مابه الوهم حلمي ، كم من ثنايا الروح تحتاج الهدم والبناء من جديد ، عشقنا مصيبة وقلوبنا لا تهوى غيره ، اي انامل للزمن ؟ يداعب بحنية صدري ليزرع بوحشية حزناً وحرائق …
يتقلب يميناً وشمالاً ، الجو حار .
– اي جهة من جسدي ارقد عليها لانام ؟
” انه الارق”
يقوم من نومه منفعلاً، يبعد الستارة عن الشباك ليرى الشارع العام خال من المارة، انها الثالثة فجراً، خطا نحو (الثلاجة) ليتناول كأساً من الماء البارد ويذيب به كيساً من (الفوار) .
علها تهدأ معدتي ، أدمنت هذه الاكياس اللعينة ومعدتي لا تستجيب لداوء او عشب كأنها رضخت فقط لهذا المسحوق الابيض .
عاد الى الفراش ، هدأ قليلاً ، يحك كتفه العاري المشعر.
– لأتحمم رائحة العرق هذه لا تعجبني .
يقولها في داخله ويتذكر مرحلة الجيش اذ يبقى عشرة ايام او خمسة عشر يوماً دون ان يعرف للماء طريق ، طبقات من الوسخ والعرق والاتربة على جسمه ، يحمد الله ويشكره حال عودته الى البيت سالماً بعد ذلك .
فتح ضوء الحمام وانهمر الماء …
متى تغسل احزاني ؟ متى اتطهر من ذنوبي ؟ انني وريث للفسق والفجور، تركت الخمر بعد نوبة مرض الزمتني الفراش سبعة ليالي طلقته بعدها خوفاً من الموت .
صباحاً توجه فرحان الى ملاذه اليومي ، قهوة ابو رياض حيث يجتمع المعلمون والمدرسين وبعض الرياضيين هناك .
يقول الاستاذ فواز :
– ان الاستاذ انس طريح الفراش ويتوجب عليه اجراء عملية جراحية في العاصمة بغداد، هلا تساعدونه ؟
– ونحن من يساعدنا ؟
– (إلنه الله) .
بهذه الطريقة يقابلون فواز الطيب ، والطيب هذا هو لقب عائلة واصبحت بعد ان شب وعُرف صفته ايضاً.
– اي مبلغ يقع على الفرد الواحد يا استاذ؟
يسأل ابو هلال…
– كل حسب استطاعته وكلما اكثرتم كثرت حسناتكم .
– يا استاذ فواز وهل الحسنة ستأكل عيالي اذا اعطيت ما بجيبي؟
– انكم تمزحون كعادتكم، في الختام ستعطون ما بجيوبكم وانتم الممنونين.
– (هم لمة فلوس) ، قالها متذمراً وهو يدخل المقهى والعرق يتصبب من جبينه ، وبقع تحت الابط ووسط الظهر واضحة وعلى اعلى الكتفين ، كأنه سبح بقميصه .
– اهلاً فرحان .
– السلام عليكم .
– وعليكم السلام اهلاً ومرحبا ، (صبحك الله بالخير) .
يرد فرحان بصوته الجهوري وكأنه يذيع بيان لثورة ما …
– (الله بالخير) كل الهلا، استاذ فواز هذه الفي دينار اجمعها ولا تكتب اسمي وحتى ( ما أريد اعرف إلمن تجمعون).
ينزوي فرحان مع ابو هلال ، يأخذ سيكارة يشعلها ويأخذان نفساً طويلاً يعبر عن الحيرة والضياع، اناس انهكتهم السنون وطغى على ايامهم الوجع .
– آه كم حارقة شمس صيفنا ؟
– انك تتصب عرقاً، عليك ان لا تمشي تحت الشمس، تعاند نفسك دوماً ومن ينصحك.
– (إيه …) ، قالها بحسرة ، من ذكرياتي مع النساء اذكر يوماً وقفت تحت شمــس الظهر الحارقة ، ثلاث ساعات متواصلة عند مسجد (ديم خزام) كان ذلك قبل سنين طويلة رافقني حينها عبد الله ، وبعد الانتظار والتعب سمعنا شخصاً ينادي من فوق المأذنة :
– لن تأتي اليوم ، انها مريضة ، ابن عمها يعمل معي وهو قادم لكم .
هربنا ساعتها بأقصى سرعة من المكان ، وعرفنا ان ابن عمها ومن نادانا كانا يعملان على اصلاح مكبرات الصوت في المسجد حين ذاك ويعرفان كل شيء عنا ، وقوفنا اليومي عند المسجد ، رسائلي التي اتركها عند باب البيت والتي بقيت بحسرة الرد عليها ، اذ كان من السهل على من يقف في اعلى نقطة من المأذنة ان يشاهد الطرقات الجانبية التي تتوزع من الشارع الرئيسي ، ولأمينة بيت في احدى هذه الطرق الجانبية ، فترانا كنا مكشوفين لابن عمها وصديقه.
من نادانا ذاك اليوم هو الان مدير دائرة الكهرباء في المدينة ، تزوج قبل شهور منها ، بعد ان تأخر العمر بهما قليلاً.
امينة ، يوم عرفتك كنت صغيراً لا ازال وحيداً بين عائلة تتألف من خمسة اخوان واختين ، غريباً بينهم ، استنطقت الحجر البليد ولم تنطقي ، عيونك هائمة بي ولسانك سجين احلى شفاه .
