بين صندوقي باندورا وإيمان الكبيسي .. قراءة في بنية التركيب الاستبدالي لنص (صندوق) للكاتبة إيمان الكبيسي
تذكر الأساطير الإغريقية بأن صندوق باندورا له علاقة بخلق باندورا المرأة الجميلة التي خلقها زيوس بحسب كتاب هسيود ( اعمال وايام هسيود) وقد حمل هذا الصندوق، او الجرة كما يسمونها الاغريق اصناف الشر في العالم وكان الهدف هو الانتقام من (برومثيوس) الذي خالف تعاليم زيوس، والذي يهمنا هو أن باندورا قد فتحت الجرة او الصندوق وهي تخالف زيوس ايضا حيث انطلق منه كل الشر وانتشر في انحاء الارض من كراهية وحسد ومرض وكل شيء لا يعرفه البشر من قبل، ان هذه الاسطورة تحيلنا الى معرفة ما يجري تحت لائحة نص صندوق للكاتبة (ايمان الكبيسي) الذي نشر في مجلة اسف ارت وكذلك مجلة ضفاف الدولية.
بدءا يمكن ان نفهم مستوى التركيب في النص بعد ان تستمد فيه كل مفردة من تعرفها مع سابقاتها ولاحقاتها، او علاقاتها الحضورية كما يسمونها، بحسب _سعيد عبد الجهاد_ من علم الدلالة الى علم العلامة، اما الاستبدالي فهو يتشكل من العلاقة بين المفردة الموجود على محور التركيب وبين ما تثيره من خزين ذاكري للمفردة، لذا فان العلاقات هنا علاقات غياب، وقبل ان نتناول علاقة الحضور والغياب في النص فإننا نعرج على الاسطورة بوصفها قد حددت كل علامات الشر فكانت مدعاة للموبقات كالحقد والكراهية والحسد وغيرها، من جانب اخر نتساءل ماذا يخبيء لنا صندوق الكبيسي؟ هل يحايث ما موجود في الأسطورة؟ ام ان المعالجة تختلف؟ ام ثمة امل اخر يعاكس السائد في النسق التداولي للنص؟
امتازت صياغة النص بعض الخصائص كالقصر والتكثيف واتساع المعنى والذهاب الى باطن الفكر والتلميح والعلامات معتمدا على التعاقد والاشارات والإزاحات … الخ، ولأجل الاجابة على التساؤلات اعلاه فيمكن القول هنا بأن ثيمة النص تتحدث عن صبي واسكافي بعد ان اودعته امه لدى الاسكافي بحثا عن قوتٍ يومي بعد ان فقده ابيه، من جانب اخر يحاول الاسكافي تعليم الصبي عدة تعاليم كي يبني شخصيته وفق ما يرتأيه الاسكافي، الا ان الصبي يرفض منذ الوهلة الاولى الاذعان له بعد ذلك تدخل قوة امنية لتمسك الصبي وتحقق معه بعد ذهاب الاسكافي الى الصلاة بوصفها تجارة _ كما يدعي_ لتتحول مجرى الاحداث من خلال التحقيق الذي يجريه الضابط ثم تأتي قوة ملثمة اخرى لتحرر الطفل ليعود الاسكافي ليبث تعاليمه من جديد والتي نكتشف فيما بعد بأنها افكار ارهابية تؤدي بالأخير الى ان يتجاوزها ويتحرر من قيده ليفجر نفسه بين الارهابين من اجل الوطن كما تشير الكاتبة، انما اشرنا اليه انفا هو ظاهر النص في بنياته العامة ولا يدخل ضمن التركيب الذي نبحث عنه في قراءتنا هذه، ولكننا حين نقف على بعض العلامات الشاخصة فأننا سنجدها تستنطق بعض التراكيب حاملة أبعادا تأويلية عميقة، فالصندوق الذي يشتغل عليه الاسكافي تجاوز بعده الايقوني الى عدة علامات سنشير لها بعد ان نقرأ بعض التراكيب التي جاءت على لسان الاسكافي ( لا تلوث الصندوق بتلك الشعارات) وهو يخاطب الصبي وكذلك ( وانت خارج الصندوق لا كرامة لك) ثم اشارة الصبي ( هل يحق لنا اختيار الصندوق؟؟) وفيما تقدم من التراكيب اشارات على ان للصندوق منحى اخر من الدلالات فربما ( وطن، تابوت، صندوق اسكافي، مكان الاسرار، السجن …الخ) ويتوقف ذلك على علاقات الحضور والغياب او سياقات التركيب ما قبل وما بعد، وقد اشارت الكاتبة الى كل تلك الدلالات بل وتعدت الى ابعد من ذلك:
الصبي /هل احببت هذا الصندوق؟ هل عشقت يوما ؟
الاسكافي // مضى زمن طويل على تلك المشاعر، لكني بالطبع عاشق للحياة.
بمعنى اننا لا يمكن ان نحدد معنى واحد للعلاقات اللفظية ولا نستدل عليها الا بمعرفة التتابع لها وبيان موضعها في السياق، ثم ان النص وفق هذا المفهوم اخذ مسارات اخرى عبر لغته التي حفلت بالتراكيب الفلسفية نوعا ما من قبيل
الاسكافي // عود ظهرك على الانحناء، وطاطا الهامة والا لن.
