لم انس ذلك اليوم الذي رايتها فيه, كان يوم الثاني من حزيران في سنة 1991 وسمعت اسمها الذي كان يتشح برومانسية هادئة لا يدرك منتهاها , كنت اتامل هذا الاسم … (ثريا)… قلت ربما كان الاب شاعرا او رساما او ربما استله من قصة مبتلة بالعشق .
كانت تلف حول بدنها عباءة سوداء وكنت قد رايتها
لأول مرة عندما كنت اختلس النظرات للزائر القادم ظهرا, سمعت حينها صوت امي تدعوها للدخول وسمعت وقع اقدام خفيفة توقفتْ عند عتبة الباب , كان وقع اقدامها هادئا كوقع الحصى بين الينابيع, كنت استرق النظر الى القادم الغريب من فتحة صغيرة في زجاج النافذة, عرفتها , رجعت استلقي على سريري, كانت الساعة حوالي الثالثة ظهرا, سمعت حينها صوتا انثويا رخيما , وكانت قد جلست على اريكة حمراء في غرفة الاستقبال الضيقة, كانت ملابسها السوداء تبارك صمت بدنها تحت وحي من دقات الساعة الجدارية الرتيبة, فبدا وجهها القمحي مثل درة بين شقي محارة سوداء , و على قصر قامتها كانت تبدو طافحة بالأنوثة, شفتيها الدقيقتين تفتتح الأسرار في كلماتها وتختم كلامها بغموض يثير تاملات ورؤى, وبين هذي وتلك كنت اشهد على نفسي بانكساري امام مملكتها وسطوة سلطانها الذي بدأ بتحطيم تيهي .
كانت تحمل انباء انتكاسة الانتفاضة في مناطق الوسط وكربلاء وكيف هجمت القوات الحكومية على المدن واستباحتها , وشهدت انهيار آخر معقل للثوار قرب مرقد الأمام علي , كنت استمع للصوت المبحوح الذي يحمل وهن الهزيمة وصدى الغربة في مستقبل واعد بالتشرد وآلام المنافي .
وبدت وكأنها هي ايضا تشهد بتقهقري أمام فتنة تشع من وجهها منذ الوهلة الاولى, حتى صرت اقسم امام محرابها بالحب والثورة والموت والحياة , قلت في سريرتي:
– عمري الان يربو على الاربعة والعشرين عاما, سوف أكون طبيبا بعد بضعة شهور
تذكرت منذ بضعة ايام في احد الليالي آخر حديث للحب مع نفسي قبيل النوم , وكان هاجس الثورة يستعر في خلجات نفسي فيرسم كل كلمة بلون قاني كان احساسا يصلبني على جدار من الصمت وتارة ينقلني الى شواطئ تسودها العواصف والموت , قلت حينها انني عشقت الموت والثورة وكانت المرأة خطا احمر لم استطيع تجاوزه …
اما الان فلا ادري! فربما تكون هذي المرأة هي التي ستشهد حنثي في ذلك القسم الوهمي وسوف تكبِّلني و تزحف معي في المعركة.
سمعت صوت امي مرة اخرى يعلو بعض الشيء مرددة:
-(حسن).. تعال … هذه (ثريا )أخت( صلاح).
لم اجرؤء ان ادخل الغرفة و أقف امامها.. لا ادري كنت اشعر باني عندما أقف أمامها وانظر اليها كأني احمل ممحاة وامحو كل علاقة تربطني مع( صلاح ) اخيها, لكني تجرأت و سرت ببطي احمل دمائي المضطربة ملتمسا قوى خفية كيما ازيح الرغبة العارمة في ان اراها وبعدها امسك ذيل البحر كي اتوارى بعيدا عنها ,لا لأنها كما حدثت نفسي بانها اخته وهو رفيق درب .لكني كنت تحت سلطان الحيرة حتى كأن قدماي تتحركان الى الامام مثل حركة لص لايريد ان يرى شبحه اهل الدار , الى ان ألقيت التحية عليها من بين انفاس متسارعة استطعت ان اكتمها , وكانت عينا امي تنتقل بين عيني وعينها , لم أشأ ان اجلس ولكني اكتفيت بان رحبت بها ولويت عنقي كيما أجلس خلف جدار يفصلني عنها ليس اكراما لها بل كان حيرة مني واكراما لصديقي اوربما انني خشيت ان يفضحني اهتزاز حنجرتي وشعورا غريبا لم اعهده قد تولد توا .
