عبد السادة البصري شاعرٌ يمتلك التقنية العالية في رسم الحنين والحب على طبق . ولم أجد روتيناً ولا جزعاً ولا غثياناً في معظم توصيفات أشعاره غير أنها العصارة النثرية الصادمة للرائي والقاريء. وجدته مغايراً بلاتورية من بين عديد الشعراء جنوبيّهم وشماليّهم وبارعاً أكثر في ضخ أحزانه عن المعدمين: إذ يرقب على الدوام تشكيلاً آخراً على غرار ماقالته فرجينيا وولف (( أرقبُ على الدوام عصراً قادما ، أرقبُ الجشع ، أرقبُ قنوطي الخاص ، أصرّ على أنْ أمضي هذا الوقت ، في عمل أفضل الغايات).هكذا وجدت الشاعر القاطن فيحاء البصرة عبدالسادة في ديوانه(غرقى ويقتلنا الظمأ)موضوع البحث هذا.عابق بالنضال وعابر من السجون المميتة . يتشاطر ويحكي ويعذل الاّ انه لايشكي حاله بل يتضمخ بحال من تدانى أمرهم بسبب الطغاة.هوالألق المستديم والإبداع الرصين وسطوع الضوء الوجداني الباقي مع السديم .يغزل دجلة والفرات مثلما ظفائر شعرالبنات،ومثل طفولتنا عند عربات بائعي حلويات مايسمى بشعر البنات . والشعر أغلبه تحت طي إصبعه الحليم الماطر طقوساً متباينة جذلى. يتماشى متسربلاً مع ماقاله ماركس (اذا أردت ان تكن تافها فما عليك الاّ أن تدير ظهرك لهموم الآخرين).من خلال معظم شذراته الشعرية نراه مؤمنا بأنّ الفكرة موجودة قواعدها في الطبيعة ولابد ان ياتي أحدهم فيكتشفها . فعلى سبيل المثال إذا لم يكن (دارون) لأتى شخص غيره واكتشف وأبدع بنظريته وبالفعل كان صديقا له عمل بنفس البحث في اندونيسيا لكنه تراجع عنها.وكذلك ماحصل لنيوتن ومارتن حول التفاضل والتكامل .
الشاعرعبدالسادة حضرالحفلة التنكرية للحياة بوجهه الحقيقي وبعض مراثيه إحتوت كل الوجدان والمعاني العميقة التي لابد لها ان تشغل الحيز الأكبر في هكذا أدبيات. شعره قد تعمد في ماء الحداثة دون الإنغماس العميق في تدمير الذاكرة الماضوية، ولامناص انه شاعرَ الحداثة التي تهدم بشكل مستمر كل الثوابت بحيث لايعقبها بناء شبيه بالماضي الغابر لكني أراه قد إتخذ عصا الوسط الحداثي التي لاتنسف كل اليقينيات وكل ما كان ثابتا فهو يعيش في مجتمعات تتطلب الحذر الذي يقيه من الضرر فكان موفقا في ذلك أيما توفيق حتى أصبح شاعرا محدثا وعابرا ومتجاوزا بشكل كبير مثلما يقول أدونيس ( بإسم الغد الصديق /بإسم الكوكب الذي سميته الإنسان). شخصية عبد السادة المبدعة نراها في الهوية والعنوان ضاربة في الهدفية والغايات،تسعى الى الجدوى والى اشياء محددة وهي فرحة غير ضجرة. بوحه مؤمن بسيادة الفحوى وأولويته داخل النص. لنر ذلك أدناه في (تواصل):
أوقفني الشارع بضع دقائق
ليسالني
هل يمكن ان تحملني برهة ؟
أجبته
إصعد فوق الكتفين لنمضي
إسودّ رباب الغيم بعينيه
وأمطرّ كل سحاب الكون دموعا
الى أن يصل نهاية النص حيث يجيبه الشارع :
لا أقدر أن احمل أحزان الفقراء
انطولوجيا شوارعية مبكية اختزلت في هذه الأبيات كل التراجيدية وكل بلوانا من آدم وخطايانا التي نعيشها ولازالت عالقة في أذيالنا المهترئة .
