إعتراف !!
الدخول في عالم سامي العامري كالدخول في حقل ألغام محاطٍ بأسلاك شائكة ، الداخل فيه مُغامرٌ متهوِّرٌ أو أحمق والخارجُ منه قتيلٌ أو مُثخنٌ بالجراح التي لا تندملُ ولا من علاجٍ لها لا في طبِّ جالينوس ولا في طب إبن سينا. قرأتُ الكتب الأربعة ، وما زلتُ أقرأ وأنا أكتب عنها وعنه ، التي أرسل لي أخيراً مع كلمات إهداء جميلة مُعبِّرة فهو يعرف أني كنتُ أولَّ مَنْ كتب عنه وعن ديوانه الأول الذي يحملُ عنوان ( السكسفون المُجنّح ) . كان يومذاك في الأوج من التألق الرومانسي مع صديقته الألمانية ( ريتا / ربّة الشفاء ) لكنه ، وفي عين الوقت ، كان في القرار السحيق من سوء أوضاعه الصحية كما أخبرني شاعرٌ سوريٌّ صديق صلتُهُ وثيقة بسامي العامري . هذا هو سامي العامري في حياته اليومية الشخصية كما هو في شعره وقصصه ، وجهان لعملة ذهبية واحدة تحمل اسمه على وجه وتحملُ صورته على الوجه الآخر . وضعتُ بتأنٍ تخطيطات حاولتُ أنْ أكون دقيقاً فيها لكي لا أظلم الرجل ولا أظلم نفسي … أبيّنُ فيها خصائص سامي الشخصية جداً منها والشاعرية فإنه إنسانٌ شاعر وشاعرٌ إنسان فكيف يفترقان أو كيف يفترق الوجهان ؟ إستخلصتها لا من باب التجريد والرجم بالغيب بل مما قال هو في نصوص كتبه التي قرأت في هذه الأيام والتي أصبحت بفضله في حوزتي هدية منه وهو الكريم النشأة والطباع والسليقة .
1ـ لا أغامرُ كثيراً إذا ما أطلقتُ عليه الوصف التالي : الدون جوان العامري ـ المتصوّف النيتشوي الذي لا يتحرك ولا يقرُّ له قرارٌ إلاّ ساعياً على قدميهِ
أو جالساً مُرتكِزاً على قوائمَ أربع هي : الكتابة والقراءة ـ والسيجارة ـ وفنجان القهوة أو الشاي ـ ثم الخمرة . كيف نجح سامي في جمع كل هذه الخلائط في نفسه فصوّرها ومثلّها شعراً وقصّاً أم أنها فرادى ومجتمعة فرضت نفسها عليه بالتعاضد مع بيئاته ونشأته وقاسي ظروفه سواء في وطنه العراق أو في المانيا حيث دخلها عام 1984 لاجئاً هارباً من حرب صدّام حسين الكارثة مع إيران . هرب سامي من موت شبه أكيد في جبهات الحرب الضروس عسكرياً مُجنّداً رغم إرادته في الجيش العراقي … هرب من هذا الموت ليواجه إحتمالات أكثر من موت واحد غير أكيد .
2ـ لا يُخفي سامي العامري لوعته وشعوره بالإحباط من مواقف الشعراء والأدباء العراقيين منه فمن إهمال إلى نسيان إلى جحود ما زال يعاني منها مُعاناةٍ مُرّة . أكتفي بذكر أرقام الصفحات التي عبّر سامي فيها عن مراراته هذه وعتبه العميق على الأهل والأصدقاء وزملاء الشعر والأدب . في كتاب أستميحكِ ورداً ، الصفحة 44 . وفي كتاب النهر الأولُ قبل الميلاد ، الصفحة 53 . وهناك شذرات طفيفة متفرقة مبثوثة في ثنايا كتبه الأربعة لها علاقة بذات الموضوع . إنه ـ ومن باب الأنفة والعلوّ ـ لم يقلْ وكان حريّاً به أنْ يقولَ كما قال قبله الشاعرُ الجاهلي الكريم حاتِم الطائي :
وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمّي لَمُختلِفٌ جدّا
فإنْ أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهم
وإنْ هدْموا مجدي بنيتُ لهمْ مجدا
3ـ يُخفي سامي عن عمد تفاصيل طفولته وصباه ونشأته الأولى ولا نسأله لماذا لكني لكم تمنيتُ أنْ أجده كما وجدتُ الروائي الصديق العزيز الأستاذ سلام إبراهيم الذي لم يُخفِ شيئاً من مجريات طفولته وبواكير مراهقته وصباه في رواياته وقصصه لا الكبير منها ولا الصغير فما أكبره وما أجلّه في نظري ونظر باقي القرّاء الكرام . قد نتلمّس في طفولة الشاعر والأديب وأوائل سني صباه أموراً كثيرة هامة تُعيننا على فهم شخصيته وسلوكه وجذور شاعريته وله في ذلك أسوة من كبار شعراء وكتّاب ومفكري العالم الذين كشفوا أنفسهم وتأريخهم بشجاعة وجرأة وتركوا لنا وفينا آثاراً عميقة جليلة الشأن لن يمحوها الزمن مهما تقادمَ وطال .لقد حذا سلام ابراهيم حذو هذا الرعيل الأول المقدام ولم يتأخر عنهم.
4ـ في قرارة نفس سامي العامري لون أسود وشكوى لم أجد لها في كل ما كتب مبرراً قوياً ولم يستطع هو من إقناعي ، كقارئ ، في حقيقة وجودها ، لذا أراها نوعاً من أنواع الوهم أو إيهام الذات الذي يحمل لوناً خفيفاً من الطبيعة الماسوشية. هل لهذا الأمر علاقة بنشأة سامي الأولى زمان طفولته المبكّرة ونوع تربيته البيتية وعلاقة والده بوالدته ؟ إنه يُكبر الرجلَ أباً ويُشيرُ إلى تعلّق البنت الشرقية بأبيها [ كتابه الموسوم النهرُ الأوّلُ قبل الميلاد ، الصفحة 59 إذْ قال حرفياً : … غيرَ أنَّ الأبَ في أغلب الثقافات له منزلة كبيرة في وجدان ابنته ] . هل نسيتَ يا سامي عقدة ألكترا ؟ البنت بطبيعتها المغايرة لطبيعة الرجل وجنسه تميلُ لأبيها كما يميلُ هو لها بسبب تضاد الجنسين . ولهذا السبب يميل الولد والطفل لوالدته أكثر مما يميل لأبيه .
5ـ بخلاف حرصه على الآّ يكشف أوائل نشأته وبواكير طفولته … نجد الشاعر سامي المتواضع والفخور بنفسه وبكونه شاعراً … نجده لا يتوانى ولا يتورع عن كشف نفسه في الزمن الراهن فلقد كتب في كتابه سالف الذكر ، النهر الأول قبل الميلاد ، كتب لكأنه يتحدى الجميع ، الناس والزمان ، كتب على الصفحة 79 ما يلي :
ليس عندي ما أُخفيهِ
ما انا إلاّ فضيحةٌ متَوارَثةٌ
ولنْ تنفع حوّاءَ أو آدمَ ورقةُ توتٍ
حتّى ولا غابةُ توت !
إنه بالطبع يُشيرُ إلى خطيئة آدم وعصيانه لأمر ربّه في أنْ لا يقرب الشجرة المحرّمة فأكل وزوجه حوّاءُ منها فاستحقا اللعنة الأبدية وعقوبة مغادرة جنات الخلود والهبوط للأرض .
هناك الكثير الممكن أنْ يُقال في سامي وعنه كتوطئة للخوض في عالمه الشعري المُنوَّع الأهداف والأغراض والبُنى يُحرّكه ويتحرك فيه بحريّة ومرونة فائقة الجودة وأنه في المعنى والمضامين خلائط ناجحة يبلغ الذروة فيها في شعر التفعيلة الحر لكنه يتخلّف إذا التزم بشعر العمود العربي القديم من حيث الإلتزام بقافية واحدة وإنْ خالفه في التقيّد بعدد التفعيلات في البيت الواحد لذا تحرر البحر وتمدد منتشراً على عدد من الأسطر المتفاوتة الأطوال ، مثال ذلك قصيدة ” الهوية وخدود الأجنبية ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” مدائح لأيامي العتيقة ” من ديوان أعراض حفاوتي بالزنبق . غير أنه في قصائد قليلة أخرى كبّل نفسه بقيود وسلاسل أو زناجيل عمود الشعر العربي الخليلي ثم الفراهيدي مثل قصيدة ” شُغِفتُ بها ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” القلبُ إذا تلكّأ “
من ديوان أعراضُ حفاوتي بالزنبق . طالما ألزم الشاعرُ نفسه بمتطلبات وضرورات عمود الشعر العروضي القديم فلا أمل في أنْ يأتي بإبداع أو أي شيء جديد مُثير يستحق الوقوف عنده طويلاً . إنه ، سامي ، صارمٌ مع اللغة العربية متمكّنٌ منها ضابطٌ لقواعدها ونحوها وصرفها واشتقاقاتها ، نعم ، لكنَّ هذا لا يضمن إبداعاً أو ثورة أو إنتفاضةً شعرية مباركة ولقد استشهد هو نفسه ببيت للمتنبي قال فيه :
إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المُقدَّمُ
أكلُّ فصيحٍ قال شعراً مُتيّمٌ ؟
أي أنَّ فصاحة لسان الشاعر وقوّة لغته لا تكفي أنْ يكون شاعراً فضلاً عن أنْ يكونَ عاشقاً غَزِلاً يُجيد فن التشبيب . لذا أرى أنْ ينصرفَ سامي العامري لشعر التفعيلة الحر المتحرر من ضوابط التفعيلات العروضية المقننة حسب مقاييس الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري .
لا يمتُّ شعر العامري الحر الجميل المتميّز لعالم السوريالية بصلةٍ لكنْ من الممكن تصنيفه ووضعه في عالمه الخاص الذي يحلو لي تسميته بالرمزية المجازية العامرية المفتوحة الأطراف العصيّة على الغموض المُتَعَمّد والإعسار المُعتَسَف . الإبداع أصنافٌ ودرجات وطبقات وألوان ومذاقات منوّعة متفاوتة لذا فالمبدعون ليسوا سواسية متشابهين فيما يبدعون بل إنهم مختلفون في ذلك كما هم مختلفون في طبائعهم وهيآتهم وأشكال وجوههم وثقافاتهم وأصولهم العائلية. خلال قراءتي لنصوص سامي الشعرية والقصصية سجّلتُ ـ كما هي عادتي دوماً ـ ملاحظاتٍ ومحاولات أوليّة شبه تنظيرية كمُدخل لعالمي سامي الشخصي والشعري لإعانة قارئه على فهمه إنساناً ثم شاعراً أو شاعراً ثمَّ إنساناً وكما يلي :
أولاً / سامي شاعرُ عاشقٌ عامريٌّ كمجنون ليلى يعبد المرأة ولا يُطيق الحياة بدونها والدةً او عشيقةً أو صديقة . أخذ التصوّف من تراثنا الإسلامي وأضاف إليه ما قرأ من تراث الغرب وتأثر عميقاً ببعض فلاسفته ومفكّريه وشعرائه مثل غوتة ونيتشة وشيللر وهاينة وجميعهم ألمان . لا حاجة بي أنْ أذكرَ معرفته الجيدة لأشعار المتنبي وأبي تمام وربما المِعرّي وقد رجع إلى بعضهم في كتبه ولا سيّما المتنبي إذْ كانت له حصّة الأسد فيما اقتبسَ. إنه خليطٌ عجيب جمع فيه كل هذه الخلائط ، هظمها ومثّلها فجاءت في شعره او انعكست فيه بهذا الشكل أو ذاك بعد أنْ أحسن تمثيلها . زدْ على ذلك أنه حتى في حزنه وساعات بؤسه تجده في العمق باسماً واثقاً شفّافاً قادراً قاهراً مُفعَماً بالأمل . تلك حالة نادرة في الشعراء وباقي الناس . لذا كلما قرأتُ له أكثر ازددتُ منه قُرباً وزادني إعجاباً بكلا عالميه إنساناً أوّلاً ثم شاعراً وكاتباً .
