أدباء البصرة في السبعينات
فيصل عبد الحسن
(1)محمود البريكان
أتذكر أستاذينا محمود عبد الوهاب و الشاعر المرحوم عبد الخالق محمود والقاص محمد خضير وأستاذي في اللغة العربية في الإعدادية المركزية الأستاذ عبد الخالق محمود والغريب أن أسمه كان مطابقا لأسم الشاعر المرحوم عبد الخالق محمود وكان صديقه ونجيه في جلساتهما الممتدة حتى آخر الليل في المقهى البصري المعروف بمقهى الأدباء في البصرة القديمة، أو في شقة الشاعر القريبة من المقهى وبالرغم من ملاحظات القاص محمد خضير على النقود التي يكتبها ماجد السامرائي حول قصصه لكننا وكل أدباء البصرة يعرفون فضل السامرائي على قاصنا خضير كون قصة محمد خضير –البطات البرية- فازت بالجائزة الأولى ونشرت في الملحق الأدبي الذي أشرف عليه السامرائي في الستينات وكان السامرائي من أوائل الذين أعجبوا بكتابات محمد خضير معتبرا لونه القصصي الجديد تجديدا في القصة العراقية، الحقيقة فضل ماجد السامرائي والمربي الناقد باسم عبد الحميد حمودي على الأدب العراقي الحديث والقصة القصيرة على وجه الخصوص لا يماثله إلا ما فعله القاصان عبد الرحمن مجيد الربيعي والقاص عبد الستار ناصر ويمكن أن نضيف إليهما الناقد ياسين النصير والشاعر المقيم في بريطانيا د. صلاح نيازي صاحب مجلة الاغتراب الادبي للقصة والرواية العراقية متابعة ونقدا ونشرا والفضل في أتمام هذه الجهود الخيرة .
(2)عبد الحسين الغراوي
كل الأدباء من جيلنا ، الذين أنجبتهم مدينة البصرة مروا جميعا بغرفة القاص والكاتب البصري عبد الحسين الغراوي ، والغراوي كان أكبر من الجميع بسنوات قليلة ، لكنه كان الوحيد بيننا الذي استطاع أن يعيش مستقلا عن أهله في حجرة اكتراها في إحدى الدور مع عائلة بصرية قريبا من شط العشار ، وكان من يقصد غرفته يعبر جسرا حجريا على نهر العشار ، الذي ظهر في الكثير من قصصنا فيما بعد ، ويطل عليه المتحف البصري المسمى بعمارة الشناشيل البصرية ، حيث أعيد تشكيل قصر الشيخ محمد الماهود ليمثل مزايا البناء البصري القديم وحتى القرون الوسطى ، وكانت الحجرة مزدحمة بالأثاث وضيقة ولا تتعدى الـ 5 م × 4 م ، ولكننا في ذلك الوقت كنا نراها بالغة السعة باعثة على الغبطة والسعادة فكل ما فيها اختاره صديقنا القاص الغراوي من الأشياء المستعملة التي تباع في سوق الجمعة القريب بثمن زهيد ، وفي تلك الغرفة كنا نسمع من جهاز تسجيل قديم –أبو البكرتين- الموسيقى العالمية الكلاسيكية ولأول مرة نـتعرف فيها على جايكوفسكي وبتهوفن وموزارت.. كان الغراوي الذي يعمل موظفا في ذاتية جامعة البصرة ويسافر في العطلة الصيفية من [محمود عبد الوهاب] كل عام إلى دولة أوربية بعد أن يحصل على رواتبه