عبد الله ذلك الاسمر المتين بدأت بعد يومين اعراض التيفوئيد تظهر عليه ، اصابته ضربة شمس اما انا فكان نصيبي الفشل .
هكذا قضينا العمر ندخن السكائر ، ونشرب الخمر ، ونجري خلف النساء ، لم يأتنا من ذلك سوى الضياع والتعب والخسارة .
انه جدول يومي يمر على فرحان منغلقاً على نفسه ، المقهى لا يلبي الطموح ، يحسب كم بقي له في هذه الدنيا .
– (بعدك شباب ، ليش ما تاخذ مرة).
ابو هلال يخاطب فرحان بجدية .
– (وينه الحيل ابو هلال) اي امرأة تقبلني ؟ رجل معدم من كل شيء المال ، القوة ، العمر ، الجمال …
بقي فرحان حبيس افكاره وعقده ، اغلق موضوع الزواج منذ تركه نهاد مدللة مصرف الرشيد في مدينته ، انهى قصصه العاطفية الفاشلة ليتوج نفسه اكبر فشل بالزواج منها . كثرت طلباتها وتعدت قدرته على التنفيذ ، ستة اشهر ختم نهايتها بالسكر والعربدة وطلاق نهاد ، لتتزوج بعدها مزارعاً يدعى ابو راجي مالكاً اكثر من مزرعة وبيت وسيارة .
يمد يده الى جيبه يمسك بالمفتاح فيودعه فتحة القفل ، يقول وهو يهم بالدخول :
– يا الله .
انه يستأذن على الرغم من فراغ البيت من الانفس ، هكذا نصحته والدته يوماً.
امي لم يشبعني حليبك فقط ، بل امدني بالصبر والكرم والتسامح ، انك منارة ، وانا ملاح تائه في عرض البحر ، ألا تمدين لي ضوءك كي استدل؟
فوار ونواميس وهاتف معطل ، فرحان عبد الواحد في بيته .
متى اغلق الستارة على مسرحيتي هذه ؟ لا يمكن لهذا العرض ان يستمر ، كلنا حفاة على هذه الخشبة والجمهور المنتفخ يصفق للاضواء والموسيقى .
ببطئ نحو حقيبة جلدية يفتحها ثم يتناول كيساً من الاوراق ، يتأكد من انها كاملة ، دفتر الخدمة ، شهادة الجنسية ، وصل تعويض لم يحن ميعاده ، يدير وجهه صوب الجهة الاخرى من غرفته الانيقة ، قميصان وسفاري وثلاث بنطلونات ، منشفة وملابس داخلية ، دشداشة وشماغ احمر ، توقف قليلاً ، ارجعه الى مكانه ، تذكر انه في احدى رحلاته الى العاصمة عاد عن طريق مدينة العمارة وفي (العزير) توقف ليشتري (قيمر عرب) كما يسمى وتشتهر ببيعه (المعيديات) وهن نساء من عشائر يستوطنون الاهوار في جنوب العراق ، كان عائداً الى مدينته مرتدياً الغترة الحمراء والعقال فأذا بالتي يشتري منها تقول له وهو منحني لها سائلاً عن السعر :
– (انت صبّي) وكانت تقصد انه صابئي، والصابئة هي احدى الديانات التي ينتشر معتنقوها بين مدينتي البصرة وميسان وذي قار .
رد مستغرباً :
– لماذا حكمتِ علي بذلك؟
– (من جفيتك الحمرة) ، وتقصد اليشماغ او الغترة الحمراء التي يرتديها ، اذ اعتاد اهل الريف ان يرتدوا الغترة البيضاء او البيضاء المنقطة بالبقع السوداء ، خصوصاً في المناطق الجنوبية ، اما الصابئة فنصيبهم ارتداء الغترة الحمراء .
لم يكن فرحان يعلم قبل هذه الحادثة اصول اللبس وانواعه على الرغم من انحداره الريفي وتمسكه ببعض الكلمات الريفية التي ورثها عن والده الحاج عبد الواحد الصبر .
غير رأيه ودس يده بين الملابس اعتمد اليشماغ الابيض ، حزم حقيبة السفر ، اكياس الفوار لم ينساها .
العاصمة ملاذ التائهين ؟ ام حقن مورفين تنسيني ما انا به وتنتشلني من اناء الوحدة اليومية القاتلة ؟
“اسئلة تنمو في داخله لحظة المغادرة” .
– اهوى شوارعها وبعض اصدقاء الجيش والدراسة والاقرباء ، اغير هواء البصرة الرطب بهواء بغداد الذي يحمل نسمة برد في هذا الجو المحترق وذكريات هي جزء مهم في حياتي .
هكذا اذن انها مورفين تنسيني اياماً وتهدئني ، “يصل الى جواب” ، تجعلني اتوه بصخبها بين الشورجة صباحاً والكاظم عصراً والمنصور ليلاً، ستة ايام او سبعة اعود بعدها لتلك الجدران، وصور ابي وامي ودلال اختي وصور تجمعنا نحن العائلة كانت المناسبة لالتقاطها زفاف اخي الاكبر فوزي.
– ولماذا لا تبقى هنا؟ تستقر، تجد لك عملاً مناسباً وبيت صغير، من لك هناك ؟ انك غريب في مدينتك؟
– اني احتاج لاتخاذ قرار مصيري ، لا بد لي ان اهزم ضعفي وركوني الى الخدر.
– سأعطيك الطابق الثاني من بيتي ، انه معزول عنا ومنفصل .