سنوات ما بعد هجرة الفنّانة هناء مال الله من العراق، ستغيّر من وظائف الحواسّ، ويقظة الذاكرة. إذ منذ مفارقة الجسد والعين لأمكنتهما الأليفة، كانت العودة إليها بين وقت وآخر مسرحاً للتكهنات/ المحاكيات بعد صدمة الافتراق الأولى (حصلت الفنانة هناء مال الله على دكتوراه في فلسفة الفن من كلية الفنون الجميلة ببغداد العام ٢٠٠٥، وغادرت العراق في العام ٢٠٠٦ إلى عمان وباريس قبل استقرارها في إنجلترا بمنحة من جامعة الدراسات الشرقية والأفريقية soas العام ٢٠٠٨). منذئذ والفنانة تزور “الخرائب” العراقية لتطوير رؤيتها عنها (زارت العراق من قبل في ٢٠١٥ و٢٠١٨ لتحقيق مشروعها البصري عن ميتسوبتاميا في بحث احتضنه جاليري جامعة الدراسات الشرقية والأفريقية، لندن، العام ٢٠٢٠).
حدث التحوّل الأنطولوجي للفنانة ببطء وتدرّج مهني وتشكيلي ملحوظين، خلال تفحّص ودراسة لآثار البيئة المألوفة واستكناه موحياتها المنفصلة عنها (التماثيل، الجدران، الأنسجة المحوكة، آجرات البناء). كان الالتصاق الشديد بمواد البيئة تلك، يمنع النظرةَ من الافتراق عنها وتمثّلها بيُسر في عمل فنّي (موانع مثل: التقليد الأكاديمي، والتوقير المثالي للمكان والعلاقات العائلية، ثم تهديدات غامضة قبل الهجرة). أمّا بعد قطع العلاقة تدريجياً بالمكان اللصيق (أبنية ونصوص وأساتذة) فقد أصبحت الرؤية أكثر وضوحاً واعتمالاً وانشداداً للموضوعات “المهجورة”، لا عن حنين عاطفي، بل لتوثيق الصلة المقطوعة عنها، ومراقبة انطباعها المفاهيمي الغائر في اليد والذاكرة.
أكان واجباً الرحيل بعيداً، لاستعادة الوجه الشاحب للمكان وموادّه الأساسية، ثم تنقيته من الاسقاطات الشخصية والإجتماعية وتجميله من جديد؟ يبدو الفعل هذا حقيقياً وصادماً أكثر مما يظنّ النقاد والمؤرّخون الفنّيون. أصبح الأمر أكثر من هجرة وانفصال جيو_ سياسيّ. كان ارتحالاً مكانياً كلّياً عن التجارب الصغيرة (اللوحة، القطعة النحتية، المحاكاة البيئية السطحية، كما خاصة في تجارب الرواد أمثال شاكر حسن ومجموعة الحروفيين ورسّامي الأفق التجريديّين، ومنهم أخذت هناء مال الله زوّادتها الفنية الأولى) وباتَ ترسيخاً بيوطيقياً للأثر الواقعي والطبيعي وتشكيله في مختبر ذاتيّ شديد العزلة، بعيد عن المحاكاة السطحية والتوثيق الجماعي. لقد أنتجت الفنانة هناء مال الله ما يحاكي “المجالَ التشكيلي” بحرفيّته وذاكرته ثم إعادة تمثيله مجدداً باحترافٍ “مُبَيّأ” بإسنادات مفاهيمية موقعية، وأعمال تجهيز وأداء بعيدة الانفلات عن بيئتها الأصلية.
تعود “هناء” اليوم الى بغداد لتعرض بعض تجاربها الأدائية، ضمن ورشة فنية يشارك فيها عدد من الفنانين العراقيّين المغتربين (بدعوة من وزارة الثقافة) فتأخذ أثراً مهملاً وتُجري عليه فكرةً مسيطرة على خاطرها الموزع بين “الهنا_ هناك” وتطبّق مفهومَها عن تحولات المادة الأثرية بين “العتيق_ الجديد” ونقلها من سجلّها البيئي والتاريخي (سوق، رصيف، مطار، ملجأ، متحف، بيت النشأة والدراسة الأول…) إلى فضاء تفاعليّ مشفَّر، حيث المادة الملتقَطة ترتبط برقم تسلسلي_ كود تطبيقيّ يسمح بالانتقال الحرّ بين الآثار والذاكرات المرتبطة بها (ظلّت الفنانة هناء تنقش هذا الرقم في أعمال مختلفة كي يذكرها بالمسافة البينيّة للمكان وذاكرته). وفي سياق هذا التسلسل_ التشفير، تقتني الفنانة جرّةً قديمة لتُجري عليها تطبيقاً مقارناً مع الكود المتحفيّ المسجَّل على الإناء النَّذري القديم في مشهد أدائيّ مؤثّر (هو في حقيقته بحثٌ تعمل الفنانة لانجازه منذ عام). فالفنّانة تحفر على السطح الآجريّ إرتكازاتها الرقمية والخطّية بالشِّدة اللازمة لتوقيع أخير، ومحاكاة تسلسلية، تعكسان قيمةَ الأثر في تعميق الأداء الفنيّ.
كان العمل الأدائي هذا_ المصوَّر بالفيديو_ وثيقة هامة سعى فنّانو العراق المهاجرون على تدوين أمثالها وإدراج نتائجها في سجلاتهم/ ملفّاتهم المرقّمة وغير المرقّمة (علي النجار، غسان غائب، مظهر أحمد، صادق كويش..). إذ ما ضاعَ وابتعدَ وتحطّمَ في الواقع مرّة، سيعود للظهور بكيفيات تشكيليّة ومسافات بينيّة مرّات ومرّات.. كل ذلك بمفهوم السلسلة المشفّرة، والحفر الغائر على سواعد أيدٍ جرَّبت العمل الشاقّ في ظروف جيو_ بيوطيقية صعبة وقاسية. وليست هناء مال الله استثناءً فردياً من السلسلة، لكنّها الرقم الأكثر استثناء وانفراداً وصيرورة على اختلاف الأماكن وتعدد الموادّ والمصادر. وستكون وثائق العمل الأدائي (المقارنة النَّذرية لحياة مهدَّدة) هذه جزءاً من ذاكرة الصيف الجرداء، وانقلاباته المفاجئة، بالرغم من تطمينات العودة إلى أمكنتها الأولى بوعود مؤقتة.