أولا-المقدمة
تشتغل الأجناس الأدبية،بشكل عام،على عناصر متعددة تتظافر ضمن الجنس الأدبي الواحد لتشكل أسساً،وأعمدة تقوم عليها هيكلة بناء هذا الجنس أو ذاك من الأجناس الأدبية.
إن لكل جنس أدبي بناؤه الخاص فللرواية بناؤها وللقصة بناؤها وللمسرحية بناؤها وللقصيدة بناؤها،وكل بناء يأخذ صفته من طبيعته الاجناسية المحددة،فنقول البناء الروائي،والبناء القصصي،والبناء المسرحي(الدرامي)،والبناء الشعري،وقد تتضمن هذه الأبنية على أبنية أخرى تأتي ضمن الجنس الأدبي المحدد،وهي جميعها تنقسم على مجموعتين أو عائلتين متجاورتين هما مجموعة البناء الشعري،ومجموعة البناء السردي،ولكل منهما ميزاته وقوانينه وأصوله التي تختلف باختلاف الجنس الأدبي الواحد على الرغم من السبق الذي منح الشعر سلطة ريادية،وهيمنة فنية قبل أن تنفصل عنه الدراما المسرحية،وتطلقه بشكل تام لتنبثق،بعد ذلك،فنون أخرى عبرت عن واقع حال الإنسان الذي تغيرت أشكال معيشته وصار أكثر سيطرة على شؤون حياته اجتماعيا واقتصاديا ودينيا.
لقرون طويلة ظلت المجموعتان متجاورتين ولكن دون أن تتماهى واحدة في الأخرى.إنها متجاورة حسب،ولكن بتغير الظروف وانعكاس التغير اجناسيا على الأدب بدأ التلاقح يأخذ مجراه بين ما هو سردي وما هو شعري،وقد تضمنت بعض التجارب على مساحة واسعة اشتغل فيها المبدعون على الدمج،أو التزاوج،أو التماهي،أو التداخل بين المجموعتين.وبرز،بشكل،واضح،من بين هؤلاء المشتغلين على السرد في كتاباتهم الشعرية، الشاعر العراقي شيركو بيكه س مما حدا بباحث أكاديمي هو د.فاضل التميمي أن يخصص لسردية شيركو الشعرية كتابا كاملا تناول فيه أغلب إن لم نقل كل أركان تلك التجربة،وهنا سنلقي الضوء أو الأضواء على ابرز ما جاء في هذا الكتاب الذي أقل ما يقال فيه أنه جدير بالقراءة.
ثانيا-البناء السردي في شعر شيركو بيكه س
بعد مقدمة قصيرة استعرض فيها د.فاضل عبود التميمي فصول ومباحث كتابه الموسوم (البناء السردي في شعر شيركو بيكه س) تناول المنجز الشعري الكردي المتميز عبر محطات إبداعية كان لها اكبر الأثر على تاريخ الشعر الكردي وتشكله إبداعيا على خارطة الشعر العراقي المنطلق،أبدا، نحو التجديد والتجريب.وضرب لنا أمثلة،ونقل لنا أخبارا أكدت أن أولية الشعر الكردي اقترنت بالشاعر بابا طاهر الهمداني المتوفى عام 1010م إذ تمكن هذا الشاعر من”تشكيل رؤية للحياة بوساطة الشعر على وفق ثنائية :التحول حيث عمل الأخير على تطعيم الذاكرة الشعرية الكردية بفنون بلاغية وعروضية جديدة أخذها من الشعر العربي”.
ولكنه ذهب الى ابعد من هذا حين نقل لنا خبر زيارة ياقوت الحموي لمدينة أربيل إبان الحكم العباسي لبغداد ولقاء ياقوت بالمؤرخ الكردي والشاعر والأديب أبي البركات ابن المستوفي المتوفى عام 637 هجرية بعد ان تحولت أربيل على أيدي مجموعة من الأدباء والشعراء الى حاضرة أدبية لها ما يميزها،كما يقول التميمي،ثم راحت بقية القائمة تترى وعلى رأسها أحمد الجزيري المتوفى عام 1481،وأحمدي خاني المتوفى عام 1706م ،وملا خضر نالي المتوفى عام 1855م ،ومولوي المتوفى عام 1882 ،وقادر الكويي المتوفى عام 1892 ،ومحوي المتوفى عام 1904 ،وأحمد مختار المتوفى عام 1935،وحمدي المتوفى عام 1936 ،وفائق بيكه س المتوفى عام 1948،ودلدار المتوفى عام1948،وبيره ميرد المتوفى عام 1950 ،ونوري الشيخ صالح المتوفى عام 1958،وأخيرا الشاعر المجدد عبد كوران المتوفى عام 1962.
