عده البصريون رائدا في المسرح البصري، بينما يدرسه الاكاديميون كرائد في المسرح الجماهيري الملتزم باعتباره خير من يمثل تفوق المحافظات في ادامة النسغ المتدفق يغذي ابداع العاصمة.
لم يحظ جبار صبري العطية بالدراسات الكافية لافادة الاجيال المسرحية من ابداعه لذا ظل حبيس جدران المطلق، الذي لا داخل ولا خارج له.
كثيرون تحمسوا له عازمين على اعداد مؤلفات منه وعنه، من خلال بحوث تتناول فنه، واعادة طبع مسرحياته واخراجها وعرضها، لكن شيئا من هذا لم يحصل لان الدنيا(تلاه) وما يقال بحماسة، لا يمتلك العنفوان ذاته في التنفيذ.
تأثر موقف النظام السابق من تجربة جبار صبري العطية بموقفه من بيت العطية ذي التاريخ الوطني المشرف وكل ما هو مشرف لا يروق للدكتاتورية الغابرة حتما.
فنون يحاول في هذا الملف ان يعيد ذاكرة الثقافة العراقية الى نصابها كي ترتكز على موضعها الحي النابض لا تغفل مبدعا ولا تنسى رائدا او تسهو عن علم.
اذ اتحفنا الزملاء عزيز الساعدي وجاسم العايف وهلال نافع العطية وحميد عبد المجيد مال الله، وبنيان صالح، بكتابات اغنت هذا الملف عن المسرحي الراحل جبار صبري العطية فضلا عن مذكراته بقلمه، لم تنشر سابقا وصور من اعماله.
ملحق فنون يشكر كل من يتذكر العطية معنا.
– وفــاء طائر الحـب
بنيان صالح
صدرت مجموعة الكاتب المسرحي الراحل جبار صبري العطية الموسومة ”تحت المطر“ العام 2002 عن منشورات دار الشؤون الثقافية العامة بغداد، وهي مكونة من ثلاث مسرحيات”مونودراما “(تحت المطر، ليلة انتظار، جياع ولكن) تتميز المسرحية الاولى تحت المطر التي حملت المجموعة اسمها عن الاخرين بانها كانت مكرسة للظروف القاسة التي تعرضت اليها مدينة الكاتب”البصرة “ ابان الحرب العراقية الايرانية.
موضوع هذه المونودراما محكم بشكل مثير للاعجاب فيها تتجلى تداعيات الشعور من بطلها البالغ خمسين عاما لتصب في مصب واحد، هو معاناته من عذابات القصف العشوائي الذي تعرضت له مدينته وداره في حرب دامت ثمان سنوات، وفيها اعتمد الكاتب عنوانا فرعيا لكل مشهد من مشاهدها.
ففي المشهد الاول المعنون مطر مطر مطر، يحدثنا الرجل بعد ان نسمع صوت انفجار قوي كيف كان هو وعائلته يلجؤون الى فسحة الحمام الضيفة التي يدعوها، الملاذ عند كل قصف، وفي المشهد الثاني المعنون على الهاتف، يتبادل مكاملة مع زوجته دون ان نسمع صوتها تهيمن عليها مخاوف القصف ومخاطره وفي المشهد الثالث طعام طائر الحب، يتحول الرجل الى التحدث مع طائر صغير كان قد تركه في القفص، وهكذا ينجز الكاتب المشاهد المتبقية من نصه المسرحي هذا والبالغة اثني عشر مشهدا من خلال حديث متصل بينه وبين طائره، الحديث للرجل اما الطائر فلا نسمع منه غير زقزقة متواصلة، فهو مرة يوضح له كيف وصل بصعوبة بسيارته تحت قصف متواصل ومرة يذكره ببداية”الضربة “ الرهيبة، واخرى يذكره باستشهاد ولده الذي كان يرى الطائر وحينا يحدثه عن مسرحياته فنفهم بان الرجل مثقف وكاتب مسرحي، اذيقول:”كل انسان يحتفظ بما هو عزيز عنده، اما انا فلا افرق بين اولادي ومسرحياتي“.
ولا ينسى ان يحدث طائره عن اصدقائه وهم جمهرة من المثقفين في مدينته فيذكرهم بعنوانات كتبهم وقصصهم الصريحة، وفي مشهد عنوانه المقهى، يحدث طائره عن مقهى مميزة يسميها باسمها الصريح مقهى”البدر “ ويذكر روادها من المثقفين بصفاتهم الجسدية والروحية، في المشهد الاخير المعنون”الموت “ يطلق الرجل طائره من اسار القفص لكن الطائر لا يغادر المكان، ويخبرنا على لسان صاحبه بانه اي الطائر، سيدافع عن البيت بمنقاره، فيخاطب الرجل بيته قائلا:”ايها البيت الساكن في القلب، منك بدأ الحب وفيك اخر الحب “.
