الإبداع موجود هناك قابعُّ في الطبيعة ولايستطيع أحد أنْ يصله .. فقط هو يبحث عمن يكتبه ( الألماني الشهير غوتة ). وهذا ينطبق على وفاء عبد الرزاق الروائية والشاعرة التنويرية ، التي تكتب في ظل واقع عربي يحتضر كما الافعى التي تنفث كل سمومها اذا ماحوصرت وحسّت بالخطر والموت اذا ما هاجمها أحدهم . وفاء واحدة من كتاب الحداثة الكثيرين في زمن الشعوذة والتخلف بحيث من الصعب التأثير على هكذا عقول متدنية في تفكيرها كما شعوبنا لكنهم مثل قطرة ماء واهنة اذا ما مرت على صخرة ما حتما ستفعل شقا في هذه الصخرة حتى لو بعد سنين طوال . وفاء في روايتها الموسومة ( تشرين) موضوعة دراستنا تسعى لأن يكون الإنسان حراً مثلما جاءت به الفلسفة الوجودية التي تمثلت في القرن العشرين بعد إنتشار أفكار نيتشة ثم سارتر وهايدجر . الوجودية التي تريد أن تطغي السعادة على بني البشر من خلال عقولهم الحرة والبحث عن المستقبل لا الميتافيزقية التي تبحث فيما وراء الإنسان ، يعني أننا لانفكر في كيفية وجود بناءٍ ضخم وماهي الفكرة التي جاءت به ليكون بناءاّ مرئيا يعني أن المادة هي البرهان الأساسي حتى وان لم يكن قطعيا ، لأن فكرة وجود إله خلق الطبيعة هذا يؤدي بالنتيجة الى فكرة مَن خلق الإله وهكذا دواليك دون الوصول الى المطلق ، فلا مطلق هناك أو هنا سوى أننا نفكر كيف نبني أنفسنا حاضرا ومستقبلا . يفكر الإنسان كي يبقى بعيدا عن الإنتحار الظلامي والعدمية الهالكة كما يفعلها المتطرفون الإسلامويين . تكتب وفاء كي تقول لنا من أن السياسيين يجب ان يتبدلوا كما حفاظات الأطفال على حد قول الكاتب الأمريكي المستنير (مارك توين) .
.إستنبطت لنا وفاء عن فظائع التعذيب في السجون مثلما رواها جورج أورويل في روايته عام 1984 وكيف شرح لنا عن ذلك السجين حين يقولوا له واحد زائد واحد فيقول يساوي خمسة لانه لم يتحمل التعذيب ورغم ذلك يعذبوه حتى لو قال يساوي إثنين . كل هذا التعذيب هو عبارة عن خطاب السلطة الذي حدثنا عنه الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) في كتابه عن السجون ( المعاقبة والمراقبة) فيقول ( أنّ التعذيب هو عبارة عن اظهار قوة السلطة ومن أنها الباقية التي لاتزول ) . حتى أخذ الغرب من أفكار التنويرين وأصبح السجين المُدان يحكم عليه بالإعدام ويعدم دون تعذيبه وإذلاله فياترى متى تصل شعوبنا الى هكذا مآل .
في رواية وفاء هناك الكثير من المسحوقين على غرار شخصية (فيرن) في قصة )ناظر المحطة( للشاعر والكاتب الروسي ( بوشكين) هذا الناظر الذي يظل يشرب حتى يموت بسبب سرقة إبنته من قبل ضابط في الجيش فلم يستطع فعل شيء حيال قوّته وجبروته . ثم الأهم في الأمر أنّ وفاء كتبت بشكل رائع فكرة الروائي الروسي الشهير (غوغول) في المعطف . ففي هذه الرواية ( تشرين) نرى بطلها (سلوان) كما (أكاكي أكفتش) في معطف غوغول وكيف تحول الى شبح بعد موته يظهر ليلا في شوارع بطرسبورغ ويسرق المعاطف من المارة بينما المناضل والعاشق(سلوان) يتحول بعد تصفيته في السجن الى شبح يقوم بقتل كل شخص يقوم بسلب أي جزء من أعضاءه أثناء تشريحه لغرض المتاجرة بالأعضاء أو لأسباب أخرى كما سنبين لاحقا. فسواء إن كانت وفاء تعرف ذلك أم لاتعرف فالتناص يحص كثيرا ، فمثلها فعلها الروائي اليوناني (نيكوس كزنتزاكيس) حين وسمّ روايته بالأخوة الأعداء على غرار ( إخوة كرامازوف) لديستويفسكي ثم جاءت بعدها إخوة بالدم وغيرها.