بهذه القائمة المهمة أراد التميمي التوكيد على ان جذور الشاعر شيركو بيكه س تمتد في عمق التاريخ الشعري الكردي.وان هذا الامتداد هو الذي منحه القدرة على التجديد والتجريب والابتكار،وتجاوز المنجز الشعري القديم برؤى محدثة.
إن ما يميز اشتغالات شيركو الشعرية هو انفتاحها الثقافي والمعرفي والفكري فهي لم تعمد الى تكريس شعريته للكرد حسب ولم تقولب فكره بالجمود،ولم تقيد ديناميته بالسكون ،لقد ظل شيركو رامحا نحو تحقيق الظرف الإنساني الملائم لأبناء جلدته من العراقيين عربا وأكرادا بعد ان عاش ظروفا قاسية وغربة وتهجيرا ونفيا وإبعادا إجباريا عن منبته الكردستاني،وبيئته الجبلية.
في هذه المرحلة من حياته كتب أجمل قصائده التي امتازت بعراقيتها وانفتاحها عربيا وعالميا على بيئات خارجة عن حدوده الجبلية.يقول التميمي عن هذه القصائد إنها “عراقية تسوح خارج فضاء الجبل الذي ولد بين وديانه الشاعر،ولعلها كانت من نتاج انفعاله بالواقع العراقي بعامة،فهي بتوصيفاتها المكانية أعطت تجربة الشاعر أبعادا ربطت بين هموم الوطن الواحد”.
في المبحث الثاني(شيركو مؤلفا) يفرق الكاتب التميمي بين شيركو الشاعر وبين شيركو السارد فيخصص لمبحثه بابين مستقلين في الأول يتناول الشاعر بدلالة اسمه (شيركو) وتعني الأسد و(بيكه س)وتعني بلا أحد وهو المعنى الذي يتقاطع معه شيركو الشاعر في إحدى قصائده التي يقول فيها:
أنا (الأسد) في عش اسمي
لكنني لا أرغب بجهرة الأسد
لأنه شرس وعدواني
كنت أود أن يكون في اسمي
(الغزال) أو (الجدي)
أو (المهرة) أنا لقبي أيضا (بلا أحد)
وهذا أيضا لا يعجبني
ويشير التميمي في هذا المبحث الى تأثير الشاعر الأب فائق بيكه س على الشاعر الابن شيركو بيكه س وكيف تحولت حياة شيركو بفضله الى قصيدة شعرية رومانسية حالمة على الرغم من أن الابن لم يعش مع والده إلا قليلا.لقد توفي الأب قبل أن يكمل الابن سنته الدراسية الثانية في المدرسة الابتدائية لكن ذاكرة شيركو المتقدة كانت تحفظ حركات أبيه وهيئته وفنيته في إلقاء الشعر العربي والكردي فقد كان يحفظ معلقات الشعر العربي عن ظهر قلب فضلا عن الكثير من أمهات القصائد العربية المتميزة.لقد كان الأب بمثابة شعلة متقدة داخل روح الابن وكان لأناشيد،الأب،الوطنية،التي تلقى في المدارس،وقع السحر على بداياته الشعرية حتى انه حفظ كل كتابات أبيه من القصائد.ولقد وجدت أن الباحث قد تعجل الانتقال من موضوعة مبحثه القصير هذا الى موضوعة سيناقشها في المبحث اللاحق الذي يخص السرد وكان أولى به أن يتعمق في البحث عن شيركو الشاعر الذي كان السرد جزءا من منجزه الشعري الذي جنح الى استخدامه بطريقة شيركوية خاصة.