ويختتم النص بزقزقة الطائر التي لا تنقطع هذه المونودراما قد احتفى بها ايما احتفاء فقد نوقشت ابتداء ضمن نشاطات”كتابات مسرحية “ العام 1989 ثم قرأت في مقر اتحاد الادباء العراقيين فرع البصرة قراءة فنية من قبل الاستاذ حيدر الشلال، كما قدمها اتحاد الادباء في ملتقى الابداع الثاني في 5/ 12/ 1997 في البصرة ايضا، ثم رعتها جهود الناقد المسرحي العراقي حميد عبد المجيد مال الله، حيث اشتغل عليها دراما تورج بمشاركتها في مهرجان بغداد للمسرح العربي الرابع في شباط 1994 من اخراج كاتبها نفسه وتمثيل الممثل فاضل احمد.
وهي الى جانب ثيمتها الجديدة ثيمة الحرب في المسرح، يتألق فيها حوارها ذو الجمل القصار المتقطع تقطع انفاس الانسان المحاصر بالموت، وحيث كان الكاتب يتعمق في الكشف عن بطله، الرجل ماضيه وحاضره واستشرافاته لمستقبله كان في عين الوقت يجتهد في رسم شخصية الطائر باهوائها وتحدياتها، فمن خلال منلوج الرجل وافصاحه عن لواعجه نجد الطائر طائرا مميزا يتمتع بقدر كبير من الصفات الانسانية، فهو تارة يغضب وتارة يرفض، واخرى يتمنع يكذب صاحبه ويرد عليه حججه، كما يكشف عن استيعابه لخصائص المكان ومجريات الاحداث بقدر يوازي استلهام صاحبه لكل ذلك، وهو محب اخر للبيت والمدينة والاصدقاء المثقفين الذين يحبهم صاحبه، ولهذا يأتي امتناعه عن مغادرة المكان طبيعيا ومببرا وذروة مسانده للذروة التي يصل اليها الرجل في نهاية المسرحية ونهاية منلوجه المعذب الطويل.
ولولا الحماس الزائد الذي طغى على حوار الرجل وهو يستعيد الحياة مع اصحابه المثقفين والذي جعله ينسى وجود الطائر كما لمست ذلك في المشهدين التاسع والعاشر، وهما المشهدان الاكثر اهمية، ولارتباطهما بمثقفي المدينة ومفكريها، ولكونهما المشهدين لم يستثمرا كما يجب.
اقول لولا حدوث كل ذلك، لاستطاع الكاتب ان يتعمق بعيدا في خلق شخصية الطائر فيما هو ماض في تعميق شخصية صاحبه، ايضا ربما اخذ على هذه الموندراما كونها اظهرت الحرب كالقدر المحتوم او كالكارثة الطبيعية فهي لم تتهم ولم تبرئ حيث تساوت الكائنات في مصائرها والموت يجلجل كما هو الان.
اخيرا كان كاتبنا محموما بالمسرح؟؟! به، مأخوذا اليه بكليته، حتى انه يقول في المشهد الحادي عشر:”اذا مت اصنعوا لي نعشا من الواح المسرح وادفنوا معي قرطاسا وقلما، فالموضوعات المسرحية تعرش رأسي ولن يكتبها احد غير ي “.
وايضا يحيل الى الكاتب العراقي ياسين النصير دون ان يذكر اسمه صراحة بل يعرف القارئ به من خلال ابحاثه في موضوعة ”المكان“ التي اشتهر بتناولها، يحيل اليه ثلاثة اشياء، اذ يقول:”لي عذري ان احلت اليك ثلاثة، اماكن (لاحظ:مكان ، اماكن) .. رأسي.. صدري .. بيتي “.
ويا لها من وصية لم تتحقق .
– محطات مضيئة في مسيرة العطية
عزيز الساعدي
لا يستطيع اي باحث او ناقد او كاتب مسرحي يتناول سيرة الرواد المسرحيين البصريين من خلال انجازاتهم المسرحية بدءا من توفيق البصري وعبد اللطيف الرديني وزكي الساعدي وعزيز الكعبي وبنيان صالح وقاسم حول وياسين النصير وحميد مجيد مال الله وقصي البصري، دون التوقف عن انجازات ومساهمات الرائد جبار صبري العطية سواء أكان ذلك على مستوى التأليف او النقد او الاخراج، فهو رجل نذر حياته من اجل المسرح طوال اكثر من اربعين عاما.
مسرح الكلمة الصادقة والشجاعة والمعبرة عن هموم وتطلعات الشعب في الحياة الحرة الكريمة، لايمانه بان المسرح هو المنبر الاجتماعي الذي تتم فيه المكاشفة والمصارحة وتطرح من خلاله التساؤلات المستفزة والمشاعر الانسانية المهمشة والمكبوتة.