ثانياً / إنه شاعرٌ يشاكسُ ويعاكسُ منطق الطبيعة والكون . رؤاه مقلوبة أو يجعلها مقلوبة أو يراها مقلوبة أو يريدها أنْ تكونَ كذلك . وكيف لا ينقلبُ الكون بناسه وأرضه وسمائه في عينيه ووجدانه وقد شبَّ في العراق ليجدَ نفسه عسكرياً مُجنّداً غصباً عنه وضدَّ إرادته للقتال في حربٍ مع بلد مجاور يخرج منها إمّا مقتولاً أو قاتلاً ؟ وكيف لا يجد الكونَ مقلوباً وقد أُضطرَّ للهرب من وطنه العراق ليجدَ نفسه لاجئاً مشرّداً لا يعرفُ مصيره فوجد السلوى في زجاجات الخمر وقد هزَّ الخمرُ عروقَ أعصابه ومن ثُمَّ وقبلَ أنْ يفيقَ فارقته حبيبته ريتا راحلةً إلى العالم الآخر ؟
ثالثاً / إنه شاعرٌ ورجلٌ عاشق عاشقٌ ثمَّ عاشق . ثم إنه الشاعر المظلوم ظلماً متعدداً مُركّباً يعاني قبل كل شيء من ظلم الأدباء والنقّاد فوق ظلم الوطن له . لذا لم يجد أحداً يقدّم له الشكر والأعتراف بصنع الجميل له إلاّ السيدة أسماء سنجاري إذْ أهدى ديوانه ( أعراض حفاوتي بالزنبق ) لها وكتب في الصفحة الأولى منه
[ إلى الصديقة الأديبة د. أسماء سنجاري التي وقفت معي بقلبها وعقلها وقفةً نادرة في زمن صعبٍ أُهدي مجموعتي هذه … ] .
أعود لموضوع مشاكسة سامي للكون ورؤيته له مقلوباً . تفسيري لهذه الظاهرة يمكن أنْ يكونَ وفق تصوّر الآلية المُتخيّلة التالية : الشاعر وعالمه الخارجي المحيط به يمثلان عجلتين أسطوريتين دوّارتين حول محور واحد لهما قطران متساويان في الطول ومحيطان متساويان ومساحتان سطحيتان بالطبع متساويتان ولكنَّ العجلتين الهائلتين تدوران في إتجاهين متعاكسين : تدور عجلة الشاعر سامي مع حركة الزمان في إتجاه حركة عقرب الساعة من الشمال إلى اليمين في حين تدور أحوال وظروف سامي الخارجية في الإتجاه المعاكس أي ضد حركة عقارب الساعة من جهة اليمين نحو جهة الشمال . سامي وعالمه المحيط به في تناقض إذاَ وهو تناقض غاية في الجديّة وربما الخطورة ، تناقض في الإتجاهات وما ينجمُ عن ذلك من تبعات على رأسها إنقسام الذات على نفسها وتبلبل العواطف ورقيق المشاعر واختلاط الرؤى فضلاً عمّا يُصيبُ البصرَ والبصيرة من عَتَمات وقتية أو موسمية . ليس بالضرورة أنْ يكون هذا من قبيل أو صنف إنفصام الشخصية المَرَضي المعروف بالشيزوفرينيا لكنه إنفصام ، نعم إنفصام ، في المواقف والرؤى الشعرية واللاشعورية التي تمتدُّ فتصيبُ عالم أحلام الشاعر وتجعلُ نومه صعباً . يكون الشاعر في المحصلة النهائية شقيّاً في حياته بَرِماً بالكثير من ظواهرها ومظاهرها زاهداً فيها صعباً عليه التكيّف لها ومعها ومع الكثير من الناس بما فيهم بعض معارفه وربما البعض من أصدقائه . قد يراني البعضُ مُبالغاً في وصفي وتشخيصي لحالة سامي العامري وقد يُنكرها هو نفسه وربما يهزأ بها فليكنْ ، لا يشعر الإنسان بدوران الكرة الأرضية إلاّ إذا وجدَ نفسه خارجها … هذا الكلام لغيري وهو صحيح بالنسبة للموضوع الذي أنا فيه . أحسبُ أنَّ الوضعية هذه خدمت سامي شاعراً وأرهفت حسّه الشعري وشذّبت هواجسَ شياطين شعره وعمّقت أزمته بالوجود ومحنته بوجوده . هذا هو سامي العامري نتاج كل هذه العناصر المعقدّة وحاصل تراكماتها المستقيمة الخطوط حيناً والمتقاطعة أحياناً تتبادل الأمكنة فتختلط لتتفرق سريعاً تاركةً الشاعر الإنسان حائراً تائهاً موزّعاً لا يستطيعُ التركيز إلاّ ساعة جلوسه لكتابة أشعاره التي تفرض نفسها عليه حتى في ساعات تمشيه أحياناً أو وهو في فراش نومه .
ما كتب سامي على غلاف كتاب ” حديث مع ربّة الشفاء ” يُلقي المزيد من الضوء على ما كتبتُ عنه قبل قليل من تجريدات وتكهنات وملاحظات . قال سامي (( الكتاب جاءَ وأنا في أتون صدمة عاطفية عنيفة وشعور بالأسى وتارةً بعَبث الحياة فقد ترجّلتْ كلُّ أسئلة الحياة قديمها وجديدها واعتاشت على خلايا فكري ومكوّنات وجداني وقاسمتني الفراش مثلما الأرصفة حتى دخلتُ المستشفى طالباً استراحة لا إستشارة كما عبّرتُ في قصيدة ” من أثدائي أُرضعُ الوحوش ” … وهذا الكتاب مُهدى لريتا وهو بدأ بوحيٍّ من واقع غيابها ثم اتّسعَ في محاولة لإحتواء كل عناصر حياتي بقلقها واحباطاتها وبساطتها ومصادفاتها وغرائبية العالم ومحاولاتي لمحاصرة أسئلته بدءاً من لب قضايا الوجود حتى لحاء العدم ! قلتُ لحاء العدم لأني ألمسُ في العدم جوهراً وإذا وجد البعضُ فيه جوهراً فهذا ما حطّت عنده سفائنهم أما بالنسبة لفطرات الشاعر فحتى الموت وجود وتكامل أو تحوّل / من حوار مع المؤلف ، د. فضيلة عَرَفات )) .
سوف أقدّم نماذجَ من جيّد أشعار سامي وهي ليست بالقليلة مُقارنةً بالبعض القليل من غير الجيّد أو الأقل جودةً .
نماذج من ديوان أستميحكِ حُبّاً قصيدة ” أُوزّعُ الأكوانَ بالدِلاءِ ” … قطّعها الشاعر إلى أحد عشر جزءاً يحملُ كلُّ جزءٍ منها عنواناً مستقلاً فهل يا تُرى هي قصيدة واحدة من عناوينَ شتّى أم إنها 11 قصيدة مستقلة يضمّها عنوانٌ واحدٌ سقفاً للجميع ؟ سنقرأها ثم نحكم أو أنَّ السيد الشاعر سيبادر ويُجيبُ . لا أحسبُ أنَّ لهذا التقطيع أو التوزيع { الأوركسترالي الشعري } علاقة بالعنوان الرئيس الذي يحمل لفظَ ودلالة التوزيع [ أوزّع الأكوان بالدلاء } لأنَّ الشاعر قد نهج هذا النهج في العديد الغالب من قصائد هذا الديوان . نقرأ المقطع الأول الذي يحمل العنوان ” حالات ” فنسيح مع الشاعر سياحة ممتعة فيها براءة خيالات الطفولة وقصصهم وتنوّع الحالات لكأنّه يقوم بتصوير بعض تقلّبات أحواله الشخصية حسب تقلبات الطقس والأنواء الطبيعية ولا غرابة ، فالشاعر لصيق الطبيعة وابنها الأبر وعاشق الغابات والأنهار وسقوط المطر . ماذا قال سامي :
[[ شَجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ،
خريفٌ يختطفُ الأضواءْ
قاماتٌ مُنتصبةْ
بظلاٍ حدباءْ
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ
مياهاً مُلتَهِبةْ
وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ
وغُرابٌ ورديُّ اللونِ
سَنيٌّ لمّاعْ ! ]] .
إفتتحَ الشاعرُ قصيدته بموسم الخريف وللخريف طقوس خاصّة يعرفها الشعراء ونكهة خاصة يرافقها شعور بالسوداوية بالنسبة لشعراء غير قليلين منهم نزار قبّاني صاحب قصيدة حقائب البكاء والقصيدة الشريرة ومطلعها
مطرٌ مَطرٌ وصديقتها
معها ولتشرينَ نُواحُ
برمزيته الشفّافة وروعة مجازاته لم يتكلم سامي العامري كلاماً مُسطّحَاً مستقيم الطبيعة معروف النهايات ، إنّما تكلّم ـ كالمِعرّي ـ بلغة المجاز الدّال فقال [ شجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ، خريفٌ يختطفُ الأضواء ْ ] . لم يقل إنه في موسم الخريف الذي تتساقطُ فيه أوراق الأشجار أو حتى المطر ، لم يقلْ ذلك لأنه شاعر حقيقي يفهم لغة الشعر ومغازيها وكيفية صياغتها لتكونَ شعراً يستهوي القارئ ويضعه أمام عالم ساحرٍ مسحور يُصيبه بالدهشة ويجعله يفكّر ويُطيلُ التفكير أحياناً . وأنَّ السنين تمرُّ في الطبيعة وتكّرُ وتتبدلُ الأحوال وتتغير أوضاع الأشجار لكنها تبقى كأنها هيَ هيَ فتساقطُ أوراقها لا يعني موتها إنها حيّة كامنة في ذاتها وفي جذورها وهي أصل وأسُّ بقائها . نعم ، تتساقط أوراق الشجر في الخريف لكنها تعود ثانيةً مع بدايات الربيع من كل عام . الشجرة تبقى لكنَّ الزمان هو الذي يتحول ولا يدوم على حالٍ واحد . كذلك سامي العامري … تتغيّر أحواله لكنه كالشجرة يبقى ذاك العامري رغم أنف المتغيّرات التي تطرأ على مسلسل حياته نزولاً وصعوداً مرضاً وصحّةً سُكراً وصحواً إفلاساً وكفايةً حرباً وسلماً . كما بيّنتُ في مقدمة هذا المبحث ، في عمق الشاعر لطخة سوداء لم يشأ هو أنْ يكشف سرّها ، تفرض بين الفينة والفينة نفسها عليه فيكتم أمرها لكنها تنتصر في نهاية المطاف لتظهرَ في شعره بشكل رموزٍ أو إشارات شبيهة بالإشارات الضوئية التي تتخطفُ الأبصارَ وسرعان ما تختفي دونما أي أثر . فقوله [ قاماتٌ منتصبةْ بظلالٍ حدباءْ ] تعبير بليغ يحمل أكثر من معنى وفي الصورة البليغة تناقض حاد وتعاكس في متجهاتها الفضائية ، فالقامات منتصبة إلى أعلى لكنَّ ظلالها منتكسة للأسفل . القامات والرؤوس بالطبع في السماء لكنَّ الظلال في الأرض . قابل سامي في هذه الصورة آمالَ الإنسان بخيباته ، طموحاته بالنتائج المرجوّة ، مساعيه الكبيرة بما في يده من حاصلٍ ومحصولٍ ، قابل الأعلى في الحياة بحضيضها . أتمعّنُ طويلاً في هذه الصورة فأضحك حين أكاد أنْ أحزن . حياته محدودبة الظهر وظروفه مشوّهة مضطربة التشكيل رغم أنَّ مساعيه في هذه الحياة ومطامحه كبيرة ومشروعة ومُبررة إذاً فالمأساة حادة الزوايا مُكسَّرَة الأضلاع . عجلته تدور في إتجاه وظروفه تدور في الإتجاه المغاير (( يفتّر عَكسْ شغل الفَلَكْ دادةْ جميلْ شبَدَّلكْ / أغنية لقارئ المقام العراقي الراحل يوسف عمر )) . ينتقل سامي بسلاسة واقتدار من إحدى صُوَر الخريف الحزينة إلى صورة أخرى فيها مع الحزن بعض الخوف وبعض التحذير من أحد مظاهر وتقلبّات الطبيعة [ موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلَتهبةْ ] . هنا موجٌ عاتٍ وهنا مياه تشتعلُ لهيباً تثير رعبَ الشاعر لأنها بلغت عَتَباتِ بيته فاقتحمته عنوةً فكيف لا يخاف وهو الطفل المفطوم على البراءة والمصدوم بعواقبها ؟ ما هذه المياه ؟ أهي من طبيعة ماء جهنم الذي يسمّيه القرآنُ بالحميم من الحماوة ؟ وماذا نجد في غابة الشاعر الخريفية هذه من غرائب ومبتكرات مُسّتَمدّة من عالم الأطفال التي ينقلنا فيها من عالم فيه خوف وشيء من الرعب إلى عالم آخر غرائبيّ كثير الخيال مُنوّع التلوينات حاد الإنتقالات . أُعيدُ كتابة هذا المقطع لإعجابي الكبير به ففيه الكثير من روح الشاعر الساخرة الهازئة رغم المرارات بالدنيا وما فيها وربما بمن فيها :
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلتَهِبةْ / وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ / وغرابٌ ورديُّ اللونِ سَنيٍّ لمّاعْ .
