تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد ** بعدوى فما أعدتني الثؤباء
كان الشاعر المصري عبد الحميد الديب(1898/1943) شاعرا موهوبا ولكنه عاش بائسا ومات فقيرا أرسله والده للدراسة في الأزهر فضاق بمناهج الأزهر وعاش حياة بوهمية حتى أن سيد درويش(1892/1923) نابغة الموسيقى احتضنه اعترافا بنبوغه واستدرارا لشاعريته التي فكر في استغلالها بتحويل شعر الديب إلى أغاني لكن سيد درويش عاجلته منيته فعاش الديب بعد ذلك حياة الصعلكة والجوع دون أن يكف عن هجاء الناس والحياة وكان الناس يتبادلون نكته وشعره حتى أن إحدى الجرائد اتفقت معه على نشر قصيدة له مع منحه قليلا من الأفيون كمقابل ودأب الديب على نشر قصيدة كل أسبوع مقابل الأفيون لكن الجريدة لم تستطع بعد ذلك تلبية رغبة الديب لغلاء سعر الأفيون فقرر أصحابها خداعه بتقديم مسحوق غذائي على أنه أفيون استدرارا لشعر الشاعر لأن الديب هو الذي ساهم في انتشار الجريدة ومواظبة قرائها على قراءتها لكنه علم بعد ذلك أن المسحوق الذي كان يستهلكه لم يكن أفيونا فانهال على رئيس تحرير الجريدة بالسب والشتم ولم يعد إلى نشر شعره في الجريدة، وعاد إلى التشرد والصعلكة والنوم في المساجد وعلى الأرصفة حتى اخترمته المنايا في شرخ الشباب شأنه شأن النابغين الذين لم يعيشوا أمدا طويلا.
وأنا أسوق هذه القصة للدلالة على أن ما يحدث للناس في مجتمعنا العربي من تداول للغة يشبه كثيرا مسحوق الديب الذي لم يكن أفيونا والعجيب في القصة أن الديب كان ينتشي ويغيب عن الوعي من اعتقاده أنه يستهلك أفيونا فالناس تستسلم لخدر الكلمات دون فهم معناها وتفكيكها للوصول إلى ما تدل عليه وما هو رصيدها في دنيا العلم والواقع ، واللغة العربية لغة حافلة بما يشبه مسحوق الديب مع إحداث التأثير نفسه الذي يحدثه الأفيون فانظر إلى كلمة “عالم” و”علامة” و”شيخ العلماء” إن الإنسان العربي يستسلم لخدرها بمجرد سماع اللفظة دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتساؤل عن صلة الكلمة حقيقة بالعلم (العلم بالمفهوم الكونتي) وبالتالي يصدق الفرد العربي حتى ولو كان متعلما في أرقى الجامعات كل ما يقوله هذا الذي يدعى بالعالم حتى لو قال أن الأرض ليست كروية ، وأن أفضل العلوم الأراجيز، ولا يقف الأمر عند لفظة عالم بل يشمل الألقاب العلمية ككلمة” دكتور ” إن اللفظة وحدها كفيلة بذيوع الكتاب حتى لو كان تافها لا يستحق القراءة وكفيلة بنيل احترام الناس وعدم الاعتراض على المتصف بها وهو صاحب الحجة والحق والحقيقة حتى لو كان فاشلا علميا بمقاييس العلم الحقيقية ولذا ترى المشرقي يلهث خلف الألقاب ويشتريها بالمال حتى أن الدرجات العلمية في جامعاتنا مجال للسمسرة والنصب والسرقات العلمية والتزوير لأن سلطة الكلمة كفيلة بإعطاء الاعتبار للشخص وكم ترى في تلفزيوناتنا التراشق بلفظة الدكتور والكل ينتشي بهذه اللعبة ويستسلم لسلطة اللفظة دون فحص لرصيد الكلمة في دنيا العلم بينما ترى في الغرب العلماء حقيقة والأساتذة الكبار ينادون بأسمائهم مجردين من كل لقب حتى لا يكون لكلامهم سلطة تضلل وتخدع المستمع عن الفحص والنقد والاعتراض ، ويمكن أن تجد آلاف الأمثلة لهذا المثال فالألفاظ التي تشبه مسحوق الديب سواء في السياسة أو العلم أو الثقافة أو الأدب أو الدين وألقاب الدين أخطر أنواع الألفاظ التي تشبه مسحوق الديب مثل” الإمام الأكبر” أو” المفتي الأعظم “أو “لجنة كبار العلماء،” و”جمعية العلماء” ولاحظ التلاعب دائما بكلمة العلم فهي لا تشير حقيقة إلى العلم ، وأنت ترى لو ناظر أحد من العلماء الحقيقيين (العلم بالمفهوم الكونتي) لهزمه رجل الدين بسب امتلاكه للرأسمال الرمزي وتلاعبه اللامعقول بمعاني الألفاظ بل أن لفظة “الدين” ذاتها أكثر الكلمات شبها بمسحوق الديب إن الفرد العربي يعيش في فضاء ديني لغته دينية وثقافته دينية وتاريخه ديني وأعياده دينية والأمة العربية هي الأمة الوحيدة التي لم تحسم أمر الدين والعلم وتفرق بينهما وتبني مناهج تربوية على أسس علمية لا يختلط فيها الحابل بالنابل حتى أنى محمد أركون علل التوجه إلى الكتابة بالفرنسية إلى هلامية الألفاظ العربية وسيطرة الدين عليها والنزوع إلى التبجيل والتقديس والفراغات المفهومية وسوء التأويل من جهة أخرى. والأمر نفسه ينسحب على السياسة وما في تراتبيتها إن مجرد التلفظ بها يجعل المواطن العربي يستسلم لخدر الكلمة بينما ترى الأمم الناهضة تخلصت من هذه الألفاظ حتى لا تخدر العقل بالوهم وتحاصر الوعي بالسلطة مهما كانت.
