مثل (بالونة) قاتمة منزوعة الهواء, يطل وجه (تايه) بسحنته السمراء الداكنة , بينما تتشابك وتتسع التجاعيد التي حفرتها سنينه السبعة والستين في خديه الأجوفين , كان شبح وجهه يمتص ضياء الغرفة الخافت ببشرة تهيأت لبثور الجدري منذ ستين عاما , تاركة مساحة مخلخلة بين ميلاده البعيد ونواجذه المنخورة , كان وجه الأسمر راوي عذاباته الخفي يُفتِّح مساماته الضيقة عندما يزوره الألم , زائرا يحتفظ بلون واحد من غبار السفر يتسلل إليه هنا الى منفاه بغرفه رقم 5 في (الخاصة) او قسم الاحكام الامنية الخاصة في سجن ابي غريب , الما ينغرس في اعلى بطنه مثل دبوس غليظ ينفذ في لحمه ليستقر مثل الجمرة بضع ساعات ثم يهدأ قليلا لينام عند وجه الصباح بدون احلام , ستة عقود من الزمان المشطب بالبؤس , ترتجف بين عينيه الضيقتين , يغمرها بين لحظة وأخرى بدخان لفائف التبغ الرخيصة التي صارت جزء من خريطة وجهه .
بأنف طويل يدلل أرنبته بمنديل أبيض , يطل تايه بذلك البروز الجريء الخالي من الندوب ,على الصباحات المشرقة والممطرة و الباردة والحارة ,ليعب الهواء بصمت , وينفث التبوغ والحسرات ,فيُتِم ثالوث الضجر ( السجن والتعداد اليومي) بتفلة عميقة وبصاق اصفر هدية متواضعة لخارطة السجن .
تايه , اسمه الذي التصق بألسنة السجناء على مدى تسعة عشر عاما
وثمانية أشهر , مضغته جدران السجن , حتى صار عظاما منخورة بين مزق يكسوها جلد أسمر , تكثف فيه دخان التبوغ الرخيصة , والشاي المر وتمن (كانا2) , كلها تفوح من مسامات جسمه إذا جلس على سريره الحديدي, مثل ملك معزول في منفاه و بهيئة عصية عن الوصف , تنفر منها الحروف فيبدو وكأنه تعلق بشماعة الملابس التي اصطنعها من الأسلاك الشائكة التي تحيط بساحة السجن
يطل بوجه صامت لا أثر للحياة فيه ,الا اذا تنفس ببطيء تنفس شبح بين تسعة عشرصرة صنعها من أكياس الدقيق الفارغة وثبتها بخطاف من الحديد في عارضة حديدية في سريره ,و كانت هي من احتفضت باسراره و حاجاته الشخصية, اسرار بدوي عاش حقبا في اعالي الفرات قرب عانه . لكن هذا الشبح اليقظ يتقهقر امام حواجز الارق التي تنتصب في منتصف الليل فيجلس على سريره معصورا من الالم مثل وجوه الموتى
– راح أموت……. راح أموت
كانت تلك الحروف تتسرب من معدته بوهن مثل دبيب النمل لتمتزج اصدائها معا بفمه المتيبس مؤلفة صوتا أشبه بالحشرجة .
كان هذا ذات يوم وكان فيه ضوء الغرفة خافتا وجميع من فيها توجهوا للنوم وبعضهم كان نائما يغط في نوم عميق
– ما الخبر ؟ تسائل أحد السجناء:
كان تايه يئن بصمت واضعا كفيه المتصالبين على بطنه
بطني………بطني –
بينما كانت حافة سريره الحديدي تمتلئ ببصاق أسود مثل بقايا القهوة العربية
كان يعرف علاجه جيدا فتمتم :
-أتوني بحبه( تكاميت)
– وتلك الحبه الخضراء.. هل تريدها أيضا؟ اجابه سجين آخر وهو يتفحص علبة معدنية مليئة بالمسامير واقراصا من الادوية
-أجل حبة (ابراكس)
ابتلع الحبة لتنزل على معدته مثل المطر البارد لتسكِّن آخر ارتعاشة للالم ويرتاح بعدها من نوبة قرحة الاثني عشري فيتناهى صوت من بعيد هو صوت فرهود ( القروي الواسطي) مازحا:
إنك بحاجة إلى امرأة –
ويصيح بقربه كاميران الكردي:
-بلي كاكا حتى تشفي من الاسنى عشر
هكذا خرجت هذه الجملة بلكنة كردية من فم كاميران لاتفرق بين السين والثاء
فيعفط تايه عفطة واهنه لا يسمعها إلا محمد أبو الكباب
ويردد فرهود مرة أخرى:
إنك متمارض, أنت بحاجة إلى امرأة لغسل سراويلك.-
فتثور ثائرة تايه بكلمات تظهر بعضا من بذائته بنبرة تدرك منها لهجته, لهجة بدوي من الأنبار
– سأضع رجلي ب…….
