(ملاحظات موجزة عن تجربة النِّفَّريّ عبر مقدمة سعيد الغانمي لأعماله الصوفية)
(1)
“كان مولهاً، لا يقيم بأرض، ولا يتعرف إلى أحد”. هكذا وصِفَ الصوفي الأكبر محمد بن عبد الجبار النِّفَّريّ المولود بنفّر في العراق والذي عاش في قرن التوحيدي والمتنبي والفارابي، أي في القرن الرابع الهجري.
نعم، فقد شُغِل هذا الرجل بحبّ الله إلى الدرجة التي نسي فيه نفسه وأرضه ووطنه، إلى الدرجة التي يُقال عنها إنها درجة النسيان المطلق. ولِمَ لا؟ فالمهمة جليلة، والدنيا فانية لا ريب في ذلك، والمحبوب عظيم الشأن، قاهر القدرة، لطيف، مطلع على الأسرار فلا تخفى عنه خافية، غفور، مجيب للدعاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. كيف، إذن، لا يذوب المحبّ في المحبوب؟ وكيف لا يبحث بحثاً لا أول له ولا آخر مَن أكلته الحيرة ومزّقه القلق ونبذته الطمأنينة وأرعبه ضعفه البشري وارتباكه الإنساني عمّن يفتح باب الجواب ويغلق باب السؤال؟
كلّ صوفيّ حقيقي لا يقيم بأرض، أيّ أرض، وإن أقام سنين عدداً.فحبّ الذي قال كن فيكون لا يشبه أي حبّ آخر. إنه جوهر الحبّ والسؤال والماهية. ما دام كلّ شيء يمضي لا محالة إلى التلاشي والفناء والعدم ولا يبقى على العرش إلا مَن كان عرشه على الماء. لابأس، إذن، من السياحة في أرض الله علّ المحبّ يرى المحبوب، وينير له ظلمته التي لا حدود لها وهو بين العامة والسوقة والغافلين. علّه ينير له شيئاً، ويجلوعن قلبه الهم، وعن عقله هول الدنيا وغربتها، حيث الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا وقالوا كيف ولِمَ ومَن وعلام وإلامَ وممَن ومتى!
سياحة النِّفَّريّ امتدت لعِظَم السؤال وزوغان الجواب وارتباك الحال وقلّة الناصر وتماهي الحال مع السراب، امتدّت حتى أكلت العمر كله ولم تترك منه شيئاً البتة، حتى قيل إن النِّفَّريّ لم يكتب شيئاً. فمن كان يطوف في الآفاق حتى أنفق العمر كلّه في الطواف، كيف له أن يكتب؟ أي كيف له أن يستكين ويهدأ بعضاً من الوقت ليكتب؟ وهكذا ظهر مَن قال إن ما كتبه النِّفَّريّ كان بخط ابنه أو حفيده أو تلميذه.
كانت تجربة النِّفَّريّ جسيمة ومكابدته لا نهاية له. فالرجل مخلص في سؤاله تمام الإخلاص، وعاشق في حبّه إلى درجة الهيام، ومتيّم في محبوبه إلى الدرجة التي يصعب وصفها أو يستحيل، وعارف معرفة اليقين أن الدنيا لا تغرّ إلا السفهاء ولا تشغل إلا الأوغاد ولا تغوي إلا المارقين، فكان أن اتبع هدى مَن قال لن تراني ولكن انظرْ إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني، واتبع محبّة مَن دخل إلى الحضرة الكبرى فقيل له صفْنا فأوصى محبّيه أن كونوا كعابري سبيل، ثم اتبع حيرة مَن لولا تسبيحه لبقي في الحوت إلى يوم يبعثون، ثم اتبع خطاب مَن قال إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً. واتبع حوار مَن قال أنت تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسكَ إنكَ أنتَ علاّم الغيوب، ومن ثم اتبع، أولاً وأخيراً، نقطةَ مَن قال الحمد لله حمداً يليق بمَن خلق السموات والأرض وقدّر فيها أقواتها فكان الخالق، الرزاق، المعين، الكريم، العزيز، المتعال، الجبار، المهيمن، الحليم، الغفور، اللطيف، الحافظ، القاهر، الرحمن، الرحيم، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن.
كانت التجربة عظيمة والمسافة التي بدأت لم تكن لتنتهي. مسافة السياحة والبحث عمن وسعتْ رحمته كلَّ شيء ووسع علمه كلَّ شيء وأحاط بكلِّ شيء فلا تسقط ورقة ولا يولد مولود إلا بعلمه ولا تنتهي قصة الا وأعد لها ما يليق بنهايتها. ذلك الذي عجزت العقول التي مسيرها إلى الفناء عن كشفه فكانت القلوب هي الكاشفة، ولكن عبر سياحة الألم، ورحلة العذاب، وغول الحاجة، وربيع الزهد، وأنين الصوم، وصلاة الغربة، ودموع الوحشة والفقد والخوف والارتباك، ووجع الموت أو الاقتراب من الموت قاب قوسين أو أدنى.
