تنطوي طبيعة الفن العراقي القديم ، على معطيات تؤكد القدرة على إحالة الفكري إلى آثار ونتاج فني يمثل فحوى ذلك التراكم الفكري والعقائدي في كل منسجم يشكل البنية الشاملة للثقافة الرافدينية نظرياً وتطبيقياً ، فالفن تداخل مع الحالة التعبدية التي يهتم بها الإنسان والمجتمع الرافديني على حد سواء ، فكان الحافز الأول لأفعال الإنسان في العراق القديم أعتقاده الجازم بأن الألوهية حالة طبيعية وإنها مرتبطة بالمجتمع أرتباطاً وثيقاً ، مما أكسبها بعداً طقوسياً معقداً ، تمثل في أيلاء صورة الإله الرافديني، أهمية قصوى من خلال تحفيز أطر البحث الفكري والأسطوري ، إلى المستوى المفارق لحدود الواقع ، ولذلك نجد إن نتاجات الفن العراقي القديم ، كانت تظهر صور عديدة للآلهة ، ترتبط أرتباطاً وثيق الصلة بما تؤول إليه النزعة الأشتغالية لكل حقبة فنية من حقب الحضارة في العراق القديم .
لقد كان للأساطير والمعتقدات الدينية والطقوس السحرية في بلاد الرافدين شأن كبير في أغناء أعمالهم الفنية والأدبية ، حينما شعر الإنسان بوجود قوى خفية حوله ، وقدرات كامنة في داخله ، وأختلفت تلك المعتقدات من حضارة إلى أخرى ، وكتب (مورتكارت) قائلاً : ” أنه من يود الإلمام بجوهر الفن في العراق القديم ، وجب عليه محاولة أستيعاب فكرة الإله التي كانت مقبولة آنذاك ” .
دعا الفنان إلى مقاطعة تمثيل الواقع ومحاولة تجريده وتفعيل البعد الرمزي للأشكال . حيث تكتسب طبيعة التعدد في صور الآلهة الرافدينية أهمية واضحة ، في التعبير عن المواقف والأحداث التي تعالج مشكلات المعتقد الديني آنذاك ، وتوضح تقسيمات الآلهة ، الأدوار الرئيسة والثانوية التي كانت تلعبها الآلهة المهمة ، وتلك التي تكتسب أهميتها من المعطيات الأسطورية ، المحددة ، لأشتراطات التضمين الرمزي للوحدات الجزئية الداخلة في صياغات الصور الخاصة بتلك الآلهة ، فقد جُسدت الآلهة برموز تصاحبهم في حلهم وترحالهم ليحافظوا من خلالها على الأمتداد المقدس من الداخل إلى حيث يكمن السر فيه ، إنها تعددية الأسباب المرئية التي أُختزلت إلى إله مرئي ملموس . الآلهة الخالقة (آن– أنليل – أنكي – كي }ننخرساج{)
صور الإله ( آن )
يقف الإله (آن السومري) على رأس الآلهة العراقية القديمة طيلة ثلاثة آلاف من السنين بكاملها للديانة السومرية– الأكدية، حيث تحول أسمه الى (آنو) ومنه يتسلم البشر والحكام بالدرجة الرئيسة هذا النظام وشاراته. ظهرت عدة رموز للإله ” آنو” على مشاهد الأختام والمنحوتات خلال العصور المختلفة وكانت من أهم رموزه (الصولجان – التاج الملكي ورباط الرأس– عصا الراعي). وأستناداً إلى ملحمة أنانا فأن الصولجان والتاج وغطاء الرأس الملكي وعصا الراعي موضوعة أمام آنو في السماء . وكان الرمز الرئيس الذي أستخدم لتمثيل هذا الإله هو القلنسوة ذات القرون ، على الرغم من إنها قد تستعمل للإلهين الآخرين في التثليث الأول من الآلهة . كما كان له معبد كبير في مدينة أوروك وأسمه (أي – انا) الذي يعني بالسومرية (معبد الإله) . أضحى رمز القبعة ذات القرون رمزاً ثلاثياً خاصا للآلهة الكبيرة الثالوث المقدس الأول (آنو- أنليل – وآيا) ، فقد ظهر هذا الرمز على عدة نماذج من أحجار الحدود خلال العصر البابلي ومن ذلك يبرز الرمز على حجرة حدود للملك نبوخذ نصر الأول (شكل1)
صور الإله ( أنليل )