ويصمت مستدركا حياء بدوي شرب لبن الجمال .
تسعة عشر عاما مضت في مدينة لن تُدرَك حتى بعد قرون من الأحلام , شيدها تايه بسريره المتواضع الذي تتحدث فيه رائحه التراب . تراب تسعة عشر عاما .بعطلها الرسمية وغير الرسمية , تراب برجوازييها ومحروميها , تسعة عشر عاما لا يسعده فيها إلا رنين صوت بائعة الخضار القروية التي تنسل خلسة مع جموع الزائرين من عوائل السجناء, ليجلس معها , فيتحول إلى مخلوق ثانٍ يلحظون ذلك في التماع عينيه بعد التعداد المسائي اوعندما يراقب صرائره التسعة عشر… صرة صرة ,او عندما يزيل أول طبقة من التراب سمكها بضع سنتمترات فقط تكونت قبل عشر سنوات نسيها تايه حينما حدق بوجوه السجنا ء التي اكتست ببريق الفرحة المباغتة اذ أفرج عن الجميع بعفو عام ولم يشمله العفو هو وبعض السجناء
فغدا تايه( بابا هازا مسكين ) كما قال أبو إبراهيم اليزيدي بلكنة كردية واضحة متألما وهو يمسح بصابونة صفراء شاربه الأبيض الطويل
تركها أيضا حينما كان ينظر بسخرية الى منظر أبو فايق الكاثوليكي (عين) إدارة السجن او الجاسوس الخفي الذي مضغته إدارة السجن وتبرزته إذ لم ينسَ تايه الهمس الخفي من بعض ضباط السجن إلى جمع من السجناء بُعيد إعلان العفو العام
–العلاس3 هو أبو فايق
فلم ينس تايه وهو في صمته متأملا تلك الاحداث وفي زاوية فمه ارتسمت ضحكة مؤلمة لمنظر أبو فايق وقد انهالت عليه أكوام القمامة والأحذية حتى هرب مستترا بين الأسرة الحديدية يردد أشهد أن لا إله الا الله وأشهد( أن عليا رسول الله)
ويبقى تايه متهيئا إلى النوم بكامل ملابسه الأربع الدشداشة الصيفية والدشداشة الشتوية وسرواله الداخلي وسترته التاريخية الرمادية ,
ليطل قافزا بقامته القصيرة المنحنية فوق تلال السنون التسع عشرة التي تعثرت فوقها آماله , وبين هتاف ساعاتها الطويلة في المساء والصباح على أمل أن يجلس مع بائعة الخضار حيث يتحول الى تايه صغير .
وتمر السنين ببطيء تاركة رمادا يطمر احداثها فكان شعوره بالحياة يذوي غير انه فجأة يلتفت التفاتة واهنة إلى عشر سنوات من الماضي حينما كان يسير بخفة ويرتزق من عمله الطريف حد السكاكين واصلاح الأواني التالفة وصنع أواني الخزف حيث يعيش في عالم من الورود بين ياسمينات من الفافون4 وربما يرسم فيها قلبا داميا يخرقه سهم أو ربما يرسم عين تلك البدوية التي عشقته يوما ما.
-كيف حالك ياتايه
يرد بصوت هازئ لكنه محبوب اعتاد عليه كل من في السحن :
-زين!!
