك الاستفاقة على تلك المحدودية قد لاحت بفعل انقشاع الوهم المعلَّق على المثقف، بوصفه مقتدرا على إتيان الخوارق؛ وبالتالي ثمة تصحيح لحجم المثقف الحقيقي داخل ساحة تعجّ بالفاعلين الاجتماعيين. فقد سادت ادعاءات جعلت من المثقف وصيا على المعرفة والحقيقة، وبالمثل حكَماً ومرشدا أوحد للمجتمع، وكذلك مقرّرا وملهما للسلطة السياسية، بيْد أنه فجأة، وبفعل النقد الحداثي والما بعد حداثي، وجد نفسه مجردا من هذه الأوهام، ليخرج من دور “المشرِّع” الذي يتولى رسم خريطة سير العالم، وهو ما وجدَ تمثّلَه في صورة “الفيلسوف” الممثْلنة، إلى دور المفسِّر والمعلِّق على أحداث العالم، بعد أن بات موظفا لدى السياسي في المشورة بمختلف تنوعاتها. إذ ثمة أشياء كثيرة تتجاوز قدرات المثقف وخارج سيطرته وهو غير قادر على إدخال أي تحوير عليها. فالإنسان الحديث يجد نفسه قبالة “أشكال متعددة للحقيقة” يلعب فيها قانون السوق دورا بارزا، وكل منتوج ثقافي لا يحظى برواج بات سلعة مزجاة، وكل إبداع ينتجه أمسى محكوما بقانون عرض وطلب يحدد قيمته. كل ذلك –وفق أنطونيللي- أطاح بهيبة المثقف الاجتماعية، جراء تسليع عمله الثقافي الذي ما عاد يستمد قيمته من ذاته بل من شروط تتجاوزه. ما جعل المثقف يفقد دوره في التدخل المباشر في العمل السياسي، ويتحول إلى مكمّل للمشهد العام.
ففي الحقبة الراهنة التي نعيشها ثمة ارتهان واضح للعمل الثقافي للسوق. تحتاج فيه العلاقة إلى ترتيب مستجد بين مثلث المنتج والمستثمر والمستهلك، لا سيما وأن علاقة الثقافة بوسائل الإعلام أمست علاقة عضوية ومصيرية من حيث الترويج والإظهار والطمس. فالمثقف ما عاد يستطيع العيش خارج شروط الواقع الإعلامي، بعد أن أضحى الظهور المشهدي -كما يقول-أوكسيجينه، وهو ما صادر آخر بقايا الاستقلالية لديه. فالواقع الإعلامي الجديد حافل بالتدخل في حريته الشخصية، في ما ينتج وما لا ينتج. ومثل السوق تماما، غدا الإعلام متحكما باستقلالية المثقف، في نوعية إنتاجه وفي مضامينه، وفي من يوالي ومن يعادي. وصحيح أن المثقف الغربي قد تحرر من تدخل السياسي في عمله بفعل تخمة الديمقراطية وهامش الحرية الواسع؛ ولكن هناك أشكالا جديدة متربصة به، مثل السوق والإعلام واللوبيات، تتحكم بنوعية منتوجه وبمضامينه. من هذا الباب تملي المرحلةُ إعادةَ نظر في العلاقة بين السلطة والمعرفة، بين الأدب والمجتمع، بين الفلسفة والسياسة، إنها مرحلة التردد والتأمل. فليس كما يزعم البعض أن ثمة خيانة للثقافة من قِبل المثقفين، بل هناك إعادة توزيع للأدوار في ظل تحولات بنيوية لا قدرة للمثقف على السيطرة عليها (ص: 74).
والمناخ العام للرأسمالية اليوم يدفع نحو تقليص الحاجة للمثقفين والإعلاء من شأن التقنيين، وأزمة التخصصات الأدبية والاجتماعية والفلسفية في الجامعات والكليات وما يواجهه الخرّيجون من بطالة دليل واضح على ذلك. وربما تقليص مرحلة الدراسة الجامعية يشي بحاجة سوق الشغل اليوم إلى فنيين مكوَّنين على عجل لسد الثغرات المهنية وليس غرضه تكوين عقول نقدية قادرة على تفكيك العلاقات الاجتماعية. حيث تتميز فترة ما بعد الحداثة بتجريد الدارس والمثقف من وظيفتيهما الاجتماعية والسياسية. فالثقافة تحولت إلى “بزنس” و”متعة” بعد أن كانت “إبداعا” و”فعلا”. والواقع أن ما نشهده في عالم الثقافة هو تحلل الباراديغمات القديمة وانبناء أخرى جديدة، وهو ما أثار غالبا لخبطة في أوساط المثقفين التقليديين الذين اعتادوا على نمط محدد للفعل الثقافي مروا فيه كما أوضح المؤلف من دور “المشرّع” إلى دور “المفسّر”.
