كانت بدايات توفيق البصري في مدرسة السيف الابتدائية حيث ابتدأ نشاطه وهو في الخامسة من عمره لأن المدارس يومذاك كانت تجعل الفن التمثيلي جزءا من نظام الفتوة والكشافة . بالإضافة إلى ذلك كانت هناك حفلات المدارس الرسمية والأهلية التي كان الجميع يشترك فيها بحكم انتماءهم إليها طلابا ومدرسين وقد واصل البصري نشاطه المدرسي إلى عام 1951
وفي الصِبا زاد حبّه للمسرح فقام مع زملائه ممن لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة بتحويل خربة آل البدر في منطقة (الصبخة) إلى مكان جميل بعد أن قام مع زملائه ببناء سورا من الحصران لها لكي يقومون بتقديم أعمالهم المسرحية المتواضعة فيه. وقد جعلوا من قدراتهم الذاتية وقابلياتهم البسيطة موادا لتنفيذ تمثيليات ناقدة لاذعة. حيث كان الجمهور يدفع مبلغ (أربع فلوس) ويجلس على علب صدئة من الصفيح ليشاهد مشاهد مرتجلة محاكيه للواقع .
كان الفنان توفيق البصري وزملائه يقدمون هذه العروض البسيطة في خربة (آل البدر) في البصرة إبان الأربعينات، وكأي صبية كانت أمامهم الحياة الشعبية المتمثلة ببعض مظاهر ناسها مجالا ليقولوا فيها شيئا مضحكا أو ناقدا وقد برز في هذا المجال ، البصري وزملاءه ( عبد الواحد طه ، محمود عبد الرزاق ، هاشم بدر ، عبد الجليل حسن ، عبد اللطيف حسن ، عيد مبروك). وقدموا تمثيليات ( أبو جاسم لر ، أبو عتيق للبيع ، علي مجود ).
واتّسمت أعمال البصري بكشف الواقع المتخلّف ومسبباته من دون اللجوء إلى الخطابة والمبالغة والتهويل في عروضه ، وقد استوحى معلوماته من عروض فرق بغداد والأفلام السينمائية والكتب المسرحية.
وقد نشط في نهاية الأربعينات ومطلع الخمسينيات ، صالح رشدي والشيخ محمد أمين علي باشا أعيان العباس ومحمد الرديني ، وتلاهم الفنان الرائد المسرحي توفيق البصري الأكثر وعيا في طروحاته الاجتماعية والفنية بتأثير الرائد يوسف العاني ومسرحه وفرقة المسرح الشعبي التي عمل بها في بغداد. واعتمد توفيق في المسرح الاجتهاد الذاتي والتقليد والتأثير بأفلام السينما الصامتة والناطقة العربية والأجنبية …..
وقد طوروا نشاطاتهم من المشاهدات التي تقدمها المسارح الثلاث الموجودة آنذاك ، من خلال حضورهم المتواصل لها. والتي كانت حافزا لهم لتقديم مسرحيات مقتبسة من الأدب القصصي منها (وليم تل ، كريسيلر, وأمير الغابة). وكانت هذه المسارح تقع في البصرة القديمة والتي تبنتها عوائل من الطبقة الوسطى لتقديم عروض بجهودهم ومشاركة آخرين داخل بيوت الشناشيل على ضفة نهر العشار في محلة ( الصبخة الكبيرة) وكان الممثلون والممثلات من عوائلهم وأصدقاءهم والمشاهدين من أبناء المحلة ، التي ظهرت بداية توفيق البصري وعبد الواحد طه منها. ويذكر ان توفيق قد نشأ مع إخوته الفنانين الثلاثة (حافظ وقصي وضياء) وجعل من بيته مركزا للنشاط الفني والتدريبات.
وقد حصلوا هؤلاء الصبية فيما بعد على جائزة ، عندما قدم لهم (مجيد آغا حسن) مسرحه البيتي لكي يقدموا ما سبق من أعمال قُدّمت في الخرابة. كما أعدّوا مسرحية (الأخوين البخيلين) وهي محاكاة لما كانوا قد شاهدوه في السينما .