ويبني التميمي رأيه بشيركو ساردا على أساس تقمصه:”شخصيات مختلفة تنتمي الى عالم الأدب ،ولا تكون بالضرورة المؤلف نفسه،فيبدو مختلفا عن شيركو (الإنسان)” وكان ينبغي على التميمي أن يحصر مفردة (الشاعر) بين قوسين بدلا من مفردة (الإنسان) ما دام التفريق جاريا بين الشاعر والسارد حصرا.
إن التميمي في هذا المبحث يقدم لنا فهما عميقا لوظيفة السرد الشعري وتوكيدا لمعناه وتصنيفا لوظائفه التي يحصرها في:الوظيفة التواصلية،الوظيفة التوجيهية،الوظيفة الأيدلوجية،الوظيفة السردية،وأخيرا الوظيفة الشهادية.وبعد توضيح المهام الشعرية والسردية عند شيركو بيكه س ينتقل التميمي الى الفصل الثاني من كتابه والذي خصصه لدراسة بناء الحدث والشخصية ملقيا الأضواء على جوانب التجربة السردية ومظاهرها الفنية. ويبدو أن التميمي يقترب من خلال توصيفه لها من الدرامية الشعرية التي تكاد تتصف بها غالبية أشعار شيركو وبخاصة مطولاته الشعرية.ومن الجدير أن نشير الى أن التميمي ينظر الى البناء السردي في الشعر على أساس تجزئته بنائيا فثمة بناء للحدث وللشخصية،وبناء آخر للزمان والمكان وهذه العناصر البنائية،كلها،تدخل في صلب البناء الدرامي للنص المسرحي.كما ينظر الى بنية الحدث على أساس تجزئتها بنائيا أيضا ويذكر منها: بناء التضمين،والبناء المتتابع،والبناء المتداخل،والبناء المتوازي.وهو إذ يفعل هذا فانه يفعله بفهم دقيق لمهمة كل جزء من اجزاء البناء السردي ولكن ما يؤاخذ عليه هو اعتماده مقولات من سبقه في تعريفها من دون أن يكون له تعريفه الخاص.ولا يفوتنا هنا أن نشير الى دقة اختياره للنصوص الشعرية مما تيسر له من اشعار شيركو المترجمة الى العربية،وتفكيكه لمحتواها السردي وتفسيره لمقتضيات بناء الحدث فيها أو تتابعه أو تداخله أو توازيه بجهد نقدي كبير.وكما فعل مع الحدث فعل مع الشخصية إذ جزء بناءها الى شخصيات أدبية،وشخصيات تاريخية،وشخصيات الشاعر التي تضمنت على الألوان،والكرسي،والطبيعة،وهي جمادات تمكن شيركو من أنسنتها وشخصنتها وبث الروح فيها.
أما الفصل الثالث من الكتاب فقد خصصه الباحث لدراسة (بناء الزمن والمكان) وهما عنصران سرديان لهما التأثير الواضح في استخدامات شيركو السردية على الرغم مما يعتورهما من تعقيد داخل النص الشعري.إن التميمي في هذا الفصل اشتغل على عدد من القصائد المهمة التي تشكل خيارات نقدية دقيقة يتمثل فيها عنصر الزمان كحالة قلقة غير مستقرة لأن تلك القصائد تتحرك على نطاق زمني واسع ينساب من مرحلة الى أخرى ويقفز من زاوية زمنية الى أخرى فالزمن هنا لا يخضع لتراتبية وأنساق محددة ذلك أن الشعر يتحرر من تلك الأنساق والتراتبية ويخضع بشكل أو بآخر لتراتبية انفعالية وأنساق عاطفية تحددها لحظة الإلهام والاستشعار وهي اللحظة التي تتجلى فيها رؤية الشاعر متحولة من وجود روحي خالص الى وجود محسوس.ومن محاسن البحث،هنا،أن التميمي درس تلك القصائد على وفق الأنماط الزمنية الآتية:الاستباق،والاسترجاع،والإشارات الزمنية،والزمن الحاضر ودرس تداخلاتها وتماهياتها واشتقاقاتها لينتقل بعدها الى دراسة المكان وأنماطه وتأثيراته على بنية القصيدة باعتباره “حيزا واقعيا،أو متخيلا،أو خليطا من الواقع والخيال ليحيل على حياة يشكلها الشاعر برؤية فنية مغايرة للواقع، أو قريبة منه،أو مفارقة له مؤطرة بجملة من الخصائص،والمحددات،والرؤى التي هي بالضرورة نتاج التفاعل بين الزمن،والمكان والإنسان”