ونتذكر باجلال وتقدير مواقفه الجريئة وجهوده الحثيثة في الدفاع عن فرق الهواة المسرحية وانعاشها بمد العون المادي والمعنوي لها، وكذلك دفاعه المشرف من خلال جماعة”كتابات مسرحية “ عن صرح”نادي الفنون “ الثقافي الذي اغلقته السلطات البعثية.
وكان لاصراره في بعث الحياة من خلال اشتغاله المتواصل بالمسرح كأنما يبعث رسالة متحدية الى سلطات النظام مفادها بان صوت المخلصين لقضايا الناس لا يزال مسموعا يقض مضاجعهم بالرغم مما تقدمه مؤسساتهم الثقافية والاعلامية من تطبيل ودجل من خلال المسرح التجاري الهابط والرخيص بديلا للمسرح الواقعي التقدمي المعبر والموحي عما يجول في صدور الناس من معاناة القمع والتهميش.
هذا الصوت الهادر جسده في نصوصه المسرحية كواحد من رواد المدرسة الواقعية الفنية الملتزمة بتطلعات الجماهير المسحوقة والمهمشة فهو لم ينجرف مع جوقة الطبالين والمنافقين والمنتفعين من عطايا النظام وازلامه من مدعي الثقافة المأجورين.
كل هذا جلب عليه نقمة السلطات الاستبدادية ما ادى الى الفصل من وظيفته كمدرس جامعي وتعرض للتعذيب في اقبية الامن الصدامي في البصرة ما افقد اذنه اليسرى السمع، كل هذا لم يثنه عن مواصلة كفاحه في سبيل تأصيل المسرح واداء رسالته.
ابرز انتاجاته المسرحية في كتابة النص المسرحي للاطفال هي مسرحية”عسل النحل “ و”مملكة النحل “ و”السندباد البحري “ و”الدجاجة الشاطرة“ ثم كتب مسرحية”السفينة“ التي اخرجها الرائد بنيان صالح، واعد واخرج قصة”ساعات كالخيول “ للقاص محمد خضير ثم مسرحية طريق الاخرين واوبريت نيران السلف، تأليفا واخراجا.
واصدرت له دار الشؤون الثقافية العام 2002 مجموعة”تحت المطر“ وتضمنت ثلاث مسرحيات”مونودراما“ هي”تحت المطر “ و”ليلة انتظار “ ومسرحية”جياع ولكن “.
وتتمحور مسرحيات المونودراما الثلاث حول ثيمتين الثيمة الاولى هي الحرب والثانية نتائج هذه الحرب متمثلة بالجوع والحصار الاقتصادي هاتان الثيمتان تشكلان توثيقا لاخطر مرحلة تاريخية معاصرة مرت على العراق.
عنوان مسرحية (تحت المطر) هو عنوان مخادع يضمر عكس ما يوحي للقارئ فالمطر هنا هو ما تقذفه حمم القنابل على المدينة والتي حصدت الزرع والضرع وليس الماء مصدر الحياة وديمومتها، والخيط الدرامي الذي يربط نسيج مشاهد هذه المونودراما المسرحية الى بعضها هو حصار الشخصية غير الاشكالية المؤمنة بقدرية تحمل هم التساؤل والاجابة او الادانة بشكل مباشر لهذه الحرب المجنونة”الحرب العراقية/ الايرانية) وانما تترك ذلك للمشاهد/ المتلقي.
الاخراج
في الستينيات قام باخراج مسرحية ايام العطالة لادمون صبري ومسرحية”الجنين الاشقر المحبوب “ لبنيان صالح وفي السبعينيات قام باخراج مسرحية”المنجـم “ (لمعين بسيسو) ومسرحيـة”يبحـر العراق “ لبنيـان صالـح والمسرحيتان الاخيرتان من ضمن نشاطات فرقته/ جماعة كتابات مسرحية.
النقد
اما نشاطه في النقد المسرحي قد شاركته على مدى ثلاث سنوات في كتابة متابعات نقدية لعروض الهواة نشرت في مجلة الثقافة التي كان يشرف عليها الدكتور صلاح خالص كما انه كتب عدة مقالات نقدية في العديد من المجلات والجرائد منها في جريدة طريق الشعب والجمهورية ومجلةِ آفاق عربية.
طوبى لمبدعي الكلمة الراحلين بلا وداع، التاركين في القلب حسرة وفي مآقي العيون دمعا مراقا.