لشهور العطلة الثلاثة يجلب معه عند العودة من تلك الدول ما يتيسر له شراؤه من شرائط الموسيقى الكلاسيكية ، ولوحات مستنسخة وألبومات للوحات كبار الفنانين العالميين ، وقد قسم الغراوي حجرته إلى أقسام صغيرة ، ففيها المكتبة المملوءة بالكتب ومنضدة صغيرة للكتابة ومصباحان أحدهما للقراءة وآخر من نوع تيـبل لامب يستخدمه للقراءة ، وكل قسم عزله بستارة أرضية متحركة ، وفي الغرفة قسم لاستقبال الأصدقاء والاستماع لآخر ما كتبوه ، وأتذكر أن الغراوي كان غزير الإنتاج ، ولديه أكثر من رواية مخطوطة تحكي عن البصرة في الأربعينات وأهلها ، وقد تعلمنا منه جميعا كيف يتعامل مع الشخصيات التي يضمها إلى روايته التي يكتبها ، فقد كان يختار شخصيات حقيقية عاش معها أو رآها ، حيث يقوم بالإضافة إلى أفعالها من خياله ، حيث يختلط الواقع بالخيال ، وأبطاله وبطلاته يختارهم من المحيط الذي يعيش ويعمل فيه ، وأبطال قصصه طلاب وطالبات ، موظفون صغار في محيط الجامعة ، مهربو سجاير أجنبية وبغايا وقوادون ، وعمال نفط متمردون ، وسياسيون فقدوا أيمانهم بالسياسة ، وأكثر الأماكن التي يحب أن يكتب عنها – محطة قطار المعقل- حيث يغادر قطاران مساء ، أحدهما في الساعة السادسة مساء ويسمى قطار العادي ، الذي يصل بغداد في اليوم التالي عند الضحى ، والقطار السريع الذي ينطلق في الثامنة مساء ويصل بغداد عند الفجر…
في غرفة الغراوي التي عشنا فيها جميعا تعرفت على القاص محمد خضير والشاعر حسين عبد اللطيف والشاعر المرحوم عبد الخالق محمود والشاعر مجيد الموسوي والشاعر المرحوم اسماعيل خطاب والقاص إلياس ألماس ، وفي غرفة الغراوي التي تم إعداد مجموعة قصص خطيرة فيها للقاص محمد خضير للطبع ، حيث طرح محمد خضير اسما أوليا لمجموعته تلك هو –مملكة الأسماء- وكان الشاعر حسين عبد اللطيف مستغرقا بصمت لا يفعله إلا حين يكون محتدما ، وكان قد قرأ مجموعة محمد خضير الأولى وأعجب بقصصها جدا وقد جاءت خطورة المجموعة من كونها أعادت القصة العربية إلى النثر العربي القديم برؤى حديثة ، واقترح على خضير بعد فترة الصمت أن يسمي مجموعته –المملكة السوداء- فأعجب خضير بالاسم حيث دفعت المجموعة إلى وزارة الإعلام العراقية لتطبع تحت هذا الاسم ، ووقتها لم يكن أسلوب محمد خضير بالكتابة يعجبنا وكنا نعتبره أسلوبا قرآنيا لإحداثه فيه ، والكتابة بأسلوبه سيفقدنا العديد من القراء لافتـتان خضير بجمال الوصف والتهويمات اللغوية ، لقد كان وقـتها خضير معلما وكنا طلابا بالثانوية وكنامتأثرين جدا بأساليب الواقعية الاشتراكية التي تطلب من الكاتب أن يهبط إلى مستوى الأغلبية من الناس من دون أسفاف ، وكنا نحلم بأسلوب سهل وعصي في الوقت نفسه.