الديَكَةُ تصرخُ عالياً وتصرخ من فوق أشرعة فهل هي مهاجرة عَلَناً هجرةً شرعية بوثائقَ وجوازات سفر حقيقة ليست مُزوَّرة لا كما ترك الشاعرُ وطنه العراقَ مهاجراً خلسةً مغامراً دون صوت أو ضجّة خائفاً يتلفتُ غير عارفٍ مصيره وما ستؤولُ إليه أموره . بإزاء هذه الصور ينقلنا الشاعرُ إلى جوءٍ غريبٍ آخر ينتمي هو الآخر إلى عالم الطفولة وأخيلتها البريئة … فهل رأينا في حياتنا غراباً ورديَّ اللون ؟ لِمَ لا ؟ الشاعر سامي فنانٌ رسّامٌ موهوبٌ يُجيد فنَّ رسوم الكاريكاتير محاكياً سوريالية لوحات بيكاسو وغيره من الرسامين الإنطباعيين الذين برعوا في تغيير الألوان الطبيعية وفي تخليق لطخات من أطياف ضوئية لا وجودَ لها في الطبيعة . إذا آذنت الديوك بالرحيل وأعلنت ذلك من فوق أشرعة سفائن رحيلها فما موقع الغراب من هذا الأمر ولِمَ غيّرلونَ ريشه ؟ للتمويه تأهبّاً لهجرة غير شرعية ؟ المقطع الثاني يُلقي مزيداً من الضوء على حالات الشاعر وتبدلاته النفسية العميقة وبعض مظاهره الشخصية الظاهرة للعيان .
إسم المقطع ّ الثاني ” فيض ” . لنرَ ما فيه وفيم يختلف عمّا جاء في الجزء الأول.
[[ يا وطناً ،
قوامهُ خريرْ
لقاؤنا المُبرَمُ فخٌّ وثيرْ
وها أنا أوّزعُ الأكوانَ بالدلاءِ ،
إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوقِ فصاعدا ]] .
أرى أولاً أنَّ من الأفضل تجنّب تقطيع بعض الأسطر الشعرية وتركها تسترسل برخاء ورهاوة لتستكمل تأثير الزخم المتوقع منها في نفس وعقل القارئ . أعني أنَّ الأفضل أنْ تكون الأسطر التي عنيتُ كما يلي :
وها أنا أوزّعُ الأكوانَ بالدِلاء إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوق فصاعدا .
لقد تكررت هذه الظاهرة كثيراً في شعر سامي العامري وكنتُ أودُّ أنْ لا أراها.
خلاصة هذا الجزء تُشير إلى خوف الشاعر من العودة لوطنه العراق لأنه فخٌّ يصطاده فيكون حتفه فيه . ثمَّ إنَّ هذا الوطنَ لا شيءَ إلاّ ضجيج وخراب ومخاطر تهدد حياة وممتلكات الناس فعلام الأوبة له ؟ ليس في هذا الجزء شيءٌ ذو بال بل وفيه هبوط وسقوط من القمة التي بلغها الشاعر في الجزء السابق . كأنها فترة راحة لإلتقاط الأنفاس بعد جهد سابق جهيد . التعكّز على إيقاع القوافي المسجوعة لا يضمن الإبداع في الشعر ، وهذا فخ خطير على الشعر والشعراء .
الجزء الثالث يحملُ عنوان ” أبو غريب ” وأبو غريب سجنٌ مركزي معروف في العراق سيّء الصيت وفي كافة العهود ( في قرية أبو غريب وُلد سامي العامري كما كتب لي في رسالة عاجلة بعثها لي أمس مساءً ، وحين بلغ السادسة إنتقلت عالته إلى حي المأمون في بغداد ) . وفي أبي غريب محطّة مُرسِلات الإذاعة العراقية التي دأبَ العسكرُ على إحتلالها فجراً لإذاعة بيانات إنقلاباتهم . يظلُّ الديكُ أو تظلُّ الديوك التي رأيناها في الجزء الأول تلعب في هذا الجزء دوراً لكنَّ الشاعرَ يُلغي الغراب الوردي اللون ويضع مكانه اللقالق ! الديك الفخور المتعالي الذي اعتلى شراع فُلْك الإقلاع مؤذناً بساعة الرحيل يفقد هيبته في هذا المقطع لأنه يغار من اللقالق لأنها متفوّقة عليه في جملة أمور منها أنها تصيح متى شاءت وتغدو ظلاًّ لسجناء سجن أبي غريب عند الظهيرة الحارّة ثم إنها تصدح في الفجر . الديكة تصيح عادةً في الصباحات لذا فهي لا تستطيع منافسة اللقالق الأكثر حريّةً والأعلى منزلاً مع القدرة على الطيران بأجنحتها الواسعة ، ثم أنَّ صداحها بمناقيرها وليس للديكة مناقيرُ … وهذا الصداح يُحاكي صوت ” تكّات الساعة ” وهو تشبيه صحيح وجميل وقد استخدم غيرُ شاعرٍ قبل سامي العامريّ هذا الفعل وصرّفوه على هيئة تكَّ يتكُّ ولكن حصروا استخدامه بصوت حركات بندول الساعة . ثم إنه فعل إنكليزي الأصل عرّبه الشعراء فهو
tick
أظنُّ أنَّ الشاعر وظّف اللقالق وتكّات مناقيرها الطويلة للسخرية من إذاعة بغداد ورتابة وسخف برامجها التي تمجّدُ الإنقلابيين الدمويين ولا تكفُّ عن بث الأغاني الحماسية الفارغة المحتوى والمعنى والمارشات العسكرية لذا فبرامجها رتيبة مملة كأنها أصوات طقات مناقير لقالق المنائر والمباني العالية الإرتفاع حيث سَكَنها وأعشاشها .
[[ عند اليمين تلوحُ الإذاعةْ
وكّنا نراها فحسبُ !
فلا صوتَ غيرَ صياح اللقالقِ ،
ظلّت لقالقها مَعْلماً
فهي عندَ الظهيرةِ ظلٌّ إلينا
وفي الفجرِ تأتي مزارعَنا صادحاتٍ
ومنها تغارُ الديوكُ
لأنَّ مناقيرَها ما تزالُ تتكُّ كساعةْ
ومن ثُمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ
فيا للفظاعة ! ]]
لا يُلفتُ نظري في هذا المقطع إلاّ السطران الأخيران [ ومن ثمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ فيا للفظاعة ! ] . هنا أجد شعراً طالما انتظرتُ أنْ يقوله سامي العامري فجاء ولكنْ قد جاءَ متأخراً . يبقى موضوع اللقالق رمزاً له مغازيه التي لا يفهمها إلاّ الشاعر نفسه ، وإلاّ فكلمة لقلق غير موحية وفارغة من أية حركة أو حركية وباردة لأنها خالية من حرارة التوتر لحظة التوهج الشعري في رأس وعصب وقلب الشاعر فكيف يتأثر بها القارئ وكيف يتحسس منطقية وجودها هنا أو هناك في نسيج القصيدة ؟ أكتفي بهذا القْدر وأترك باقي الأجزاء لأنها قصيرة وإني ضد المقطوعات الشعرية القصيرة لأني أجدها لا تشفي الغليل ولا تروي العطشان ولا تُطفئ جذوةَ الظمأ . أنتقل إلى قصيدة أخرى من قصائد هذا الديوان.
” كُلّها رهنُ الخِلاف ” قصيدة جيدة محايدة بين حالتي الحزن والفرح أدخل الشاعر فيها الديوك مرةً أخرى فما باله مغرماً بهذا الحيوان الداجن الأليف ؟ إستعار هنا منها لون أعرافها الأحمر القاني . يغلبُ على ظنّي أنه وقع ثانيةً تحت تأثير إغراءات التسجيع التفعيلي فجرفته وطوّعت موهبته لخدمة متعة الأذن الصوتية وهكذا كان :
يا صاحبي …
ويمرُّ بي
قَمَرٌ ضحوكْ
قمرٌ هوى
ولِفتنتي
حَمَلتهُ أعرافُ الديوكْ !
هنا السجع وهو مصيدة تستهوي الشعراء إذا ضعفت مناعتهم وتهالكت حصانتهم المضادّة للتسجيع ورتابة أصوات آلات النفخ النحاسية ومطارق النحّاسين في أسواق الصِفْر المعروفة : ضحوك … ديوك . لقد انحرفَ سامي جرّاءَ وقوعه هذا ضحيةً للصوت فأضاع روعة ما سبق ، أعني [ ويمر ُّ بي قمرٌ ضحوكْ ، قمرٌ هوى … ] ما علاقةُ القمر الهاوي بأعراف الديوك ؟ أيريدُ سامي اللون حسبُ ؟ أنَّ القمر الهاوي يتّقدُ مشتعلاً متوهجّاً باللون الأحمر ؟ أفلم يستطع إيجاد تشبيه مجازيٍّ آخرَ غير عرف الديك للّون الأحمر ؟ إنها ظاهرة قديمة دأبت أمّهاتنا في الزمن الغابر على ممارستها إستعاراتِ لبعض الشواهد والمظاهر. فلصفاء الشيء يقلن إنه صافٍ كعين الديك . فيا عامري حذارِ حذارِ من الضعف أمام القوافي .
من كتاب النهر الأول قبل الميلاد وهو كتاب قصص شعري حسب توصيف العامري له ، أعجبتني أشعارٌ ضمّنها أقصوصته المسماة ” مساءً اُمجّدُ الهاوية “
قال فيها فأبدع :
في عَتمةِ الليلِ انثنيتُ
فتحتُ نافذتي أناجيكْ
فأضاءَ ليلي ريشُ ديك (( مرةً أخرى يذكر سامي الديك ! ))
والصمتُ أُغنيةٌ ويُكملها النبيذُ مُعتّقاً
فرفعتُ نخْبَكَ قائلاً : أفديكْ !
لا تُبقهِ في الكأسِ لا ،
لا تُبقهِ في الأسرِ !