ورد مركز الإله أنليل في النصوص السومرية المبكرة في المركز الثاني في مجمع الآلهة ولم يكن يعلوه مرتبة إلا الإله (آنو). وكان أسم أنليل يعني في السومرية الهواء والريح ، وعلى الرغم من إن الإله (أنليل) كان سيداً للأرض إلا إن توجهاته نحو البشر كانت معادية حيث خلق حسب ما ورد في إحدى الأساطير وحش (اللابو) ليتخلص من البشر. ويرمز له مثل إله الطقس بالثور البري أو بالصاعقة وهذا يعني أنه كان في الأصل يجسد قوى الطبيعة التي تجد أفضل تعبير لها على شكل الرياح والعواصف ظن وبفضل صفاته هذه كان يصب جام غضبه على شكل صواعق على أعداء الدولة البابلية ، وحتى المدن البابلية نفسها ليست في منجى من سخطه ولؤمه ، فلألهة (ننجال او ننكال) تحمله مع (آنو) مسؤولية تدمير مدينتها اور . ويمتاز الإله أنليل بكثرة ألقابه وأسمائه فهو سيد جميع البلدان ، وأبو جميع الآلهة ، والجبل الكبير، والإله الذي يقرر المصائر، والإله الذي لا رجعة لقراره ، وصاحب العينين البراقتين ، والإله الذي يمتلك بين يديه ألواح القدر ، ويحمل نفس رموز الاله (آنو) شكل (2)
صور الإله (أنكي) :
هو إله الحكمة الذي صار فيما بعد إله المياه العذبة الباطنية. وهو الذي خلق الإنسان وأحبه وأعطاه نواميس الحكمة وبعث من يعلمه فنون الحضارة والكتابة وهو الذي أنقذ الإنسان من الطوفان . وكان للإله )أنكي( في العصر السومري رمز واحد هو الإناء وقد أصبحت له فيما بعد عدة رموز. وكان السمك حيوان قديم دال عليه ، وكانت أغلب أضاحيه من السمك ولهذا صار زي كهنته عبارة عن عباءة طويلة من الرأس حتى القدمين هي جسد سمكة بكل تفاصيلها . وللإله )أنكي( شجرة مقدسة أسمها (كشكانو) أما ألقابه فهي رب حزمة القصب ، الإله ذو الإذن الكبيرة المفتوحة ، عين الماء اللامعة ، رب الحكمة ، رب التعاويذ ، نوديمود (الخالق) ، فيأمر في أسطورة (أنكي وننماخ) الإلهة (نامو) بخلق الإنسان الأول من الطين ، وفي ملحمة التكوين (أنوما اليش) يخلق (آيا) بنفسه الإنسان الأول منفذا بذلك أوامر مردوخ ، وفي أسطورة (أنكي وننخورسانجا) يوصف أنكي– آيا بخالق الآلهة الأخرى، ويوصف في المدائح الإلهية (بالذي يخلق والذي يلد). شكل (3)
صور الإلهة كي ( ننخرساج )
الإلهة (ننخرساج) هي الإلهة السومرية الأم وهي إلهة الإخصاب ، وفي جميع الأحوال يمكننا القول إن الإلهة (ننخرساج) هي رديفة (كي) ، ويقابل (آن) على الأرض الإلهة (كي) وتعني (الأرض – الأسفل) وتسمى في النصوص السومرية القديمة بأسم نادر جداً (أوراش) كزوجة للإله (آن) ويظهر الزوجان معاً في النصوص البابلية القديمة (آن وكي) . وفي العصر الأكدي تستبدل (كي) بـ(أنتوم) مؤنث (آن) لتكون قرينته ، وتحل محلها (أنانا – عشتار) بعد أن ترقى في سلم الإلوهية . ويعني أسم (كي) في اللغة السومرية (سيدة الجبل) ، وربما كان المقصود بالجبل ، الجبال الشرقية الحدودية التي كان يتصورها الإنسان القديم مقرا للآلهة (دوكو) ويأتي ذكر (ننخورسانجا) في إحدى قوائم الآلهة السومرية كإلهة أمومة في المرتبة الرابعة بعد (آن وأنليل وأنكي). وكان جميع الآلهة الكبار يقترنون بأزواج ، غير إن إلهة واحدة كانت تتمتع بالقوة العليا في المجمع الإلهي بذاتها دون أن تكون زوجة إله كبير ، فما دام أختصاصها الرئيس هو الخصوبة ، فمن الواضح إنها أستمرار للإلهة الكبرى القديمة .