يتجلى التنوير العربي في ماكتبته وفاء ونحن في الألفية الثالثة وفي ظل عصر السيف العراقي الذي سينتهي لامحال بالفيس ، بينما التنوير في الغرب بدأ في القرنين السابع عشر والثامن عشر مع فولتير وجان جاك روسو ، فولتير الذي قال عنه الملك لويس الثالث عشر حين كان مسجونا عندما جاءوا بجثمان فولتير لغرض دفنه ( مصائبي كلها من هذا الشخص مؤشرا بإصبعه على جثمان فولتير ) . هكذا يفعل التنويريون بالحكام وتابعيهم . تبدع وفاء بواقعٍ أقوى من الخيال وكلنا نعرف من أنَ الخيال هو الأقوى لدى المبدع لكن أن تحول الواقع الى خيال فهذا هو التحول الحقيقي المغاير عن السائد .
الرواية تضمنت أحداث الوطن في الماضي نزولا الى الحاضر حتى ثورة تشرين ومن خلال السرد نجد هناك جانبا كبيرا للحب المتمثل في بطل روايتها ( سلوان ) ، وهو المناضل الشيوعي والعاشق بنفس الوقت والذي ظل متنقلاً بين النساء بعد إن فقد حبيبته الأولى ( سُعدة) التي أحبها وهو في عمر السادسة عشر قبل أن يعرف عن الجنس والحب سوى رعشة هزته ذات يوم وهو يُقبلها وقوفاً فشعر كما الصاعقة في بدنه أجلسته على الفور . ومنذ ذلك الوقت أصبحت له تلك الحبيبة ( سّعدة) مثل الوطن المفقود والضائع بين حفنة سفلة إبتداءً من صدام المجرم حتى ساسة اليوم والعمائم التي عاثت ودمرت البلد بالخرافة والتجهيل .
الرواية أوضحت لنا من انّ الدين غطاء الرأسمالية وستار الى كل قيمة لا إنسانية ومن أنّ المسحوقين والعمال هم الطاقة الأساسية المادية حين يصنعون سلعة ما الى الرأسمالي مالك المانيفكتور . الدين غطاء لكل الأفعال المجرمة للطغاة وما مَثلنا على هذا هو ظهور صدام حسين أثناء إعدامه وهو يحمل القرآن الكريم وكذلك ترامب وهو يرفع الإنجيل ومن ثم زعماء السياسة العراقية اليوم بألوية أديانهم العديدة وهذا أكبر دليل على أنّ الدين هو غطاء للجرائم والسلوكيات المجرمة بحق الشعوب كما بينتها رواية تشرين هذه .
الرواية خطّت بها وفاء كل معاني العلمانية التي تنتمي اليها ، العلمانية التي تبحث عن الحقائق داخل العالم وليس عماوراء الفكرة أو عن مايسمى المحرك الأول للكون وهذا يختلف من مجتمع الى آخر فالله مثلا هو مفهوم عربي بينما لدى المسيح هو الرب ولدى اليهود هو أدوناي . ولذلك وفاء العلمانية تخرج عن كل هذه القيم المتشابكة كما خرج منها أرسطو العلماني الأول في الكون .
الرواية تبدأ بأسطرٍ مهداة الى قرابين ثورة تشرين 2019 وحتى الآن . ثم تبدأ من أول فصل لها عن التزاحم في السجن والعنتر الأزرق ( الذباب) الذي يأكل أجساد كل من يضحي ويستشهد على أيدي الجلادين ، بل هو آكل لحوم البشر سواء أن كانوا ضحية أم جلادين الاّ أن الضحية تنتهي بأخلاقها بينما الجلاد يستمر في غيّه عدا قلّة منهم حين يدخلوا دائرة وخز الضمير . كان هناك نزيلا في السجن إسمه ( دانيال) إعتاد على هذا الذباب الأزرق الذي ينهش الأجساد عند موتها ويتركها عظاما منسية ولا كإنها كانت تحب وتشعر وتحس وتئن تحت ضربات الجلاّد . أطلق سلوان على هذا المتحدث عن الذباب بأبي عنتر الذي أصبح أنيسه في وحشة السجن . سلوان منذ الصغر أديبا عاشقا لبودلير وإيلوار فيتذكر (سُعدة) حبيبته التي تتراءى له من إسمها رمزاً للسعادة المنشودة للوطن ، وهي من إصول إيرانية فلها من الجمال الفارسي مثلما (روسكانا) التي تزوجها الإسكندر المقدوني في بابل عند إحتلاله بلاد فارس وإسقاطه الإمبراطورية الفارسية التي كانت تسيطر على بابل أيضا ، فكانت (سعدة) لديه هي تلك الشعلة الأبدية التي عاش عليها الإسكندر ومات دونها في بابل العريقة .