إن التميمي في هذا المبحث لم يدرس المكان كشكل مجرد أو بيئة مفترضة للنص ولم يهتم للأمكنة الأليفة والمعادية ولا الى آلاف الألفاظ الدالة عليها بل آثر أن يدرس المكان من خلال تلخيصه بـ(بالاشتباك) وتوصيفه بـ(الاقتران).بمعنى انه اشتغل “على وفق أنساق تأخذ من السرد هيأته،ومن الشعر تخيلاته فهي مثقلة بدلالات التغيير،والتحول،واستنطاق الحيز” .والمكان عند التميمي ينقسم على ساكن،ومتحرك،ومتخيل.الساكن يستمد ملامحه من سكونية الطبيعة المعادل لحركيتها،والمتحرك يستمد ملامحه من دلالة الأفعال التي تشتغل على تأكيد الحركة،وتفسير تأثيراتها،والمتخيل يستمد ملامحه من الصور المبتكرة والمفترضة في مخيلة الشاعر الساعية الى تحقيق جغرافية بديلة.
في فصل الكتاب الأخير درس التميمي أساليب البناء السردي ووسائله وهي في العموم مأخوذة عن فن السرد وأساليبه التقليدية فجاءت الوسائل السردية في شعر شيركو مشابهة لوسائل السرد التقليدية بمعنى أن الباحث توقف عند هذه الوسائل بحدود تقنية السرد ولم يتوغل عميقا لاكتشاف مغايراتها في الشعر وهذا واضح من خلال تطبيقاته السردية البحتة على سردية شيركو الشعرية التي تجترح أسلوبا يزاوج بين الشعر والسرد.لقد استعار التميمي من السرد تعاريفه الجاهزة لهذه الوسائل ولم يجتهد في وضع ما يماثلها في شعر شيركو على الرغم من الجهد النقدي الواضح الذي بذله ليكون كتابه بالمستوى الذي يليق به كباحث أكاديمي ماهر وناقد مجتهد.
وفي خاتمة (البناء السردي) وضع التميمي استنتاجاته على ضوء ما قدمه في مباحث الكتاب المختلفة من معالجات وافتراضات وتطبيقات ولأهمية هذه الاستنتاجات نلخص منها ما يأتي:
1. هيمنة السرد على قصائد شيركو الطويلة منها والقصيرة.
2. وظائف السرد:التوجيهية،والتواصلية،والسردية،والشهادية أسهمت كلها في تقديم شعر شيركو منتظما في فضاء التحديث شكلا ومضمونا.
3. انتظام الحدث في شعر شيركو على وفق أنساق هي:المتتابع،والمتداخل،والتضميني التي أثبتت أن شعره يروى ليعيد ترتيب الحكايات على وفق أبنية تتوخى السرد من منظورات مختلفة.
4. الشخصية في شعره السردي مستعادة من مصادر واقعية، فهي تاريخية،سياسية،وأدبية،وهناك شخصيات مبتكرة.
5. اشتغال الزمن في شعر شيركو السردي على الإشارات التاريخية،وتقانتي الاسترجاع،والاستباق.
6. البناء السردي قائم على وفق السرد الذاتي المقترن برؤية ذاتية بعيدة عن الموضوعية فضلا عن السرد الموضوعي الذي يتشكل على وفق سلطة الراوي عين الكاميرا.
7. يتصل البناء السردي بوسيلتين مهمتين:الوصف الذي يسهم في إنشاء السرد عبر توصيف الأمكنة السردية،والأزمنة،والشخصيات، وكذلك الحوار الذي ينهض على فكرة التواصل الدلالي والنفسي بين الشخصيات.