اخذت تتحدث عن اخيها و انه بصحة جيدة , لكنه يفرط في التدخين, كانت كل كلمة تتفوه بها تصوَّب الى صدري وتستفزني بغضب على ما آلت اليه الانتفاضة , وكيف اعتقلوا واعدموا اعدادا غفيرة منهم , وكيف ان صلاح لايستطيع المجيء الى البصرة وان يباشر بدراسته وجامعته, كان صوتها يسترجع عذوبته بين امواج الحزن بعد عدة محطات للصمت …. قلت لها لا عليك سترشح في الافق حلول كثيرة واخبريه ان لا يأتي فان الكثيرون يتربصون به قالت :
-كان يموج من الغصب وهو ينظر الى سعيه وسعي رفاقه وقد صار رمادا في مهب الريح, فالسلطة استعادت قوتها وبطشها
واردفت :
– هل تتوقع ان ثمة نذير ثورة يلوح في الافق ؟
قلت وشعرت بحرارة تجتاح راسي :
-اي افق.. والاشجار والجدران بدت هي نفسها تود لو تنهزم , الناس غاضبون … بلا… ولكن يقفون في عين التردد و الحيرة
هم يحتاجون الى حقب من الوعي ليشرعوا بأول خطوة في درب النضال , لا يملكون الوعي في العمل ,فكيف يبدأون الشروع في التقدم ,ان البغض وحدة ليس كافيا لكي يهدم بناء السلطات الغاشمة , يجب ان يكون البغض مدعَّما بالوعي , يقول (ماركس) الفقر وحده لايصنع ثورة , لكن وعي الانسان بالفقر يصنع الثورة , لم ارَ فيهم ذلك الادراك الذي يعي فداحة الفقر ولم ار ذلك الاحساس الراسخ بانتصار الثورة .
كنت قد اشعلت سيكارتي ونهضت ابحث عن نفاضة السيكاير, جئت بها بعدما دلفت الى غرفتي, كن ت استرسل بالحديث وشاهدتها مرة اخرى , شاهدت الغضب الذي يكسبها بهاءا فوق بهائها وكيف يصبح الوجه القمحي الصغير اجمل صورة حتى وان أوشكت ان تخفيه طيات وشاحها وعبائتها السوداء , وكيف استطال الحاجبان بمسار واحد لاغيره ليلتقيا متشابكين بقوة استمدها من دماء امم الفرس التي انتقلت اليها من امها الشيرازية , وان بين الحاجبين كان الانف , ربوة يونانية صغيرة متمردة, لم تكن تتكلم , لكن اسنانها التي ت شبه اسنان اخيها كانت اخر ماوقع عليه بصري .. لم ادر , أ كنت توقفت للحظة ام لحظتان عن الكلام ؟ وهل توقف كل بدني؟ ام انني توقفت عن الكلام فقط ؟, لكني لمحت عينيها كادا ان يشرأبا ويقعان في عيني ,ادركت كم هو الشبه بينها وبين اخيها , كانت تلك نظرة واحدة ارتد بصرها بعدها لتنظر الى الارض , وتعبث بعبائتها كيما ترفعها قليلا ازاء فمها وانفها ,و لم تكن حركة غاضبة كوجهها الحزين, ولكن كانت ابتسامة للحظة سرور خفية ارادت لها ان تختفي بين سواد عباءتها وان يكون تصرفا جادا من فتاة يجب ان تكون خجولة , كانت لحظة سريالية ابصرت فيها سواد عينيها من بين دخان سيكارتي المتصاعد للاعلى حاولت ان استمر بالحديث لكني نسيت اطراف الحديث ممعنا بيديها النحيفتين , كيما أقف في مدار اتتلمذ فيه بالعشق واتسول نظرة اخرى , واسترق النظر الى عينيها, جلستُ في مكاني ليكون الجدار بيني وبينها فاصلا , اسجن فيه نفسي بين مربع وهمي مليء بالطلاسم والاحاجي ح س ن….. ن س ح ….. ح س ن …. ن س ح هكذا تناثرت حروف اسمي لتحيط باسمها (ثريا )
مضىت خمسة عشر عاما على هذا السر القابع في مملكة الذاكرة السجينة فهو سر يرزح معي في سجني ,في زنزانتي كأننا معا في جوف قوقعة بكماء لكنه لم يكن سوى خيالا لذيذا او صدى انشودة كئيبة تهيات لعزف ليلي فقط لا تعرف من الامل الا حسرات الهزيع الثاني من الليل .
كانت السنين فيها تتأرجح في حقبة راكدة يتسلل اليها الخوف والامل بخمسة عشر عاما قضيتها في السجن اعيش مثل سمكة يابسة بين جدران السنين .
و الآن لم يبق سوى بضعة ايام ويطلق سراحي …
لملمت اشيائي ,كنت اتامل وجهي في المرآة , صارت جبهتي عريضة وداهمني الصلع مبكرا حتى صرت أُشبه صورة جدي وصار لون شعري رماديا وحفرت السنين اخاديدا متوازية في زاوية عيني كانت روحي تتهيأ لليل تَجِدُّ فيه للبحث عن حلم من الماضي فقط لتلهو باجترار احداثه مثل الطفل .