وفي غرفة الغراوي مسحنا دموعنا ونحن نحكي لصديقنا الأكبر سنا الغراوي قصص فشلنا في الحب مع ابنة الجيران، أو يأسنا من تغيير العالم للأحسن في جو ملبد بعتمة لا تنقشع ، وكم من مشروع انتحار لأديب شاب لم ينجز بفضل كلمات الغراوي الملطفة ، والمشجعة على الاستمرار في مقارعة الأيام والظروف الصعبة ، لقد كان عبد الحسين الغراوي الصديق والكاتب الملهم للكثير من أفراد جيلنا ، كالقاص ألياس ألماس والقاص المرحوم مهدي جبر والكاتب المسرحي المرحوم الشهيد سامي غياض الكعبي والقاص رحيم كريم والقاص وارد بدر السالم والقاص جمال حسين علي وغيرهم…
القاص عبد الحسين الغراوي ، الذي كان يحمينا من تأثيرات السياسيين وهيمنتهم في الوسط الثقافي البصري في أوج اضطرابات السياسة وتوزيع مغانمها في بلادنا بحكمة لا يكاد أن يمر يوم من الأيام دون أن يثبت صدقها ، والتي تقول : أن ما يكتبه الأديب باق بين الناس وما يفعله السياسي سيطويه النسيان…”. سيبقى الغراوي وغرفته في قلب كل كاتب عرفه ومر بغرفته وسلام عليه عبر المسافات ،لقد كان ولا يزال الأوفى من الجميع لمدينة البصرة ، التي أحبها وعاش فيها ولم يغادرها قط رغم المحن والغبن لموهبته الروائية الفريدة ، وبعدها قل ا لوفاء من معظمنا للمدينة التي أنجبتنا فبقي لها هو وفيا …. كأنه باق فيها إلى الأبد يودع المسافرين ويستقبل العائدين…
(3)باسم حمودي وماجد السامرائي
أتذكر المربي والناقد الكبير باسم عبد الحميد حمودي أطال الله عمره حين ألتقيته أول مرة عام 1977 في الإذاعة العراقية وكنت وقتها طالبا في الإعدادية وقد فازت إحدى قصصي التي تتحدث عن المرأة ووجدت الرجل الذي كنت اعتقد أنه سيقابلني مقابلة الأستاذ للطالب وهو الوضع الذي كنا عليه حقا، فهو ناقد وأستاذ معروف وأنا طالب إعدادية ولكنني أقسم أنه لم يتركني أشعر بأستاذيته كان يناقشني حول قصتي نقاش الند للند والأستاذ للأستاذ وحين أخذتني حرارة النقاش فناديته باسمه المجرد من دون أستاذ إلا أنني شعرت بحياء لا أستطيع وصفه وتعرقت بملابسي كأنما صبوا فوق رأسي دلوا من الماء واعتذرت لكنني سمعته يقول لي أنه مسرور جدا لرفعي الكلفة، والأستاذ باسم عبد الحميد حمودي الذي كان موظفا في الإذاعة العراقية وقتها أستطاع أن يخدم القصة القصيرة العراقية خدمة لم يخدمها أحد مثله غير الأستاذ الناقد ماجد السامرائي، الذي جعل من صفحة آفاق في جريدة الجمهورية أرشيفا حقيقيا للثقافة العراقية الرصينة وتعهد المواهب الشابة وكان الرجل والحق يقال بالرغم من طرقنا الملتوية في الكتابة لفضح التسلط الحكومي وقتها شجاعا لا يخاف ويترك قصصنا وكتاباتنا تظهر على صفحته التي ننتظرها بشغف وعند تعطلها في الطريق بسبب تأخر القطار النازل إلى البصرة نبقى نلوب قريبا من مكتبة فيصل حمود بانتظار ما حملته الصفحة من إبداعات، وما قدمته جريد ة الزمان وملفها ألف ياء وصارت الوعاء اليومي لهذا الجهد، الذي يعد بحق أرشيفا لأدب الخارج عراقيا وعربيا أفاد الكثيرين في الأرشفة للأدب العراقي، وأتذكر أن في إحدى الليالي التي تأخرت فيها جريدة الجمهورية عن الوصول إلى البصرة قصدنا وكنا مجموعة من مثقفي البصرة بيت الشاعر مجيد الموسوي الذي يقع في الطرف الآخر من البصرة القديمة لأننا عرفنا بوصوله في