إن لكل جنس أدبي بناؤه الخاص فللرواية بناؤها وللقصة بناؤها وللمسرحية بناؤها وللقصيدة بناؤها،وكل بناء يأخذ صفته من طبيعته الاجناسية المحددة،فنقول البناء الروائي،والبناء القصصي،والبناء المسرحي(الدرامي)،والبناء الشعري،وقد تتضمن هذه الأبنية على أبنية أخرى تأتي ضمن الجنس الأدبي المحدد،وهي جميعها تنقسم على مجموعتين أو عائلتين متجاورتين هما مجموعة البناء الشعري،ومجموعة البناء السردي،ولكل منهما ميزاته وقوانينه وأصوله التي تختلف باختلاف الجنس الأدبي الواحد على الرغم من السبق الذي منح الشعر سلطة ريادية،وهيمنة فنية قبل أن تنفصل عنه الدراما المسرحية،وتطلقه بشكل تام لتنبثق،بعد ذلك،فنون أخرى عبرت عن واقع حال الإنسان الذي تغيرت أشكال معيشته وصار أكثر سيطرة على شؤون حياته اجتماعيا واقتصاديا ودينيا.
لقرون طويلة ظلت المجموعتان متجاورتين ولكن دون أن تتماهى واحدة في الأخرى.إنها متجاورة حسب،ولكن بتغير الظروف وانعكاس التغير اجناسيا على الأدب بدأ التلاقح يأخذ مجراه بين ما هو سردي وما هو شعري،وقد تضمنت بعض التجارب على مساحة واسعة اشتغل فيها المبدعون على الدمج،أو التزاوج،أو التماهي،أو التداخل بين المجموعتين.وبرز،بشكل،واضح،من بين هؤلاء المشتغلين على السرد في كتاباتهم الشعرية، الشاعر العراقي شيركو بيكه س مما حدا بباحث أكاديمي هو د.فاضل التميمي أن يخصص لسردية شيركو الشعرية كتابا كاملا تناول فيه أغلب إن لم نقل كل أركان تلك التجربة،وهنا سنلقي الضوء أو الأضواء على ابرز ما جاء في هذا الكتاب الذي أقل ما يقال فيه أنه جدير بالقراءة.
ثانيا-البناء السردي في شعر شيركو بيكه س
بعد مقدمة قصيرة استعرض فيها د.فاضل عبود التميمي فصول ومباحث كتابه الموسوم (البناء السردي في شعر شيركو بيكه س) تناول المنجز الشعري الكردي المتميز عبر محطات إبداعية كان لها اكبر الأثر على تاريخ الشعر الكردي وتشكله إبداعيا على خارطة الشعر العراقي المنطلق،أبدا، نحو التجديد والتجريب.وضرب لنا أمثلة،ونقل لنا أخبارا أكدت أن أولية الشعر الكردي اقترنت بالشاعر بابا طاهر الهمداني المتوفى عام 1010م إذ تمكن هذا الشاعر من”تشكيل رؤية للحياة بوساطة الشعر على وفق ثنائية :التحول حيث عمل الأخير على تطعيم الذاكرة الشعرية الكردية بفنون بلاغية وعروضية جديدة أخذها من الشعر العربي”.
ولكنه ذهب الى ابعد من هذا حين نقل لنا خبر زيارة ياقوت الحموي لمدينة أربيل إبان الحكم العباسي لبغداد ولقاء ياقوت بالمؤرخ الكردي والشاعر والأديب أبي البركات ابن المستوفي المتوفى عام 637 هجرية بعد ان تحولت أربيل على أيدي مجموعة من الأدباء والشعراء الى حاضرة أدبية لها ما يميزها،كما يقول التميمي،ثم راحت بقية القائمة تترى وعلى رأسها أحمد الجزيري المتوفى عام 1481،وأحمدي خاني المتوفى عام 1706م ،وملا خضر نالي المتوفى عام 1855م ،ومولوي المتوفى عام 1882 ،وقادر الكويي المتوفى عام 1892 ،ومحوي المتوفى عام 1904 ،وأحمد مختار المتوفى عام 1935،وحمدي المتوفى عام 1936 ،وفائق بيكه س المتوفى عام 1948،ودلدار المتوفى عام1948،وبيره ميرد المتوفى عام 1950 ،ونوري الشيخ صالح المتوفى عام 1958،وأخيرا الشاعر المجدد عبد كوران المتوفى عام 1962.