هكذا قدّم النِّفَّريّ كشوفات رحلته السعيدة- المريرة. السعيدة والهدف هو الذي قال يا ابن آدم خلقتك وأنا أحبّكَ فبحقي عليكَ كنْ لي محبّاً. والمريرة حيث الجسد ضعيف، والملذات تحيط، والشهوات تطغى، والجوع كافر، والفقر أقسى من البحر الذي أغرق الفرعون، والعمى أطفأ العين فكيف ترى، والشوق إلى الأهل والخلان يذوب العظم، والمرض قليله كثير فكيف بكثيره؟
(2)
أية كشوفات هذه؟
كشوفات النِّفَّريّ غريبة عجيبة لا تشبه كشوفات غيره من المتصوفة. فهي تتشكّل لتمّحي، وتكبر لتنهار، وتنمو حتى تكون عمارة ثم تختفي، وكأن الكلام في كلّ ما سبق وقيل لم يقل البتة. فالرجل يقول الشيء ونقيضه. الشيء ونقيضه دون زيادة أو نقصان! إنه كمن يصطاد سمكة عظيمة حتى إذا فرح بها، وفرح بها مَن رآها، انزلقت فعادت إلى البحر أو النهر فذُهل القائل ودمعت عينا الرائي.
نعم، ذُهل القائل الذي سيسارع ليقول نقيض ما قاله سابقاً. وذُهل الرائي حتى أكله العجب فهو لم يرَ سمكة بهذا الكبرتُصطاد ثم بسرعة تنزلق إلى الماء، وكأن مَن أمسكها كان عاجزاً لا يمسك شيئاً أبداً.
ثم يعيد النِّفَّريّ المحاولة ليقف في موقف جديد أو في مخاطبة ثانية أو في رؤية ثالثة ليصطاد سمكة أكبر من السابقة، سمكة تتلألأ تحت ضوء الشمس بندرتها وجمالها ونشاطها، ولكن لن يكون مصيرها الاّ كسابقتها. فأيّ حظٍ سعيد هذا وأيّ خيبة مريرة؟!
(3)
في كتابه الصادر أخيراً تحت عنوان: (“محمد بن عبد الجبار بن الحسن النِّفَّريّ: الأعمال الصوفية”) سيناقش الكاتب والناقد والمترجم سعيد الغانمي رحلة النِّفَّريّ هذه بلغة العلم الدقيقة وجملة النقد الواضحة في مقدمته المتماسكة، الجديرة بالثناء حقاً. فسعادة كشوفات النِّفَّريّ ومرارة مصيرها الذي يهيىء لنقيض الكشف وما قاله الكشف في البدء هو ما يسميه الغانمي:ب(استواء الأضداد).
ثم يشرح الغانمي استواء الأضداد هذا بقوله:( في الرؤية تنعدم الحدود بين الأشياء. وحين تنعدم الحدود اللغوية بين الأشياء، تتضاعف مشقة الوظيفة اللغوية، أو هي تقف شبه خرساء، لا هي قادرة على التعبير، ولا هي قادرة على الاحتجاب: “إذا رأيتَني استوى الكشفُ والحجاب” (الموقف 31). فلا يكون أمام الرائي سوى التخلي عن مراتب المعرفة. لا بدَّ له أن ينزع أردية المعرفة اللغوية وأقنعتها واحداً واحداً: “إذا جئتَني فألقِ العبارةَ وراء ظهرِكَ، وألقِ المعنى وراءَ العبارة، وألقِ الوجدَ وراء المعنى”. في الرؤية تتساقط أقنعة الحجب والكشوف معاً. وإذ تتساقط الحجب، يشعر الرائي أن لغته ستطاوعه في وصف ما يراه وما يشق على التعبير. لكنه سرعان ما يكتشف عبث مشروعه، لأن الكشوف أيضاً تتساقط مع الحجب. هكذا تواجه اللغة مأزقها في قول ما لا يقال والتعبير عمّا يستعصي على التعبير، في المكوث في لحظة الاحتفال والبهوت معاً، لحظة انفجار الفرح وتبدده في وقت واحد: “إذا ذهبتَ عن اسم الشيء ووصفه وعلمه، ذهبتَ عن حكمه. فإذا ذهبتَ عن حكمهِ، حللتَ في أوّل درجةٍ من استواءِ الأضدادِ في الوجد” (الحكم، 133). وحين تتساوى الأضداد، تتداخل الحدود اللغوية بينها، ويصبح كل حديث عن الشيء حديثاً عن ضده في الوقت نفسه. وبتجاوز لحظة الانذهال عن اللغة بالمعرفة واستواء الأضداد، يستطيع العارف أن يخترق حدود التقليد، ويطير محلقاً خارج إطار المعارف المألوفة: “إذا علمتَ علماً لا ضدَّ له، وجهلتَ جهلاً لا ضدَّ له، فلستَ من الأرض ولا من السماء” (الموقف 55). والطيران خارج حدود السماء والأرض هو طيران خارج التقاليد وخارج اللغة معاً: “أن تشهدَ المعنى الذي به حميَ الماءُ هو الذي بهِ بردَ. فإذا كنتَ كذلك، استوى عندك فقدُ الأشياءِ ووجودُها”. لحظة استواء الأضداد هي لحظة اندحار اللغة وخذلانها أمام الواقع ولحظة تألق انتصارها وتحديها له معاً. هي التبشير بواقع حواري آخر، غائب أو مغيب، تتواءم فيه النقائض، وتتحقق الأوهام، ويمشي الحلم واليقظة يداً بيد).
