تحدونـي أســئلـة كثيـرة، وأنا أتصفـح ديوان بدر شاكر السـياب (أنشودة المطر).. ولعلني أجيب عن ســؤال واحد فقط، وفيما يتعلق بقصيدة واحدة …!!
ديوان أنشودة المطر يتضمن قصائد السياب العتيدة والخالدة، منهـا: أنشودة المطر، جيكور والمدينة، حفار القبور، في المغرب العربي، بويب …ألخ .. وإنّي لأســـأل، سؤالا” يلح علىّ كثيرا”:
هل أنّ السياب قال قصيدة أو قصيدتين أو ثلاث، كان لها الاهتمام الأوفى والكبير فـي الدراســة والنقد؟ أم أنه هناك قصائد أخرى قد تتفوق الواحدة على الأخرى وبالعكس، وحسب الأجواء المناسبة لكتابة أي قصيدة …؟
ويســرني أن أذكر من أني كتبت’ مقالة قصيــــــرة عن قصيدة (في المغرب العربي) علـى صفحات جريدة المنار، وبوقتها لم أعرف: هل نشــــرت أم لا..، ولكن المرحوم علي عباس علوان عندما شاهدني، أخرج جريدة المنار، وفتحها وقال لي: أنظر …! هذه المقالة القصيرة، هل تعود لك؟ قلت له نعم، منذ فترة أرسلتها بيد صديق لي إلى جريدة المنار (علي عباس علوان، تعرفت’ عليه حينما كان مدرسا” للغة العربية في ثانوية أبي الخصيب إذ كنت’ طالبـا” في الصف الرابع العلمي) وللحظات، أسرعت’ الخطى إلى بائع الصحف لأشتري منه نسـخة من الجريدة.. قصيدة (في المغرب العربي) عندما يتسنى لي قراءتهـا، أحسُ أنّ أعصابي كلهـا ترتج كما تهزّ كياني كله وأتألم كثيرا” … عندما يقول السياب:
قرأت’ أسمي على صخرة
هنا في في وحشــة الصحراء
على آجرة حمراء
على قبر، فكيف يحس إنســان يرى قبره؟
يراه وإنه ليحار فيه
أحيّ هو أم ميّت؟ فما يكفيه
أن يلقي له ظلا” على الرمال
كمئذنـة معفرّة
كمقبرة
كمجد زال
كمئذنة تردد فوقهـا أســم الله
وخطّ أســم الله فيهــا
********
أمّا الدافع الذي هيأ للسياب الجو لكتابة هذه القصيدة …!! فذكر الســـــــياب للأستاذ خالد علي مصطفى (نشر النص في مجلة ألف باء العدد 125 بتاريخ 23 كانون الأول 1970).. إنّ القصيدة انطلقت أثر قراءة السياب لخبر تاريخي قصير وهو: أنّ أحد المغاربـة العرب، كان يتجول في إحدى المقابر، فوقع نظره على قبر كتب على ” شاهدته ” الاسم نفســـــه الذي يحمله المغربي؛ توقف أمامه برهة وأخذ ’ يحدث نفســــه: أهو نفسه المدفون في هذا القبر وقد عاد حيّـا”؟ هذا الخبر الصغير والذي لا يلفت أنتبــــاه الآخرين هو الذي أوحى للسياب بهذه القصيدة العظيمـة، ويكاد يكون مطلع القصيدة ترجمة حرفية لهذا الجو …!!
القصيدة لها صدى أو علامة مميزة في مسيرة الســياب المتألقة، فهي قصيدة بحد ذاتها تعبر عن حالة الأنسـان العربي من أجل حريته ونهضته وجاءت متماسـكة وجريئـة، نظمها السياب ســنة 1956، ونشــــرت في مجلة الآداب، وكان في تفجير وضع جديد منه، قد تنقشع بعض الغيوم عن مجد تليد وحضارة عتيدة قد يحسُ بها الأنسان العربي بإخلاص لينتفض ويجد نفسـه حيّا” يرزق ويطوي صحائف الموت والتردي …
إذن، فما بال الكتاب والنقاد والدارسين لم يكن في مقدور بعضهم أن يضع في حسابه على ما تنضوي عليه هذه القصيدة العصماء الرائعة؛ قد تكون فلســـــــفية أو تطلِع كبير لتبصير الجيل الجديد لحياة تبدأ من زخم المعترك الذي ’ يهيئ للإنسانية مبتغاها في الحب والمحبـة والعطاء الكبير..
وأرجو ألا نتوقف كثيرا” عند قصيدة (أنشـودة المطر) أو أية قصيدة أخرى.. وإنّي أرى أنّ المجال مفتوح لقصائد عديدة قد تتوج آراء الكتاب والمعنيين، بكتابات تسمو في اقتدار نادر لتكون منهلا” صادقا” نغترف منها الكلمات العذبة لشاعر كبير..
ألا هل بلغت؟!