“حتى على الموت لا أخلو من الحسد “
الوأوأء الدمشقي(*)
الكثيرون يستعجلون مماتي
حتى وأنا مسجى على الحصير، الحصير البارد للموت الكئيب، لم يكفوا عن الشماتة بي، وانتظار الشهقة الأخيرة .
أولادي ، ليرثوا الصئبان والبق والقمل .
معارفي ، ليتقوا عفة لساني .
.الحكومة ، كي أكف عن وقاحة مهاجمتها والمطالبة بنصيبي من ثروات البلد
.الرب ، أيضا لأسباب لا أستطيع تخمينها
وملك الموت الذي لم يكن أقل رأفة منهم، ولا أرق قلبا، شويخ من الغابرين، أتذكره جاء لزيارتي غير ما مرة بأزياء تنكرية، كان يمارس لعبته الوضيعة، نتعارك وننهي معاركنا بالشتائم والحجارة والوعيد، ونفترق من دون دماء، ونتواعد على لقاء جديد، يمنيني بجنان مغبشة وخمور رديئة وحور معمشة، ويساومني ويفاصل وينازل، ومرة أتى على هيأة امرأة مشرعة كنوزها، راودتني بكلماتها الموغلة في العهر والهشاشة والرقة واللين، وأمعنت في افتتاني بغنجها وغمزاتها الساحرة وحركاتها الداعرة، وعجيزتها الموزونة على هيأة قصيدة غزل، هذه المرة جاء إلى عقر داري محمر العينين، ونفسه تنطوي على شر دفين، لم يخيرني بين فرضيتي موت الرحمة ، واختر ميتتك بنفسك، أزال الغطاء من فوقي بقوة، كنت عاريا إلا من نصفي جورب ومئزر مثقوب من الخلف ، و إحدى بيضاتي تطل، بدأ يضغط على متانتي بعنف، ويعصر مصاريني حتى أضرط وأتغوط و أتبول ، ويجر لساني بقوة سفاح محترف، ويطبق بقبضتي يديه الخشنتين على رقبتي بشكيمة وصبر مجرم، ويطلق كلابه المسعورة تلغ في أسن دمي، موت عدو لا يمت للحياة ببصلة، يحاول في عجلة من أمره طرد الروح من جوفي، وإنهاء الأمر بسرعة، عينه علي وعينه الأخرى على طابور من المنتظرين، يصر على شفتيه بأسنانه المدببة، وسحنته المكسوة بدثار يأس مكين، لم أكن أعتقد أنه بهذه القسوة والغلظة والفظاظة والحقد والكراهية والخسة والجبروت، هو الذي لم يفرح لأفراح كائن ، ولم يستأنس أبدا لميلاد صريخ ، ولا لانت أحشاؤه يوما لأنة عجوز دردبيس، – ولم يحزن على فقد أخ ولا حزن أم على ولد-(*) ، كانت حركاته من البذاءة والوحشية والقسوة بقدر تجعلَني أرتجِف حتى تصطك عظامي، أئن تحت ضرباته ورفساته وركلاته ولا أستسلم ، وأظَن أَني هالك لا محالة، ولا أتوسل ، فأغافله وأفوز بنصيبي من حموضة أنفاس نبيذ فاسد ، وأنقب في مؤخرة جمجمتي ، ألملم أشطان أحلام معتقة كي أمنح كل كلمة ما يسكرها من النقمة ، أنا الذي عشت حياة تسر العدا ، وكرهت طول عمري المخاتلات ، والدسائس ، والحكومات المصابة برهاب الجماهير، ومن يربطون قضية الخبز بالأزمات العالمية، والحرية بإفساد الأخلاق، ومن يمدحون الملوك بجزمات مثقوبة وبطون فارغة ، والعناقيد بدون غضب ، والعوازل الطبية ، والقوانين لأنها وضعت للمستضعفين فقط ، والعسس وهم يقضون فحمة ليلهم الطويل في حراسة نوم النساء في غياب بعولتهن العنينين ، ونقاشات مدمني التدخين عن أمراض الرئة و الربو ، و أزهار عباد الشمس تطاول النباتات كي تحني هامتها بمذلة لشموس سادرة ، والأعراب منذ قالوا للبيت رب يحميه ، وحسان بن ثابت الذي لم يركب خيلا و لم يمتشق سيفا ، و لم يشارك في غزوة ، و لم يصف كاعبا ذات خلخال، و أحببت روزا لوكسمبورغ لأنها تردد اقترب من الشر يا عمري وغنيلو ، و العنب وقدرة دماره الشامل على جلاء القلوب ، و إبادة الكروب وإغاثة المكروب
وعلى مبعدة من ملاك الفناء البائس اليائس الخائب الحاد الحضور للخسارات ، و مني إنا مفعوله البطيء العنيد والصلد، كان يتناهي إلي سمعي صليل سكاكين و وشيش طبيخ ، و دوزنة آلات وترية و كمنجات ، و قهقهات نساء ، وشهيق حيوانات وطيور تتسافد ، بينما الخالق يتفرج من سدته على مخلوقاته ويضحك من المقالب التي ورط فيها الكائنات البائسة ، و يأخذ من قوت الفقراء ليربي أرصدة اللصوص والكسالى ، و يؤلب الشعراء للإجهاز على نقاء اللغة
و فيما كنت أفكر في من ستؤنسني في وحدة القبر ، تتمرغ في دمي ، و تلهب بضرام شبقها المجنون برودة أحشائي ، وفي قولة إيفان كارامازوف ، ” إذا كان اللّه موجوداً ، فكيف يَقْدر أن يتحمل عذاب الأطفال؟” (*) . كانت تتراءى لي بالكاد شياه تطارد ذئابا ، و ضحية تحاصر جلادها و هو يصيح دع عنك لومي
يا ملك الموت ، يا قاهر اللذات ، ياقرين الخسارات الكبرى و ساكن الخرائب و المقابر و الفلوات، والممعن في العزلات الأعمق وحشة ، خذ كل ثرواتي ، خذ روحي يوم السبت أو الجمعة أو الخميس أو الأربعاء أو الثلاثاء أو الاثنين أو الأحد ، لكن لا تخصيني و أنت خير العارفين انه سلاحنا الوحيد في فتوحاتنا العظيمة نحن العربان الصناديد
ــــــــــــــــــــ
– من قصيدة وأمطرت لؤلؤا للوأواء الدمشقي ويقال ليزيد بن معاوية
– الأخوة كارامازوف (ثيودور دوستويفسكي)، ترجمة: سامي الدروبي
من (…إلخ) – مجموعة قصصية – مطبعة سفي غراف – آسفي – 2014