– جبار صبري العطية.. الموقف والريادة
جاسم العايف
ذهبت الى ضفة النسيان التعهدات التي قيلت في اربعينية الراحل الكاتب والمخرج المسرحي جبار صبري العطية ومنها تشكيل لجنة لدراسة وارشفة ما خلفه من نصوص مسرحية وبحوث وسيناريوهات ووثائق نادرة تعنى بالمسرح واقامة مهرجان مسرحي وجائزة تقديرية لمسرح الطفل يحملان اسمه اختفت تلك التعهدات خلف ذاكرة جمعية ادمنت النسيان او التناسي..
توارى زملاؤه واختفى طلبته وما اكثرهم وتجاهلت المؤسسات الرسمية الثقافية ذكراه مع انه كان خبيرها ومعينها في اعمالها ومهرجاناتها المسرحية الفنية لم يزحزح ارثه الذي يتجاوز (70) نصا مسرحيا ولم يعد له فضل الريادة في مسرح الطفل (ادب وفن ومسرح الطفل) هكذا، اذن اقفلت ذاكرتنا واوهنها النسيان والصمت عنه وهو الذي اوصى في وصيته التي املاها على ولده الاستاذ (هلال العطية) الذي كان يرافقه قبل وفاته في المستشفى ليلة 2004/11/23 وقد قرئت من قبله في الحفل التأبيني ـ الاربعيني الذي اقامه اتحاد الادباء والكتاب في البصرة بتاريخ 2005/1/7 ان يترك كرسيه فارغا في الجمعة الثقافية في قاعة اتحاد الادباء والكتاب وفي العروض المسرحية التي قد يجود بها هذا الزمن الوحش الرديء التي قد تقدم في البصرة وان يصنع نعشه من خشبات المسرح ويكون كفنه من ستائره وان توضع على صدره عند دفنه الاوراق والاقلام ليواصل البحث والكتابة هناك في العالم الاخر الذي ربما سيحتفي به بما يليق بجهوده الثقافية ـ المسرحية بالذات ـ وبسيرته الناصعة وبوفائه للمبدعين البصريين والعراقيين الذين ارتحلوا قبله ووثق حياتهم ومكابداتهم اليومية في ازمنة القهر واعمالهم الادبية والفنية في اعماله المسرحية وخاصة المونودرامية التي فرضتها شحة الامكانات خلال سنوات التسعينيات البائسة ولقد فعل في نصوصه تلك مخاطبة الاخر الذي كتب له وادخله في عالمه الخاص، والعام وكأنه جزء من كيانه بنزوع اخلاقي قويم كان الراحل يتمتع به طيلة العصف السلطوي والقصف المدفعي الذي ينتهك روحها وجسدها المدمى ويرسخ كابوسها في الاعماق عبر شواخصها الدالة عليها وتختلط شقشقة (طائر الحب) في مونودراما (تحت المطر) باصوات الانفجارات وانين الضحايا وقتلى الحروب ـ والقتلى في امكنة وازمنة اخرى ـ وصمتهم الابدي المتفجر المتواصل بين الحياة والموت وبين الحب والكراهية والمقت ويبرز النزوع الانساني لتشبث الضحايا بالحياة من خلال اصوات القذائف والاجواء المحيطة بالمسكن وساكنه الآمن المتوحد مع ذاكرته المتوقدة التي قد تواجه الفناء في اية لحظة تسقط فيها قذيفة على الدار وتستحضر الذاكرة الحياة المدنية والاطمئنان والسلام والعلاقات الاجتماعية التـي تتجسد مـن خلال صـوت طائـر الحب المرعـوب كمعادل للموت فـي اللحظة تلك.
لم ينعزل جبار العطية عن الحياة وحركتها وجدل التغيرات الاجتماعية والفكرية وظل متماسكاً في مواقفه ومرجعياته وافكاره التقدمية، وفي المحن التي تعرضنا لها بقي يواجه وحشية الماضي وبربريته وشراسة الحاضر وقساوته بقوة الروح الاصيلة ونزوعها للمدنيـة المتحضرة التـي تمسكت بالسعي نحـو العدالـة الاجتماعيـة والحرية والقيم الانسانية النبيلة التي لم يهادن فيها او يتراجع عنها وانطوى علـى ذاكـرة موجعة مملوءة بالمرارة والالم والخذلان بسبب الانظمة السلطوية التي وشمتنا منذ 8 شباط 1963 وبقي يواجه سواد الازمنة وادغال الايام ومراراتها وعتمة الواقع اليومي ومخاتلاته بقوة الروح والمبادئ وحصانتها وقيمها وبثقة الرفقة التي انقض عليها انذال الثقافة السلطوية ـ البعثية في اواسط السبعينيات ليستبيحوا كل التجمعات الفنية ـ الثقافية ـ الجماهيرية بعهرهم وعارهم الابدي محولينها الى مراكز لشرطة الامن وانيابها الحادة ـ القاسية ولافكارهم العنصرية اللاانسانية التي دمرت الاحساس بالحياة المدنية الاسرة التي كان الانسان العراقي يندفع نحوها بتميز وثقة الا ان (الفيتو البعثي ـ العفلقي) كان لها بالمرصاد فاوغل فيها سحقا وتدميرا لقد تحاشى جبار العطية في مسيرته وكتاباته واعماله المسرحية المتنوعة التي وظف لها كل عمره مغازلة المؤسسات الثقافية السلطوية ومنطلقاتها وبقي في اعماله وثيماتها ينشد الحق والحرية والعدالة الانسانية والجمال متوجها الى الناس الذين طحنتهم الحياة وقساوة الانظمة معريا المخاتلات والتواطؤات بوضوح امسى فيه الوضوح سبة وظل يفخر بوضوحه وتعرضت اعماله ونصوصه المسرحية للاهمال واللامبالاة والتجاهل بحجج واهية وذرائع قصدية كما تعرضت للسرقة بلا حياء وواجه ذلك مرة بجرأة كادت تودي به ولم يتراجع او ينحن حتى تم الاعتراف له بذلك علناً.
