جدراني السميكة تتشقق،
يا ليتها ما شيدت!
أسقفي الشامخة تتهاوى نحو الأرض،
يا ليتها ما ارتفعت!
أنفاسي الأبية تتقطع،
يا ليتها لم ترى نور الحياة!
وجهي الطيني يرتجف ويتداعى،
فمن سيحفظ تفاصيل جماله يا ترى؟
تراب و تبن و قصب،
أنفاس وجمال وقدم …
الكل يجادل قطار السقوط
لإلغاء رحلة النهاية،
وإن طال الأنين
واحتفل النسيان.
آه من جهلك يا إنسان،
ألا ترى أنه برحيلي
يرحل عنك ماض طويل
لن تدون كل فصوله أبدا
مهما حاولت؟
أنا القصبات المهجورة،
ألا تسمع بقايا نبض أزقتي؛
تارة نبض بأمل العودة،
وتارة بدمع ما قبل النهاية…
أنصت لهديل غرفي الحزينة،
وتحسس زواياها المظلمة،
وهي تروي حكايات قديمة طويلة،
وتردد أشعار الجدات الصوفية.
أنا القصبات التي تنتظر الهلاك،
أنا بقايا تاريخ لن يعود،
تاريخ لن يروى كما هو،
عندما ارحل،
وأنتهي إلى خراب…
أنا القصبات التي تتمسك
ببصيص من تحدي
وشذور رداء من انتظار،
لأصارع زخات الجهل،
وعنف الرياح؛
وهي تقتلع أسواري
وتغتال أسراري
لتحتفل بعيد دماري
وترقص على تفاصيل خرابي اليومي.
في كل سقوط واندثار،
أنسج الألغاز تلوى الألغاز،
وأقدم جدراني قربانا
ومقدمات،
لمن أراد التأمل في الماضي،
وسعى لفك رموزي
التي تتوالد عقدا بعد عقد،
قبيل الرحيل الأبدي.
غباري،
أنفاسي،
وترابي،
الممزوج بتبن صامد،
حديث حزين متعدد
يتجدد وينتشر
على كل الطرق المؤدية إلي،
والمطمورة بالإهمال والنسيان.
حديثي نداء خفي
يتطاير نحو السائح البعيد،
الباحث عن جمال المشهد
ورونق العمارة
ورهبة الحضرة.
حديثي،
تذكرة للتائه
في الزمن والتاريخ،
الساكن على مقربة آخر جدار
سقط من جسدي
العميق الطويل،
بالأمس القريب،
رغم صيحات روحي له
بالصمود.
حديثي طويل وحزين،
نقشت في تفاصيله
أناشيد الإهمال،
والاغتراب في الموطن
لطول انتظار العودة …
أصارع الأعاصير،
وأتحدى اللامبالاة منذ القدم،
كي أعبر تصدعات اللحظة،
وأمضي بالأجيال إلى بر الآتي،
الصاخب الغامض المفترس.
أنا التاريخ الصامت طوعا،
والتاريخ المأمور بعدم البوح!
أنا التاريخ المنفي،
الذي يرقصون لصمته،
ويهابون تشقق ألغازه،
لينطق عكس ما كتبوا،
وعكس ما أرادوا!
أنا بقايا مجد معلن،
تخلى عنه أهله،
ليحفظوا تاريخ سارقي،
وناهبهم!
أنا معقل تلك القبائل،
التي طلقت الذل والخضوع،
وتزوجت أعراف الحرية،
بضمير حي،
ك”رجل لكل الفصول”
والمحاكمات
والنهايات:
السير توماس مور،
فوصفت ظلما واستدراجا
بالمتوحشة والمتسيبة.
في عز شبابي،
أرهبت الأجنبي حينما توغل
في هذه الأرض،
لأن رحم ترابي
لا يلد إلا الأسود.
كنت المنطلق والملجأ،
وكنت الأم والأرض والوطن.
