منذ الصغر ولي ذكريات جميلة في شهر رمضان حينما تجتمع الأمهات لتحضير (الرشته)التي تشبه الشعرية في الوقت الحاضر وتبادل أنواع الأكلات كنت أنا المراسل الرمضاني في كل العصور لنقل وجلب من وإلى . كذلك في أيام المراهقة كنت أذهب على دراجتي في جوف الليل لشراء (الصمونِ) من المخبز الذي يبعد مسافة من البيت . كنت أسعى للصوم كيأحصل على المديح أمام معارفنا ولأشارك والدي مائدة الأفطار والذين دائما ما يدعونا إليها بعد تناولهم إياها. كم كانت أمنيتي أرى (ابو طبيلة) وكان تصوري أنه ليس من الكرة الأرضية بل يهبط من السماء حينما يحلّ شهر رمضان الذي يأتي (الطوب-مدفع الافطار) معه على ضفاف الفرات.
حوادث كثيرة ربما غطاها صدأ النسيان أو جرفتها سيول المشيب الذي جرف الأخضر واليابس نحو وادي السلام للتراكم، تنتظرنا ليوم البرزخ رغم ما رأيناه في رمضان عدة فصول فقد يقصر النهار أو يطول مع تغير الأحوال نحو التطور الحاصل في المجتمع.
قبل أكثر من عشرة سنوات كنت في اليمن مكثت هناك لأرى مناظرا ومشاهدا ومواقفا لأيام رمضان في العاصمة صنعاء ، الحقيقة أصابني الذهول والدهشة لما رأيته سأروي بعضها لأني نسيت أغلبها فهي تمتع بمناخ لطيف قلّ نظيره في العالم مع أن ساعات النهار لا تتجاوز اربعة عشر ساعة في أغلب الأحيان.
في هذا الشهر الفضيل حيث تعليمات الحكومة اليمنية يكون الدوام من الساعة العاشرة صباحاً إلى الثانية عشر ظهراً بالنسبة لنا كمصارف نهضت مبكراً وخرجت إلى (سوبر ماركت الهدى) مقابل مصرفنا لأجل التبضع لكن فوجئت بالمحلات مغلقة ومن ضمنها هذا السوبر ماركت والشارع خالي من المارة والجو العام يخلو من كل حركة وقد تجد هنا وهناك القطط السائبةوالكلاب إلا بعض السيارات المارة بسرعة جنونية لخلو الطريق، بقيت حائراً مما أضطررت للذهاب الى المصرف لكن الحارس لم ينهض من نومه العميق رغم طرق الباب عدة مرات . بعد ذلك تبين أن غالبية السكان تجعل النهار سكوناً والليل معاشا ، وفي الليل هنا تسكب العبرات، نعاني من شدة الازدحام سواءً كان سيراً على الأقدام أو بالعجلات واتذكر أحدى المراتلم نجتاز شارعاً طول أقل من كيلومتر بالسيارة مدة ثلاثة ساعات. أود أن ألخص بعض المواقف التي باتت في ذهني ثابتة:-
*يتبضع الناس في هذا الشهر الملابس والأحذية وأهم شيء للإناقة هو الخنجر(الجنبية) وكذلك بالنسبة للطعام ومنها اللوز والجوز والزبيب في النصف الثاني من الشهر.
*بعد آذان العشاء تبدأ الحركة ففي الطرقات توجد عربات متجولة أو محلات ثابتة لبيع البطاطا المسلوقة وتؤكل بإناء ذات استعمال واحد بعد إضافة الفلفل الحار وبعض البهارات لم أذق منها كوني لا أحبذ البطاطا ويشمل ذلك عربات لبيع الخيار أو اللوبيا الخضراء المسلوقة أو بعض الحلوى الطرية أو ثمرة الصنوبر(البلس) أو الرقي بعد تقطيعه.
*كذلك توجد عربات ليلا ونهاراً تحمل مكبرات الصوت بشكل رهيب يقرأ فيها القرآن الكريم بأصوات عدد من القراء. وكذلك باعة متجولة لبيع المسابح لغرض التسبيح والتهليل لله تعالى.