فقد بات الصواب والخطأ، الشر والخير، الجميل والقبيح في العمل الثقافي تحدده معايير مغايرة، وهو ما أدخل على المثقف التقليدي اضطرابا. لذلك نجد “الـمثقف الجاهز”، صنيع الآلة الجديدة للثقافة، قادرا على عرض خطابات جميلة لكنها خاوية. مع أنها متكونة من كلمات صعبة وأحيانا فضفاضة يحاول أن يحيط بها بكل شيء ويتناول بها كل شيء وهو جالس في أريحية على أريكة أثيرة أمام كاميرا التلفزيون. إذ يكفي اليوم سحر الخطابة الجوفاء ليكسب المثقف سلطة وليغدو مستشارا وخبيرا ومحللا ومرجعا. فالمثقف الناجح هو المثقف الحاضر في الإعلام والذي ينطّ من قناة تلفزيونية إلى أخرى، ويحسن التأقلم مع الأيديولوجيا السائدة. وهو المدرك أن الكلمة أفضل من الفكرة، وأن موالاة الرأي العام مبجل على التمسك بالأفكار، وأن الشكل أهم من المضمون (ص: 104).
في القسم الثاني من الكتاب وهو ترجمة لنص لألفين وارد غولدنر، يعدّ الباحث أنطونيللي صاحبَه رائدا في طرح رؤية مستقبلية للثقافة والمثقف. نلحظ فيه تناغما مع ما يرد في القسم الأول. ففي تحليل غولدنر للوضع الثقافي إقرارٌ بتواجد ما يسمّيه “الطبقة الجديدة”، وهي عبارة عن بورجوازية ثقافية متشكلة من رجال المعرفة ورجال التقنية الحرفيين. وقد وجدت هذه الطبقة في التطورات العلمية والتقنية شروطها المادية للتطور والظهور، وهذا ما دفع لسيطرة البورجوازية الثقافية على الرأسمال الثقافي. حيث تسعى الطبقة الجديدة إلى بناء عالمها الاجتماعي الذي تتصور أنه الأكثر عدلا والأكثر انتظاما والأكثر عقلانية (ص: 120). معتبرا غولدنر أن الخطاب البراغماتي هو أحد العناصر التي يقوم عليها بناء الطبقة الجديدة التي تتفاعل فيما بينها بموجب التقارب الرؤيوي. وهذه الطبقة الجديدة، وفق رأيه، بدت جلية منذ فترة في الولايات المتحدة. فما كانت النقابات ولا الصحافة ولا رجال الأعمال من أججوا المعارضة البارزة للانسحاب من فيتنام، بل معاقل المثقفين المتمثلة في الجامعات الأمريكية. والتي شكلت فيها قضايا الحرية الأكاديمية، وحماية حقوق الإنسان، والمطالبة بحضور عملي للثقافة ميدانَ المعركة الأهم بين الطبقة الجديدة وعناصر الطبقة المسيطرة القديمة. فالطبقة الجديدة لا تبحث عن الصراع لأجل الصراع ولكن تسعى لوضع مصالحها المادية والفكرية في مأمن، وإحدى استراتيجيات الطبقة الجديدة هو بناء تحالفات مع مختلف العاملين في حقلي العمل اليدوي والذهني. وإن تكن الطبقة الجديدة، وفق غولدنر، ربيبة الطبقة القديمة فهي بصدد انتزاع دوْر ضمن صراع يشبه الحرب الأهلية داخل الطبقات العليا.
فالطبقة الجديدة تدرك كيف توظفُ الإرثَ الأيديولوجي لغرض دفع الفعل الثقافي قُدما، وليس الارتهان عند المقولات المسيَّسة لتغدو سندات عقدية دغمائية. وهذه الحيوية التي تملكها الطبقة الجديدة في التطور والتقدم، يغدو فيها المنتوج المعرفي السابق سندا لتدشين مسارات جديدة دون رفض أعمى أو تبني عقدي. وفي هذا السياق يلوح الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ابن الإرث اليساري الممثل البارز لهذا التوجه الجديد من خلال توظيف ميراث الإيديولوجيا، بعد مراجعته، واستدعاء تلك الأنماط بشكل معاصر، وتنزيلها منزلتها الصائبة، على غرار الإرث الماركسي، لأجل صناعة فكر حرّ.
الكتاب بقسميه استشراف لمصائر المثقف في زمن مشوب بتحولات عميقة. جاء حافلا بتوصيف الصورة الجديدة التي تنتظر المثقف، غير أنه خلا من بيان “رسالة” المثقف الجديد المنضوي ضمن هذه الطبقة الثقافية الجديدة. فقد بقيت المتابعة السوسيولوجية في حدود التأملات النظرية دون تقديم استشراف حاسم أو توقعات ثابتة.
الكتاب: مستقبل المثقّفين.
إعداد: فرانشيسكو أنطونيللي.
الناشر: ميمزيس (ميلانو) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2018.
عدد الصفحات: 178ص.