إنّي بالأناملِ ذُقتُ نكهَتَهُ
فحنَّ فمي
وجُنَّ دمي
وما من حاجةٍ لامستُها
إلاّ غدت عَبَقاً
وهذا كلّهُ حَسَناتُ حُبّكَ يا مليكْ !
هنا نجد سُكراً صوفياً إطاره أبيات من شعر الفرنسي بودلير ينصح بالسكر الدائم خلاصاً من الإحساس بوطأة عبء الزمن على الإنسان … ومحتواه تصوّف إسلامي يُخالطه تعبّدٌ نؤاسيٌّ وصلوات لكؤوس الخمر وهذا هو سامي العامري بقضّه وقضيضه وبلحمه ودمه .
كلمة عابرة عمّا ورد في كتابين وصف سامي أحدهما بقصص شعري ( النهر الأول قبل الميلاد ) ووصف الثاني بكتاب قصصي نثري شعري ( حديث مع ربّة الشفاء ) . لم أجد في هذين الكتابين قصصاً تحمل مواصفات القصص الحديثة ، إنما وجدتها من نوع القص الحكواتي أو القص الحكائي أغلب مضامينها ذكريات سامي العامري ومونولوجات يستذكر فيها نفسه ماضياً وحاضراً ويناجيها ويكلّمها ويُصغي لهمساتها . ثم هناك الحوارت المنوّعة من عراقيين وعرب وألمان من كلا الجنسين . سرّتني بوجه خاص حكايته التي حملت العنوان ” أنا أعشقُ والدانوبُ يدوّنُ ” من كتاب النهر الأول قبل الميلاد .
أترك كتابَيْ سامي العامري في القص الشعري لغيري من نقّاد القصّة ، فلقد أطلتُ حديثي عن بعض شعره ولم أستطعْ أنْ أوفيهِ حقه . ذلك قد يستغرقُ عاماً كاملاً أو بعض عام وهذا ما لا أُطيقُ فمعذرة يا أيها العاشق العامري ويا أيها المُريد النجيب للحلاّج والجُنيد البغدادي وابن الفارض ثم لصاحبنا أبي نؤاس .
كتب سامي الأربعة هي :
1ـ أستميحكِ ورداً / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
2ـ أعراضُ حفاوتي بالزنبق / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
3ـ النهر الأول قبل الميلاد / كتاب قصص شعري ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
4ـ حديث مع ربّة الشقاء / كتاب قصصي نثري شعري ( مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2010 ) .
عدنان الظاهر آب 2010
جولات مع الشاعر سامي العامري
إعتراف !! الدخول في عالم سامي العامري كالدخول في حقل ألغام محاطٍ بأسلاك شائكة ، الداخل فيه مُغامرٌ متهوِّرٌ أو أحمق والخارجُ منه قتيلٌ أو مُثخنٌ بالجراح التي لا تندملُ ولا من علاجٍ لها لا في طبِّ جالينوس ولا في طب إبن سينا. قرأتُ الكتب الأربعة ، وما زلتُ أقرأ وأنا أكتب عنها وعنه ، التي أرسل لي أخيراً مع كلمات إهداء جميلة مُعبِّرة فهو يعرف أني كنتُ أولَّ مَنْ كتب عنه وعن ديوانه الأول الذي يحملُ عنوان ( السكسفون المُجنّح ) . كان يومذاك في الأوج من التألق الرومانسي مع صديقته الألمانية ( ريتا / ربّة الشفاء ) لكنه ، وفي عين الوقت ، كان في القرار السحيق من سوء أوضاعه الصحية كما أخبرني شاعرٌ سوريٌّ صديق صلتُهُ وثيقة بسامي العامري . هذا هو سامي العامري في حياته اليومية الشخصية كما هو في شعره وقصصه ، وجهان لعملة ذهبية واحدة تحمل اسمه على وجه وتحملُ صورته على الوجه الآخر . وضعتُ بتأنٍ تخطيطات حاولتُ أنْ أكون دقيقاً فيها لكي لا أظلم الرجل ولا أظلم نفسي … أبيّنُ فيها خصائص سامي الشخصية جداً منها والشاعرية فإنه إنسانٌ شاعر وشاعرٌ إنسان فكيف يفترقان أو كيف يفترق الوجهان ؟ إستخلصتها لا من باب التجريد والرجم بالغيب بل مما قال هو في نصوص كتبه التي قرأت في هذه الأيام والتي أصبحت بفضله في حوزتي هدية منه وهو الكريم النشأة والطباع والسليقة .
1ـ لا أغامرُ كثيراً إذا ما أطلقتُ عليه الوصف التالي : الدون جوان العامري ـ المتصوّف النيتشوي الذي لا يتحرك ولا يقرُّ له قرارٌ إلاّ ساعياً على قدميهِ
أو جالساً مُرتكِزاً على قوائمَ أربع هي : الكتابة والقراءة ـ والسيجارة ـ وفنجان القهوة أو الشاي ـ ثم الخمرة . كيف نجح سامي في جمع كل هذه الخلائط في نفسه فصوّرها ومثلّها شعراً وقصّاً أم أنها فرادى ومجتمعة فرضت نفسها عليه بالتعاضد مع بيئاته ونشأته وقاسي ظروفه سواء في وطنه العراق أو في المانيا حيث دخلها عام 1984 لاجئاً هارباً من حرب صدّام حسين الكارثة مع إيران . هرب سامي من موت شبه أكيد في جبهات الحرب الضروس عسكرياً مُجنّداً رغم إرادته في الجيش العراقي … هرب من هذا الموت ليواجه إحتمالات أكثر من موت واحد غير أكيد .
2ـ لا يُخفي سامي العامري لوعته وشعوره بالإحباط من مواقف الشعراء والأدباء العراقيين منه فمن إهمال إلى نسيان إلى جحود ما زال يعاني منها مُعاناةٍ مُرّة . أكتفي بذكر أرقام الصفحات التي عبّر سامي فيها عن مراراته هذه وعتبه العميق على الأهل والأصدقاء وزملاء الشعر والأدب . في كتاب أستميحكِ ورداً ، الصفحة 44 . وفي كتاب النهر الأولُ قبل الميلاد ، الصفحة 53 . وهناك شذرات طفيفة متفرقة مبثوثة في ثنايا كتبه الأربعة لها علاقة بذات الموضوع . إنه ـ ومن باب الأنفة والعلوّ ـ لم يقلْ وكان حريّاً به أنْ يقولَ كما قال قبله الشاعرُ الجاهلي الكريم حاتِم الطائي :
وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمّي لَمُختلِفٌ جدّا
فإنْ أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهم
وإنْ هدْموا مجدي بنيتُ لهمْ مجدا
3ـ يُخفي سامي عن عمد تفاصيل طفولته وصباه ونشأته الأولى ولا نسأله لماذا لكني لكم تمنيتُ أنْ أجده كما وجدتُ الروائي الصديق العزيز الأستاذ سلام إبراهيم الذي لم يُخفِ شيئاً من مجريات طفولته وبواكير مراهقته وصباه في رواياته وقصصه لا الكبير منها ولا الصغير فما أكبره وما أجلّه في نظري ونظر باقي القرّاء الكرام . قد نتلمّس في طفولة الشاعر والأديب وأوائل سني صباه أموراً كثيرة هامة تُعيننا على فهم شخصيته وسلوكه وجذور شاعريته وله في ذلك أسوة من كبار شعراء وكتّاب ومفكري العالم الذين كشفوا أنفسهم وتأريخهم بشجاعة وجرأة وتركوا لنا وفينا آثاراً عميقة جليلة الشأن لن يمحوها الزمن مهما تقادمَ وطال .لقد حذا سلام ابراهيم حذو هذا الرعيل الأول المقدام ولم يتأخر عنهم.
4ـ في قرارة نفس سامي العامري لون أسود وشكوى لم أجد لها في كل ما كتب مبرراً قوياً ولم يستطع هو من إقناعي ، كقارئ ، في حقيقة وجودها ، لذا أراها نوعاً من أنواع الوهم أو إيهام الذات الذي يحمل لوناً خفيفاً من الطبيعة الماسوشية. هل لهذا الأمر علاقة بنشأة سامي الأولى زمان طفولته المبكّرة ونوع تربيته البيتية وعلاقة والده بوالدته ؟ إنه يُكبر الرجلَ أباً ويُشيرُ إلى تعلّق البنت الشرقية بأبيها [ كتابه الموسوم النهرُ الأوّلُ قبل الميلاد ، الصفحة 59 إذْ قال حرفياً : … غيرَ أنَّ الأبَ في أغلب الثقافات له منزلة كبيرة في وجدان ابنته ] . هل نسيتَ يا سامي عقدة ألكترا ؟ البنت بطبيعتها المغايرة لطبيعة الرجل وجنسه تميلُ لأبيها كما يميلُ هو لها بسبب تضاد الجنسين . ولهذا السبب يميل الولد والطفل لوالدته أكثر مما يميل لأبيه .
5ـ بخلاف حرصه على الآّ يكشف أوائل نشأته وبواكير طفولته … نجد الشاعر سامي المتواضع والفخور بنفسه وبكونه شاعراً … نجده لا يتوانى ولا يتورع عن كشف نفسه في الزمن الراهن فلقد كتب في كتابه سالف الذكر ، النهر الأول قبل الميلاد ، كتب لكأنه يتحدى الجميع ، الناس والزمان ، كتب على الصفحة 79 ما يلي :
ليس عندي ما أُخفيهِ
ما انا إلاّ فضيحةٌ متَوارَثةٌ
ولنْ تنفع حوّاءَ أو آدمَ ورقةُ توتٍ
حتّى ولا غابةُ توت !
إنه بالطبع يُشيرُ إلى خطيئة آدم وعصيانه لأمر ربّه في أنْ لا يقرب الشجرة المحرّمة فأكل وزوجه حوّاءُ منها فاستحقا اللعنة الأبدية وعقوبة مغادرة جنات الخلود والهبوط للأرض .
هناك الكثير الممكن أنْ يُقال في سامي وعنه كتوطئة للخوض في عالمه الشعري المُنوَّع الأهداف والأغراض والبُنى يُحرّكه ويتحرك فيه بحريّة ومرونة فائقة الجودة وأنه في المعنى والمضامين خلائط ناجحة يبلغ الذروة فيها في شعر التفعيلة الحر لكنه يتخلّف إذا التزم بشعر العمود العربي القديم من حيث الإلتزام بقافية واحدة وإنْ خالفه في التقيّد بعدد التفعيلات في البيت الواحد لذا تحرر البحر وتمدد منتشراً على عدد من الأسطر المتفاوتة الأطوال ، مثال ذلك قصيدة ” الهوية وخدود الأجنبية ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” مدائح لأيامي العتيقة ” من ديوان أعراض حفاوتي بالزنبق . غير أنه في قصائد قليلة أخرى كبّل نفسه بقيود وسلاسل أو زناجيل عمود الشعر العربي الخليلي ثم الفراهيدي مثل قصيدة ” شُغِفتُ بها ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” القلبُ إذا تلكّأ “
من ديوان أعراضُ حفاوتي بالزنبق . طالما ألزم الشاعرُ نفسه بمتطلبات وضرورات عمود الشعر العروضي القديم فلا أمل في أنْ يأتي بإبداع أو أي شيء جديد مُثير يستحق الوقوف عنده طويلاً . إنه ، سامي ، صارمٌ مع اللغة العربية متمكّنٌ منها ضابطٌ لقواعدها ونحوها وصرفها واشتقاقاتها ، نعم ، لكنَّ هذا لا يضمن إبداعاً أو ثورة أو إنتفاضةً شعرية مباركة ولقد استشهد هو نفسه ببيت للمتنبي قال فيه :
إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المُقدَّمُ
أكلُّ فصيحٍ قال شعراً مُتيّمٌ ؟
أي أنَّ فصاحة لسان الشاعر وقوّة لغته لا تكفي أنْ يكون شاعراً فضلاً عن أنْ يكونَ عاشقاً غَزِلاً يُجيد فن التشبيب . لذا أرى أنْ ينصرفَ سامي العامري لشعر التفعيلة الحر المتحرر من ضوابط التفعيلات العروضية المقننة حسب مقاييس الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري .
