يعد الاديب عبد الكريم العامري من الاعلام العراقية البارزة في مجال الادب ، صدرت له اعمال شعرية عدة كان منها ( مخابىء)، (لا احد قبل الاوان)،( كل جسدي مشاع)، واعمال مسرحية (مسرحيات معاصرة من العراق) ضم هذا الاصدار عددا كبيرا من الاعمال المسرحية، واعمال روائية (راشد وبحيرة الحروف الجميلة)، (الطريق الى الملح) ،(عنبر سعيد) ،(غزو) وغيرها من الاعمال الادبية التي تجاوزت الحدود المحلية الى بلدان اخرى، هذه القراءة محاولة لمقاربة النص المسرحي (رجل الاسئلة) من خلال ظاهرة التضاد التي تعد احدى البنى الاسلوبية القائمة على التوتر والعمق واثارة الجدل بوجود حال التناقض والصراع والتقابل بين الاضداد، وغالبا ماتكون الثنائيات الضدية هي العنصر الاكثر اهمية بين مكنونات النص المسرحي كأسلوب بصيغ متعددة تكسر رتابة النص وجموده وذلك بأثارة حساسية المتلقي ومفاجأته بما هو غير متوقع من مفردات وعبارات وصور ومواقف بالجمع بين الشيء وضده، وهذه البنية هي اكثر البنى انتشارا في الخطاب الادبي عموما والمسرحي على وجه الخصوص، اذ تكمن قيمة التضاد الاسلوبية في نظم العلاقات القائمة بين المتضادين بثنائيات ضدية ليست سطحية كثنائية المفردة او الجزء مثل الليل والنهار او الاسود والابيض او الشدة واللين وغيرها من المتضادات التي تعتمد المفردة بل كثنائية الاضداد المتعاقبة او ثنائية الواحد والمادة او ثنائية الواحد واللامتناهي او عالم المحسوس والمعلوم باشكاليات قائمة على الاثبات والنفي، اذ يعتمدها النص المسرحي في بنائيته وتكامله لأثارة صراعات داخلية فيها وخارجية تعمل على تصاعد الفعل الدرامي وتعميقه بتكرارها بصيغ متعددة واحلالها تارة واخفائها تارة اخرى ليكتسب النص طبيعته الجدلية، وهذا ما تجسد في بنية نص (رجل الاسئلة) القائمة على التضاد او التقابل معبرة عن التوتر الحاد والاحوال النفسية المتأزمة لشخصية الرجل، اذ لا يقف المؤلف عبد الكريم العامري عند الجانب السطحي للالفاظ وانما يتجاوز ذلك الاطار الخارجي مخترقا الطبقات الدلالية العميقة والغائرة في النفس والتي مثلها بشخصية المرأة حاملة الكيس الثقيل، اذ انه استغنى عن الطريقة المباشرة في ايصال افكاره ومشاعره ولجأ الى التصريح بها بواسطة ما يعادلها موضوعيا من العناصر الاخرى او ما يرتبط بها ليلقي المسؤولية على عاتق المتلقي في ادراك الحالة النفسية بدقة ملاحظته وعمقه وتأمله لتحليل المواقف والافكار مستخدما شتى انواع التضاد الاسلوبي فالانفصال بين الذات والموضوع يعد وجهة من وجوه الصراع مع الواقع والانقسام بين رفض الواقع وقبوله، والانقياد الى ماهو قائم والانجذاب الى ما هو ممكن ومرغوب في تحقيقه، فشخصية الرجل رفضت الواقع المؤلم وما خبرته فيه من تجارب قاسية رفضا يميل من الجمع مع الاخرين الى الافراد والعزلة عنهم بالخروج من متاهات مدينته المرعبة بما هي عليه وما عاشه من مآسي وتجارب موجعة فيها باحثا عن ما يريده هو ليكون الصراع قائما بين الذات والموضوع لوجود ثنائية التضاد التي تحاول الفصل بينهما.
(الرجل:… الناس يفرون من الطرق الاخرى، اما انا فأخترت هذه الطرق الطويلة التي لا يمضي فيها احد، لا اريد احداً معي.. ربما ينتهك خصوصياتي يكفي ما لقيته في تلك المدينة التي كانت ذات يوم ملاذا لي فأضحت جحيما).
شتان ما بين الملاذ الآمن والجحيم الحارق تلك الثنائية الصورية المتضادة خلقت في دواخل الرجل صراعات عدة بين ذاته المعذبة وموضوع العودة او الرحيل من تلك المدينة حاملا معه اسئلة كثيرة اثقلت كاهله، كما طرح المؤلف تضادا قائما على التقابل في الصور معتمدا في بنائه النصي على خلق صور متقابلة منبعها الواقع ببنائية تجاربه المتضادة والمتقابلة بتشكيل جمالي يجسده موقف الرجل من الواقع بين الماضي والحاضر والذات والواقع لينبىء بظهور صراع ونزاع شديدين ومواجهة بين ما هو موجود وما ينبغي ان يوجد، فلتضاد الكائن بين صورة المرأة المقيدة والتي تعاني الألم وتحمل دلالة النفس وتوسلاتها بالرجل ان يفك قيدها بعد ان فرضه الواقع عليها وفك القيد هو رفض لما هو موجود وصورة الرجل الذي يعاملها ببرود وشرود بعد ان توهم انه نال حريته فعلا بخروجه من السجن معتقدا ان الحرية تنال بالخروج من خلف القضبان، التضاد بين هاتين الصورتين ينبىء بحدوث نزاع وصراع يبدو خارجيا سطحيا بين امراة ورجل الا انه اعمق من ذلك هو صراع داخلي بين الرجل ونفسه ودواخله وما ملأه الواقع من خبرات موجعة في صور ذهنية لا تفارق تفكيره دائمة الاسترجاع للواقع المؤلم الذي عاشه وطالما اثار غضبه وحنقه على مدينته ومن فيها.