بهذه القائمة المهمة أراد التميمي التوكيد على ان جذور الشاعر شيركو بيكه س تمتد في عمق التاريخ الشعري الكردي.وان هذا الامتداد هو الذي منحه القدرة على التجديد والتجريب والابتكار،وتجاوز المنجز الشعري القديم برؤى محدثة.
إن ما يميز اشتغالات شيركو الشعرية هو انفتاحها الثقافي والمعرفي والفكري فهي لم تعمد الى تكريس شعريته للكرد حسب ولم تقولب فكره بالجمود،ولم تقيد ديناميته بالسكون ،لقد ظل شيركو رامحا نحو تحقيق الظرف الإنساني الملائم لأبناء جلدته من العراقيين عربا وأكرادا بعد ان عاش ظروفا قاسية وغربة وتهجيرا ونفيا وإبعادا إجباريا عن منبته الكردستاني،وبيئته الجبلية.
في هذه المرحلة من حياته كتب أجمل قصائده التي امتازت بعراقيتها وانفتاحها عربيا وعالميا على بيئات خارجة عن حدوده الجبلية.يقول التميمي عن هذه القصائد إنها “عراقية تسوح خارج فضاء الجبل الذي ولد بين وديانه الشاعر،ولعلها كانت من نتاج انفعاله بالواقع العراقي بعامة،فهي بتوصيفاتها المكانية أعطت تجربة الشاعر أبعادا ربطت بين هموم الوطن الواحد”.
في المبحث الثاني(شيركو مؤلفا) يفرق الكاتب التميمي بين شيركو الشاعر وبين شيركو السارد فيخصص لمبحثه بابين مستقلين في الأول يتناول الشاعر بدلالة اسمه (شيركو) وتعني الأسد و(بيكه س)وتعني بلا أحد وهو المعنى الذي يتقاطع معه شيركو الشاعر في إحدى قصائده التي يقول فيها:
أنا (الأسد) في عش اسمي
لكنني لا أرغب بجهرة الأسد
لأنه شرس وعدواني
كنت أود أن يكون في اسمي
(الغزال) أو (الجدي)
أو (المهرة) أنا لقبي أيضا (بلا أحد)
وهذا أيضا لا يعجبني
ويشير التميمي في هذا المبحث الى تأثير الشاعر الأب فائق بيكه س على الشاعر الابن شيركو بيكه س وكيف تحولت حياة شيركو بفضله الى قصيدة شعرية رومانسية حالمة على الرغم من أن الابن لم يعش مع والده إلا قليلا.لقد توفي الأب قبل أن يكمل الابن سنته الدراسية الثانية في المدرسة الابتدائية لكن ذاكرة شيركو المتقدة كانت تحفظ حركات أبيه وهيئته وفنيته في إلقاء الشعر العربي والكردي فقد كان يحفظ معلقات الشعر العربي عن ظهر قلب فضلا عن الكثير من أمهات القصائد العربية المتميزة.لقد كان الأب بمثابة شعلة متقدة داخل روح الابن وكان لأناشيد،الأب،الوطنية،التي تلقى في المدارس،وقع السحر على بداياته الشعرية حتى انه حفظ كل كتابات أبيه من القصائد.ولقد وجدت أن الباحث قد تعجل الانتقال من موضوعة مبحثه القصير هذا الى موضوعة سيناقشها في المبحث اللاحق الذي يخص السرد وكان أولى به أن يتعمق في البحث عن شيركو الشاعر الذي كان السرد جزءا من منجزه الشعري الذي جنح الى استخدامه بطريقة شيركوية خاصة.
ويبني التميمي رأيه بشيركو ساردا على أساس تقمصه:”شخصيات مختلفة تنتمي الى عالم الأدب ،ولا تكون بالضرورة المؤلف نفسه،فيبدو مختلفا عن شيركو (الإنسان)” وكان ينبغي على التميمي أن يحصر مفردة (الشاعر) بين قوسين بدلا من مفردة (الإنسان) ما دام التفريق جاريا بين الشاعر والسارد حصرا.
