اهتم الكاتب والمخرج والممثل والسيناريست سعد هدابي بالانسان المهمل المغترب في اللاوطن المنفى من ارض المتن , فحين نقرأ لهدابي فاننا نستنشق رائحة القهر ونزفر الحسرات على بقايا الانسان , فلطالما طرح تساؤلاته وتعمق في جراح الانسانية بحثا عن اجابات تسقط اقنعة الديموقراطية المعاشة في هذا العالم , فبين الارصفة والجار وعجاف والمطبرة وموجز الانباء وخطابات مسرحية عديدة تقطع دابر الشك في ان الانسان يقبع تحت طائلة التهميش والقهر يتلقفه الهلع هنا وهناك , ليتحول الواقع الى آخرمخيف حيث الرعب المطبق يؤجج سيرورة الزمان اللامتناهي في ان يكون الانسان لوحده او يموت لوحده ويعيش الغير المجهول , فيتبجح الواقع في ادارة دفة العلاقة بين الانا والآخر بعامل الخوف معرقلا السعي المندفع للانتماء , وبالتالي تنمو خرافة القسوة من رحم الخوف سالبة للعقل كل قواه للعمل والتفكير في جو من اللامان من التشتت والرعب الداخلي والفزع الشديد مما يهدد كيان الفرد كل يوم.
( هي : ما دعاك لتصرخ كحصان هائج؟
هو: انها الكوابيس …. الكوابيس )
عنف الكوابيس التي تلاحق الفرد خلقت رعبا وخوفا استطاع ان يحفز انفعالاته الضارة في صراخ هستيري ينقله الى الفراغ المؤلم لفشله في التخلص من تلك الكوابيس التي تراكمت في دواخله من سنوات الحرب المقيتة حتى باتت تؤرق راحته في زمن السلم اذ انتج المجتمع ثقافة افرزتها السلطات بسيرورة ابدية الا وهي ثقافة الخوف , الخوف من احلام المستقبل وكوابيس الماضي وهلوسات الحاضر , الخوف من مواجهة الحقيقة في انه انسان مسلوب الرجولة مسلوب سبب الحياة وماء الحياة الذي جففته الحرب بات حجارة تفج رأس الهلع في مواجهة نظرات زوجته المشوبة بالسخرية حينا والأشمئزاز حينا آخر.
( هي : ماؤك يسكن ما يعصب رأسك فقط يا زوجي العزيز .. انظر لا غيوم ولا شلالات .. ولا حتى قطرة سم .. الحرب ارتشفت كل ما يسكن غورك!!)
يحاول هو ان يثبت وجوده بلا خوف بأوهام البطولات الحربية والقتال والتضحيات وخطابات الانتصارات المبلولة باللعاب , يتوهم الثبات على ارض منزلقة بشعور سلبي يجلب الارتياح الواهم ليحارب الخوف الداخلي الذي يكبر كل ليلة مع همومه , شعور باعث للتكيف مع الفزع والهروب من التفكير في توقع الخطر فتتوالد في داخله افراخ الالم وتتكاثر بيوض الخوف التي سرعان ما ستفقس توائم رعب منتشرة في خلاياه وكما وصفته الزوجة ( هدهد خائف ).
( هو : .. كنت اصرخ .. وجرحي يصرخ.. المدافع كلها تصرخ .. حتى الجثث المبتلة بالبارود والخدر كانت تصرخ .. وانت وبكل سطوة حواء ما التفت .. ولا حتى.. ).
القسوة هنا تفرط عقد التضامن الاجتماعي بين الزوج وزوجته بمزاليج الحرب الصدئة وهي تدعس رجولته وتضغط على الجراح لتفجر ينابيع النزف المستمر , تطلق الخوف من فوهات القلوب سعيا لخراب الذات الانسانية , فالخوف يولد القسوة وهو الشعور الاقوى والقادر على اختراق كل ما للانسان من ميكانزمات دفاع , فيزداد وقع الصدام بينهما حتى يحال الى السرير الى ردهة برادات الطب العدلي بين نتاجات الحرب المفزعة وخيبات الرماد الانثوي يشب الحريق , الخوف من مواجهة الحقيقة التي يهرب منها الزوج وتمضغها الزوجة كل ليلة لتبقر الامل في بطن منتفخة او وحام مزيف حتى او ربما اشتهاءات زجاج مهشم , فيتطافر من عينيها الكره لما تتمتع به الاخريات ولرجل سلبت منه القدرة في البقاء على قيد الرجولة فيثار غبار الخوف فيها من ان تلوكها النظرات والألسن , الخوف من ان تصبح شريطا سينمائيا ساخرا يعرض في غرف النوم العامرة بالشهوات وعلى مسامع الداعرات , هكذا يتوالد الخوف الداخلي ليشظي ذوات الشخصيات , تتصاعد فيهم مشاعر متضاربة بين الشعور بالألم والقسوة والغيرة والكره المتعالي من بركان الهلع المكنون في الداخل.