الشارع يعطينا تأريخ جميع من مرّوا فوق أرصفة التراب في الأزمنة القديمة،أو فوق الإسفلت في الزمن الحديث، يعطينا تأريخ السابلة حفاتها ومنتعليها، وشاعرنا عبدالسادة أكثر مايتآزر مع حفاتها،على غرارالحكيم الصيني كونفوشيوس العظيم الذي يقول ( كنتُ أحسد من يمتلك حذاءً حتى رأيت رجلاً بلا قدمين).الشارع هو رمز الوداعة والإئتمان و هو المضي قدما وهو المستقبل الواعد،هو الموعد في المكان الفلاني،هو أنا وأنت وهي حينما نريد العبور منه الى الضفة الأخرى.
الشارع أو الأرض التي قال عنها السوري ( محمد الماغوط) لايربطني بهذه الآرض سوى حذائي . الشوارع أو الطرق عنوان الشخص وتأريخه وموطنه الأصلي وإذا ماحفظها عن ظهر قلب فإنها تدخل في القول الشهير ( كل الطرق تؤدي الى روما أو الى البصرة ).هنا نجد مناورة شعرية في غاية الذكاء من قبل عبد السادة فمن يحمل من؟الشارع أم الإنسان؟. لكن الشارع أجابه(لاأقدرأن أحمل أحزان الفقراء) فما أثقلها!! وهل هي أثقل من صخرة سيزيف أو أشدّ وقعا من المديون لتاجرالبندقية بقص لحم أكتافه؟؟ لكن عبد السادة أراد هنا أن ينقل لنا ماهي الشكوى من الشارع الذي ملّ وتعب من أحزان البائسين الذين مروا وسيمروا بلا هدف سوى قسريّة البقاء على هامش الحياة الآ وهم الفقراء لاغيرهم الذين تبنى عليهم الأوطان بمصانعها وشركاتها لكن الحصاد الأكبر للرأسمال الجشع المحمي من قبل سلطات القمع ولم يبق لحزانى الأوطان غير الفتات المر. في الجوهرة أعلاه ( وأمطرّ كل سحاب الكون دموعا)،كمن يقول ( بكَلبي حجي بكَد البجي المضموم بعيون الناس). فما كان مخفيا في العيون فهو فعلا نراه في ثيمات الشاعر عبد السادة وهو يعادل دموع هؤلاء سادة القوم وبنفس الوقت هم معدميه والذين أذاقوا الكثير في أيام القحط والتي شملت الشاعر نفسه مثلما في شذرة ( حصار) :
كل صباح
تخبرني إمراتي
انّ السكر والشاي
قد نفذا من تموين البيت
أخرج ملتاعاً للسوق
لكني
أرجعُ من حيث أتيت
الحصار الذي تفرضه سلطات هذا العالم الظالم جعل من الرئيسة الأرجنتينية ذات يوم أن تنزل بخطابها اللاذع في مجلس الأمن على طبيعة التعامل الغير عادل مع البلدان المقهورة بحيث أنها قالت ( جعلتمونا أن نفتح صنابير المياه ونريد أن نشرب أو نغتسل فلانجد قطرة ماء) . فلم يبق للشاعر عبد السادة غير أن يتكلم عن حال المكفكفين لدموعهم والمشمولين بهذا النص.ربما وهو راجعٌ كان يدندن ويغني مع النفس،وهذه قالها (رابندرنات طاغور)على لسان الممثل الهندي الجميل شاروخان (عندما يكون الألم شديد نتركه ونغني). كما انّ عزلة القلوب تفضحها مشاعرنا وهذه جعلت عبدالسادة بكل هذه المشاعر الهياجة المؤلمة أن يرتكن لعزلته الوقتيه الخائبة التي لاحول لها سوى القول ( أرجعُ من حيث أتيت) لكنه يبقى يقاتل من أجل رفع غاية مهمة لديه تتعلق بالأوطان أو ذاتية محضة. وهذه هي الحقيقة العليا التي نقرأها في الفلقة التالية من تفريغه( حقيقة) :
المقاتلون
المقاتلون الحقيقيون
وحدهم
وحدهم فقط