ولا تكتفي الثقافة العربية بالألفاظ مفردة بل تزيد سلسلة من الإضافات على سبيل الوصف التي تشل الوعي تماما وتغيب العقل لتفسح المجال للعاطفة للتمجيد والتقديس مثل” فريد دهره” و”وحيد عصره” “عالم العلماء” “أسطون العلماء””الجهبذ” “حجة الزمان الفهامة والحبر العلامة ” وتقرأ الكتاب بعقل ناقد لا يستسلم لخدر الكلمة ومدرك تماما لسلطة اللغة فترى الكتاب لا يستحق صاحبه كل هذا التمجيد . وسلطة اللغة أدت إلى سلطة الرمز فوجود قصاصة جريدة مكتوبة باللغة العربية مرمية في الشارع تؤدي بالمواطن العربي إلى المسارعة بانتشالها وربما تقبيلها مع أن الجريدة قد تكون سياسية ولكن سلطة اللغة هنا تماهت مع سلطة الرمز فالأحرف العربية مقدسة ولربما ذلك المواطن نفسه يرى قصاصة أخرى مرمية على الرصيف مكتوبة بالفرنسية فلا يهتم لها مع أنها قد تناولت مسألة دينية .
إن حضور رجل دين مثل القرضاوي أو عميد جامعة ما في حديث تلفزيوني أو مناقشة مع شخص آخر أو مواجهة يجعل المشاهد يميل لجهة القرضاوي أو عميد الجامعة إذا ما كان الطرف الآخر لا يمتلك شهادة العميد أو الرأسمال الرمزي الذي يمتلكه القرضاوي مع أن الحقيقة قد تكون في حوزة هذا الشخص المتواضع وهذه معضلة العقل العربي الذي يرفض في صلف التحرر من ديكتاتورية الألفاظ.
وتكفي الألفاظ الأخرى التي يطلقها رجل الدين أو الأكاديمي المالك للقب على التنفير من الطرف الآخر إنها لعبة الألفاظ وكيمياؤها الساحرة وأفيونها المخدر علماني، زنديق، مارق، مرتدـ رجعي ، حداثي مخرب، فوضوي ، يساري…..إلخ
لقد قيل مرة أن المستبد يسرق الإرادة ورجل الدين المتحالف مع المستبد يسرق الوعي وهو أخطر وما خطره آت إلا من كيمياء الألفاظ التي تحدث في العقل تفاعلا كيميائيا يجعله يستقيل من مهمة الفحص والمراقبة والاعتراض. أذكر هنا بالمناظرة التي جرت بين فؤاد زكريا من جهة والشيخ القرضاي والغزالي في أواسط الثمانينات وقد تابعت هذه المناظرة في مدرج جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية وسط حشد من الأصوليين وخلتني في ملعب لكرة القدم بين مشجعين للزمالك أو الأهلي لا متابعين وناقدين وباحثين عن الحقيقة والمعرفة بغض النظر عن صاحبها “أن تعرف الرجال بالحق لا أن تعرف الحق بالرجال لقد كانت حشود الأصوليين تهيج كلما تكلم فؤاد زكريا وتشوش عليه وتكبر كلما تكلم الغزالي أو القرضاوي مع أنهما كانا يستعملان مسحوق الديب ويتلاعبان بالرأسمال الرمزي حتى أني أذكر أن فؤاد زكريا طلب من القرضاوي خفض صوته والتكلم بهدوء فاعترض الشيخ مجلجلا صوته: (إن صوتي في الحق جهير عال ) وانظر إلى التلاعب بلفظة الحق إنه يدعي أنه مالكها بينما غريمه على ضلال ، وهو الأمر ذاته الذي رأيته في مناظرة بين شريف حتاتة ونوال السعداوي من جهة ومحمد عمارة من جهة أخرى لقد طلب حتاتة من عمارة التكلم بهدوء وعدم رفع الصوت وهي ميزة تميز كل الإسلاميين معتدلين أو متطرفين إنها ثورة باطنية لا واعية تندفع كالبركان لتجعل الخصم يتفحم ويحترق لا بالعلم وبالتي هي أحسن بل بشيء من سلطة اللفظ وسلطة التاريخ وسلطة الرموز فالعمامة أو العباءة التي يرتديها عمارة على الثياب الأروبية في تركيب متنافر بين الحداثة والأصالة تجعل لكلامه مصداقية أمام خصم أعزل إلا من المعنى.