تدق الكوابيس نواقيس الخطر لتبث الشعور بالخوف مما مضى وما هو آت , الخوف من بوح الاسرار ومن فضيحة الحرب العظمى في ردم ينبوع التكاثر بحفنة بارود كريه الرائحة التي طلما التصقت بفراش الزوجين , لتتراكم قيود الفكر على بعضها وتتلاحم في جدار سميك يفصلهما عن العالم الخارجي ويضعهما في زنزانة معتمة فردية كي لا يسمع الاخرون فضيحة المحارب المخيبة للآمال.
( سر المحارب الذي كسر سيفه بآخر غزوة.. وتحول الى دمية جامدة .. اراجوز يرقص فوق مائدة اللهو .. ثم يرمى به في سلة المهملات عند انتهاء الاسمار)
يصدح التفكير المعاق بنتاجات الحرب من عوق فكري وجسدي متهيئا لبناء الانزعاج النفسي عبر اضاءة النواحي المظلمة من النفس البشرية التي يحاول الزوج جاهدا نفيها الى خارج الذات مرتابا من الاخرين , سلاحه الوحيد هو الحذر منهم ومغادرة ساحة الصراع العقلي , فغريزة الهرب من رؤية الخطر الداهم جانب ادراكي عقلي والشعور بالخوف جانب انفعالي , هنا امتزج الاثنان معا داخل شخصية الزوج , فنشأ المزيج من اكثر انفعال خوفا شديدا في مواجهة ما يهدر سلامته ووجوده كحالة شعورية انفعالية بمستويات متعددة يشعر بها الانسان حسب المؤثر , وامؤثر هنا ذو فعالية عالية جدا لانه يمس رجولة الزوج في مجتمع شرقي قاسفي لسانه ونظراته وخيالاته حتى, فالزوجة بعد ما كانت مصدرا للحب والامان والسعادة المفرطة باتت خطرا يهدد وجود الزوج وهيبته لذا فانه يحاول التخلص منها ومن مصدر الخطر الذي بات يداهمه كالكوابيس , ليسرب الخوف في شقوق جراحاته في عمق بطيء يتخلله مخيال واسع الافق يجيب عن اسئلته بعد الخلاص منها بقتلها .
( هو: لا تخافي .. سأقول في التحقيق .. اني قتلتك لانك تنكرين علي حربي .. وانك لا تلدين لي الذكور التي تنتظرها الحرب ..)
تتجمع سبل الخوف على فوهة بركان الهلع , الخوف من ولادة الذكور برجولة على قيد الموت كي لا يكونوا متاعا للحرب , الخوف من الاعراف والقيم الشرقية ان ترفع حبلا لشنقه , الخوف من فضيحة العوق ونتاجاته , الخوف من الحقيقة التي وأدت التكاثر البشري , الخوف من هدر الهيبة الذكورية في مجتمع النسوة , الخوف من سطوة السلطة في التحقيق في موت الزوجة وهي على قيد الحياة , الخوف من الحياة ذاتها لانها عقيم لا تلد الا الموت , ليبقى الزوج في رحلته اللامتناهية باحثا عن الأمان في نهاية الخوف وقمع مصدره مهما كانت قرابته منه , الا انه سرعان ما يكتشف عدم قتلها وانها ما زالت تشكل خطرا في ثرثرتها التي تطحن وتلوك الحكايا , وحكايا الخوف المعتم طويلة الامد تسلب منه ما تبقى من خسائر الحرب , فيتسع افق المعنى في النص ليتجاوز الشخصانية الى مجتمع يلوك الانسان وقيمه وافكاره بايقونة الحرب ذي السيرورة اللا متناهية , حتى ان الانسان بدأ يتوهم نهاياتها بين الحين والحين ليتناول جرعة امان تخدر اوجاعه وحين يفيق يجد نفسه في لجتها من جديد , كأنه تائها في دوامة خوف وقلق ووعيد وقساوة تنمو داخله في مجتمعات لا تصنع سوى ثقافة الخوف .