وبالرغم من أن البصري بدأ نشاطه المسرحي في إبان الأربعينات لكن التأسيس الحقيقي لهذا النشاط تبلور في الخمسينات على مسرح نادي الاتحاد الرياضي ، واستمر نشاطه حتى مطلع الستينات ليمتد إلى بغداد حيث عمل مع فرقة المسرح الشعبي .
بعدها بدأت الحركة المسرحية تأخذ طريقها إلى الناس بعدما خرجت من إطار المدرسة… حيث بدأ المسرح يشق طريقه إلى تلك المواقع التي يستطيع من خلالها تحقيق قدرا أكبر من الجمهور فبدأت الجمعيات والمنتديات الثقافية والكليات تحتل المكانة الأولى من اهتمام المسرحيين العراقيين… إلا أن النوادي الرياضية ….تُسجّل البادرة الأكثر وعيا بالمسرح…..ويلاحظ…. أن معظم الفنانين والمثقفين كانوا يشتركون في تلك النوادي للإسهام في برامجها الثقافية والترفيهية ولم تُحاك البصرة بغداد في حجم وفاعلية المسرح فقط بل وفي عرض نفس المسرحيات تقريبا ، وكان لالتقاء توفيق البصري بيوسف العاني من السعة والأهمية ما جعل البصري يُقلّد العاني ويبتكر من خلال التقليد كذلك .
إن توفيق البصري كان المرآة المخلصة لعكس النشاط المسرحي الذي أطلقه الفنان يوسف العاني خلال الخمسينات وقسم من الستينات واجتهد في تثبيت نوع خاص من الكتابة المسرحية ذات المعنى الشعبي المرتبط بالقضايا الجماهيرية.
وكان البصري على إدراك تام بأهمية هذه الجهود فكان يعمل بكل قواه على نقلها من بغداد إلى البصرة. فنقل ابتداء من السنوات الأولى من الستينات أغلب مسرحيات يوسف العاني .
لقد تحمل البصري هموم المسرح البصري ومنذ بداياته الأولى ، وكان يشعر بانه مسؤول على نشر هذا المسرح في المدينة ، ولذلك تبنى عملية التأليف والخراج والتمثيل لأغلب اعماله ، واحيانا كثيرة يلجئ الى الاعداد من خلال مشاهداته وقراءاته المستمرة ، ولم يذكر ان البصري توقف عن العطاء رغم كل المشاكل التي تعرض لها حتى وافاه الاجل في 19/11/1972، وكان بعض هذه المطاردات من قبل السلطة آنذاك، والتي تعرض خلالها الى السجن.
بقى البصري صامدا منشغلا في إمكانية تطوير وتثبيت المسرح في مدينته البصرة ، وهذا ما ثبت من خلال الفرقة المسرحية التي أسسها في نادي الجنوب الرياضي عام 1950 ، والذي افتتح اعمالها بمسرحية (الاقدار) ، وكذلك الاعمال المسرحية التي قدمها في شركة موانئ البصرة (مصلحة الموانئ العراقية سابقا) ، حيث قدم اعمالا مسرحية للأعوام (1958، و1959 ، و1960 )، وهناك كم هائل من الاعمال المسرحية التي عرضت في هذه الفرق او خارجها ، وحاول من خلال نشاطه هذا ان يؤسس كادرا فنيا من خلال اعماله التي قدمها ، وبهذا يعد البصري اول شخصية فنية أسست وطورت للحركة المسرحية في محافظة البصرة.
المصادر
1. ياسين النصير ،(أسئلة الحداثة في المسرح)، مجلة المسرح ، الطبعة الأولى ،(السليمانية)، العدد 10 ، 2008.
2. جماعة كتابات (بلا) صحيفة الفكر الجديد ، العدد52، 16/6/1973
3. حميد مجيد مال الله ،(بانوراما مسرحية)، جريدة الصباح ، ملحق فنون، (بغداد) العدد 1050 ، الاحد 25/شباط/ 2007.
4. محمد عبد الزهرة الزبيدي، (الناقد حميد مجيد مال الله تاريخا آفلا من البصرة)، جريدة الزمان الدولية(لندن)، العدد/3946في 19/3/2008.