اليوم نفسه بالسيارات من بغداد ونحن نعرف حرص الموسوي على اقتناء الجريدة إذا كان في بغداد أو أي مكان آخر، فخمنا أننا ربما نجد عدد اليوم من جريدة الجمهورية لديه، وحتى نختصر الطريق كان علينا أن نمر بالحي القديم الذي كان في العهد الملكي منزولا تسكنه بائعات الهوى وكان ذلك قبل أن تمنع الحكومة هذا النشاط وتقوم بترحيل أولئك النسوة إلى خارج المدينة وسكنت هذه البيوت عائلات شريفة، وفقيرة، ولكن لأن سمعة المنطقة السيئة بقيت فقد حرص السكان الجدد على تربية كلاب غليظة القلوب لم أر في حياتي أشد منها شراسة لمنع المترددين من الشباب مساء والذين يزعجون الساكنين بطلب من يعتقدون أنهن بائعات هوى فيطرقون هذا الباب أ وذاك، وكانت الأضواء شبه معدومة والقليل منها خافت الإضاءة في تلك المنطقة التي تكثر فيها السواقي التي تحمل غسيل أصحاب البيوت ولأن الصديق المبدع محمد خضير كان يعشو ليلا فقد داس فوق أحد هذه الكلاب وقامت القيامة علينا بعد ذلك ولا ندري من أي جهة نهرب فقد جاءت مجموعة كبيرة من الكلاب الشرسة لتهاجمنا وشاركهم بعض السكان الذين اعتقدوا أننا سكارى نجوس بين بيوتهم على عادة أولئك الماجنين، وكان من الشجاعة حقا أن نهرب في ذلك اليوم من ذلك الطوفان الشرير المحمول فوق نباح وحشي، بين الأزقة طالبين النجاة متخلين عن فكرة الحصول على جريدة الجمهورية وكان أكثر ما يخشاه المبدع محمد خضير أن تصل أخبار الحادثة إلى أسماع الشاعر كاظم الحجاج الساخر دائما فيؤلف عليها ما يضحك جماعة الأدباء في المقهى البصري الذي اعتدنا جلوس فيه كل يوم لمدة طويلة، ولنا في مقال آخر أن نتكلم عن سخرية وأحاديث الحجاج الضاحكة وتعليقاته التي لا تنسى وقد حول القاص محمود عبد الوهاب هذه الحادثة فيما بعد إلى قصة ساخرة يعيد قصها كل مرة ولكننا لا نتوقف عن الضحك في كل مرة.
—————————————————-
*كاتب وصحافي عراقي يقيم في المغرب
أتذكر أستاذينا محمود عبد الوهاب و الشاعر المرحوم عبد الخالق محمود والقاص محمد خضير وأستاذي في اللغة العربية في الإعدادية المركزية الأستاذ عبد الخالق محمود والغريب أن أسمه كان مطابقا لأسم الشاعر المرحوم عبد الخالق محمود وكان صديقه ونجيه في جلساتهما الممتدة حتى آخر الليل في المقهى البصري المعروف بمقهى الأدباء في البصرة القديمة، أو في شقة الشاعر القريبة من المقهى وبالرغم من ملاحظات القاص محمد خضير على النقود التي يكتبها ماجد السامرائي حول قصصه لكننا وكل أدباء البصرة يعرفون فضل السامرائي على قاصنا خضير كون قصة محمد خضير –البطات البرية- فازت بالجائزة الأولى ونشرت في الملحق الأدبي الذي أشرف عليه السامرائي في الستينات وكان السامرائي من أوائل الذين أعجبوا بكتابات محمد خضير معتبرا لونه القصصي الجديد تجديدا في القصة العراقية، الحقيقة فضل ماجد السامرائي والمربي الناقد باسم عبد الحميد حمودي على الأدب العراقي الحديث والقصة القصيرة على وجه الخصوص لا يماثله إلا ما فعله القاصان عبد الرحمن مجيد الربيعي والقاص عبد الستار ناصر ويمكن أن نضيف إليهما الناقد ياسين النصير والشاعر المقيم في بريطانيا د. صلاح نيازي صاحب مجلة الاغتراب الادبي للقصة والرواية العراقية متابعة ونقدا ونشرا والفضل في أتمام هذه الجهود الخيرة .