(4)
قلنا إن الرحلة النِّفَّريّة صادقة وعذابها أكيد وزمنها ممتد. وإذن، سيكون صاحبها مشغولاً بالنور ولن يدله على النور إلا النار. وهكذا ستمتلك لغته – كأيّ لغة صوفي مخلص- مستويين، الأول: الظاهر وهو يشي بالشطح والغرابة والخروج عن المعنى المتداول، والثاني: الباطن: وهو يشي بالعمق والأصالة وغنى المعنى وفرادته.
وإذ رأينا النِّفَّريّ يبدأ مخاطبته بالشيء لينتهي إلى نقيضه، فإن لغته تمتاز بالمستوى الثنائي للغة المتصوف. وهذا مما يعقد الحال أكثر ويوسع من دائرة الإبهام والإرباك أكثر فأكثر. وفي هذا يقول الغانمي: (تجربة النِّفَّريّ مختلفة لأن الأمر فيها لا يتعلق بعجز اللغة عن نقل التجربة الروحية وحسب، بل هو أخطر من ذلك بكثير. فاللغة لا تستطيع أن تعبر إلا عن صفات النهائي والمحدود. أما اللانهائي واللامحدود، فلا تستطيع اللغات أن تعبر عنه: “إن كان النعت مبلغاً فهو مبلغ لا نعت، وإن كان النعت لا مبلغَ فهو نعت”. والنعت هو الصفة، والمبلغ هو الحد. وإذا أريد للصفة أن تكون حداً، فهي قاصرة دون شك، أما إذا أريد لها أن تكون نفياً للحد فهي الصفة الحقيقية، من هنا فإن صفة المطلق هي أن لا يوجد في اللغات ما يعبر عنه. لأنه بلا حد، واللغة محدودة: “والحدُّ كلُّه حجاب”. التصاق اللغة بالحدية والتناهي هو الذي يعجزها عن الارتقاء إلى وصف الصفات. ولذلك فهي تنحرف للتحول إلى حجاب.)
ويستمر الغانمي محاولاً ليس فقط وصف لغة النِّفَّريّ، بل تصنيفها فيقول ):في مثل هذا السياق الذي تصير فيه اللغة حجاباً: “العبارة ستر”، من العسير أن نصنف معارف النِّفَّريّ. فهو يتفلسف وينكر الفلسفة، ويعانق الحجاب ليستطلع الكشف، ويداخل بين الغيب والشهادة، والصمت والنطق، والوسوسة واليقين. بلاغة النِّفَّريّ هي بلاغة إنكار الحرفية، لأن “الحرف يعجز أن يُخبرَ عن نفسه، فكيف يخبرُ عنّي؟” (موقف ما لا ينقال، 34)، وإنكار المجاز أيضاً: “الواقف لا يعرف المجاز، وإذا لم يكنْ بيني وبينك مجازٌ لم يكن بيني وبينك حجابٌ” (موقف التقرير، 18). لغة النِّفَّريّ هي لغة التبشير بما وراء الحرف والمجاز، أي بما وراء اللغة الحقيقية واللغة الاستعارية، وبما وراء الشيء ونقيضه. وهنا بالضبط يصبح التصنيف أمراً مستحيلاً. هل نقول إن إبداع النِّفَّريّ ينتمي إلى الفلسفة أو الشعر أو النثر؟ هل نستطيع أن نروّضه وفق مقولاتنا التصنيفية الجاهزة، بحيث يوضع هذا الجزء من تفكيره تحت باب الشعر، وذاك الجزء تحت باب الفلسفة، والآخر تحت باب التصوف، وسواه تحت باب النثر؟ من الواضح أن النِّفَّريّ نفسه يرفض هذا التصنيف. لأنه يريد اجتراح لغة تتخطى دائماً مواضعات اللغة المألوفة، بحيث يكون المجاز حرفياً، والحرفية مجازاً، والحجاب كشفاً، والكشف حجاباً. يريد أن يمزج بين النطق والصمت، ويداخل بين وظيفتيهما، وبين الشعر والنثر، والفكر الفلسفي والفكر الصوفي، أو على حد تعبيره بين الحكمة الواضعة والحكمة المرتبة. ولذلك فإن نثره شعر، وشعره نثر، وفلسفته تصوف، وتصوفه حنين إلى فلسفة تتلهف لتخطي تخومها. وبالتالي نستطيع أن نخلص إلى ما خلص إليه أدونيس من استحالة تصنيف أدب النِّفَّريّ: “ففي هذا الشوق الذي يظل شوقاً نكتشف عبر نص النِّفَّريّ هذه المفارقة: الحقيقة غير موجودة بوضوحها الكامل، أي بغموضها الكامل، إلا في مثل هذه التجربة، أي في مثل هذه الوحدة الكيانية التي يكون فيها الفكر شعراً والشعر فكراً”).