كنت بشموخي،
وتماسك أضلع جدراني،
ووفاء أهلي
إكسير استمرار عرق أصيل،
على هذه الأرض الطيبة.
كانت لي نوافذ عالية،
أرى بها الآفاق الفسيحة
في كل شروق شمس،
وفي كل غروب لها،
والآن صارت
عيونا مظلمة،
أكاد أرى بها
جزءا من أطرافي المتساقطة،
لأذرف بعدها ظلاما
لنفاد الدمع من عيوني؛
نوافذي المكشوفة!
كم مرة لمحت الغزاة
تحت جدران سوري الكبير،
كان باستطاعتي
التساقط عليهم وقتها،
لأدفنهم وينتهوا،
وتنتهي حكاية اسمها الاستعمار،
لكني…
فضلت غض الطرف،
رغم أفعالهم الشنيعة،
في الانسان والزرع واللسان..
تركتهم،
كي يذكر وجودهم أحفادي،
أن الحياة صراع لا ينتهي
حتى ينال المجد،
أو استسلام،
ففناء إلى الأبد …
(*): أفانور قصر تاريخي قديم يعود تشييده لمئات السنين، وهو يقع بواحة تودغى ( مدينة تنغير الحالية)، ويضم عددا كبيرا من القصبات المبنية بالطين الممزوج أحيانا بالتبن، أغلبها الآن يقاوم السقوط التام والاندثار التراجيدي، أولا، بعدما تم هجرها من طرف الأهالي للاستقرار بمناطق مجاورة، وثانيا، لعدم تدخل السلطات المختصة بحماية التراث والمأثر الثقافية لإنقاذها من الزوال، في ظل عجز الأهالي عن ترميمها وإعادة الحياة لها، وبالرغم من الأدوار الثقافية والسياحية والفنية والجمالية التي يمكن ان تلعبها في حالة اصلاحها، كما أن حمايتها من الاندثار هو حماية لجزء مهم من الحضارة المحلية الموغلة في القدم والهوية الأمازيغية بخصوصياتها المعمارية والفنية والجمالية والثقافية المتنوعة. ويضم هذا القصر الكبير إلى جانب تلك القصبات، ثلاثة مساجد عتيقة أبرزها مسجد إقلالن (أو إقلان)، الذي كان في ما مضى مدرسة عتيقة لتحفيظ القرآن الكريم وتكوين الفقهاء، وتلقين علوم الفقه والحديث للطلبة القادمين من مختلف المناطق المجاورة. كما يضم أيضا مجموعة من المزارات والأماكن المقدسة حسب الطقوس والمعتقدات المحلية للسكان، إضافة إلى أماكن مخصصة للطقوس الاجتماعية المختلفة (اجتماعات القبيلة، الحفلات وفن أحيدوس (غناء جماعي متعدد المواضيع والمناسبات)، الحكي الشعبي، غسل وتنظيف الثياب والأواني …الخ). والقصر كان محاطا بسور كبير(لا يزال يحتفظ بجزء منه) وتتخلله أربعة أبواب رئيسية، وأبراج للمراقبة إبان فترات الحروب والصراع مع القبائل الغازية. ويطل جزء كبير من القصر على واحة تدغى التي تتكون من بساتين عنب ونخل ورمان وتين وزيتون وتوت، وحقول تستغل في الزارعة المعيشية للسكان مثل القمح والذرى والفول والشعير والفصة. ويتميز هذا القصر بتوفره على أعراف أمازيغية فريدة من نوعها وإن كتبت بنودها باللغة العربية الممزوجة أحيانا بكلمات محلية، تنظم كل مجالات الحياة الاجتماعية للأهالي، وتتميز بدقة متناهية وواقعية وسهولة تطبيقها لأنها مستمدة من المعيش اليومي والبيئة المحلية للأهالي.
حمزة الشافعي
أفانور/ تنغير (المغرب)