(2)عبد الحسين الغراوي
كل الأدباء من جيلنا ، الذين أنجبتهم مدينة البصرة مروا جميعا بغرفة القاص والكاتب البصري عبد الحسين الغراوي ، والغراوي كان أكبر من الجميع بسنوات قليلة ، لكنه كان الوحيد بيننا الذي استطاع أن يعيش مستقلا عن أهله في حجرة اكتراها في إحدى الدور مع عائلة بصرية قريبا من شط العشار ، وكان من يقصد غرفته يعبر جسرا حجريا على نهر العشار ، الذي ظهر في الكثير من قصصنا فيما بعد ، ويطل عليه المتحف البصري المسمى بعمارة الشناشيل البصرية ، حيث أعيد تشكيل قصر الشيخ محمد الماهود ليمثل مزايا البناء البصري القديم وحتى القرون الوسطى ، وكانت الحجرة مزدحمة بالأثاث وضيقة ولا تتعدى الـ 5 م × 4 م ، ولكننا في ذلك الوقت كنا نراها بالغة السعة باعثة على الغبطة والسعادة فكل ما فيها اختاره صديقنا القاص الغراوي من الأشياء المستعملة التي تباع في سوق الجمعة القريب بثمن زهيد ، وفي تلك الغرفة كنا نسمع من جهاز تسجيل قديم –أبو البكرتين- الموسيقى العالمية الكلاسيكية ولأول مرة نـتعرف فيها على جايكوفسكي وبتهوفن وموزارت.. كان الغراوي الذي يعمل موظفا في ذاتية جامعة البصرة ويسافر في العطلة الصيفية من [محمود عبد الوهاب] كل عام إلى دولة أوربية بعد أن يحصل على رواتبه لشهور العطلة الثلاثة يجلب معه عند العودة من تلك الدول ما يتيسر له شراؤه من شرائط الموسيقى الكلاسيكية ، ولوحات مستنسخة وألبومات للوحات كبار الفنانين العالميين ، وقد قسم الغراوي حجرته إلى أقسام صغيرة ، ففيها المكتبة المملوءة بالكتب ومنضدة صغيرة للكتابة ومصباحان أحدهما للقراءة وآخر من نوع تيـبل لامب يستخدمه للقراءة ، وكل قسم عزله بستارة أرضية متحركة ، وفي الغرفة قسم لاستقبال الأصدقاء والاستماع لآخر ما كتبوه ، وأتذكر أن الغراوي كان غزير الإنتاج ، ولديه أكثر من رواية مخطوطة تحكي عن البصرة في الأربعينات وأهلها ، وقد تعلمنا منه جميعا كيف يتعامل مع الشخصيات التي يضمها إلى روايته التي يكتبها ، فقد كان يختار شخصيات حقيقية عاش معها أو رآها ، حيث يقوم بالإضافة إلى أفعالها من خياله ، حيث يختلط الواقع بالخيال ، وأبطاله وبطلاته يختارهم من المحيط الذي يعيش ويعمل فيه ، وأبطال قصصه طلاب وطالبات ، موظفون صغار في محيط الجامعة ، مهربو سجاير أجنبية وبغايا وقوادون ، وعمال نفط متمردون ، وسياسيون فقدوا أيمانهم بالسياسة ، وأكثر الأماكن التي يحب أن يكتب عنها – محطة قطار المعقل- حيث يغادر قطاران مساء ، أحدهما في الساعة السادسة مساء ويسمى قطار العادي ، الذي يصل بغداد في اليوم التالي عند الضحى ، والقطار السريع الذي ينطلق في الثامنة مساء ويصل بغداد عند الفجر…
في غرفة الغراوي التي عشنا فيها جميعا تعرفت على القاص محمد خضير والشاعر حسين عبد اللطيف والشاعر المرحوم عبد الخالق محمود والشاعر مجيد الموسوي والشاعر المرحوم اسماعيل خطاب والقاص إلياس ألماس ، وفي غرفة الغراوي التي تم إعداد مجموعة قصص خطيرة فيها للقاص محمد خضير للطبع ، حيث طرح محمد خضير اسما أوليا لمجموعته تلك هو –مملكة الأسماء- وكان الشاعر حسين عبد اللطيف مستغرقا بصمت لا يفعله إلا حين يكون محتدما ، وكان قد قرأ مجموعة محمد خضير الأولى وأعجب بقصصها جدا وقد جاءت خطورة المجموعة من كونها أعادت القصة العربية إلى النثر العربي القديم برؤى حديثة ، واقترح على خضير بعد فترة الصمت أن يسمي مجموعته –المملكة السوداء- فأعجب خضير بالاسم حيث دفعت المجموعة إلى وزارة الإعلام العراقية لتطبع تحت هذا الاسم ، ووقتها لم يكن أسلوب محمد خضير بالكتابة يعجبنا وكنا نعتبره أسلوبا قرآنيا لإحداثه فيه ، والكتابة بأسلوبه سيفقدنا العديد من القراء لافتـتان خضير بجمال الوصف والتهويمات اللغوية ، لقد كان وقـتها خضير معلما وكنا طلابا بالثانوية وكنامتأثرين جدا بأساليب الواقعية الاشتراكية التي تطلب من الكاتب أن يهبط إلى مستوى الأغلبية من الناس من دون أسفاف ، وكنا نحلم بأسلوب سهل وعصي في الوقت نفسه.