(5)
لكني أرى النِّفَّريّ مشغولاً بالرحلة نفسها: رحلة الفناء في المحبوب أكثر من انشغاله بما ينتج عن الرحلة من كلام أو أقوال، وهذا الشغل والانشغال دفعا به إلى أن ينسى أو يتناسى توثيق الرحلة كلها فجاء حفيده أو تلميذه فوثّق الرحلة كما روي. وهذا مما زاد من غرابة النص ومواطن إبهامه، لأن الموثِّق، مهما كان قدره وقدرته، لا يمكنه، بأية حال من الأحوال، من الإحاطة بتفاصيل رحلة الموثَّق له وإزالة ما عتُم منها أو التبس. فبين الحالين بون واضح وبين الرجلين فرق أكيد.
النِّفَّريّ، إذن، مشغول بكشوفاته الروحية النادرة. وهذه الكشوفات أسمّيها ب(الشطح الخلاّق). والشطح عند النِّفَّريّ متواصل ومستديم في مخاطباته ومواقفه. شطح يتيح له أن يقول ما يريد أن يقول، دون خوف أو رقيب. ودون خوف من أن يُفهم أو لا يُفهم، فالالتباس وارد جداً. ولِمَ لا؟ ومَن يبحث عنه لا تدركه الأبصار وهو الذي يدرك الأبصار، بل إنه الذي يدرك القلوب التي في الصدور، وهو البعيد والقريب بل القريب إلى حد أن يعرف ما توسوس به الصدور.
كان النِّفَّريّ، كأيّ صوفي مخلص وحقيقي، لا يهمه ما يقول الناس عنه. الناس فناء ودنياهم فناء محقق. بل إن الرجل زهد في نشر أقواله وتركها مبعثرة حتى جمعها من جمعها ودرسها من درسها فوجد فيها كنزاً روحياً نادراً رغم تناقضاتها التي لا تكفّ عن الظهور وإبهامها الفسيح الذي لا يكفّ عن الامتداد.
ولذا لم يكن النِّفَّريّ معنياً بالكيفية التي ستخرج فيها أقواله إلى الناس: فلسفة أم شعراً أم فكراً! كان الرجل مهووساً بشطحاته التي هي مزيج عجيب من النقائض النادرة والتي تبدو شعراً حيناً أو خطرات فلسفية أو مقولات فكرية أو هذيان عميق فيه صفات الكلام الممتع المجدي أو الكلام الذي لا يعطي لقارئه أي خلاصة أو معنى!
هذه هي لغة السياحة التي أنفق فيها النِّفَّريّ عمره محاولاً كشف ما لا ينكشف وإمساك ما لا يُمسك. فالرحيل المتواصل يمنع صاحبه من مراجعة ما قال أو ما سيقول. لأنّ الرحلة لا تكفّ عن الحدوث والتكرار والتواصل، وهكذا ارتحل النِّفَّريّ في أرض الله الواسعة ورأى بلدان الله تمتد ويتغير الناس في أشكالهم ولباسهم لكن جوهرهم واحد ومصيبتهم واحدة.
وهو، كما أعتقد، لم يكن معنياً بالتمايز عن الآخر ليؤسس لنفسه لغة خاصة تخترق قواعد اللغة وتحطم حجابها وتقفز على عجزها كما تشير عبارة الغانمي السابقة. فقدر المتصوفة مهما كبروا أو صغروا، اشتهروا أو اندثروا أنهم في شغل عن النتائج بل هم في شغل بما يحدث لهم في الأثناء.