من يشعر بنشوة النصر
الثائر الإسكتلندي (وليم والاس) هو من الأمثلة العظيمة لماورد في نص الشاعرأعلاه وقد مثلت في فيلم جميل ( القلب الشجاع)BraveHeart عن هذه البطولة الثورية في مقارعة الإنكليز أثناء إحتلالهم إسكتلندة وهو من تمثيل الجميلة ( صوفي ماركو) مع كبيرعمالقة السينما( ميل جبسن) بدور الثائر (وليم) وقاد ثورته من نصر الى نصر حتى غدر به صديقه المقرّب وقبض عليه وساقوه الى محكمة غيرعادلة من قبل عمه الملك أنذاك . وهو تحت المقصلة صاح باعلى صوته (حريييييييةfreeeeeedom ) وظل اسمه مع الأبدية بينما صديقه الخائن إنتهى وأصبح في خانة قبائح التأريخ وخذلانه.هكذاهم الثوارالذين يبقون في صف القضية الحقيقية المدافعة عن قضية بلدانهم وعن معدميها وأطفالها الذين لايجدوا مصدر قوتهم وقد أبدع عبدالسادة بهذا الخصوص في شقشقيته الحزينة( طفل) :
بقدمين تلمان بمايسمى نعالاً يمشي
بعينين تحلمان بما يسمى فرحاً ينظر
بشفتين تحلمان بما يسمى ابتسامة يحكي
نراه كل صبح ومساء
عند تقاطعات الطرق
باحثا عن لقمة عيش ومأوى
وأخرى متوسداً حجرا
في غفوةٍ لعلّه
يحلم بوطن آمن
ياليتنا كما الأطفال نزعل على الملبّسة ونرضى بالسكويت..
لوحة زوج من الأحذية للرسام الهولندي (فان كوخ) عندما كان في سوق في باريس ورآها مهترئة فاشتراها وأخذها لمعرضه ورسمها في العام 1880 والحذاء هو مكان لسجن القدم واشتهرت هذه اللوحة وكتب عنها الفيلسوف دريدا وهايدجر يقول عنها من أنها تمثل حياة الفلاحين وأرضهم وموطنهم ومافيه من أطفال كما طفل الشاعرعبدالساعدة في هذا القصيد ،حيث أنّ الحذاء أو النعال يبقى كما كل الأشيياء لكن البشر يرحلون .
الشاعر الذي لايكتب عن المشرّدين،لايمكن له أن يرسم الخطى الصحيحة لأهداف الشعر، لايمكن له ان يحس بما عاناه الشاعر الفرنسي (أراغون) حين كان يبحث عن رغيف، لايمكن له أن يشعر بدوار الثمالة التي كان يجعل منها رداءً ليلياً المتسكع الأمريكي الشاعر ( أدغار الن بو) الذي كان يكتب مسايرا الليل السكران والذي كان يرعد ويرعد في كل برقةٍ حتى تجعل منه عموداً من الضياء،لكنه ذلك المطفأ حزنا وألما وتشردا يكتب بيده المعطوبة التي لاتستطيع حمل الكأس فتراه كمن يختلط مع أطفال الشوارع المشردين الباحثين عن لقمة عيشهم في المدن الكريهة التي ماعادت تجد لهم مأوىً. ويستمر الشاعرعبدالسادة بالعودة الى الأطفال والى طفولته بالضبط وكإنه يقول لنا: كان ياما كان في قديم الزمان هناك رجلٌ جاء من رحم أمه إسمه عبدالسادة البصري.لنمعن النظر في جمالات (مواطن) :
حين تملّكتهُ رغبة الإنجاب
ومن سيكون ولياً للعرش
استأجر أبي رحماً
بعد ان دفع المهر لأهل أمي
لم يكن لديه عرش
بل بقايا ديون
فجئتُ الى الدنيا
حاملا ً
مرض الإيجارالمزمن