ترك جبار صبري العطية ارثا مسرحيا متنوعـا مـع اهتمـام خاص بمسرح الطفـل كتابـة واخراجـا وبحثا يضعه في حدود الريادة اذ اخرج اول مسرحيـة للاطفـال فـي البصرة عام 1961 وظـل يواصل العطاء والكتابة والبحث بلا كلل وبقدرة ميزته عمن سواه ممن رافقـه في بداياته المسرحية في العام 1950 وهـو طالب في الدراسة الابتدائية وفـي كل مـا كتب وقدم لم يهتم بالبهرجة الخطابية المسرحية ولم ينح الى الاطناب التقليدي والانجرار وراء البلاغات.
– اللعب والتدوير في (الوصية) ومسرح الطفل لجبار صبري العطية
حميد عبد المجيد مال الله
مبدعون قلائل اثروا مسرح الطفل في العراق اذكر منهم الاساتذة عزي الوهاب، وطلال حسن، وجبار صبري العطية.
ترك الفنان الراحل اكثر من 20 نصا لمسرح الطفل، نشرت النصوص متفرقة في صحف ومجلات ودوريات عراقية، وعربية خارج العراق اضافة الى اخرى/خطاطات ارتقت المنصات مباشرة ووصلت رسالتها التربوية الممتعة الى متلقيها الصغار.
من المسرحيات التي نشرت : العصفور والقرنفلة 1978 ـ الغيلم والضفدع وتفاحة الحياة 1983 ـ الدرس الاول 1992 الوصية 1992 بابا نوئيل والاطفال 1995 كنوزوكنوز 2005 نشرتها جريدة المنارة بعد رحيله.
من المسرحيات التي مثلث : بيت الحمام 1995 اخراج حيدر الشلال (فنان مغترب في استراليا الان) بابا نوئيل والاطفال نشرت واخرجها د. طارق العذاري ـ مملكة النحل اخراج منتهى محمد رحيم تقديم الفرقة القومية- بغداد الغيلم والضفدع اخراج د.حسين الانصاري عرض دمى على مسرح الفانوس السحري/ بغداد ـ عسل النحل، السندباد البحري، ذئبوب في المرآة وهي من اخراجه، انتاج فرقة البصرة للتمثيل ومعهد الفنون الجميلة.
الوصية …لماذا؟ لاحتوائها على جملة بنى تقترح التناول، منها انها (نشرت ومثلت) حسب نهج أ.د عمر الطالب في (بيبلوغرافيا المسرحية العراقية) ولانها مؤسسة على مشتركات ارى انها تتواجد في معظم نصوص مسرح الطفل عراقيا وعربيا وعالميا وهي التأسيس على (حكاية.. حدوتة) مرجعية، ويشكل (اللعب) كظاهرة هيكلها، والامر الاهم انضواؤها لفكرة (التدوير الدرامي)
نشر نص مسرحية (الوصية) في دورية ( مسرح 92) وهي نشرة فصلية كان يصدرها المركز العراقي للمسرح ـ العدد الثالث ـ تموز 1992 شغل 4 صفحات حجم كبير متداخل، لو فكك سيشغل 8 صفحات تقريبا وهو في اربعة مشاهد تعتمد لعبة فولوكلورية هي لعبة الام وابناؤها، مع اغنية شعبية مرافقة لها، يلعبها ويغنيها الاطفال في المحلات الشعبية.