لا يمتُّ شعر العامري الحر الجميل المتميّز لعالم السوريالية بصلةٍ لكنْ من الممكن تصنيفه ووضعه في عالمه الخاص الذي يحلو لي تسميته بالرمزية المجازية العامرية المفتوحة الأطراف العصيّة على الغموض المُتَعَمّد والإعسار المُعتَسَف . الإبداع أصنافٌ ودرجات وطبقات وألوان ومذاقات منوّعة متفاوتة لذا فالمبدعون ليسوا سواسية متشابهين فيما يبدعون بل إنهم مختلفون في ذلك كما هم مختلفون في طبائعهم وهيآتهم وأشكال وجوههم وثقافاتهم وأصولهم العائلية. خلال قراءتي لنصوص سامي الشعرية والقصصية سجّلتُ ـ كما هي عادتي دوماً ـ ملاحظاتٍ ومحاولات أوليّة شبه تنظيرية كمُدخل لعالمي سامي الشخصي والشعري لإعانة قارئه على فهمه إنساناً ثم شاعراً أو شاعراً ثمَّ إنساناً وكما يلي :
أولاً / سامي شاعرُ عاشقٌ عامريٌّ كمجنون ليلى يعبد المرأة ولا يُطيق الحياة بدونها والدةً او عشيقةً أو صديقة . أخذ التصوّف من تراثنا الإسلامي وأضاف إليه ما قرأ من تراث الغرب وتأثر عميقاً ببعض فلاسفته ومفكّريه وشعرائه مثل غوتة ونيتشة وشيللر وهاينة وجميعهم ألمان . لا حاجة بي أنْ أذكرَ معرفته الجيدة لأشعار المتنبي وأبي تمام وربما المِعرّي وقد رجع إلى بعضهم في كتبه ولا سيّما المتنبي إذْ كانت له حصّة الأسد فيما اقتبسَ. إنه خليطٌ عجيب جمع فيه كل هذه الخلائط ، هظمها ومثّلها فجاءت في شعره او انعكست فيه بهذا الشكل أو ذاك بعد أنْ أحسن تمثيلها . زدْ على ذلك أنه حتى في حزنه وساعات بؤسه تجده في العمق باسماً واثقاً شفّافاً قادراً قاهراً مُفعَماً بالأمل . تلك حالة نادرة في الشعراء وباقي الناس . لذا كلما قرأتُ له أكثر ازددتُ منه قُرباً وزادني إعجاباً بكلا عالميه إنساناً أوّلاً ثم شاعراً وكاتباً .
ثانياً / إنه شاعرٌ يشاكسُ ويعاكسُ منطق الطبيعة والكون . رؤاه مقلوبة أو يجعلها مقلوبة أو يراها مقلوبة أو يريدها أنْ تكونَ كذلك . وكيف لا ينقلبُ الكون بناسه وأرضه وسمائه في عينيه ووجدانه وقد شبَّ في العراق ليجدَ نفسه عسكرياً مُجنّداً غصباً عنه وضدَّ إرادته للقتال في حربٍ مع بلد مجاور يخرج منها إمّا مقتولاً أو قاتلاً ؟ وكيف لا يجد الكونَ مقلوباً وقد أُضطرَّ للهرب من وطنه العراق ليجدَ نفسه لاجئاً مشرّداً لا يعرفُ مصيره فوجد السلوى في زجاجات الخمر وقد هزَّ الخمرُ عروقَ أعصابه ومن ثُمَّ وقبلَ أنْ يفيقَ فارقته حبيبته ريتا راحلةً إلى العالم الآخر ؟
ثالثاً / إنه شاعرٌ ورجلٌ عاشق عاشقٌ ثمَّ عاشق . ثم إنه الشاعر المظلوم ظلماً متعدداً مُركّباً يعاني قبل كل شيء من ظلم الأدباء والنقّاد فوق ظلم الوطن له . لذا لم يجد أحداً يقدّم له الشكر والأعتراف بصنع الجميل له إلاّ السيدة أسماء سنجاري إذْ أهدى ديوانه ( أعراض حفاوتي بالزنبق ) لها وكتب في الصفحة الأولى منه
[ إلى الصديقة الأديبة د. أسماء سنجاري التي وقفت معي بقلبها وعقلها وقفةً نادرة في زمن صعبٍ أُهدي مجموعتي هذه … ] .
أعود لموضوع مشاكسة سامي للكون ورؤيته له مقلوباً . تفسيري لهذه الظاهرة يمكن أنْ يكونَ وفق تصوّر الآلية المُتخيّلة التالية : الشاعر وعالمه الخارجي المحيط به يمثلان عجلتين أسطوريتين دوّارتين حول محور واحد لهما قطران متساويان في الطول ومحيطان متساويان ومساحتان سطحيتان بالطبع متساويتان ولكنَّ العجلتين الهائلتين تدوران في إتجاهين متعاكسين : تدور عجلة الشاعر سامي مع حركة الزمان في إتجاه حركة عقرب الساعة من الشمال إلى اليمين في حين تدور أحوال وظروف سامي الخارجية في الإتجاه المعاكس أي ضد حركة عقارب الساعة من جهة اليمين نحو جهة الشمال . سامي وعالمه المحيط به في تناقض إذاَ وهو تناقض غاية في الجديّة وربما الخطورة ، تناقض في الإتجاهات وما ينجمُ عن ذلك من تبعات على رأسها إنقسام الذات على نفسها وتبلبل العواطف ورقيق المشاعر واختلاط الرؤى فضلاً عمّا يُصيبُ البصرَ والبصيرة من عَتَمات وقتية أو موسمية . ليس بالضرورة أنْ يكون هذا من قبيل أو صنف إنفصام الشخصية المَرَضي المعروف بالشيزوفرينيا لكنه إنفصام ، نعم إنفصام ، في المواقف والرؤى الشعرية واللاشعورية التي تمتدُّ فتصيبُ عالم أحلام الشاعر وتجعلُ نومه صعباً . يكون الشاعر في المحصلة النهائية شقيّاً في حياته بَرِماً بالكثير من ظواهرها ومظاهرها زاهداً فيها صعباً عليه التكيّف لها ومعها ومع الكثير من الناس بما فيهم بعض معارفه وربما البعض من أصدقائه . قد يراني البعضُ مُبالغاً في وصفي وتشخيصي لحالة سامي العامري وقد يُنكرها هو نفسه وربما يهزأ بها فليكنْ ، لا يشعر الإنسان بدوران الكرة الأرضية إلاّ إذا وجدَ نفسه خارجها … هذا الكلام لغيري وهو صحيح بالنسبة للموضوع الذي أنا فيه . أحسبُ أنَّ الوضعية هذه خدمت سامي شاعراً وأرهفت حسّه الشعري وشذّبت هواجسَ شياطين شعره وعمّقت أزمته بالوجود ومحنته بوجوده . هذا هو سامي العامري نتاج كل هذه العناصر المعقدّة وحاصل تراكماتها المستقيمة الخطوط حيناً والمتقاطعة أحياناً تتبادل الأمكنة فتختلط لتتفرق سريعاً تاركةً الشاعر الإنسان حائراً تائهاً موزّعاً لا يستطيعُ التركيز إلاّ ساعة جلوسه لكتابة أشعاره التي تفرض نفسها عليه حتى في ساعات تمشيه أحياناً أو وهو في فراش نومه .
ما كتب سامي على غلاف كتاب ” حديث مع ربّة الشفاء ” يُلقي المزيد من الضوء على ما كتبتُ عنه قبل قليل من تجريدات وتكهنات وملاحظات . قال سامي (( الكتاب جاءَ وأنا في أتون صدمة عاطفية عنيفة وشعور بالأسى وتارةً بعَبث الحياة فقد ترجّلتْ كلُّ أسئلة الحياة قديمها وجديدها واعتاشت على خلايا فكري ومكوّنات وجداني وقاسمتني الفراش مثلما الأرصفة حتى دخلتُ المستشفى طالباً استراحة لا إستشارة كما عبّرتُ في قصيدة ” من أثدائي أُرضعُ الوحوش ” … وهذا الكتاب مُهدى لريتا وهو بدأ بوحيٍّ من واقع غيابها ثم اتّسعَ في محاولة لإحتواء كل عناصر حياتي بقلقها واحباطاتها وبساطتها ومصادفاتها وغرائبية العالم ومحاولاتي لمحاصرة أسئلته بدءاً من لب قضايا الوجود حتى لحاء العدم ! قلتُ لحاء العدم لأني ألمسُ في العدم جوهراً وإذا وجد البعضُ فيه جوهراً فهذا ما حطّت عنده سفائنهم أما بالنسبة لفطرات الشاعر فحتى الموت وجود وتكامل أو تحوّل / من حوار مع المؤلف ، د. فضيلة عَرَفات )) .
سوف أقدّم نماذجَ من جيّد أشعار سامي وهي ليست بالقليلة مُقارنةً بالبعض القليل من غير الجيّد أو الأقل جودةً .
نماذج من ديوان أستميحكِ حُبّاً قصيدة ” أُوزّعُ الأكوانَ بالدِلاءِ ” … قطّعها الشاعر إلى أحد عشر جزءاً يحملُ كلُّ جزءٍ منها عنواناً مستقلاً فهل يا تُرى هي قصيدة واحدة من عناوينَ شتّى أم إنها 11 قصيدة مستقلة يضمّها عنوانٌ واحدٌ سقفاً للجميع ؟ سنقرأها ثم نحكم أو أنَّ السيد الشاعر سيبادر ويُجيبُ . لا أحسبُ أنَّ لهذا التقطيع أو التوزيع { الأوركسترالي الشعري } علاقة بالعنوان الرئيس الذي يحمل لفظَ ودلالة التوزيع [ أوزّع الأكوان بالدلاء } لأنَّ الشاعر قد نهج هذا النهج في العديد الغالب من قصائد هذا الديوان . نقرأ المقطع الأول الذي يحمل العنوان ” حالات ” فنسيح مع الشاعر سياحة ممتعة فيها براءة خيالات الطفولة وقصصهم وتنوّع الحالات لكأنّه يقوم بتصوير بعض تقلّبات أحواله الشخصية حسب تقلبات الطقس والأنواء الطبيعية ولا غرابة ، فالشاعر لصيق الطبيعة وابنها الأبر وعاشق الغابات والأنهار وسقوط المطر . ماذا قال سامي :
[[ شَجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ،
خريفٌ يختطفُ الأضواءْ
قاماتٌ مُنتصبةْ
بظلاٍ حدباءْ
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ
مياهاً مُلتَهِبةْ
وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ
وغُرابٌ ورديُّ اللونِ
سَنيٌّ لمّاعْ ! ]] .