بهذا الصوت الرافض اتم كل أبجديته
-هل تريد شاي؟
-اعطني قليلا
فيشربه بين نوبات سعال جاف دفعة واحدة
ويبقى تايه لن يشتت النهار أفكاره المتراكمة , اذ تعلَّم الصمت يعبر به إلى فضاءات الذاكرة القريبة البعيدة , تسعة عشر سنة ليست بالكثير .حينما تلا قاضي المحكمة صفوت العاني:
(حكمت محكمة أمن الدولة على المجرم تايه سعدون خلف العنزي بالحبس الشديد لمدة خمسة عشر عاما بتهمة التجسس للانظمة العميلة )
قاطعه المدعي العام ليسأل تايه :
– ماقولك بتهمة التجسس لصالح الأنظمة العميلة
أجابه تايه إنه (يمضرط ) حتى قيل ان القاضي جن جنونه وزاد في حبسه خمس سنين أخرى تشفيا فتحول إلى (الحكم المؤبد) , إذن مدة حكمه صارت (عشرون عاما) بتهمة التجسس , فلا (عفو) سوف يشمله في المستقبل ..
لكن تايه لا يحتاج إلى عفو بقدر احتياجه إلى رفيقه (أبو صفوك )فيذهب إليه ليتناولا وجبة دسمة من الدهن الحيواني والخبز ليتذاكرا الماضي فيتمتم أمام الحاضرين ساخرا من تهمة التجسس
-تجصص .. تجصص ….أولاد العاهرات
وهكذا صار تائها يقف أمام عوادي الزمن بساقين رفيعتين أدمتها عشرات الاصابات من (الجرب ) ولدغات الكالوس5.
و تحول الى عظام يابسة يطل بها على عالمه الضيق وهو ساحة السجن الجانبية المليئة بالصناديق وقناني الغاز, ليتوكأ على حالة الطقس باحثا عن مكان خفي في الساحة المشمسة لكي يلتقط البضعة و الثلاثين قملة من سرواله الداخلي وفانيلته الصفراء ,كائناته البيضاء التي تحتفل مرارا بتجديد أماكنها بين أبطيه وعانته و لتتعاون مع رطوبة وعفونة السرير في تحديد زاوية انحناء ظهره .
وتطل عيناه عينا ضفدع عجوز, تطل على نافذة السجن لتسجل وتسجل كل شيء من صراع الطوائف والقوميات وصراع الأحزاب, وهي التي اختزنت ذاكرتها ما دار في ذلك اليوم القائظ حينما اُجلِسَ الجميع في الساحة الجانبية ليصطفوا خمسة , خمسة , طوابيرا كيما يشهدوا منظرا ما زال يعلق في الذاكرة , كان فيه مشاهد أقدام تركل أنوف وظهور , وجلْدٌ بوحشية , ورؤوس دامية , وهراوات غليظة ترتفع و تهبط وبين هذه كان ثمة صخب وجلبة لمدير السجن وهو يشير بسبابته :
-… حواوين6 مخانيث7 قشامر8
فوقف أمامه الطبيب السجين ذي الستة عقود يرده بشجاعة وجرأة
-أيهاالطاغية…… ماذا تريد؟
-أ مجنون انت ام وقح ؟
-انا اشرف منك ومن بعثك , انك مثل نكسة حزيران
القي بالطبيب طريحا على الأرض و تناوب في جلده جلادين شرسين بكابل معدني ,و بحرفية جلاد ابن قحبة … …. لم يكف الطبيب عن الصياح كان جريئا واستمر يشتم كل من يشتمه حتى خارت قواه وهو يردد:
-سفلة مجرمين سياتي يوم و…..نحتز …..رؤوسكم
ثم غاب عن الوعي بينما كان الجلادون يتهامسون :
– يا له من بغل كيف تحمل هذا الضرب , إنه لم يقل آخ.