الصبي // (مستنكرا) ولدت حرا وهذه اشارة للمبادئ والى الذي يتمرد ولا يقبل بالانحناء، ثم تنتقل الكاتبة لتحيلنا الى قراءة الراهن عبر اشارات اسقاطية جرت على لسان الاسكافي.
( لا تحدد ذاتك بقيم فارغة فمهما كبرت فستبقى مع الاحذية) وقد حاولت الكاتبة ان تبعث بعض الرسائل للذين يحاولون ان يعتلوا اماكن لا علاقة لهم بها وليست على مقاساتهم فأنهم سيبقون او يعودون الى حقيقتهم التي انطلقوا منها، ثم الكاتبة تعطي تصورا خاصا باعتزازها بالماضي الذي مثلته عبر شخصية الصبي ( كنت ذلك الفارس الذي يعتلي صهوة جواده، واليوم انا مجرد حصاة في حذوة ذلك الفرس) اعتقد ان هذه الجملة من اخطر الجمل التي ارسلتها الكاتبة ضمن خطابها السري وهي إشارات فيها الكثير من الجدل لعلها لا تتخطى عقل القارئ اللبيب، ثم ينتقل الحدث بنا الى اتجاه اخر بدخول القوة الامنية التي اشرنا لها وخلق مشهد التحقيق مع الصبي وجاء بحسب فهمي لتحقيق ثلاثة امور ..الاول/تغيير مسارات الحدث باتجاه تأسيس للمرحلة التالية.
والثاني/ تطوير الحبكة الثانية دراميا وخلق تفاعل اقوى.
ثالثا// توفير عنصر المفاجئة وخلق شبهة في عمل الاسكافي وادخال الصبي هذه الدائرة دون ان يشعر بها.
وقد كشف هذا المشهد ظاهرة المتاجرة بالممنوع ولكن لم تشر الكاتبة عن طبيعة الممنوع واكتفت بكلمة مستورد بحسب قول ضابط التحقيق (تتعامل مع المستورد وهذا ممنوع في مدينتنا ) وربما هي اشارة الى الدخلاء والوافدين، سواء كانوا شخوصا او افكارا او حتى أدوات او سلوك.
ومن التراكيب التي نؤشر فيها علاقتي الحضور والغياب واعني حضور النص وغياب المعنى من قبيل قول الضابط ( لا شيء دون ثمن، ربما هي من سيحاسب على الفاتورة_ يستدرك_ هذا ان شاءت وشاء لها لهوى) ….وهنا اشارة الى ام الصبي وما يمكن ان يحصل عليه من المساومة وهذه مواقف حاصله في المجتمع وواقعية سيق بها هنا لتعرية المؤسسات المعنية بهذا الشأن.
يركز ارسطو في نظرته الى التأليف المسرحي الى خيال المؤلف وما يلعبه في العملية الانتاجية بوصفها عملية ابداعية، وهذا الخيال _ بتقديري _ وظيفته ربط البنيات المختلفة في النص ومنها التراكيب اللفظية والقدرة الاستبدالية لتحريك النص على وفق مقتضى الحال لحين الوصول الى الخاتمة، عبر امساك العناصر التوليدية له باستخدام عناصر بناء النص بشكل تفاعلي يثير الدهشة والمعرفة معا، وهذا ما قامت به الكاتبة حين اسست من الصندوق منظومة علامات قرأت من خلالها الواقع المتردي وقد قالت كلمتها بدخول القوة الملثمة فهي بدلا من ان تخلصه ارادة زجه في عملية ارهابية لولا حالة اليقظة التي قامت بها الكاتبة عبر تفعيل شخصية الاسكافي ليعلن الاخير بان المبادئ/التي تعلمها كانت خاطئة وان منهجية هذه الجماعات لا اساس/لها من العقيدة الالهية وانا خاتمة أصحابها سيئة لأنها تودي بحياة الكثيرين.
ومما تقدم يمكن ان نوضح بعض المؤشرات على النحو الاتي.
اولا/لا يختلف صندوق باندورا عن صندوق الكبيسي في صفة الشر الا ان الاخيرة حاولت توظيفه لردع الارهاب بكل انواعه.
ثانيا/ استدلال المعنى يتوقف على التراكيب الاستبدالية لجمل النص، فمن خلال التحقق بها من قبيل البعدية والقبلية يمكن ان نصنف العلاقة الناتجة بشكل موضوعي.
ثالثا/قراءة النص العراقي الراهن بكل تداعياته برؤية درامية لافتة للنظر تؤسس الى نسق جديد في الكتابة تلك التي يسعى لها مجموعة من الكتاب العراقيين والعرب..
رابعا/اشتبك النص مع بعض المرجعيات وبعض التابوهات وحاول تقويضها عبر تعريتها دون الوقوع في الممنوع مع ضبط الايقاع.
خامسا/ اشتغلت جميع عناصر النص بلغة مكثفة واختزال بالفعل مع فتح واسع لبوابات التأويل بعيدا عن السفسطة والترهات.
اخيرا… يقول هيجل (اذا كانت الاداة او الوسيلة التي ننظر خلالها، لها اثر مشوه، فان احدى الطرق للتعرف على العرض الحقيقي للأمور هو اكتشاف طبيعة التشوه واستبعاد الاختلاف الذي يسببه)، وما قامت به الكبيسي هو قراءة نمط واضح للتشوه الذي اصبح ظاهرة كونية لواقع مليء بالجدل والمفارقات.