وثبتت عناوين فرعية لكل مشهد كما يلي: المشهد الاول: هيا نلعب ـ المشهد الثاني: طلب الوصية ـ المشهد الثالث: الوصية/ النصيحة ـ والمشهد الختامي: هيا نفرح…
شخوص المسرحية (حسب النصيص او النص الثانوي الذي يدعى ملاحظات الكاتب الاخراجية) المجموعة كورس اطفال 10 ـ 15 بنين وبنات تتراوح اعمارهم بين 6ـ 7 سنوات ـ سعيد: طفل من المجموعة ـ سعاد: طفلة من المجموعة ـ الام: فتاة تبدو اكبر سنا.
مثلث المسرحية في مهرجان المسرح المدرسي السنوي للعام الدراسي 1992 ـ 1993 لمديرية تربية البصرة، انتاج روضة الياسمين، اخراج ساجدة معتوق، كما اخرجها طالب الاخراج كريم رايش وعرضت في عدد من مدارس مركز المدينة.
شكل اللعب محور المسرحية ـ كما العديد من مسرحيات الطفل ـ وكلمة اللعب play تستخدم للاشادة لكل من الانتاج المسرحي، والانشطة الابداعية ذات الخصائص الدرامية والايهامية التي يقوم بها الاطفال.
واللعب من الاسس الانثروبولوجية لخبرة الانسان بالفن، لانه (وظيفة اولية) للحياة الانسانية، وحسب الفيلسوف الالماني المعاصر هانزجيـورج جاداميـر فـي مؤلفـه المثير (تجلي الجميل) فان الحضارة تكـون امرا غيـر متصور بـدون هـذا العنصر.
ويؤكد كل من هوزنجا وجارديني فضلاً عن مفكرين معاصرين اخرين ان (عنصر اللعب يكون متضمنا في الممارسات الطقسية والدينية) وهو (حركة ذاتية) اي انه يكشف عن (ظاهرة فائض النشاط) او بالاحرى (ظاهرة تمثيل ذاتي حي) وبوصفه ايضا (نشاطا انفعاليا) بين الشخص الذي يلعب، والاخر المشاهد للعب في تساوق مع البناء المسرحي : الباث والمتلقي ويحلل فلسفيا (كخطوة انتقالية من الرقص الطقسي الى التنظيم الاحتفالي الطقسي المتخذ صورة التمثل..) ومن هذه الخطوة (يتم الانتقال الى حالة تحرر التمثل في المسرح..) الذي انبثق من السياق الطقسي.
في اللعب الانساني (خبرة عقلانية اولية تتمثل في مراعاة قواعد يتم توصيفها ذاتيا على نحو ما يبدو في التماثل التام الذي يأتي عليه كل ما نحاول اعادته في اللعب).
اللعبة في مسرحية الوصية هي (تكسير العصي) والغاية/الهدف (تعذر كسر العصي المتحدة وسهولة كسرها فرادى) ظاهرة اللعب تتكرر في مسرحيات اخرى للمؤلف ولكن تمارسها حيوانات كما في مسرحيته (الغيلم والضفدع) حيث الاستباق للوصول الى الهدف (تفاحـة الحيـاة) (نشر النص فـي مجلـة الثقافـة للدكتـور صلاح خالص العدد 5 العام 1983) وفـي مسرحية (كنوز وكنوز) تبتـدئ هوايـات 3 شخصيـات باللعـب على التوالي بآلـة العـود والاخـرى الرسم والثالثـة التمثـيل (كنوز وكنوز مسرحية في ثلاثة مشاهد ـ صحيفة المنارة العدد 235 في 30 تشرين الثاني 2005)
حكاية المسرحية مصدرها (نص مدرسي) في كتاب القراءة للصف الرابع الابتدائي عن رجل رمز لوحدة ابنائه بحكاية العصي كنهج ستراتيجي لحاضرهم ومستقبلهم.
مرت الحكاية (بتدوير درامي) شأنها شأن معظم المسرحيات استكشاف (التدوير) ينبع من (الذاكرة الثقافية) للمتلقي حينما تتلقى جديداً يثير المقارنة مع مرجعيات سبقته لان مايحدث في المسرح دائما هو (تدوير درامي لثيمات سابقة، ولحكايات سابقة ولشخصيات سابقة) الا ان (التدوير الابداعي) يؤكد (امكانية شيء يتجاوز معرفتنا، شيء يغير شكل المواقع ويتخيل ويبتني مواقع جديدة للموضوع) وهذا موقع متفوق للتدوير، وعكسه (تدوير :اعادة انتاج) لموضوعة ما دون تجديد قد يؤدي الى (متحفية) لنوع مستنزف تسيطر عليه التقليدية، وغالبا ما يتحكم به فهم ضيق للمرجع بتكرر الثيمات والدوال والعلاقات بتقليد اوطأ من المرجع!
ان التدوير المتجدد وفقا للتحليل السميولوجي يعمل بتورية دلالية تتجاوز الدوال/ المرجع نحو مفاهيم ومدلولات تكسب الانتاج حالة تغريب وابعادا جديدة مبتكرة.