إن التميمي في هذا المبحث يقدم لنا فهما عميقا لوظيفة السرد الشعري وتوكيدا لمعناه وتصنيفا لوظائفه التي يحصرها في:الوظيفة التواصلية،الوظيفة التوجيهية،الوظيفة الأيدلوجية،الوظيفة السردية،وأخيرا الوظيفة الشهادية.وبعد توضيح المهام الشعرية والسردية عند شيركو بيكه س ينتقل التميمي الى الفصل الثاني من كتابه والذي خصصه لدراسة بناء الحدث والشخصية ملقيا الأضواء على جوانب التجربة السردية ومظاهرها الفنية. ويبدو أن التميمي يقترب من خلال توصيفه لها من الدرامية الشعرية التي تكاد تتصف بها غالبية أشعار شيركو وبخاصة مطولاته الشعرية.ومن الجدير أن نشير الى أن التميمي ينظر الى البناء السردي في الشعر على أساس تجزئته بنائيا فثمة بناء للحدث وللشخصية،وبناء آخر للزمان والمكان وهذه العناصر البنائية،كلها،تدخل في صلب البناء الدرامي للنص المسرحي.كما ينظر الى بنية الحدث على أساس تجزئتها بنائيا أيضا ويذكر منها: بناء التضمين،والبناء المتتابع،والبناء المتداخل،والبناء المتوازي.وهو إذ يفعل هذا فانه يفعله بفهم دقيق لمهمة كل جزء من اجزاء البناء السردي ولكن ما يؤاخذ عليه هو اعتماده مقولات من سبقه في تعريفها من دون أن يكون له تعريفه الخاص.ولا يفوتنا هنا أن نشير الى دقة اختياره للنصوص الشعرية مما تيسر له من اشعار شيركو المترجمة الى العربية،وتفكيكه لمحتواها السردي وتفسيره لمقتضيات بناء الحدث فيها أو تتابعه أو تداخله أو توازيه بجهد نقدي كبير.وكما فعل مع الحدث فعل مع الشخصية إذ جزء بناءها الى شخصيات أدبية،وشخصيات تاريخية،وشخصيات الشاعر التي تضمنت على الألوان،والكرسي،والطبيعة،وهي جمادات تمكن شيركو من أنسنتها وشخصنتها وبث الروح فيها.
أما الفصل الثالث من الكتاب فقد خصصه الباحث لدراسة (بناء الزمن والمكان) وهما عنصران سرديان لهما التأثير الواضح في استخدامات شيركو السردية على الرغم مما يعتورهما من تعقيد داخل النص الشعري.إن التميمي في هذا الفصل اشتغل على عدد من القصائد المهمة التي تشكل خيارات نقدية دقيقة يتمثل فيها عنصر الزمان كحالة قلقة غير مستقرة لأن تلك القصائد تتحرك على نطاق زمني واسع ينساب من مرحلة الى أخرى ويقفز من زاوية زمنية الى أخرى فالزمن هنا لا يخضع لتراتبية وأنساق محددة ذلك أن الشعر يتحرر من تلك الأنساق والتراتبية ويخضع بشكل أو بآخر لتراتبية انفعالية وأنساق عاطفية تحددها لحظة الإلهام والاستشعار وهي اللحظة التي تتجلى فيها رؤية الشاعر متحولة من وجود روحي خالص الى وجود محسوس.ومن محاسن البحث،هنا،أن التميمي درس تلك القصائد على وفق الأنماط الزمنية الآتية:الاستباق،والاسترجاع،والإشارات الزمنية،والزمن الحاضر ودرس تداخلاتها وتماهياتها واشتقاقاتها لينتقل بعدها الى دراسة المكان وأنماطه وتأثيراته على بنية القصيدة باعتباره “حيزا واقعيا،أو متخيلا،أو خليطا من الواقع والخيال ليحيل على حياة يشكلها الشاعر برؤية فنية مغايرة للواقع، أو قريبة منه،أو مفارقة له مؤطرة بجملة من الخصائص،والمحددات،والرؤى التي هي بالضرورة نتاج التفاعل بين الزمن،والمكان والإنسان”
إن التميمي في هذا المبحث لم يدرس المكان كشكل مجرد أو بيئة مفترضة للنص ولم يهتم للأمكنة الأليفة والمعادية ولا الى آلاف الألفاظ الدالة عليها بل آثر أن يدرس المكان من خلال تلخيصه بـ(بالاشتباك) وتوصيفه بـ(الاقتران).بمعنى انه اشتغل “على وفق أنساق تأخذ من السرد هيأته،ومن الشعر تخيلاته فهي مثقلة بدلالات التغيير،والتحول،واستنطاق الحيز” .والمكان عند التميمي ينقسم على ساكن،ومتحرك،ومتخيل.الساكن يستمد ملامحه من سكونية الطبيعة المعادل لحركيتها،والمتحرك يستمد ملامحه من دلالة الأفعال التي تشتغل على تأكيد الحركة،وتفسير تأثيراتها،والمتخيل يستمد ملامحه من الصور المبتكرة والمفترضة في مخيلة الشاعر الساعية الى تحقيق جغرافية بديلة.