وفي غرفة الغراوي مسحنا دموعنا ونحن نحكي لصديقنا الأكبر سنا الغراوي قصص فشلنا في الحب مع ابنة الجيران، أو يأسنا من تغيير العالم للأحسن في جو ملبد بعتمة لا تنقشع ، وكم من مشروع انتحار لأديب شاب لم ينجز بفضل كلمات الغراوي الملطفة ، والمشجعة على الاستمرار في مقارعة الأيام والظروف الصعبة ، لقد كان عبد الحسين الغراوي الصديق والكاتب الملهم للكثير من أفراد جيلنا ، كالقاص ألياس ألماس والقاص المرحوم مهدي جبر والكاتب المسرحي المرحوم الشهيد سامي غياض الكعبي والقاص رحيم كريم والقاص وارد بدر السالم والقاص جمال حسين علي وغيرهم…
القاص عبد الحسين الغراوي ، الذي كان يحمينا من تأثيرات السياسيين وهيمنتهم في الوسط الثقافي البصري في أوج اضطرابات السياسة وتوزيع مغانمها في بلادنا بحكمة لا يكاد أن يمر يوم من الأيام دون أن يثبت صدقها ، والتي تقول : أن ما يكتبه الأديب باق بين الناس وما يفعله السياسي سيطويه النسيان…”. سيبقى الغراوي وغرفته في قلب كل كاتب عرفه ومر بغرفته وسلام عليه عبر المسافات ،لقد كان ولا يزال الأوفى من الجميع لمدينة البصرة ، التي أحبها وعاش فيها ولم يغادرها قط رغم المحن والغبن لموهبته الروائية الفريدة ، وبعدها قل ا لوفاء من معظمنا للمدينة التي أنجبتنا فبقي لها هو وفيا …. كأنه باق فيها إلى الأبد يودع المسافرين ويستقبل العائدين…
(3)باسم حمودي وماجد السامرائي
أتذكر المربي والناقد الكبير باسم عبد الحميد حمودي أطال الله عمره حين ألتقيته أول مرة عام 1977 في الإذاعة العراقية وكنت وقتها طالبا في الإعدادية وقد فازت إحدى قصصي التي تتحدث عن المرأة ووجدت الرجل الذي كنت اعتقد أنه سيقابلني مقابلة الأستاذ للطالب وهو الوضع الذي كنا عليه حقا، فهو ناقد وأستاذ معروف وأنا طالب إعدادية ولكنني أقسم أنه لم يتركني أشعر بأستاذيته كان يناقشني حول قصتي نقاش الند للند والأستاذ للأستاذ وحين أخذتني حرارة النقاش فناديته باسمه المجرد من دون أستاذ إلا أنني شعرت بحياء لا أستطيع وصفه وتعرقت بملابسي كأنما صبوا فوق رأسي دلوا من الماء واعتذرت لكنني سمعته يقول لي أنه مسرور جدا لرفعي الكلفة، والأستاذ باسم عبد الحميد حمودي الذي كان موظفا في الإذاعة العراقية وقتها أستطاع أن يخدم القصة القصيرة العراقية خدمة لم يخدمها أحد مثله غير الأستاذ الناقد ماجد السامرائي، الذي جعل من صفحة آفاق في جريدة الجمهورية أرشيفا حقيقيا للثقافة العراقية الرصينة وتعهد المواهب الشابة وكان الرجل والحق يقال بالرغم من طرقنا الملتوية في الكتابة لفضح التسلط الحكومي وقتها