. السرد أبرز لنا شخوص الرواية بمستوى البطولة والثقافة الوطنية ، سلوان ، دانيال ، الطفل فرقد1 ، نور ، إمرأة إسمها ثورة . وشخوص أخرى مسحوقة عديدة كل منها يأخذ دوره في الحياة ثم يرحل وتبقى شعلة تشرين الأبدية التي تنشد التغيير والخلود . سلوان مناضل يُسجن ويموت من التعذيب ، دانيال كان معه في نفس الزنزانة لكنه القادم من الماضي في فبركة خيالية توفقت بها وفاء الى حد بعيد لتعطينا مفاداّ انّ السجون هي نفسها في الماضي والحاضر ولم تتغير سوى في مساحتها والإبستمولوجية لدى نزلائها كما ثقافة دانيال صديق سلوان الذي يبدو بسيطا في باديء الأمر لكنه يتبين غير ذلك بمعرفته وثقافته كما نعرفه لاحقا فيتعلّم من سلوان أصول الحب للوطن أو الحبيبة ويفلت من قبضة الموت ويظهر الى العالم الغريب حتى يرى نور الثوار في تشرين فينذهل ويريد أن يعرف كل الحقائق فهو الغائب منذ زمن بعيد عن الشارع في غياهب السجن ولايعرف الى ماذا آلت اليه الأمور .
سلوان أول ما تتفتح رغباته مراهقاً فيرى فتاة إحدى أقاربه ( سعدة) في عمر لوزي فهي إبنة الخامسة عشر فيعشقها حد الخبل ، ثم بعد سنين يتعلّق في الجامعة بفتاة إسمها (دلسوز) . وبعدها يتعرّف على زوجة صديقه التي يهجرها لأسباب سنبينها لاحقا ، ثم عشقه لجارته حين كان في الجيش ، ثم حبه للبكّاءه ، ثم السندريلا وهي آخر جنائن الحب حتى هذا الوقت .
يموت سلوان في السجن وتبقى روحه معلقة تجول في الأرجاء والسموت ، وتظل أيضا في ذهنية صديقه دانيال الذي يبحث عنه وكإنه لم يمت ، ودانيال هو الآخر مسحوق يتمنى الخلاص من هذه الحياة التي باتت لاتطاق ولايمكن له أن يجد قوت عيشه فيتحول الى شخصية قادمة من الماضي كما (كريغوري) بطل رواية العظيم الجيكي (فرانس كافكا) الذي يعاني من هيمنة الرأسمالية وينتهي به الأمر بالتحوّل الى حشرة مرمية في غرفة الأنقاض .
دانيال حين يخرج من السجن يتعرف على الطفل فرقد1 ثم طفل آخر يسميه فرقد 2 لكن يموت أحد الفرقدين بسبب أحداث تشرين ويبقى الفرقد1 والفرقد هنا كما يُعرف هو أحد نجوم السماء اللامعة فهنا إشارة الى الديمومة والبقاء الأبدي فكل شيء زائل لكن تبقى روح الثورة متمثلة بهذا الطفل فرقد1 وهكذا دواليك لايمكن أنْ تنطفيء شعلة الثورة كما هذه النجمة المتعالية في السماء ببريقها الوهاج .
وفاء واحدة من الروائيات التي تعتمد على الإبتكار والخلق لا على الإقتصار التقليدي ، لها صبغتها المحلية العراقية علاوة على الثقافة الأجنبية التي إكتسبتها وهي في المنفى فحتما يكون الإغتراب له بصمة واضحة في السرد والحكاية المروية وكيفية تناولها لأحداث شخوصها وكيفية تحريكهم بأزيائهم ومناظرهم العراقية ، كما وأنها واعية حين تتناول هذا النوع من الفن السينمي بحرفية متقنة . الرواية إتسمت بفن الحركة ، بمرايا الحياة بطرق تعبيرية جديدة ، لغة ، قوة أخلاقية ، جنس ، غيرة ، إنتقام ، علم ، طب ، تأريخ ، وأشياء أخرى لها علاقة بالإثارة والتشويق القرائي ، مفاجآت غير منتظرة علاوة على تأخير حل العقدة الروائية مما يعطي الرائي والقاريء متعة إضافية غير محسوبة . كما أنها بذلت جهدا كبيرا في كيفية صناعة الطريقة الإنتقامية من قبل روح سلوان للمجرمين وسنرى ذلك واضحا بعد تشريح جثة سلوان عضواً عضواَ.