والأمر ذاته حدث في معرض القاهرة أثناء المناظرة الشهيرة بين محمد الغزالي ومحمد عمارة ومأمون الهضيبي من جهة وفرج فودة من جهة أخرى لقد كان الطرف الآخر هائجا مائجا كاصطخاب موج البحر يتلاعب بالألفاظ وبالرأسمال الرمزي بينما كان فرج فودة هادئا وكانت اللفظة الأخرى التي أشبهت مسحوق الديب عدم التخصص أي أن فرج فودة مهندس زراعي لا يجوز له التكلم في الدين وليترك الكلام فيه لرجل الدين وهو الأمر ذاته الذي عاناه زكي نجيب محمود ومصطفى محمود حتى جاءت اللفظة التي أقصت فرج فودة من الحياة وهي كلمة” مرتد “فدفع حياته ثمنا لتلك المناظرة التي واجه فيها بشجاعة هؤلاء الثلاثة الذين كانوا في ملعب القاهرة حيث المدرجات كلها أهلاوية أو زملكاوية وكانت الجماهير الأصولية تناصر وتشجع ولكن لا تتعلم وتفهم وتنقد وتعترض إنه الاستسلام التام لسلطان الألفاظ.
إن للألفاظ مفعولا سحريا وطاقة عجيبة تشل وتبهر وتكتم على الأنفاس بل تشل حتى الإرادة وسأسوق هذين المثالين كدليل علمي على ما أقوله فقد أجرى مجموعة من العلماء تجارب في أمريكا على ثلاث عينات من الطلاب تمثلت في عمل مقابلة مع شخصيات نافذة منها الرئيس الأمريكي ووزير وشخص إعلامي كبير وفنان مشهور وثري ووجيه وقيل للفئة الأولى من الطلا ب إن المطلوب عمل مقابلة مع شخصيات يستحيل الوصول إليها (واحتفظ بكلمة يستحيل) بينما الفئة الأخرى قيل لها المطلوب عمل لقاء مع شخصيات يمكن الوصول إليها (واحتفظ بكلمة يمكن) أما الفئة الثالثة فقيل لها شخصيات( يسهل الوصول إليها ) واحتفظ بكلمة يسهل فماذا كانت النتيجة ؟ لقد نجحت الفئة الثالثة نجاحا باهرا ونجحت الثانية قليلا بينما فشلت الأولى تماما والسبب الألفاظ الثلاث (يستحيل) (ممكن الوصول إليها )(سهل الوصول إليها ) ألا ترى أن الألفاظ لعبت بالعقل وبالإرادة معا وقس هذا على واقعنا: من أنت حتى تعترض على فلان؟ يستحيل نقد هذا العالم مع أن ما عند هذا العالم- لو سلمنا جدلا بعلمه- بعض أوهام مختلطة بالحق رضعناها من ثدي أمسنا وترهات اقتبلناها من كف يومنا .
وكمثال ثان أسوقه فقد أعطى أستاذ في أمريكا لطلابه مسألة رياضية غاية في التعقيد وقال للطلاب إن هذه المسألة صعبة محيرة وعرة وحدث أن وصل طالب متأخرا إلى قاعة الامتحان فنجح في حل المسألة لأنه لم يخضع لكيمياء الألفاظ وسلطة الكلمات (صعبة محيرة وعرة)
ما أكثر ما في ثقافتنا وحياتنا وسياستنا واقتصادنا وديننا من ضلالات وأوهام تم توظيبها في كلمات لها مفعول سحري مثل مسحوق الديب فشلت العقل عن التفكير والإرادة عن العمل والعاطفة عن الاعتدال.
والمطلوب من العقل العربي التحرر من هذه السلطة المستبدة “سلطة اللغة ” والاحتكام إلى الحق وحده وهو أن يكون الحق بغية الإنسان وطلبته ومنيته فيعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.