-ايها الهَرِم صار عمرك اربعين عاما , ستجد كل شيء تغير في المدينة لن ترى بها الا صدى الماضي تسترجعة ذاكرتك بايقاع حزين , الشوارع تصحرت لم يبق لك من صديق , لقد كبروا , او هاجروا او وربما يتحاشون الحديث معك انك ستكون مشبوه , معتقل سياسي مجنون ,تناطح الجدران كما قال رفيقك في الزنزانة( واثق الكاظمي) , لقد تصدعت البيوت واقتربت الجدران من بعضها البعض , لم تعد الشمس هي الشمس بخيوطها الذهبية , صارت كرة حمراء ملتهبة تلوِّح وجنات الباعة من الاطفال قرب (الترافك لايت) لا اثر لاي بهجة في اي زاوية في المدينة
ايقنت ان الفناء مرض يجتاح كل الاشياء لا يستثتي اسما من الاصدقاء .
سيطلق سراحي , بعد خمسة عشر عاما قضيتها , كان ابي قد رحل تاركا صورة تجمعنها معا .
اول من استقبلني عند بوابة السجن كان (مصطفى) وهو زوج اختي , عانقني بحرارة وتمتم ماسكا حقيبتي السوداء :
– ما حاجتك بهذه الحقيبة وانت نجوت من الصلب والموت, وقد أصبحت طائرا طليقا .
– لا ليس كما تعتقد , ان فيها بعضا من اسراري , فيها اوراق الليل والنهار وصورة طالما رسمتها وحاولت ان امسحها فلم تنمح , آثرت ان احملها معي في حقيبتي
وضع (مصطفى) الحقيبة على كتفة الايسر كان الافق امامي مثل صورة ممحية رسمت بقلم رصاص ومع ذلك كنت مبهورا بالنور, لم يكن مثل الظلام الذي عرفت فيه تناسل الاسرار وتاملات بين قناديل العشق , كنت اود ان اسال ( مصطفى ) عن كل شيء .
كان النهار باردا مليء بالضباب وكنت اشعر ببعض التعب وضعفا في بصري , ترددت ان اسئل مصطفى سؤالا عن فتاة ان كان يعرفها , عن (ثريا ) , لكني شعرت بالحرج فتراجعت ,كنا في الساعات الاخيرة من الصباح وكانت السماء حبلى بغيوم دكناء وكأن سائلا رجراجا ستنفثه بعد لحظات او عبر الساعات القادمة , صرت اشعر بالحبور وكانما ذراعا من السماء سوف تحتضنني .
جنديا البرجان اللذان يشمخان بين بوابة السجن العريضة كانا مهذبين فأوما لي احدهم باشارة الوداع , كنت قد تعرفت عليه منذ سنوات , توقفت للحظة , وقفت قبالة البرج , القى علي التحية مرة اخرى بكل ادب قال دكتور هل من شيء للذكرى , توقفت لحظات كان معي كتاب لكاتب من تشيلي عنوانه (تأملات في السجن والحب) .. ابتسمت له من بعد قلت ل(مصطفى ):
-التمس لي كتابا من الكتب التي في داخل الحقيبة , ودع رزمة الدفاتر
مد يده واخرج الكتاب الاصفر وكان مليئا بالهوامش والخطوط , كتبت بخطي على صفحته الاولى (العمر شمعة لابد ان تنطفي )… مزقت تلك الصفحة ريثما ينزل الجندي من برجه العالي , كان الكتاب قد بعث لي بيد صديق منذ بضعة سنين و كنت اتوقف مرارا وتكرارا امام عبارة كتبت بحروف لم يتبدل لونها تمتد تحت العنوان الرئيسي جعلتني اتامل فيها لساعات وساعات ( ان للموت مخلبا لايمس القلب) كنت اتسائل ما الذي استنزل هذه العبارات من فكر رجل او امرأة وزرعها تحت عنوان الكتاب ؟ أكان خيالا عابرا مر مغردا خلف أعمدة الحكمة السبعة ؟ ام كانت كلمات مجنون متلبس بالحب ؟.