أول تشريح لسلوان كان لعينيه حيث كان يشرف على تشريحه الطالب (ملاك) وهو إبن لأحد جلادي السلطة التي تدعي انها الملائكية بشعاراتها لكنها حفنة لصوص ، هذا الطبيب بعد إنتهاءه من التشريح وبعد أيام أخذ سيارة والده الفارهة وفي الطريق عمل حادثا ودخلت في عينيه زجاجة من نوافذ السيارة ومن بعدها أصبح كفيفا لتحل عليه لعنة روح سلوان الأولى التي تجوب أرجاء الوطن ليبقى والداه بحسرتهما على إبنهم (ملاك) الذي دخل كلية الطب بدون درجات تؤهله بل أخذ فرصة غيره من الفقراء الأذكياء و لم تنفعهم ماحصدوا من سرقات المال العراقي .
تتوالى الأحداث حتى يسجنوا (سمير عبد الواحد ) وهو أخ سلوان فتنتفض روحه وهي تحت المشرط فالبلد أصبح مباحا يُسجن فيه الصديق والأخت والزوجة والأقارب من الدرجة الرابعة والخامسة ، بينما دانيال وسط كل هذه العذابات يظل يبحث عن أنيسه سلوان ولم يجده . حين يخرج دانيال الى الشارع لأول مرة يرى دخان وغازات مسيلة للدموع وقتال وجثث مرمية على الأرض وعيارات نارية ودماء وأطفال وشيوخ تُقتل وشعارات ومظاهرات ولحى كثيفة وصور معممين تملأ الشوارع فيتعجب وفي إلتفاتة رائعة جدا من قبل وفاء وهي أنّ دانيال يسأل المارة ماهي هذه الأرض وما إسمها فيقولون له العراق ، لا أبرع من هذا الخيال والتصور من قبل الروائية وكأن الرجل دانيال قادم من مجرّة أخرى بينما هو إبن البلد كان مسجونا أو كان تحت الأرض وخرج الى الأعلى ليرى الهول . يسأل عن رفيق غرفته سلوان ولم يحصل على جواب . عربات (التوك توك) تحمل الجرحى والطعام للمتظاهرين ويسمع عن الجوع والإنتحارالذي ينتشر في أرجاء الوطن نتيجة الفساد والركود الإقتصادي الحاصل نتيجة سلطة جاهلة لصوصية مثلما حصل في الإنهيارالإقتصادي الأمريكي من جراء السرقات والفساد والحروب في عام 1929 بحيث كان صاحب أي فندق في أمريكا يسألك حين تريد إيجارغرفة هل تريدها ليوم واحد أو يومين أو ساعة وهل تريدها في الطابق العلوي أم الارضي خوفا من الإنتحار وفي يوم كان (تشرشل) قد زارأمريكا وخرج من فندقه فأذا بأحدهم يرمي نفسه منتحرا فسقطت الجثة بالقرب منه . وأيضا كان احدهم فوق بناية عالية فتجمعت الناس تنظر اليه من أنه سينتحر ولكن في النهاية تبين انهُ عامل الأنابيب وهذه جسدها آرثر ميلر الكاتب اليهودي في مسرحيته ( بائع متجول ) والتي مثلت على خشبة المسرح ونالت العديد من الجوائز .
دانيال يسمع عن ثورة بدأت في البصرة ثم تنتقل الى الناصرية وانتشرت الى أرجاء البلد ويرى طفلا تركته أمه ولم تعد فيأخذه معه ثم بدأ يسترجع الذاكرة للتفريق بين زمنين . يسمع عن (إبن ثنوة ) أول شهيد ولقبهُ على إسم أمه بينما إسمه الحقيقي (صفاء السراي) إستشهد في ساحة التحرير وهو شاعر ورسام عراقي ماتت أمه بالسرطان ولم يستطع معالجتها لأن العلاج فقط لأثرياء السلطة . دانيال حينما يراهم يبكون على أول شهيد يواسي نفسه لأنه هو الآخر يستحق البكاء عليه لأنه كان في السجن مع رفيقه سلوان لكن الأزمنة تنفصل ثم تتصل فتتكرر عذاباتها .