أهم يومين في حياتك هو اليوم الذي ولدت فيه واليوم الذي تعرف السبب لذلك( الكاتب الأمريكي مارك توين).كما أنّ اولئك الذين يولدون وفي فمهم ملعقة من فضة هم المترفين،أما شاعرنا عبدالسادة فهو خلق من صلصال أبيه.نص فيه الكثير من الفنتازيا الواقعية. فقد جعل عبدالسادة الرحم مسكنا بشكل متجاوز وعابر للإبداع فتوفق في ذلك الى حدود كبيرة بل رسم الذهول في عقل الرائي فكان الإنبهار بالثيمة واضحا بالنسبة لي كناقد ومن المفترض أن يكن ايضا لدى القاريء الذي يتذوق المعنى الهائل في قصدية عبدالسادة.ومن غمرة هذا التداعي الطفولي الذي نشأ في رحمٍ مؤجر وإستمر في الحياة بالوراثة ( هنا إحتجاج عظيم من قبل الشاعر من أنّ بلداننا لاتأوي قاطنيها) فاصبح مستأجِرا مزمنا، بل الأنكى من ذلك هو أنه وجد نفسه في دوامة العنف اللامنتهي في بلد الدمار والتخريب بما يعني لقد إزداد الطين بللاً مثلما أوضحها لنا نص (وحدك والربا امتلأت رؤوسا) :
وحدك
والربا امتلأت رؤوسا
والسماء دما
والافق أحمر
والنصال على النصال
وحدك والفرات أشاح بوجهه خجلا
وكل مرؤة ضاعت
حين داست خيلهم
جسداً توضا بالمحبة
في القرن السادس عشر وفي يوم واحد قتل بين البروتستانت والكاثوليك في حروب الاديان 850 الف. وفي الهند تقاتل المسلمون والهندوس وآلاف الضحايا. وغيرها من البلدان على هذه الشاكلة.الاّ أنّ هذه الشعوب استفاقت من جرائمها وجعلت من الإنسان سيد لنفسه وبإعتباره
المركز الكوني وبنت شعوبها على الأمان والسلام ومن غير رجعة.الاّ نحن بقينا نتقاتل بإسم الأكليروس رافعين سيوفنا اللامعة من أجل نصرة السماء ونصدق كل من رفع راية هذا اللواء
وهذه مثلت في الفيلم العالمي الجميل ( هشاشة) frailty من تمثيل ( Bill Paxton، Mathew Maconaughe، Powers Both) وهو من أفلام الجريمة والدراما،الفلم يصوّر لنا مدى جريمة التطرف الديني وإيغاله في القتل على طريقة الإرهاب الديني الذي نراه اليوم في شعوبنا العربية ، يتناول الفلم قصة رجلٍ توفت إمرأته وظلّ يعيش مع إثنين من أطفاله ، أحدهم في عمر العاشرة ( فينتون) والآخر في عمر السابعة ( آدم) ، الأب هو صاحب ورشة لتصليح السيارات،تأتيه موجة من الخيالات والسَرحان والارهاصات والشرود الذهني الى رؤيا المسيح ، فتجعله يرتعش كما إرتعاشة الاولياء التي نقرأ عنها ، فتظهر له أثناء البرق والرعد ، ومع كل ومضة ٍوسناء نراه يرتعش و يتصور أنّ الله يتجلّى اليه من خلالها . في يوم وهو منطرح أسفل السيارة لغرض تصليحها ، يرى صورة المسيح تتجلّى له على هيئة نور كثيف وشعاع شمسي يسطعُ في ناظريه وكأنه قادمُّ من السماء ويأمره أن يقتل كل فاسد في الآرض فبدأ بقتل اصدقائه المقربين ووصل الأمر في أن يقتل أبناءه لكن إبنه الصغير عرف أمر الحيلة وقتل أباه بينما الأبن الأكبر يصدقُ أباه فينشأ الصراع بين الأخوين . وهكذا فعل التدليس إذا ما تنامى لدى الشعوب يصبح مدمرا ومن الصعوبة أن توقفه عند حده مثلما شعوبنا اليوم التي مازالت تنزف دما وتقتل المحبة بين الآنام كما جاءت في الشذرة الأخيرة للشاعر. ومن بين كل هذا الدمار نقول شر البلية مايضحك. وسنعرف هذاجلياً في ( ضحك) :
يتبــــع في الجــزء الثانــــــــــــي
هاتف بشبوش/شاعروناقدعراقي