ما زالت ذاكرة تايه تدون وتختزن هذه الصور, وهو الذي سمع صوت الطبيب الواهن يئن تحت الجلادين مرددا:
– يا عراق…. يا عراق
حتى اغمي عليه مرة اخرى وشفتاه السمراوتان ابتسمتا على اخر حرف من العراق
ذلك هو تايه حينما دخل مسار السنة العشرين إلا أربعة أشهر كأنه ممثل في فلم خرافي يظل به صامتا موجما لا يزحزح انطباق شفتيه الضيقتين إلا هاجس فيه ذكرى من تلك البائعة العابرة
وتطل فيه عيناه الرماديتان, عينا العجوز ثم تنسحبان إلى ساعات عتيقة مضت, حينما يجلس وحيدا شاردا ببصره
لينتبه مستعرضا جموع المصلين عندما ينهضون إلى صلاة الصبح و يبقى هو على سريره يصغي إلى السورة الوحيدة التي يحفظها من القران ,التي تنتهي عنده إلى
(اياك نستعين) فقط . وكأنه يحمل دينا جديدا يصحبه الى
جنان غير مـألوفة حورياتها من سنخ بائعات الخضار على أمل أن تأتي تلك الحولاء ذات يوم فيتقاسم معها زجاجة العطر التي أعطاها إياه سيد كاظم العطار
– خذها يا تايه انثرها على جسدك
فيدسها في جيب سترته العتيقة أملا أن يهديها إلى بائعة الخضار ليسافر عبر تفاصيل وجهها المنحوت من وجه الرمال ووجنتها التي لوحتها الشمس إلى عالم لذيذ حورياته حُوَّل جالسات على ارائك وثيرة مطرزة بأزاهير حمراء .. لعله يراها حالما بقصة كاذبة جديدة يرويها إلى صديقه ابو صفوك بين صحفة الثريد ورائحة الدهن الحيواني ..
ويرجع تايه في كل يوم عند المساء الى سريره بعدما تقفل ابواب( القسم) ليتأمل من بين تسعة عشر صرة, مطلا بأنفه المدبب ينفث الصمت تارة وتارة الشخير في منتصف الليل لينسى ( ابوغريب) و(الخاصة) المدينة التي احنت قامته وابتلعته منذ تسعة عشر عاما , إذ احتوته, تسميه باسمه تايه فقط بلا كنية او لقب سوى السجين
مدينة بلا اعياد ولا اطفال صغار ليس في مزابلها لعبة طفل تالفة ولا عباءة امرأة ولا اسرار النساء .
يقولون أن له قلبا أبيضا مثل بياض ذلك المنديل الذي يمرره على انفه الاقنى , قلبه ذو الأربع والاربعين نبضة كما قاسه يوما الطبيب السجين غالب البصري بعد ما شاهد تكرار ذهابه إلى مستوصف السجن خلسة بحثا عن علاج لقرحة الاثني عشري
لكن ذهابه هذا لن يتكرر إذ ان اسم تايه احترق وتطاير في الفضاء فجأة تاركا فراغا ابديا في جلسة التعداد الصباحي والمسائي اذ كان الطابور يكتمل بخمسة سجناء في كل سطر, فانه لم يكتمل في ذلك الصباح اذ تحول .
اسمه إلى دخان عابر مثل ذلك الدخان الذي ينفثه خمس وعشرين ساعة في اليوم . حينما حمله ابن بلدته حجي مكي الدليمي جثة هامدة كأنها صلبت منذ تسعة عشر عاما وأنزلت في صبيحة ذلك اليوم يوم الثلاثاء
تاركة اسمه تايه….. وحاجاته الخاصة التي دفنها في تسع عشرة صرة …… وحصاة ضخمة واحدة أو…… صلبوخ 9
………………
هوامش :
(1) الخاصه : هو قسم الأحكام الأمنية الخاصة المعني بالقضايا السياسية في سجن أبو غريب في العهد البعثي.
(2) كانا: اسم مقترن بسجن أبو غريب سواء بالطعام أو الملبس فيقال تمن كانا أي رز مطبخ السجن وحتى ملابس كانا اي ملابس السجناء
(3) العلاس: الجاسوس الخائن
(4) الفافون :ا لألمنيوم
(5) الكالوس:حشرة صغيره تسبب حكة شديدة تكثر في السجن
(6) حواوين: حيوانات
(7)مخانيث: مخنثين
(8) قشامر : جمع قشمر وتعني السيء الخلق بلهجة المناطق الغربية
(9) الصلبوخ :الحصاة الضخمة باللهجة العراقية الدارجة.
talibkadum@gmail.com