*********************************************
www.adeebk.com
(1)
“كان مولهاً، لا يقيم بأرض، ولا يتعرف إلى أحد”. هكذا وصِفَ الصوفي الأكبر محمد بن عبد الجبار النِّفَّريّ المولود بنفّر في العراق والذي عاش في قرن التوحيدي والمتنبي والفارابي، أي في القرن الرابع الهجري.
نعم، فقد شُغِل هذا الرجل بحبّ الله إلى الدرجة التي نسي فيه نفسه وأرضه ووطنه، إلى الدرجة التي يُقال عنها إنها درجة النسيان المطلق. ولِمَ لا؟ فالمهمة جليلة، والدنيا فانية لا ريب في ذلك، والمحبوب عظيم الشأن، قاهر القدرة، لطيف، مطلع على الأسرار فلا تخفى عنه خافية، غفور، مجيب للدعاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. كيف، إذن، لا يذوب المحبّ في المحبوب؟ وكيف لا يبحث بحثاً لا أول له ولا آخر مَن أكلته الحيرة ومزّقه القلق ونبذته الطمأنينة وأرعبه ضعفه البشري وارتباكه الإنساني عمّن يفتح باب الجواب ويغلق باب السؤال؟
كلّ صوفيّ حقيقي لا يقيم بأرض، أيّ أرض، وإن أقام سنين عدداً.فحبّ الذي قال كن فيكون لا يشبه أي حبّ آخر. إنه جوهر الحبّ والسؤال والماهية. ما دام كلّ شيء يمضي لا محالة إلى التلاشي والفناء والعدم ولا يبقى على العرش إلا مَن كان عرشه على الماء. لابأس، إذن، من السياحة في أرض الله علّ المحبّ يرى المحبوب، وينير له ظلمته التي لا حدود لها وهو بين العامة والسوقة والغافلين. علّه ينير له شيئاً، ويجلوعن قلبه الهم، وعن عقله هول الدنيا وغربتها، حيث الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا وقالوا كيف ولِمَ ومَن وعلام وإلامَ وممَن ومتى!
سياحة النِّفَّريّ امتدت لعِظَم السؤال وزوغان الجواب وارتباك الحال وقلّة الناصر وتماهي الحال مع السراب، امتدّت حتى أكلت العمر كله ولم تترك منه شيئاً البتة، حتى قيل إن النِّفَّريّ لم يكتب شيئاً. فمن كان يطوف في الآفاق حتى أنفق العمر كلّه في الطواف، كيف له أن يكتب؟ أي كيف له أن يستكين ويهدأ بعضاً من الوقت ليكتب؟ وهكذا ظهر مَن قال إن ما كتبه النِّفَّريّ كان بخط ابنه أو حفيده أو تلميذه.
كانت تجربة النِّفَّريّ جسيمة ومكابدته لا نهاية له. فالرجل مخلص في سؤاله تمام الإخلاص، وعاشق في حبّه إلى درجة الهيام، ومتيّم في محبوبه إلى الدرجة التي يصعب وصفها أو يستحيل، وعارف معرفة اليقين أن الدنيا لا تغرّ إلا السفهاء ولا تشغل إلا الأوغاد ولا تغوي إلا المارقين، فكان أن اتبع هدى مَن قال لن تراني ولكن انظرْ إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني، واتبع محبّة مَن دخل إلى الحضرة الكبرى فقيل له صفْنا فأوصى محبّيه أن كونوا كعابري سبيل، ثم اتبع حيرة مَن لولا تسبيحه لبقي في الحوت إلى يوم يبعثون، ثم اتبع خطاب مَن قال إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً. واتبع حوار مَن قال أنت تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسكَ إنكَ أنتَ علاّم الغيوب، ومن ثم اتبع، أولاً وأخيراً، نقطةَ مَن قال الحمد لله حمداً يليق بمَن خلق السموات والأرض وقدّر فيها أقواتها فكان الخالق، الرزاق، المعين، الكريم، العزيز، المتعال، الجبار، المهيمن، الحليم، الغفور، اللطيف، الحافظ، القاهر، الرحمن، الرحيم، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن.
كانت التجربة عظيمة والمسافة التي بدأت لم تكن لتنتهي. مسافة السياحة والبحث عمن وسعتْ رحمته كلَّ شيء ووسع علمه كلَّ شيء وأحاط بكلِّ شيء فلا تسقط ورقة ولا يولد مولود إلا بعلمه ولا تنتهي قصة الا وأعد لها ما يليق بنهايتها. ذلك الذي عجزت العقول التي مسيرها إلى الفناء عن كشفه فكانت القلوب هي الكاشفة، ولكن عبر سياحة الألم، ورحلة العذاب، وغول الحاجة، وربيع الزهد، وأنين الصوم، وصلاة الغربة، ودموع الوحشة والفقد والخوف والارتباك، ووجع الموت أو الاقتراب من الموت قاب قوسين أو أدنى.