بالطبع ما اوردناه يعسر تطبيقه على نص يكتب للطفل لان مسرح الطفل بشكل خاص يعد من نوع (المسرح المغلق) مراعـاة للمستـوى الذهنـي لمتلقـي الخطاب الـذي لايحتمـل تأويـلات (المسرح المفتوح) فالتدوير الدرامي فـي مسرح الطفل مقنن بمحددات كما فـي هـذا النص وسواه.
– حوار بعد الرحيل
هلال نافع العطية
استاذي ووالدي وصديقي .. اما آن لهذا الجسد المكفن تحت التراب ان يسمعني صوته .. ان اعرف بم يفكر .. هل من جديد؟
قال :انا الان اكتب مذكراتي ..
انا الان ادون بداياتي.. الاحداث المباشرة في حياتي .. اتذكر اني ولدت في سنة كانت الفاشية تستعد لغزو العالم بحرب عالمية ثانية ..
لم افهم ذلك الوقت من معنى الحرب سوى الموت ..
رحت اتاملها جيدا حتى تولدت لدي الكلمة المضادة الاولى للحرب والموت وهي (السلام والحياة).
ورحت اتامل السلام والحياة بكل حب وصفاء بقلب وعقل طفل حتى تولد لدي وعرفت معنى ثانياً للحرب هو (الدمار) وعلى اثرها تولدت الكلمة المضادة الثانية وهي (العمران والبناء) .. وعرفت معنى ثالثا للحرب وهو (الحقد والكراهية).. تولدت لدي الكلمة المضادة وهي (الحب والصفاء والصداقة) التي انتم فيها الان .
قال: انتم .. اين انتم الان ؟
قلت : نحن الان نحتفي بذكرى رحيلك.. بكتابات عن رجل غادر بصمت دون وداع..
قال : وانا اشكركم .. والله ثمانية وستون عاما كأنها لمح البصر ..لو احصيت ما كتبت من اعمال مسرحية ودراسات نقدية وبحوث ومشاريع لم تنجز حتى الان لوجدتها اكثر من عمري مرتين.
قلت : ماذا يفرحك ؟
قال : يفرحني ان اخواني الادباء لم ينسوا رجلا ضحى من اجل الادب والفن .. قضى حياته بين الاوراق والمسودات والكتب ليعطيهم ما ملكت ذاكرته شكرا لهم فقد اصدقوا وكانوا اوفياء ..
قلت : ماذا يحزنك ؟
قال : انا مليء بالحزن اكثر منكم .. فانتم جميعا فقدتم شخصا واحدا ، الا انني فقدت الالاف ممن احب
قلت : اريد ان اسالك عن كتاباتك .. وكيف تكتب ؟
قال: يستعصي على الوحي .. ويصعب حضوره عندما يكون الموضوع رديئاً جافاً اما اذا كان الموضوع جيدا صالحا والجو منعشا فان الوحي يتفضل بكل ادب واحترام ويستقر في مكانه المعد .
ويبدأ الانتاج الجيد الخصب .. فالوحي يضع حمله لافي العش الصاخب المبعثر .. بل في العش الهادئ المنظم .
قلت : ماذا عن الدنيا.
قال : الدنيا لي ولغيري .. ولايتوهم احد انها مقطوعة لشخص ما ، فهي لا تدوم لاحد ابداً .. فلا تضايق الاخرين اذا ما اقبلت عليك او ادبرت منك
عش بها على احسن ما يجب ان تعيش ودع غيرك يعيش فيها وعلمه السمو ان افتقر الى ذلك .
قلت : وعن البيت ماذا تقول ؟
قال: البيت لا يكون كاملاً بغير مكتبة.. والاسرة لا تكون مثقفة مالم يقض افرادها كباراً وصغاراً جانبا من اوقاتهم في القراءة .
قلت : نصيحه ؟
قال : يجب ان تضع على لسانك سؤالاً قويا شامخا وان تضع على طرفه كلمة حق دائما معززه بثقة قوية شامخة
قلت : والفقراء في اعمالك المسرحية ؟
قال : تصعد صرخة الضعيف والمظلوم الى السماء وتنزل على القوي الظالم اقوى مما تنزل الصاعقة .
اخيراً اسالك ماذا استنتجت بعد رحيلك؟
قال: الحياة شمس تشرق لتغيب.. وتغيب لتشرق .. والجميع يفهم ويدرك ان بعد الحياة فناء .. وبعد الفناء حياة الى الابد .