كانت كل تساؤلاتي ماتلبث ان تتحول الى فقاعات تنفجر بِرَدٍّ محيِّرْ , تأملت الكلمات التي لم تكتب بماء السراب ,بل كتبت بقلم حبر اسود غارق في السواد وبحروف واضحة دقيقة شاء كاتبها ان تبقى واضحة للعيان عبر السنوات الماضية ,كانت رشاقة الخط توحي انها كتبت بيد انثوية ,لكن عمق الخط وسواده ربما جاء من يد قوية راسخة , جلست مع الحروف أدوِّر بصري الى غرضها لأرجع في كل مرة الى حل سرابيٌّ كمن تاه في جزيرة نائية , كان الذي جلب لي الكتاب قبل بضع سنين هو صديقي (ماجد) وقد سافر بعد عدة شهور الى سوريا فلبنان ثم انقطعت اخباره وبقي الكتاب يمتد اليه فضولي معربدا بين الفينة والاخرى فيرتد خاليا كمن يغترف من بئر مهجورة
بينما كنت اتارجح في دائرة ضيقة تارة اغفو فيها وتارة افيق على حلم ترسم خطوطه (ثريا ), كان ذلك قبل خمسة عشر عاما حينما كان عمري اربعة وعشرون عاما , الان بعد هذه السنين … ترى اين ذهبت ثريا؟ وقد بلغت الاربعين ؟ أ تزوجت ؟ هل انجبت و صار لديها اطفال ستة او سبعة , هم اليوم في مصاف الرجال , ضخام مثل اخوالهم ! او ربما كبرت و تبدو هرمة ؟ . ترى هل ادركت ماكان يدور بين عيني وراسي وكيف كنت احفر في الصخر أسرار اسمها , وكيف طوق اسمي اسمها , وكيف كان طيفها زائرا يتكرر في المنام , لكن تلك السنين بلا ريب , قد بعثرت اسمائنا , قتلتنا , وساحت دماء العشق منا معا , عندما تضرجت وجنتيها لأول نظرة في ذلك اليوم , يوم الثاني من حزيران اذ وقعت عيني عليها تتوسط ألمي وحزني, كانت هي الاخرى تعشق الالم وتعشق الحزن ولم تكن في وجهي سوى خطرات الحيرة والعشق .
مرة اخرى اردت ان اسأل (مصطفى ) , لكنني ترددت . الان ترى اين اجد اسمها في كتاب الحزن الذي اقرا فيه منذ خمسة عشر عاما ؟ كان (صلاح) اخوها قد اعدم و (ظاهر) اخوها اعدم ايضا وابيها مات كل هذة الاخبار تناهت لي منذ بضع سنين اخبرتني امي انها زارتها مرة اومرتين .. ثم انقطعت اخبارها منذ سنين .
كان (مصطفى) توقف قليلا وغمغم :
– هذه عمتي ,امك وصلت .
نظرت الى امي تسير مسرعة لتحتضنني بشدة,كانت تشعرني بدفيء الامومة اذ ترجعني الى زمن يقرب الى ثلاثين عاما وكأن الاحداث تمر امامي اشباحا , ذكرتني بالطفل المشاكس الصغير الذي تحتويه الامومة فقط , كانت امي تبكي نظرت لي بعينيها الدامعتين وتمتمت :
-ايها الطفل المشاكس ..لقد كسرت ظهري
كان علي ان لا ابكي بل وانتزع هاجس البكاء من عيني, لكنها بغريزة الام امتدت يديها تحت عيني وكأنها تدرك ان شبح الدمعة يحوم مثل ارتعاشات الحزن ليستقر بين الجفون , قبلتني في خدي الايسر, لم تبصر الندبة التي امتدت الى زاوية فمي اليسرى احتضنتني مرة اخرى كمن تحاول ان ترجعني الى احشائها لكي استقر مرة اخرى في بطنها داخل برج لن يصل أليه السجان .
كانت امي هي الهاجس الوحيد الذي يخيم ظله في ساعات الخوف من المجهول, حيث الموت و الاعدام , وهما زائرا الشر اللذان ينسلا ن الى وعيي منذ ان دخلت الى فضاء الزنزانة الرطب .
الدموع بدات تنساب بهدوء ساخنة وأزاحت امي نفسها وتمتمت تشير الى شبح امرأة متلفعة بالسواد تسير بهدوء وغمغمت:
– اتتذكرها ….هذه (ثريا) !
تنحَّتْ امي بعيدا للتتحدث الى (مصطفى) ليجد سيارة نقل .
كانت (ثريا ) تقترب ببطء و لاول مرة تنظر لي دون ان تخفض عينيها كان جسدي قد تحول الى امواج لاتستقر في خليج , ادركت اني على شواطيء تفصلني عن الحلم ذراع او ذراعين كنت اود ان اصيح لها باسمي و اسمها لكني ادركت ان صوتي كان مذبوحا ولا جدوى من صياح عاشق اربعيني واهن, اقتربت اكثر وكأنها تبحث عن شيء خفي في وجهي وتمتمت:
-( ان للموت مخلبا لايمس القلب )