*أغلب الجوامع تبدأ بالتسبيح وذكر الله عز وجل إبتداءً من الساعة الثانية بعد منتصف الليل الى آذان الفجر وصلاة الفجر تنقل مباشرة عبر مكبرات الصوت المثبتة في الجوامع والجميل في أن الجميع ملتزم في أداء صلاة الجماعة في الأوقات الخمسة وحتى في عيادة الطبيب يكون الطبيب إماماً للمرضى والمراجعين وموظفي العيادة في صالة مخصصة للصلاة كذلك الدوائروالمكاتب الرسمية وغيرالرسمية.
*القات الذي يتناوله الناس عن طريق المضغ هو أكبر معضلة لمعظم اليمنيين حيث تعودوا عليها في حياتهم كالإدمان على التدخين والخمر، وحدثني أحد الأصدقاء عن حالتهم أثناء الإمساك وقبل صلاة الفجر منهم من يفتي بالاستمرار بمضغ القات (التخزين) أثناء الصلاة ؛ ولاحظت أن القات مؤثراً على سلوكية بعض الرجال لذا هناك في الطرقات خصومات وصراعات بالخناجر (الجنبية) لذا فإن مراكز الشرطة تزدحم بالشكاوى وقت العصر حيث يصاب بعضهم بالهستيريا والعصبية نتيجة عدم تعاطيه وقت الصوم .
*العيادات الطبية تعمل بعد الساعة التاسعة ليلاً وكان لي موعد عند أحد الأطباء الساعة الثانية ليلا وينتهي العمل بعد صلاة الفجر كذلك المركز التجارية والمالية وليس هناك حرج في الاتصالات هاتفيا بعد منتصف الليل حتى وإن كان مشتبها برقم هاتفك.
*المرأة المنقبة لها الحرية في التجوال والتبضع لوحدها أو مع اسرتها ولها احترام بشكل كبير جداً ولها المكان المفضل والمنفصل في المقاعد بالحافلات العامة وكثيراً من الأحيان أرى بعض النسوة يعودن إلى مساكنهن بوقت متأخر من الليل لوحدها.
*البضاعة ترد بأي وقت بعد جلب فاتورة الشراء وتستطيع أسترجاع ثمنها وشراء غيرها حيث الأسعار مناسبة ولا توجد حالة رفع الأسعار بهذا الشهر.
*توزع الأعمال على أيام الاسبوع فزيارة الاقرباء والأصدقاء في يوم الأحد وفي يوم الخميس المخصص للفقراء تسير أفواج من المتسولين بشكل طابور في الشارع التجاري الرئيسي مارين على كل المحلات والمكاتب والدوائر ويستمر من الصباح حتى منتصف الليل و طوابير من المتسولين يجلسون ليلاً أمام أبواب الأغنياء بانتظار الهبات والمعونات التي ستقدم لهم إضافةإلى بعض ميسوري الحال يقوم بتوزيع المواد الغذائية على الفقراء والموظفين بشكل مثالي وفي غاية الكرم بمختلف الأطعمة والعصائر لذلك لكل يوم من أيام الأسبوع له عمل خاص .
*أجواء العيد يختلف عمّا هو عندنا حيث حركة الشباب والصبية والناس في الشوارع ، في حين شوارع العاصمة صنعاء بعد صلاة العيد تكون شبه مهجورة وخالية من البشر أغلب سكانها يسافرون إلى أقربائهم خارج المدينة . وفي أحد الأعياد كنت لوحدي مما استوحشني الموقف جدا للشعور بالغربة مما اضطررت إلى دعوة موظف بالذهاب معي إلى عدن على حسابيالخاص لقضاء أيام الإجازة التي عادة تكون أكثر من عشرة أيام حيث هناك تقليد شعبي وعرف أن الأيام بعد العيد تسمى(سبلة العيد) فلا يجوز العمل فيها ومخصصة للتخزين فقط أي مضغ القات.
هذا جزء ما أتذكره في أيام رمضان قبل سنوات قليلة خلت.