هكذا قدّم النِّفَّريّ كشوفات رحلته السعيدة- المريرة. السعيدة والهدف هو الذي قال يا ابن آدم خلقتك وأنا أحبّكَ فبحقي عليكَ كنْ لي محبّاً. والمريرة حيث الجسد ضعيف، والملذات تحيط، والشهوات تطغى، والجوع كافر، والفقر أقسى من البحر الذي أغرق الفرعون، والعمى أطفأ العين فكيف ترى، والشوق إلى الأهل والخلان يذوب العظم، والمرض قليله كثير فكيف بكثيره؟
(2)
أية كشوفات هذه؟
كشوفات النِّفَّريّ غريبة عجيبة لا تشبه كشوفات غيره من المتصوفة. فهي تتشكّل لتمّحي، وتكبر لتنهار، وتنمو حتى تكون عمارة ثم تختفي، وكأن الكلام في كلّ ما سبق وقيل لم يقل البتة. فالرجل يقول الشيء ونقيضه. الشيء ونقيضه دون زيادة أو نقصان! إنه كمن يصطاد سمكة عظيمة حتى إذا فرح بها، وفرح بها مَن رآها، انزلقت فعادت إلى البحر أو النهر فذُهل القائل ودمعت عينا الرائي.
نعم، ذُهل القائل الذي سيسارع ليقول نقيض ما قاله سابقاً. وذُهل الرائي حتى أكله العجب فهو لم يرَ سمكة بهذا الكبرتُصطاد ثم بسرعة تنزلق إلى الماء، وكأن مَن أمسكها كان عاجزاً لا يمسك شيئاً أبداً.
ثم يعيد النِّفَّريّ المحاولة ليقف في موقف جديد أو في مخاطبة ثانية أو في رؤية ثالثة ليصطاد سمكة أكبر من السابقة، سمكة تتلألأ تحت ضوء الشمس بندرتها وجمالها ونشاطها، ولكن لن يكون مصيرها الاّ كسابقتها. فأيّ حظٍ سعيد هذا وأيّ خيبة مريرة؟!
(3)
في كتابه الصادر أخيراً تحت عنوان: (“محمد بن عبد الجبار بن الحسن النِّفَّريّ: الأعمال الصوفية”) سيناقش الكاتب والناقد والمترجم سعيد الغانمي رحلة النِّفَّريّ هذه بلغة العلم الدقيقة وجملة النقد الواضحة في مقدمته المتماسكة، الجديرة بالثناء حقاً. فسعادة كشوفات النِّفَّريّ ومرارة مصيرها الذي يهيىء لنقيض الكشف وما قاله الكشف في البدء هو ما يسميه الغانمي:ب(استواء الأضداد).
ثم يشرح الغانمي استواء الأضداد هذا بقوله:( في الرؤية تنعدم الحدود بين الأشياء. وحين تنعدم الحدود اللغوية بين الأشياء، تتضاعف مشقة الوظيفة اللغوية، أو هي تقف شبه خرساء، لا هي قادرة على التعبير، ولا هي قادرة على الاحتجاب: “إذا رأيتَني استوى الكشفُ والحجاب” (الموقف 31). فلا يكون أمام الرائي سوى التخلي عن مراتب المعرفة. لا بدَّ له أن ينزع أردية المعرفة اللغوية وأقنعتها واحداً واحداً: “إذا جئتَني فألقِ العبارةَ وراء ظهرِكَ، وألقِ المعنى وراءَ العبارة، وألقِ الوجدَ وراء المعنى”. في الرؤية تتساقط أقنعة الحجب والكشوف معاً. وإذ تتساقط الحجب، يشعر الرائي أن لغته ستطاوعه في وصف ما يراه وما يشق على التعبير. لكنه سرعان ما يكتشف عبث مشروعه، لأن الكشوف أيضاً تتساقط مع الحجب. هكذا تواجه اللغة مأزقها في قول ما لا يقال والتعبير عمّا يستعصي على التعبير، في المكوث في لحظة الاحتفال والبهوت معاً، لحظة انفجار الفرح وتبدده في وقت واحد: “إذا ذهبتَ عن اسم الشيء ووصفه وعلمه، ذهبتَ عن حكمه. فإذا ذهبتَ عن حكمهِ، حللتَ في أوّل درجةٍ من استواءِ الأضدادِ في الوجد” (الحكم، 133). وحين تتساوى الأضداد، تتداخل الحدود اللغوية بينها، ويصبح كل حديث عن الشيء حديثاً عن ضده في الوقت نفسه. وبتجاوز لحظة الانذهال عن اللغة بالمعرفة واستواء الأضداد، يستطيع العارف أن يخترق حدود التقليد، ويطير محلقاً خارج إطار المعارف المألوفة: “إذا علمتَ علماً لا ضدَّ له، وجهلتَ جهلاً لا ضدَّ له، فلستَ من الأرض ولا من السماء” (الموقف 55). والطيران خارج حدود السماء والأرض هو طيران خارج التقاليد وخارج اللغة معاً: “أن تشهدَ المعنى الذي به حميَ الماءُ هو الذي بهِ بردَ. فإذا كنتَ كذلك، استوى عندك فقدُ الأشياءِ ووجودُها”. لحظة استواء الأضداد هي لحظة اندحار اللغة وخذلانها أمام الواقع ولحظة تألق انتصارها وتحديها له معاً. هي التبشير بواقع حواري آخر، غائب أو مغيب، تتواءم فيه النقائض، وتتحقق الأوهام، ويمشي الحلم واليقظة يداً بيد).