شجاعا لا يخاف ويترك قصصنا وكتاباتنا تظهر على صفحته التي ننتظرها بشغف وعند تعطلها في الطريق بسبب تأخر القطار النازل إلى البصرة نبقى نلوب قريبا من مكتبة فيصل حمود بانتظار ما حملته الصفحة من إبداعات، وما قدمته جريد ة الزمان وملفها ألف ياء وصارت الوعاء اليومي لهذا الجهد، الذي يعد بحق أرشيفا لأدب الخارج عراقيا وعربيا أفاد الكثيرين في الأرشفة للأدب العراقي، وأتذكر أن في إحدى الليالي التي تأخرت فيها جريدة الجمهورية عن الوصول إلى البصرة قصدنا وكنا مجموعة من مثقفي البصرة بيت الشاعر مجيد الموسوي الذي يقع في الطرف الآخر من البصرة القديمة لأننا عرفنا بوصوله في اليوم نفسه بالسيارات من بغداد ونحن نعرف حرص الموسوي على اقتناء الجريدة إذا كان في بغداد أو أي مكان آخر، فخمنا أننا ربما نجد عدد اليوم من جريدة الجمهورية لديه، وحتى نختصر الطريق كان علينا أن نمر بالحي القديم الذي كان في العهد الملكي منزولا تسكنه بائعات الهوى وكان ذلك قبل أن تمنع الحكومة هذا النشاط وتقوم بترحيل أولئك النسوة إلى خارج المدينة وسكنت هذه البيوت عائلات شريفة، وفقيرة، ولكن لأن سمعة المنطقة السيئة بقيت فقد حرص السكان الجدد على تربية كلاب غليظة القلوب لم أر في حياتي أشد منها شراسة لمنع المترددين من الشباب مساء والذين يزعجون الساكنين بطلب من يعتقدون أنهن بائعات هوى فيطرقون هذا الباب أ وذاك، وكانت الأضواء شبه معدومة والقليل منها خافت الإضاءة في تلك المنطقة التي تكثر فيها السواقي التي تحمل غسيل أصحاب البيوت ولأن الصديق المبدع محمد خضير كان يعشو ليلا فقد داس فوق أحد هذه الكلاب وقامت القيامة علينا بعد ذلك ولا ندري من أي جهة نهرب فقد جاءت مجموعة كبيرة من الكلاب الشرسة لتهاجمنا وشاركهم بعض السكان الذين اعتقدوا أننا سكارى نجوس بين بيوتهم على عادة أولئك الماجنين، وكان من الشجاعة حقا أن نهرب في ذلك اليوم من ذلك الطوفان الشرير المحمول فوق نباح وحشي، بين الأزقة طالبين النجاة متخلين عن فكرة الحصول على جريدة الجمهورية وكان أكثر ما يخشاه المبدع محمد خضير أن تصل أخبار الحادثة إلى أسماع الشاعر كاظم الحجاج الساخر دائما فيؤلف عليها ما يضحك جماعة الأدباء في المقهى البصري الذي اعتدنا جلوس فيه كل يوم لمدة طويلة، ولنا في مقال آخر أن نتكلم عن سخرية وأحاديث الحجاج الضاحكة وتعليقاته التي لا تنسى وقد حول القاص محمود عبد الوهاب هذه الحادثة فيما بعد إلى قصة ساخرة يعيد قصها كل مرة ولكننا لا نتوقف عن الضحك في كل مرة.
—————————————————-
*كاتب وصحافي عراقي يقيم في المغرب