إفتتحَ الشاعرُ قصيدته بموسم الخريف وللخريف طقوس خاصّة يعرفها الشعراء ونكهة خاصة يرافقها شعور بالسوداوية بالنسبة لشعراء غير قليلين منهم نزار قبّاني صاحب قصيدة حقائب البكاء والقصيدة الشريرة ومطلعها
مطرٌ مَطرٌ وصديقتها
معها ولتشرينَ نُواحُ
برمزيته الشفّافة وروعة مجازاته لم يتكلم سامي العامري كلاماً مُسطّحَاً مستقيم الطبيعة معروف النهايات ، إنّما تكلّم ـ كالمِعرّي ـ بلغة المجاز الدّال فقال [ شجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ، خريفٌ يختطفُ الأضواء ْ ] . لم يقل إنه في موسم الخريف الذي تتساقطُ فيه أوراق الأشجار أو حتى المطر ، لم يقلْ ذلك لأنه شاعر حقيقي يفهم لغة الشعر ومغازيها وكيفية صياغتها لتكونَ شعراً يستهوي القارئ ويضعه أمام عالم ساحرٍ مسحور يُصيبه بالدهشة ويجعله يفكّر ويُطيلُ التفكير أحياناً . وأنَّ السنين تمرُّ في الطبيعة وتكّرُ وتتبدلُ الأحوال وتتغير أوضاع الأشجار لكنها تبقى كأنها هيَ هيَ فتساقطُ أوراقها لا يعني موتها إنها حيّة كامنة في ذاتها وفي جذورها وهي أصل وأسُّ بقائها . نعم ، تتساقط أوراق الشجر في الخريف لكنها تعود ثانيةً مع بدايات الربيع من كل عام . الشجرة تبقى لكنَّ الزمان هو الذي يتحول ولا يدوم على حالٍ واحد . كذلك سامي العامري … تتغيّر أحواله لكنه كالشجرة يبقى ذاك العامري رغم أنف المتغيّرات التي تطرأ على مسلسل حياته نزولاً وصعوداً مرضاً وصحّةً سُكراً وصحواً إفلاساً وكفايةً حرباً وسلماً . كما بيّنتُ في مقدمة هذا المبحث ، في عمق الشاعر لطخة سوداء لم يشأ هو أنْ يكشف سرّها ، تفرض بين الفينة والفينة نفسها عليه فيكتم أمرها لكنها تنتصر في نهاية المطاف لتظهرَ في شعره بشكل رموزٍ أو إشارات شبيهة بالإشارات الضوئية التي تتخطفُ الأبصارَ وسرعان ما تختفي دونما أي أثر . فقوله [ قاماتٌ منتصبةْ بظلالٍ حدباءْ ] تعبير بليغ يحمل أكثر من معنى وفي الصورة البليغة تناقض حاد وتعاكس في متجهاتها الفضائية ، فالقامات منتصبة إلى أعلى لكنَّ ظلالها منتكسة للأسفل . القامات والرؤوس بالطبع في السماء لكنَّ الظلال في الأرض . قابل سامي في هذه الصورة آمالَ الإنسان بخيباته ، طموحاته بالنتائج المرجوّة ، مساعيه الكبيرة بما في يده من حاصلٍ ومحصولٍ ، قابل الأعلى في الحياة بحضيضها . أتمعّنُ طويلاً في هذه الصورة فأضحك حين أكاد أنْ أحزن . حياته محدودبة الظهر وظروفه مشوّهة مضطربة التشكيل رغم أنَّ مساعيه في هذه الحياة ومطامحه كبيرة ومشروعة ومُبررة إذاً فالمأساة حادة الزوايا مُكسَّرَة الأضلاع . عجلته تدور في إتجاه وظروفه تدور في الإتجاه المغاير (( يفتّر عَكسْ شغل الفَلَكْ دادةْ جميلْ شبَدَّلكْ / أغنية لقارئ المقام العراقي الراحل يوسف عمر )) . ينتقل سامي بسلاسة واقتدار من إحدى صُوَر الخريف الحزينة إلى صورة أخرى فيها مع الحزن بعض الخوف وبعض التحذير من أحد مظاهر وتقلبّات الطبيعة [ موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلَتهبةْ ] . هنا موجٌ عاتٍ وهنا مياه تشتعلُ لهيباً تثير رعبَ الشاعر لأنها بلغت عَتَباتِ بيته فاقتحمته عنوةً فكيف لا يخاف وهو الطفل المفطوم على البراءة والمصدوم بعواقبها ؟ ما هذه المياه ؟ أهي من طبيعة ماء جهنم الذي يسمّيه القرآنُ بالحميم من الحماوة ؟ وماذا نجد في غابة الشاعر الخريفية هذه من غرائب ومبتكرات مُسّتَمدّة من عالم الأطفال التي ينقلنا فيها من عالم فيه خوف وشيء من الرعب إلى عالم آخر غرائبيّ كثير الخيال مُنوّع التلوينات حاد الإنتقالات . أُعيدُ كتابة هذا المقطع لإعجابي الكبير به ففيه الكثير من روح الشاعر الساخرة الهازئة رغم المرارات بالدنيا وما فيها وربما بمن فيها :
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلتَهِبةْ / وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ / وغرابٌ ورديُّ اللونِ سَنيٍّ لمّاعْ .
الديَكَةُ تصرخُ عالياً وتصرخ من فوق أشرعة فهل هي مهاجرة عَلَناً هجرةً شرعية بوثائقَ وجوازات سفر حقيقة ليست مُزوَّرة لا كما ترك الشاعرُ وطنه العراقَ مهاجراً خلسةً مغامراً دون صوت أو ضجّة خائفاً يتلفتُ غير عارفٍ مصيره وما ستؤولُ إليه أموره . بإزاء هذه الصور ينقلنا الشاعرُ إلى جوءٍ غريبٍ آخر ينتمي هو الآخر إلى عالم الطفولة وأخيلتها البريئة … فهل رأينا في حياتنا غراباً ورديَّ اللون ؟ لِمَ لا ؟ الشاعر سامي فنانٌ رسّامٌ موهوبٌ يُجيد فنَّ رسوم الكاريكاتير محاكياً سوريالية لوحات بيكاسو وغيره من الرسامين الإنطباعيين الذين برعوا في تغيير الألوان الطبيعية وفي تخليق لطخات من أطياف ضوئية لا وجودَ لها في الطبيعة . إذا آذنت الديوك بالرحيل وأعلنت ذلك من فوق أشرعة سفائن رحيلها فما موقع الغراب من هذا الأمر ولِمَ غيّرلونَ ريشه ؟ للتمويه تأهبّاً لهجرة غير شرعية ؟ المقطع الثاني يُلقي مزيداً من الضوء على حالات الشاعر وتبدلاته النفسية العميقة وبعض مظاهره الشخصية الظاهرة للعيان .
إسم المقطع ّ الثاني ” فيض ” . لنرَ ما فيه وفيم يختلف عمّا جاء في الجزء الأول.
[[ يا وطناً ،
قوامهُ خريرْ
لقاؤنا المُبرَمُ فخٌّ وثيرْ
وها أنا أوّزعُ الأكوانَ بالدلاءِ ،
إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوقِ فصاعدا ]] .
أرى أولاً أنَّ من الأفضل تجنّب تقطيع بعض الأسطر الشعرية وتركها تسترسل برخاء ورهاوة لتستكمل تأثير الزخم المتوقع منها في نفس وعقل القارئ . أعني أنَّ الأفضل أنْ تكون الأسطر التي عنيتُ كما يلي :
وها أنا أوزّعُ الأكوانَ بالدِلاء إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوق فصاعدا .
لقد تكررت هذه الظاهرة كثيراً في شعر سامي العامري وكنتُ أودُّ أنْ لا أراها.
خلاصة هذا الجزء تُشير إلى خوف الشاعر من العودة لوطنه العراق لأنه فخٌّ يصطاده فيكون حتفه فيه . ثمَّ إنَّ هذا الوطنَ لا شيءَ إلاّ ضجيج وخراب ومخاطر تهدد حياة وممتلكات الناس فعلام الأوبة له ؟ ليس في هذا الجزء شيءٌ ذو بال بل وفيه هبوط وسقوط من القمة التي بلغها الشاعر في الجزء السابق . كأنها فترة راحة لإلتقاط الأنفاس بعد جهد سابق جهيد . التعكّز على إيقاع القوافي المسجوعة لا يضمن الإبداع في الشعر ، وهذا فخ خطير على الشعر والشعراء .
الجزء الثالث يحملُ عنوان ” أبو غريب ” وأبو غريب سجنٌ مركزي معروف في العراق سيّء الصيت وفي كافة العهود ( في قرية أبو غريب وُلد سامي العامري كما كتب لي في رسالة عاجلة بعثها لي أمس مساءً ، وحين بلغ السادسة إنتقلت عالته إلى حي المأمون في بغداد ) . وفي أبي غريب محطّة مُرسِلات الإذاعة العراقية التي دأبَ العسكرُ على إحتلالها فجراً لإذاعة بيانات إنقلاباتهم . يظلُّ الديكُ أو تظلُّ الديوك التي رأيناها في الجزء الأول تلعب في هذا الجزء دوراً لكنَّ الشاعرَ يُلغي الغراب الوردي اللون ويضع مكانه اللقالق ! الديك الفخور المتعالي الذي اعتلى شراع فُلْك الإقلاع مؤذناً بساعة الرحيل يفقد هيبته في هذا المقطع لأنه يغار من اللقالق لأنها متفوّقة عليه في جملة أمور منها أنها تصيح متى شاءت وتغدو ظلاًّ لسجناء سجن أبي غريب عند الظهيرة الحارّة ثم إنها تصدح في الفجر . الديكة تصيح عادةً في الصباحات لذا فهي لا تستطيع منافسة اللقالق الأكثر حريّةً والأعلى منزلاً مع القدرة على الطيران بأجنحتها الواسعة ، ثم أنَّ صداحها بمناقيرها وليس للديكة مناقيرُ … وهذا الصداح يُحاكي صوت ” تكّات الساعة ” وهو تشبيه صحيح وجميل وقد استخدم غيرُ شاعرٍ قبل سامي العامريّ هذا الفعل وصرّفوه على هيئة تكَّ يتكُّ ولكن حصروا استخدامه بصوت حركات بندول الساعة . ثم إنه فعل إنكليزي الأصل عرّبه الشعراء فهو
tick
أظنُّ أنَّ الشاعر وظّف اللقالق وتكّات مناقيرها الطويلة للسخرية من إذاعة بغداد ورتابة وسخف برامجها التي تمجّدُ الإنقلابيين الدمويين ولا تكفُّ عن بث الأغاني الحماسية الفارغة المحتوى والمعنى والمارشات العسكرية لذا فبرامجها رتيبة مملة كأنها أصوات طقات مناقير لقالق المنائر والمباني العالية الإرتفاع حيث سَكَنها وأعشاشها .
[[ عند اليمين تلوحُ الإذاعةْ
وكّنا نراها فحسبُ !
فلا صوتَ غيرَ صياح اللقالقِ ،
ظلّت لقالقها مَعْلماً
فهي عندَ الظهيرةِ ظلٌّ إلينا
وفي الفجرِ تأتي مزارعَنا صادحاتٍ
ومنها تغارُ الديوكُ
لأنَّ مناقيرَها ما تزالُ تتكُّ كساعةْ
ومن ثُمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ
فيا للفظاعة ! ]]
لا يُلفتُ نظري في هذا المقطع إلاّ السطران الأخيران [ ومن ثمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ فيا للفظاعة ! ] . هنا أجد شعراً طالما انتظرتُ أنْ يقوله سامي العامري فجاء ولكنْ قد جاءَ متأخراً . يبقى موضوع اللقالق رمزاً له مغازيه التي لا يفهمها إلاّ الشاعر نفسه ، وإلاّ فكلمة لقلق غير موحية وفارغة من أية حركة أو حركية وباردة لأنها خالية من حرارة التوتر لحظة التوهج الشعري في رأس وعصب وقلب الشاعر فكيف يتأثر بها القارئ وكيف يتحسس منطقية وجودها هنا أو هناك في نسيج القصيدة ؟ أكتفي بهذا القْدر وأترك باقي الأجزاء لأنها قصيرة وإني ضد المقطوعات الشعرية القصيرة لأني أجدها لا تشفي الغليل ولا تروي العطشان ولا تُطفئ جذوةَ الظمأ . أنتقل إلى قصيدة أخرى من قصائد هذا الديوان.
