يحسب بعضُ الكُتّاب مشاغلَ السَّرد حصيلةَ اتفاقاتٍ وتماثلاتٍ عربيّة وأمميّة، غالباً ما تنشأ/ تطرأ وقتياً لسدّ حاجات أدبيّة مكانيّة ووقتيّة. وهذا ما يجعلها دون مستوى صنعة السّّرد باعتبارها بحثاً في التقليد كما في التجديد على مستوى واحد. ناهيك عن أنّ مثل هذه الأعمال المختبريّة تحتاج تأطيراً تجريبيّاً ومعرفيّاً على مستوى عال من الجدّية والاختصاص والديمومة.
المشغل فضاءٌ تجرببيّ يتابع الواقعةَ السردية، الجغرافية النادرة والمبذولة، التاريخية المتجذِّرة والتصادفيّة، بحضور أشتاتٍ من المنتسبين المحترفِين والهواة؛ حيث لا تقتصر أعماله على جهود السُّرّاد المكتبيّين، بل تتعدّاها إلى أعمال أصنافٍ من الحُكاة الشفاهيبن والرحّالة والصحافيّين والمنقِّبين الآثاريّين وغيرهم من أهل الصنعة. فهو ليس ورشة لتعلّم الكتابة أو اكتساب الاعتراف بالموهبة وتنسيب الهوية الأدبية لمؤسسة/ جماعة/ تيّار أخويّ منغلق؛ لكنه قد يكون محفلاً ذا صفة كرنفاليّة (بالمعنى الباختينيّ التركيبيّ) في بعض جوانبه. بذا فإنّ وظيفة المشغل السَّرديّ الأساسيّة ليست مناسبة عفويّة لانتاج نصوص تراكميّة، إنّما إنتاج صيروراتٍ مفهوميّة، ومراقبة توزيعها على الأصناف/ الأجناس الفاعلة، ثم اشتغالها في تركيب النصوص السرديّة في أحسن صورةٍ وأشمل بناء.
لِما تقدّم، فقد ينشأ المشغل بين حاضنات أكاديميّة، أوّلاً، شأنه شأن مراكز الفكر الفلسفي والبحوث العلمية، لكي يكتسب استقرارَ المفهوم ومنهجيّة الاشتغال، لكنّه ينفصل لاحقاً، إجرائيّاً وتركيبيّاً، عمّا يماثله من مواقع البحث العلمي والأكاديمي. أما إذا اتخذ المشغل صورةَ مشاغل فردية بإشراف كتّاب مُجرَّبين (مشغل ماركيز لكتابة السيناريو في كوبا مثلاً) فهذا لأنّ المشتغلين فيه ينتسبون الى جنس تقليديّ راسخ في العمل الأدبي أو السينمائي، له امتداداته الخيالية في الفكر والخيال؛ فقد يكون مشغل ماركيز ذاك واحداً من مسارح المدن القديمة، ومحفلاً من محافلها الحكائية (أنموذجه الأمثل: حكايات الديكاميرون، وألف ليلة وليلة، والمقابسات، ونشوار المحاضرة وسواها من تجارب المقابسة والمناظرة).
إذن، لنبحث عن الأسس التي قامت عليها مشاغلُ سرديّة عربيّة وعالميّة مفارِقة، كي لا نخطئ السبيل إلى صنعة السَّرد في عالم هو في حقيقته صناعةٌ سرديّة بالدرجة الأولى/ مفهوم ملغِز تكمن وراءه تجاربُ اجتماعيّة وسياسيّة في غاية التطرّف والشذوذ. إنّ البحث المختبريّ، في أحد مراحله، نظير لرحلةٍ في تجارب الأفراد والمجموعات الثقافية (ضمير الإنسانية من مواقع شتّى).
من الأسس التي تكفل بقاء مشغلٍ سرديّ، “تبيئة” تمارينه واشتغالاته موقعياً، على العكس من استنبات تجارب غريبة في حاضنات صناعيّة (نظريات وتجارب مجاورة من العالم القريب والبعيد). فقد لا تنفع إفاداتٌ شهيرة/ شائعة في تخصيب مواقع السَّرد المحلّية (أعتقدُ المحلّية شرطاً في تأسيس مشغلٍ ما). بل لا يحقّ لمشغل استعمالَ عنوانِه الموقعيّ/ المحلّي (مصريّ/ مغاربيّ/عُمانيّ/ كويتيّ/ عراقيّ) إلا بالتخصّص في أعمال أكثر تجذّراً في موقع المشغل (مثلاً ما يبحثه المشغل المغربيّ في تجذير أدب الرحلة، السيرة الذاتية، السيمياء البيئيّة والاجتماعيّة في تخصّص الديانات التصوفيّة واللهجات القبائليّة والصحراويّة والأزياء والموسيقى التقليديّة والعمارة البدائيّة..) وهذه التخصّصات في نظري أهمّ بكثير ممّا يقاربُه أحياناً المشغلُ (المغربيّ نفسه أيضاً) من بحوث منقولة بحذافيرها عن مشاغل غربيّة، قطعت أشواطاً بعيدة في تجذير موقعيّتها النظريّة والتطبيقيّة.
وفي نظري فإنّ مشاغل فرعيّة أخرى، عراقيّة في الخصوص، ستعمل بذات الاتجاه؛ فمن مهمّاتها بحثُ أنماطٍ سردية قديمة وحديثة، وإعادة نشر أبحاث أنثربولوجية ولغوية (مثلاً: رحلات داخليّة لمناطق غير مكتشفَة، وترجمات ذاتيّة، وكشّافات وفهارس، إضافة إلى معاجم اللغة الشبيهة بمعجم الرصافيّ “الأداة” والكرملي “المساعد” وتحقيق محمد سعيد النعيمي لمعجم “دوزي” والبحث المقارن في اللغة والعادات لحميد العلوجي وعزيز الحجيّة وجلال الحنفيّ، وما أنجزه مصطفى جواد والمخزومي وإبراهيم السامرائي وحسين علي محفوظ وكوركيس عواد ونعمة العزاوي ومَن ناظرَ أعمالهم في هذه المجالات).