(4)
قلنا إن الرحلة النِّفَّريّة صادقة وعذابها أكيد وزمنها ممتد. وإذن، سيكون صاحبها مشغولاً بالنور ولن يدله على النور إلا النار. وهكذا ستمتلك لغته – كأيّ لغة صوفي مخلص- مستويين، الأول: الظاهر وهو يشي بالشطح والغرابة والخروج عن المعنى المتداول، والثاني: الباطن: وهو يشي بالعمق والأصالة وغنى المعنى وفرادته.
وإذ رأينا النِّفَّريّ يبدأ مخاطبته بالشيء لينتهي إلى نقيضه، فإن لغته تمتاز بالمستوى الثنائي للغة المتصوف. وهذا مما يعقد الحال أكثر ويوسع من دائرة الإبهام والإرباك أكثر فأكثر. وفي هذا يقول الغانمي: (تجربة النِّفَّريّ مختلفة لأن الأمر فيها لا يتعلق بعجز اللغة عن نقل التجربة الروحية وحسب، بل هو أخطر من ذلك بكثير. فاللغة لا تستطيع أن تعبر إلا عن صفات النهائي والمحدود. أما اللانهائي واللامحدود، فلا تستطيع اللغات أن تعبر عنه: “إن كان النعت مبلغاً فهو مبلغ لا نعت، وإن كان النعت لا مبلغَ فهو نعت”. والنعت هو الصفة، والمبلغ هو الحد. وإذا أريد للصفة أن تكون حداً، فهي قاصرة دون شك، أما إذا أريد لها أن تكون نفياً للحد فهي الصفة الحقيقية، من هنا فإن صفة المطلق هي أن لا يوجد في اللغات ما يعبر عنه. لأنه بلا حد، واللغة محدودة: “والحدُّ كلُّه حجاب”. التصاق اللغة بالحدية والتناهي هو الذي يعجزها عن الارتقاء إلى وصف الصفات. ولذلك فهي تنحرف للتحول إلى حجاب.)
ويستمر الغانمي محاولاً ليس فقط وصف لغة النِّفَّريّ، بل تصنيفها فيقول ):في مثل هذا السياق الذي تصير فيه اللغة حجاباً: “العبارة ستر”، من العسير أن نصنف معارف النِّفَّريّ. فهو يتفلسف وينكر الفلسفة، ويعانق الحجاب ليستطلع الكشف، ويداخل بين الغيب والشهادة، والصمت والنطق، والوسوسة واليقين. بلاغة النِّفَّريّ هي بلاغة إنكار الحرفية، لأن “الحرف يعجز أن يُخبرَ عن نفسه، فكيف يخبرُ عنّي؟” (موقف ما لا ينقال، 34)، وإنكار المجاز أيضاً: “الواقف لا يعرف المجاز، وإذا لم يكنْ بيني وبينك مجازٌ لم يكن بيني وبينك حجابٌ” (موقف التقرير، 18). لغة النِّفَّريّ هي لغة التبشير بما وراء الحرف والمجاز، أي بما وراء اللغة الحقيقية واللغة الاستعارية، وبما وراء الشيء ونقيضه. وهنا بالضبط يصبح التصنيف أمراً مستحيلاً. هل نقول إن إبداع النِّفَّريّ ينتمي إلى الفلسفة أو الشعر أو النثر؟ هل نستطيع أن نروّضه وفق مقولاتنا التصنيفية الجاهزة، بحيث يوضع هذا الجزء من تفكيره تحت باب الشعر، وذاك الجزء تحت باب الفلسفة، والآخر تحت باب التصوف، وسواه تحت باب النثر؟ من الواضح أن النِّفَّريّ نفسه يرفض هذا التصنيف. لأنه يريد اجتراح لغة تتخطى دائماً مواضعات اللغة المألوفة، بحيث يكون المجاز حرفياً، والحرفية مجازاً، والحجاب كشفاً، والكشف حجاباً. يريد أن يمزج بين النطق والصمت، ويداخل بين وظيفتيهما، وبين الشعر والنثر، والفكر الفلسفي والفكر الصوفي، أو على حد تعبيره بين الحكمة الواضعة والحكمة المرتبة. ولذلك فإن نثره شعر، وشعره نثر، وفلسفته تصوف، وتصوفه حنين إلى فلسفة تتلهف لتخطي تخومها. وبالتالي نستطيع أن نخلص إلى ما خلص إليه أدونيس من استحالة تصنيف أدب النِّفَّريّ: “ففي هذا الشوق الذي يظل شوقاً نكتشف عبر نص النِّفَّريّ هذه المفارقة: الحقيقة غير موجودة بوضوحها الكامل، أي بغموضها الكامل، إلا في مثل هذه التجربة، أي في مثل هذه الوحدة الكيانية التي يكون فيها الفكر شعراً والشعر فكراً”).