” كُلّها رهنُ الخِلاف ” قصيدة جيدة محايدة بين حالتي الحزن والفرح أدخل الشاعر فيها الديوك مرةً أخرى فما باله مغرماً بهذا الحيوان الداجن الأليف ؟ إستعار هنا منها لون أعرافها الأحمر القاني . يغلبُ على ظنّي أنه وقع ثانيةً تحت تأثير إغراءات التسجيع التفعيلي فجرفته وطوّعت موهبته لخدمة متعة الأذن الصوتية وهكذا كان :
يا صاحبي …
ويمرُّ بي
قَمَرٌ ضحوكْ
قمرٌ هوى
ولِفتنتي
حَمَلتهُ أعرافُ الديوكْ !
هنا السجع وهو مصيدة تستهوي الشعراء إذا ضعفت مناعتهم وتهالكت حصانتهم المضادّة للتسجيع ورتابة أصوات آلات النفخ النحاسية ومطارق النحّاسين في أسواق الصِفْر المعروفة : ضحوك … ديوك . لقد انحرفَ سامي جرّاءَ وقوعه هذا ضحيةً للصوت فأضاع روعة ما سبق ، أعني [ ويمر ُّ بي قمرٌ ضحوكْ ، قمرٌ هوى … ] ما علاقةُ القمر الهاوي بأعراف الديوك ؟ أيريدُ سامي اللون حسبُ ؟ أنَّ القمر الهاوي يتّقدُ مشتعلاً متوهجّاً باللون الأحمر ؟ أفلم يستطع إيجاد تشبيه مجازيٍّ آخرَ غير عرف الديك للّون الأحمر ؟ إنها ظاهرة قديمة دأبت أمّهاتنا في الزمن الغابر على ممارستها إستعاراتِ لبعض الشواهد والمظاهر. فلصفاء الشيء يقلن إنه صافٍ كعين الديك . فيا عامري حذارِ حذارِ من الضعف أمام القوافي .
من كتاب النهر الأول قبل الميلاد وهو كتاب قصص شعري حسب توصيف العامري له ، أعجبتني أشعارٌ ضمّنها أقصوصته المسماة ” مساءً اُمجّدُ الهاوية “
قال فيها فأبدع :
في عَتمةِ الليلِ انثنيتُ
فتحتُ نافذتي أناجيكْ
فأضاءَ ليلي ريشُ ديك (( مرةً أخرى يذكر سامي الديك ! ))
والصمتُ أُغنيةٌ ويُكملها النبيذُ مُعتّقاً
فرفعتُ نخْبَكَ قائلاً : أفديكْ !
لا تُبقهِ في الكأسِ لا ،
لا تُبقهِ في الأسرِ !
إنّي بالأناملِ ذُقتُ نكهَتَهُ
فحنَّ فمي
وجُنَّ دمي
وما من حاجةٍ لامستُها
إلاّ غدت عَبَقاً
وهذا كلّهُ حَسَناتُ حُبّكَ يا مليكْ !
هنا نجد سُكراً صوفياً إطاره أبيات من شعر الفرنسي بودلير ينصح بالسكر الدائم خلاصاً من الإحساس بوطأة عبء الزمن على الإنسان … ومحتواه تصوّف إسلامي يُخالطه تعبّدٌ نؤاسيٌّ وصلوات لكؤوس الخمر وهذا هو سامي العامري بقضّه وقضيضه وبلحمه ودمه .
كلمة عابرة عمّا ورد في كتابين وصف سامي أحدهما بقصص شعري ( النهر الأول قبل الميلاد ) ووصف الثاني بكتاب قصصي نثري شعري ( حديث مع ربّة الشفاء ) . لم أجد في هذين الكتابين قصصاً تحمل مواصفات القصص الحديثة ، إنما وجدتها من نوع القص الحكواتي أو القص الحكائي أغلب مضامينها ذكريات سامي العامري ومونولوجات يستذكر فيها نفسه ماضياً وحاضراً ويناجيها ويكلّمها ويُصغي لهمساتها . ثم هناك الحوارت المنوّعة من عراقيين وعرب وألمان من كلا الجنسين . سرّتني بوجه خاص حكايته التي حملت العنوان ” أنا أعشقُ والدانوبُ يدوّنُ ” من كتاب النهر الأول قبل الميلاد .
أترك كتابَيْ سامي العامري في القص الشعري لغيري من نقّاد القصّة ، فلقد أطلتُ حديثي عن بعض شعره ولم أستطعْ أنْ أوفيهِ حقه . ذلك قد يستغرقُ عاماً كاملاً أو بعض عام وهذا ما لا أُطيقُ فمعذرة يا أيها العاشق العامري ويا أيها المُريد النجيب للحلاّج والجُنيد البغدادي وابن الفارض ثم لصاحبنا أبي نؤاس .
كتب سامي الأربعة هي :
1ـ أستميحكِ ورداً / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
2ـ أعراضُ حفاوتي بالزنبق / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
3ـ النهر الأول قبل الميلاد / كتاب قصص شعري ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
4ـ حديث مع ربّة الشقاء / كتاب قصصي نثري شعري ( مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2010 ) .
الدخول في عالم سامي العامري كالدخول في حقل ألغام محاطٍ بأسلاك شائكة ، الداخل فيه مُغامرٌ متهوِّرٌ أو أحمق والخارجُ منه قتيلٌ أو مُثخنٌ بالجراح التي لا تندملُ ولا من علاجٍ لها لا في طبِّ جالينوس ولا في طب إبن سينا. قرأتُ الكتب الأربعة ، وما زلتُ أقرأ وأنا أكتب عنها وعنه ، التي أرسل لي أخيراً مع كلمات إهداء جميلة مُعبِّرة فهو يعرف أني كنتُ أولَّ مَنْ كتب عنه وعن ديوانه الأول الذي يحملُ عنوان ( السكسفون المُجنّح ) . كان يومذاك في الأوج من التألق الرومانسي مع صديقته الألمانية ( ريتا / ربّة الشفاء ) لكنه ، وفي عين الوقت ، كان في القرار السحيق من سوء أوضاعه الصحية كما أخبرني شاعرٌ سوريٌّ صديق صلتُهُ وثيقة بسامي العامري . هذا هو سامي العامري في حياته اليومية الشخصية كما هو في شعره وقصصه ، وجهان لعملة ذهبية واحدة تحمل اسمه على وجه وتحملُ صورته على الوجه الآخر . وضعتُ بتأنٍ تخطيطات حاولتُ أنْ أكون دقيقاً فيها لكي لا أظلم الرجل ولا أظلم نفسي … أبيّنُ فيها خصائص سامي الشخصية جداً منها والشاعرية فإنه إنسانٌ شاعر وشاعرٌ إنسان فكيف يفترقان أو كيف يفترق الوجهان ؟ إستخلصتها لا من باب التجريد والرجم بالغيب بل مما قال هو في نصوص كتبه التي قرأت في هذه الأيام والتي أصبحت بفضله في حوزتي هدية منه وهو الكريم النشأة والطباع والسليقة .
1ـ لا أغامرُ كثيراً إذا ما أطلقتُ عليه الوصف التالي : الدون جوان العامري ـ المتصوّف النيتشوي الذي لا يتحرك ولا يقرُّ له قرارٌ إلاّ ساعياً على قدميهِ
أو جالساً مُرتكِزاً على قوائمَ أربع هي : الكتابة والقراءة ـ والسيجارة ـ وفنجان القهوة أو الشاي ـ ثم الخمرة . كيف نجح سامي في جمع كل هذه الخلائط في نفسه فصوّرها ومثلّها شعراً وقصّاً أم أنها فرادى ومجتمعة فرضت نفسها عليه بالتعاضد مع بيئاته ونشأته وقاسي ظروفه سواء في وطنه العراق أو في المانيا حيث دخلها عام 1984 لاجئاً هارباً من حرب صدّام حسين الكارثة مع إيران . هرب سامي من موت شبه أكيد في جبهات الحرب الضروس عسكرياً مُجنّداً رغم إرادته في الجيش العراقي … هرب من هذا الموت ليواجه إحتمالات أكثر من موت واحد غير أكيد .
2ـ لا يُخفي سامي العامري لوعته وشعوره بالإحباط من مواقف الشعراء والأدباء العراقيين منه فمن إهمال إلى نسيان إلى جحود ما زال يعاني منها مُعاناةٍ مُرّة . أكتفي بذكر أرقام الصفحات التي عبّر سامي فيها عن مراراته هذه وعتبه العميق على الأهل والأصدقاء وزملاء الشعر والأدب . في كتاب أستميحكِ ورداً ، الصفحة 44 . وفي كتاب النهر الأولُ قبل الميلاد ، الصفحة 53 . وهناك شذرات طفيفة متفرقة مبثوثة في ثنايا كتبه الأربعة لها علاقة بذات الموضوع . إنه ـ ومن باب الأنفة والعلوّ ـ لم يقلْ وكان حريّاً به أنْ يقولَ كما قال قبله الشاعرُ الجاهلي الكريم حاتِم الطائي :
وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمّي لَمُختلِفٌ جدّا
فإنْ أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهم
وإنْ هدْموا مجدي بنيتُ لهمْ مجدا
3ـ يُخفي سامي عن عمد تفاصيل طفولته وصباه ونشأته الأولى ولا نسأله لماذا لكني لكم تمنيتُ أنْ أجده كما وجدتُ الروائي الصديق العزيز الأستاذ سلام إبراهيم الذي لم يُخفِ شيئاً من مجريات طفولته وبواكير مراهقته وصباه في رواياته وقصصه لا الكبير منها ولا الصغير فما أكبره وما أجلّه في نظري ونظر باقي القرّاء الكرام . قد نتلمّس في طفولة الشاعر والأديب وأوائل سني صباه أموراً كثيرة هامة تُعيننا على فهم شخصيته وسلوكه وجذور شاعريته وله في ذلك أسوة من كبار شعراء وكتّاب ومفكري العالم الذين كشفوا أنفسهم وتأريخهم بشجاعة وجرأة وتركوا لنا وفينا آثاراً عميقة جليلة الشأن لن يمحوها الزمن مهما تقادمَ وطال .لقد حذا سلام ابراهيم حذو هذا الرعيل الأول المقدام ولم يتأخر عنهم.
4ـ في قرارة نفس سامي العامري لون أسود وشكوى لم أجد لها في كل ما كتب مبرراً قوياً ولم يستطع هو من إقناعي ، كقارئ ، في حقيقة وجودها ، لذا أراها نوعاً من أنواع الوهم أو إيهام الذات الذي يحمل لوناً خفيفاً من الطبيعة الماسوشية. هل لهذا الأمر علاقة بنشأة سامي الأولى زمان طفولته المبكّرة ونوع تربيته البيتية وعلاقة والده بوالدته ؟ إنه يُكبر الرجلَ أباً ويُشيرُ إلى تعلّق البنت الشرقية بأبيها [ كتابه الموسوم النهرُ الأوّلُ قبل الميلاد ، الصفحة 59 إذْ قال حرفياً : … غيرَ أنَّ الأبَ في أغلب الثقافات له منزلة كبيرة في وجدان ابنته ] . هل نسيتَ يا سامي عقدة ألكترا ؟ البنت بطبيعتها المغايرة لطبيعة الرجل وجنسه تميلُ لأبيها كما يميلُ هو لها بسبب تضاد الجنسين . ولهذا السبب يميل الولد والطفل لوالدته أكثر مما يميل لأبيه .
5ـ بخلاف حرصه على الآّ يكشف أوائل نشأته وبواكير طفولته … نجد الشاعر سامي المتواضع والفخور بنفسه وبكونه شاعراً … نجده لا يتوانى ولا يتورع عن كشف نفسه في الزمن الراهن فلقد كتب في كتابه سالف الذكر ، النهر الأول قبل الميلاد ، كتب لكأنه يتحدى الجميع ، الناس والزمان ، كتب على الصفحة 79 ما يلي :
ليس عندي ما أُخفيهِ
ما انا إلاّ فضيحةٌ متَوارَثةٌ
ولنْ تنفع حوّاءَ أو آدمَ ورقةُ توتٍ
حتّى ولا غابةُ توت !