(الرجل: ما الذي يهمك ؟
المرأة: ان تفتح قيدي انه يؤلمني هيا.. هيا يا رجل لا تكثر الأسئلة التي تعرف اجابتها .
الرجل: لو اعرف ما سألت.
المرأة: ها قد عدت لثرثرتك.. انا اتألم وانت تسأل.
الرجل: وانا احتاج الى الراحة.
المرأة: تريح نفسك وتترك غيرك.
الرجل: لا يهمني غيري.
المراة: يا لك من اناني وفاقد للمشاعر تناديك امرأة ولا تحرك ساكنا
الرجل: كلامك هذا يثير غضبي…)
وقد قابل المؤلف بين المشاهد مبتعدا عن الالفاظ الجزئية السطحية للتضاد في اطار المقطع معتمدا على تجمع الصور في لوحات يقابل بعضها بعضا مقابلة تعارض وتناظر بغية ثبيت الموقف لأتساع دائرة الصراع بين الرجل والمرأة او بالاحرى بين الرجل ونفسه في مديات زمنية مختلفة،اذ استبصر مايبدو متعارضا ومتناقضا بين لوحة واخرى للحظات ماضية متطلعة لمستقبل مغاير يخلو من كل تلك النزاعات والاوجاع التي نالت منه فيما مضى.
(الرجل: اي نوع من النساء انت؟
المرأة: لو اجبتك لن تتوقف عن اسئلتك اسمع ايها الرجل تلك الاسئلة التي تدور في رأسك هي واحدة من قيودك متى تتحرر منها ربما تجد طريقك انت الان تدور في فلك الاسئلة سؤال يحيلك الى سؤال تمنعك من ان تجد الاجابات حاول ان تتخلص منها لتجد الطمأنينة التي تبحث عنها)
فبرغم قساوة الماضي وتساؤلاته الثقيلة الخانقة التي لاحقت الرجل الا انه مازال يبحث عن الطمأنينة بعد ان اخترقت تلك التساؤلات ازمانه المختلفة ومازالت ملازمة له في رحلته للبحث عن الخلاص من واقعه نجده مستسلما لها ولما هو موجود وتارة اخرى نجده متمردا عليها آملا الخلاص من كل ما هو موجود وصولا لما يبتغيه فعلا، فالتضاد الحاصل يعمق تجربته وصراعاته المتأزمة التي احالته الى ما هو عليه مليئا بالقلق خائر القوى لا يجرؤ على المغادرة او الرحيل الذي عزم عليه تناقضات تتصارع في دواخله الا انه يبدو تائها بلا خرائط وسط مساحات شاسعة، نزاعات بين قدرته على مغادرة الماضي من عدمها بين حلمه في الاطمئنان وكوابيس الارق المقلقة فبتكرار هذه التناقضات يؤجج المؤلف الصراع ليصل الى قمته في البناء الدرامي داحضا بذلك الركود والجمود بصبغة جمالية انيقة.
(الرجل: وجودك هنا يقلقني… ان كنت عابرة طريق ارحلي..
المرأة: ليس من شأنك ان تجبرني على ذلك.. ان كان وجودي يقلق فغادر انت ان استطعت
الرجل: انا حر فيما افعل.. من قال لك لا استطيع مازلت قويا وقادرا على الاستمرار
المرأة:ان استطعت)
انفتح المؤلف في بنية نصية قائمة على مستويات متداخلة بحركة تموجية تساير حركة الذات المتطلعة الى الحرية والانعتاق من تجارب الماضي القاسية ساعيا الى الخرق والانقلاب وتجاوز الواقع المألوف للخلاص من قساوة الموجود ببريق امل مستقبلي عارضا ازمان متفاوتة مظلمة عانى منها الرجل الا انها موحية بذات الوقت الى النور، فعلى الرغم من الصعاب التي واجهها فهناك اصرار وبارقة امل لديه تنهي كل ما كان لبدايات قاسية بنهاية مريحة وآمنة.
(“يجلس على صخرة في الطريق” لأستريح بعض الوقت لتدارك افكاري .. لا اعرف متى اصل لكني حتما سأصل.. دائما تكون البدايات صعبة لكنها سرعان ما تنتهي)
اتسم نص (رجل الاسئلة) بأنتاجية نصية ذات تركيب بنائي ينهض بثنائيات تضادية على مستو عميق منتجا لدلالة نصية وقوة تصل الى قمة سحره وتمايزه بحركة التفاعلات والنزاعات بين طرفي التضاد.