يبدأ التشريح الثاني لعضو سلوان من قبل إحدى الطبيبات التي بدأت تلمس عضوه بينما روحه تتذكر كم مرة صال وجال في الظلام الرغائي الرطيب لبوابات حبيباته فهو يعرف نفسه جيدا كيف كان خماراً محباً للنساء لكن تظل (سعدة) هي الحبيبة المرتجاة وهي الوطن . وهنا وأثناء التشريح يتذكر حبيبة أخرى (سعاد) التي تكبره بثمان سنوات لكنها تحمل من الجسد المفصّل من قبل الخالق ، وجه أبيض وعيون شبقة وأست لايعرف الشبع وأثداء كلما مصها صرخت مص ومص فامتصاصك يزيدني إرتعاشا وسعادة لاتضاهى ، لكن طريقة لقاءه بها كانت في غاية الغرابة ، حيث كان من أجل هذا الحب ومضاجعة واحدة يرمي بجثته من الهوّة المخيفة التي تفصل شرفة بيته عن شرفة بيتها بمتر وبإرتفاع عشرين متر ، فيتساءل كيف بقي على قيد الحياة بمقامرة لايمكن أن تكون رابحة في كل مرة ، فلو أنه سقط الى الأرض فأنه ميت لامحال . وحين يقفز من شرفته يقع على أكوام من الأفرشة الأسفنجية والقطنية المعدة من قبلها في سطح بيتها كي تخفف من وطأة السقوط ، وهذه العملية إستمرت لأكثر من سنتين . وأكثر من مرة يكون سقوطه على الأرضية الإسمنتية للسطح بدلا من الأفرشة فتسبب له الرضوض والتقرحات والوجع الشديد والتورم وسيل الدم ورغم ذلك يمارس الجنس وهو بهذا الحال الرهيب ، بل أحيانا تكون طقوس الجنس عقب هذا الألم الشديد نكاحا لذيذا ومتعة تنسيه كل الآلآم التي صبت عليه في أوانها من جراء السقوط الخطأ . ولكن يبدو انّ الجنس هو أعظم شيء في الوجود ومن دونه لايمكن أن تكتمل حلقات الحياة . ولذلك كانت عدد مرات التضاجع والتلاحم والتصارع هي بمثابة معونة ثابتة لايمكن تغيير عددها على مدار ستة او خمسة ساعات حتى مجيء زوجها في الوقت المحدد والمعروف من قبلها فيكون خروجه من باب البيت المطل على الزقاق بعد فحصه وخلوّه من السابلة والجيران فيخرج من خدر الجنائن مزهوا منتصرا خفيفا لامعا طافحا بدمه وكبريائه وحبه لهذه المرأة الغريبة في أطوارها العديدة . وذات يوم أخبرته أثناء التضاجع ومطارحة الغرام وهي تبكي من أنها ستنتقل الى حي آخر وهكذا إنطوت أجمل صفحة حب مرت به ولن تعد ومابقي منها فقط رؤياها في شارعٍ عام بين فترة وأخرى مع دمعة حبيسة لها الف حديثٍ وحديث .
في السرد أعلاه نعرف من أنّ سلوان مصاباً بداء الحب للنساء وكإنه يسير وفقا لما قاله الفيلسوف الفرنسي (مييشيل فوكو) عن الجنسانية أو ما أوضحته المدرستان الأبيقورية والرواقية اللتان جاءتا بعد العصر الهلنستي الذي ضم سقراط وأرسطو وافلاطون . الجنسانية التي أصبحت علم في كافة الدول المتحضرة بعد إن كانت محصورة بسلطة الكنيسة بل حتى الكلام أثناء العملية الجنسية كان مرسوما من قبل خطاب الكنيسة على أيدي القديس (أوغسطين) ومن أنّ الجنس محصورا في منظومة الزواج وللتناسل فقط وليس لإشباع الرغبة العنيفة وحتى فكروا من انّ رعشة الجماع هي من الشرور التي لابد لهم التخلّص منها. بينما اليوم نرى رئيس الوزراء الفلبيني يوصي شعبه بعدم إستخدام الموانع ( الكوندوم) لأن متعة الجنس بها ستكون مثلما يأكل المرء الشوكولاتة بغلافها . فاين هذا الزمن من ذاك الذي ولّى .
ثم توضّح لنا الرواية أثناء الغارات الميليشية بموت أحد الأطفال مع أمه ويحمله دانيال ويقوم بدفنه بينما يقول له فرقد الصغير ماذا نسمي هذا الطفل في القبر فيقول فرقد2 يعني فرقد مات وفرقد حي هو أنت.