في فصل الكتاب الأخير درس التميمي أساليب البناء السردي ووسائله وهي في العموم مأخوذة عن فن السرد وأساليبه التقليدية فجاءت الوسائل السردية في شعر شيركو مشابهة لوسائل السرد التقليدية بمعنى أن الباحث توقف عند هذه الوسائل بحدود تقنية السرد ولم يتوغل عميقا لاكتشاف مغايراتها في الشعر وهذا واضح من خلال تطبيقاته السردية البحتة على سردية شيركو الشعرية التي تجترح أسلوبا يزاوج بين الشعر والسرد.لقد استعار التميمي من السرد تعاريفه الجاهزة لهذه الوسائل ولم يجتهد في وضع ما يماثلها في شعر شيركو على الرغم من الجهد النقدي الواضح الذي بذله ليكون كتابه بالمستوى الذي يليق به كباحث أكاديمي ماهر وناقد مجتهد.
وفي خاتمة (البناء السردي) وضع التميمي استنتاجاته على ضوء ما قدمه في مباحث الكتاب المختلفة من معالجات وافتراضات وتطبيقات ولأهمية هذه الاستنتاجات نلخص منها ما يأتي:
1. هيمنة السرد على قصائد شيركو الطويلة منها والقصيرة.
2. وظائف السرد:التوجيهية،والتواصلية،والسردية،والشهادية أسهمت كلها في تقديم شعر شيركو منتظما في فضاء التحديث شكلا ومضمونا.
3. انتظام الحدث في شعر شيركو على وفق أنساق هي:المتتابع،والمتداخل،والتضميني التي أثبتت أن شعره يروى ليعيد ترتيب الحكايات على وفق أبنية تتوخى السرد من منظورات مختلفة.
4. الشخصية في شعره السردي مستعادة من مصادر واقعية، فهي تاريخية،سياسية،وأدبية،وهناك شخصيات مبتكرة.
5. اشتغال الزمن في شعر شيركو السردي على الإشارات التاريخية،وتقانتي الاسترجاع،والاستباق.
6. البناء السردي قائم على وفق السرد الذاتي المقترن برؤية ذاتية بعيدة عن الموضوعية فضلا عن السرد الموضوعي الذي يتشكل على وفق سلطة الراوي عين الكاميرا.
7. يتصل البناء السردي بوسيلتين مهمتين:الوصف الذي يسهم في إنشاء السرد عبر توصيف الأمكنة السردية،والأزمنة،والشخصيات، وكذلك الحوار الذي ينهض على فكرة التواصل الدلالي والنفسي بين الشخصيات.
وإذا كان لا بد من تقييم أخير لهذا الكتاب الثمين فلا مناص من القول أن (البناء السردي) واحد من الكتب المهمة التي تعمقت في تناول مفاصل السرد في الشعر،واجتهد مؤلفه في اجتراح أفكار واسعة لبيان عناصره الفنية والتقنية.وهو بعد هذا وذاك إثراء كبير لمكتبة النقد الشعري التطبيقي.
………………………………….
*البناء السردي في شعر شيركو بيكه س..تأليف د.فاضل التميمي..سلسلة كتب سردم العربي..الطبعة الأولى نهاية عام 2008