وكثيرون من يعتقدون ان هذا الفناء مشكلة خوف. وتعقيد والحقيقة ليس الفناء خوفاً ولا تعقيداً وليس بمشكلة.. فبعد الفناء لا يشعر الانسان بالخوف والقلق. والحقيقة مرة ثانية.. ان الحياة هي المشكلة والتعقيد والخوف.. والفناء حل لها. اخيرا ودعته وانهيت هذه المقابلة التي تنشر لاول مرة على امل ان اهيئ ما تم انجازه وتحقيقه من اعمال مسرحية والتي قمت بجمعها لكي اقوم بطباعتها قريباً كوجبة اولى من جملة الاعمال والكتابات والبحوث التي لن تنشر بعد.
* ابن شقيق الراحل جبار صبري العطية
– مذكرات متقاعد
جبار صبري العطية (1998)
هذا اول يوم للتقاعد، اجلس في هذا اليوم دون اجازة، لا عرضية ولا مرضية.
هل انا فرحان؟
نعم لان الوظيفة اصبحت لا تطاق.
لاني لا احب هذا العمل الذي نقلت اليه منذ اربع سنوات واشهر، ولان مكان عملي ليس مكاناً للعمل، حر شديد في الصيف ورطوبة خانقة في الشتاء، لا تهوية صحية فيه، والغرفة لا تدخل اليها الشمس مطلقا، الهدر في العمل والوقت علنا واداء الواجبات وانجاز الاعمال اصبحت في الظاهر فقط، وكل واحد ينجز عشر ما عليه ويسوف في العمل والوقت الباقي، ويلقي على غيره واجبات بحجة انه ليس من اختصاصه ولا يعرفه، والتسكع داخل العمل اصبح ظاهرة ملحوظة لدرجة ان البعض يبتكر الحجج والاعذار.
العلاقات الوظيفية مشوهة الا ما ندر وهي الشواذ والذي يكون واحدا من الشواذ يكون موقع سخرية.
وتنتقص قيمته الاخلاقية بل ومن رجولته.
وعلى الرغم من هذا كله انفقت لاجل عملي كل وقتي، رتبت المبعثر، نظمت غير المنتظم في سجلات وحفظت كتباً وسجلات.
في هذه السنوات الاربع لم يأت الى دائرتي الرئيسة موظف قبلي، ولم يأت اليها بعدي احد مثلي.
قال مدير الادارة وهو يعطيني الامر الاداري بالتقاعد.”خسارة انها خسارة لا تعوض قط، اسمك غطى على رئيس مديريتك، الدائرة كلها تقول اذهبوا الى”فلان “ لذلك انا فرحان، لاني لن اخسر من هذه الوظيفة غير تعبي وعذابي النفسي.
لذلك انا فرحان.
هل انا حزين؟
نعم انا حزين اقول بصراحة، المسؤولون رفضوا طلبي اكثر من مرة وكنت الح عليهم حتى في مقابلتي الشخصية لهم وعند زيارتهم موقع العمل.
لكن عندما وقع على الطلب بالموافقة، انكمشت وشعرت بحزن خفيف يسري الى نفسي وقشعريرة سريعة مرت بجسدي ووخزة عبرت بخفة تحت الثدي الايسر مباشرة.
انا حزين.
لان الوطن ربحني كموظف مخلص، يمكن لاي احد ان يؤدي عملي، وخسرني كفنان وكاتب.
فالذي عندي للوطن لا يمكن قطعا ان يكون عند غيري، واذا ما مت يوما فان مشاريعي الفنية واعمالي المسرحية تموت معي والخاسر في هذه الحالة وطني العزيز.
انا حزين.
لاني لم تتح لي فرصة الحياة مرة واحدة كما اريد ولم اكن في المكان المناسب لي.
انا حزين
لان وطني .. آه ياوطني يجور علي وهو عزيز.. آه يا وطني.
انا حزين
لاني غريب في مدينتي ووطني، غير اني معر وف فيهما.
لذلك انا اتغنى كثيرا في قول المتنبي: غريب كصالح في ثمود.
انا حزين.
لان الانسان مجرد ان يحال الى المعاش يكون في عرف نفسه وعرف الناس انه مشرف على النهاية قطع مشواره في الحياة وانتهى وهو في طريق..
غير انني ساحيل هذه الفترة الى حياة جديدة تبدأ من هذا اليوم، حياة زاخرة بالعمل داخل بيتي بين كتبي واوراقي وقلمي، وابدأ باقتحام الصعاب وتبديد ركام الجليد الذي وضع حول قدمي.
هل سأوافق ام لا؟ لا ادري التقاعد بالنسبة لي حياة جديدة، يكفي اني امتلكت حياتي.
ترى كم سنة، كم شهراً، كم يوماً ساعيش، لا ادري.
*هذه المذكرات لم تنشر في حينها للراحل فقد خشي نشرها آنذاك وهي تنقل معاناته بعد احالته الى التقاعد دون ان يطلب ذلك.