(5)
لكني أرى النِّفَّريّ مشغولاً بالرحلة نفسها: رحلة الفناء في المحبوب أكثر من انشغاله بما ينتج عن الرحلة من كلام أو أقوال، وهذا الشغل والانشغال دفعا به إلى أن ينسى أو يتناسى توثيق الرحلة كلها فجاء حفيده أو تلميذه فوثّق الرحلة كما روي. وهذا مما زاد من غرابة النص ومواطن إبهامه، لأن الموثِّق، مهما كان قدره وقدرته، لا يمكنه، بأية حال من الأحوال، من الإحاطة بتفاصيل رحلة الموثَّق له وإزالة ما عتُم منها أو التبس. فبين الحالين بون واضح وبين الرجلين فرق أكيد.
النِّفَّريّ، إذن، مشغول بكشوفاته الروحية النادرة. وهذه الكشوفات أسمّيها ب(الشطح الخلاّق). والشطح عند النِّفَّريّ متواصل ومستديم في مخاطباته ومواقفه. شطح يتيح له أن يقول ما يريد أن يقول، دون خوف أو رقيب. ودون خوف من أن يُفهم أو لا يُفهم، فالالتباس وارد جداً. ولِمَ لا؟ ومَن يبحث عنه لا تدركه الأبصار وهو الذي يدرك الأبصار، بل إنه الذي يدرك القلوب التي في الصدور، وهو البعيد والقريب بل القريب إلى حد أن يعرف ما توسوس به الصدور.
كان النِّفَّريّ، كأيّ صوفي مخلص وحقيقي، لا يهمه ما يقول الناس عنه. الناس فناء ودنياهم فناء محقق. بل إن الرجل زهد في نشر أقواله وتركها مبعثرة حتى جمعها من جمعها ودرسها من درسها فوجد فيها كنزاً روحياً نادراً رغم تناقضاتها التي لا تكفّ عن الظهور وإبهامها الفسيح الذي لا يكفّ عن الامتداد.
ولذا لم يكن النِّفَّريّ معنياً بالكيفية التي ستخرج فيها أقواله إلى الناس: فلسفة أم شعراً أم فكراً! كان الرجل مهووساً بشطحاته التي هي مزيج عجيب من النقائض النادرة والتي تبدو شعراً حيناً أو خطرات فلسفية أو مقولات فكرية أو هذيان عميق فيه صفات الكلام الممتع المجدي أو الكلام الذي لا يعطي لقارئه أي خلاصة أو معنى!
هذه هي لغة السياحة التي أنفق فيها النِّفَّريّ عمره محاولاً كشف ما لا ينكشف وإمساك ما لا يُمسك. فالرحيل المتواصل يمنع صاحبه من مراجعة ما قال أو ما سيقول. لأنّ الرحلة لا تكفّ عن الحدوث والتكرار والتواصل، وهكذا ارتحل النِّفَّريّ في أرض الله الواسعة ورأى بلدان الله تمتد ويتغير الناس في أشكالهم ولباسهم لكن جوهرهم واحد ومصيبتهم واحدة.
وهو، كما أعتقد، لم يكن معنياً بالتمايز عن الآخر ليؤسس لنفسه لغة خاصة تخترق قواعد اللغة وتحطم حجابها وتقفز على عجزها كما تشير عبارة الغانمي السابقة. فقدر المتصوفة مهما كبروا أو صغروا، اشتهروا أو اندثروا أنهم في شغل عن النتائج بل هم في شغل بما يحدث لهم في الأثناء.
*********************************************
www.adeebk.com
adeeb@live.com.au