إنه بالطبع يُشيرُ إلى خطيئة آدم وعصيانه لأمر ربّه في أنْ لا يقرب الشجرة المحرّمة فأكل وزوجه حوّاءُ منها فاستحقا اللعنة الأبدية وعقوبة مغادرة جنات الخلود والهبوط للأرض .
هناك الكثير الممكن أنْ يُقال في سامي وعنه كتوطئة للخوض في عالمه الشعري المُنوَّع الأهداف والأغراض والبُنى يُحرّكه ويتحرك فيه بحريّة ومرونة فائقة الجودة وأنه في المعنى والمضامين خلائط ناجحة يبلغ الذروة فيها في شعر التفعيلة الحر لكنه يتخلّف إذا التزم بشعر العمود العربي القديم من حيث الإلتزام بقافية واحدة وإنْ خالفه في التقيّد بعدد التفعيلات في البيت الواحد لذا تحرر البحر وتمدد منتشراً على عدد من الأسطر المتفاوتة الأطوال ، مثال ذلك قصيدة ” الهوية وخدود الأجنبية ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” مدائح لأيامي العتيقة ” من ديوان أعراض حفاوتي بالزنبق . غير أنه في قصائد قليلة أخرى كبّل نفسه بقيود وسلاسل أو زناجيل عمود الشعر العربي الخليلي ثم الفراهيدي مثل قصيدة ” شُغِفتُ بها ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” القلبُ إذا تلكّأ “
من ديوان أعراضُ حفاوتي بالزنبق . طالما ألزم الشاعرُ نفسه بمتطلبات وضرورات عمود الشعر العروضي القديم فلا أمل في أنْ يأتي بإبداع أو أي شيء جديد مُثير يستحق الوقوف عنده طويلاً . إنه ، سامي ، صارمٌ مع اللغة العربية متمكّنٌ منها ضابطٌ لقواعدها ونحوها وصرفها واشتقاقاتها ، نعم ، لكنَّ هذا لا يضمن إبداعاً أو ثورة أو إنتفاضةً شعرية مباركة ولقد استشهد هو نفسه ببيت للمتنبي قال فيه :
إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المُقدَّمُ
أكلُّ فصيحٍ قال شعراً مُتيّمٌ ؟
أي أنَّ فصاحة لسان الشاعر وقوّة لغته لا تكفي أنْ يكون شاعراً فضلاً عن أنْ يكونَ عاشقاً غَزِلاً يُجيد فن التشبيب . لذا أرى أنْ ينصرفَ سامي العامري لشعر التفعيلة الحر المتحرر من ضوابط التفعيلات العروضية المقننة حسب مقاييس الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري .
لا يمتُّ شعر العامري الحر الجميل المتميّز لعالم السوريالية بصلةٍ لكنْ من الممكن تصنيفه ووضعه في عالمه الخاص الذي يحلو لي تسميته بالرمزية المجازية العامرية المفتوحة الأطراف العصيّة على الغموض المُتَعَمّد والإعسار المُعتَسَف . الإبداع أصنافٌ ودرجات وطبقات وألوان ومذاقات منوّعة متفاوتة لذا فالمبدعون ليسوا سواسية متشابهين فيما يبدعون بل إنهم مختلفون في ذلك كما هم مختلفون في طبائعهم وهيآتهم وأشكال وجوههم وثقافاتهم وأصولهم العائلية. خلال قراءتي لنصوص سامي الشعرية والقصصية سجّلتُ ـ كما هي عادتي دوماً ـ ملاحظاتٍ ومحاولات أوليّة شبه تنظيرية كمُدخل لعالمي سامي الشخصي والشعري لإعانة قارئه على فهمه إنساناً ثم شاعراً أو شاعراً ثمَّ إنساناً وكما يلي :
أولاً / سامي شاعرُ عاشقٌ عامريٌّ كمجنون ليلى يعبد المرأة ولا يُطيق الحياة بدونها والدةً او عشيقةً أو صديقة . أخذ التصوّف من تراثنا الإسلامي وأضاف إليه ما قرأ من تراث الغرب وتأثر عميقاً ببعض فلاسفته ومفكّريه وشعرائه مثل غوتة ونيتشة وشيللر وهاينة وجميعهم ألمان . لا حاجة بي أنْ أذكرَ معرفته الجيدة لأشعار المتنبي وأبي تمام وربما المِعرّي وقد رجع إلى بعضهم في كتبه ولا سيّما المتنبي إذْ كانت له حصّة الأسد فيما اقتبسَ. إنه خليطٌ عجيب جمع فيه كل هذه الخلائط ، هظمها ومثّلها فجاءت في شعره او انعكست فيه بهذا الشكل أو ذاك بعد أنْ أحسن تمثيلها . زدْ على ذلك أنه حتى في حزنه وساعات بؤسه تجده في العمق باسماً واثقاً شفّافاً قادراً قاهراً مُفعَماً بالأمل . تلك حالة نادرة في الشعراء وباقي الناس . لذا كلما قرأتُ له أكثر ازددتُ منه قُرباً وزادني إعجاباً بكلا عالميه إنساناً أوّلاً ثم شاعراً وكاتباً .
ثانياً / إنه شاعرٌ يشاكسُ ويعاكسُ منطق الطبيعة والكون . رؤاه مقلوبة أو يجعلها مقلوبة أو يراها مقلوبة أو يريدها أنْ تكونَ كذلك . وكيف لا ينقلبُ الكون بناسه وأرضه وسمائه في عينيه ووجدانه وقد شبَّ في العراق ليجدَ نفسه عسكرياً مُجنّداً غصباً عنه وضدَّ إرادته للقتال في حربٍ مع بلد مجاور يخرج منها إمّا مقتولاً أو قاتلاً ؟ وكيف لا يجد الكونَ مقلوباً وقد أُضطرَّ للهرب من وطنه العراق ليجدَ نفسه لاجئاً مشرّداً لا يعرفُ مصيره فوجد السلوى في زجاجات الخمر وقد هزَّ الخمرُ عروقَ أعصابه ومن ثُمَّ وقبلَ أنْ يفيقَ فارقته حبيبته ريتا راحلةً إلى العالم الآخر ؟
ثالثاً / إنه شاعرٌ ورجلٌ عاشق عاشقٌ ثمَّ عاشق . ثم إنه الشاعر المظلوم ظلماً متعدداً مُركّباً يعاني قبل كل شيء من ظلم الأدباء والنقّاد فوق ظلم الوطن له . لذا لم يجد أحداً يقدّم له الشكر والأعتراف بصنع الجميل له إلاّ السيدة أسماء سنجاري إذْ أهدى ديوانه ( أعراض حفاوتي بالزنبق ) لها وكتب في الصفحة الأولى منه
[ إلى الصديقة الأديبة د. أسماء سنجاري التي وقفت معي بقلبها وعقلها وقفةً نادرة في زمن صعبٍ أُهدي مجموعتي هذه … ] .
أعود لموضوع مشاكسة سامي للكون ورؤيته له مقلوباً . تفسيري لهذه الظاهرة يمكن أنْ يكونَ وفق تصوّر الآلية المُتخيّلة التالية : الشاعر وعالمه الخارجي المحيط به يمثلان عجلتين أسطوريتين دوّارتين حول محور واحد لهما قطران متساويان في الطول ومحيطان متساويان ومساحتان سطحيتان بالطبع متساويتان ولكنَّ العجلتين الهائلتين تدوران في إتجاهين متعاكسين : تدور عجلة الشاعر سامي مع حركة الزمان في إتجاه حركة عقرب الساعة من الشمال إلى اليمين في حين تدور أحوال وظروف سامي الخارجية في الإتجاه المعاكس أي ضد حركة عقارب الساعة من جهة اليمين نحو جهة الشمال . سامي وعالمه المحيط به في تناقض إذاَ وهو تناقض غاية في الجديّة وربما الخطورة ، تناقض في الإتجاهات وما ينجمُ عن ذلك من تبعات على رأسها إنقسام الذات على نفسها وتبلبل العواطف ورقيق المشاعر واختلاط الرؤى فضلاً عمّا يُصيبُ البصرَ والبصيرة من عَتَمات وقتية أو موسمية . ليس بالضرورة أنْ يكون هذا من قبيل أو صنف إنفصام الشخصية المَرَضي المعروف بالشيزوفرينيا لكنه إنفصام ، نعم إنفصام ، في المواقف والرؤى الشعرية واللاشعورية التي تمتدُّ فتصيبُ عالم أحلام الشاعر وتجعلُ نومه صعباً . يكون الشاعر في المحصلة النهائية شقيّاً في حياته بَرِماً بالكثير من ظواهرها ومظاهرها زاهداً فيها صعباً عليه التكيّف لها ومعها ومع الكثير من الناس بما فيهم بعض معارفه وربما البعض من أصدقائه . قد يراني البعضُ مُبالغاً في وصفي وتشخيصي لحالة سامي العامري وقد يُنكرها هو نفسه وربما يهزأ بها فليكنْ ، لا يشعر الإنسان بدوران الكرة الأرضية إلاّ إذا وجدَ نفسه خارجها … هذا الكلام لغيري وهو صحيح بالنسبة للموضوع الذي أنا فيه . أحسبُ أنَّ الوضعية هذه خدمت سامي شاعراً وأرهفت حسّه الشعري وشذّبت هواجسَ شياطين شعره وعمّقت أزمته بالوجود ومحنته بوجوده . هذا هو سامي العامري نتاج كل هذه العناصر المعقدّة وحاصل تراكماتها المستقيمة الخطوط حيناً والمتقاطعة أحياناً تتبادل الأمكنة فتختلط لتتفرق سريعاً تاركةً الشاعر الإنسان حائراً تائهاً موزّعاً لا يستطيعُ التركيز إلاّ ساعة جلوسه لكتابة أشعاره التي تفرض نفسها عليه حتى في ساعات تمشيه أحياناً أو وهو في فراش نومه .
ما كتب سامي على غلاف كتاب ” حديث مع ربّة الشفاء ” يُلقي المزيد من الضوء على ما كتبتُ عنه قبل قليل من تجريدات وتكهنات وملاحظات . قال سامي (( الكتاب جاءَ وأنا في أتون صدمة عاطفية عنيفة وشعور بالأسى وتارةً بعَبث الحياة فقد ترجّلتْ كلُّ أسئلة الحياة قديمها وجديدها واعتاشت على خلايا فكري ومكوّنات وجداني وقاسمتني الفراش مثلما الأرصفة حتى دخلتُ المستشفى طالباً استراحة لا إستشارة كما عبّرتُ في قصيدة ” من أثدائي أُرضعُ الوحوش ” … وهذا الكتاب مُهدى لريتا وهو بدأ بوحيٍّ من واقع غيابها ثم اتّسعَ في محاولة لإحتواء كل عناصر حياتي بقلقها واحباطاتها وبساطتها ومصادفاتها وغرائبية العالم ومحاولاتي لمحاصرة أسئلته بدءاً من لب قضايا الوجود حتى لحاء العدم ! قلتُ لحاء العدم لأني ألمسُ في العدم جوهراً وإذا وجد البعضُ فيه جوهراً فهذا ما حطّت عنده سفائنهم أما بالنسبة لفطرات الشاعر فحتى الموت وجود وتكامل أو تحوّل / من حوار مع المؤلف ، د. فضيلة عَرَفات )) .
سوف أقدّم نماذجَ من جيّد أشعار سامي وهي ليست بالقليلة مُقارنةً بالبعض القليل من غير الجيّد أو الأقل جودةً .
نماذج من ديوان أستميحكِ حُبّاً قصيدة ” أُوزّعُ الأكوانَ بالدِلاءِ ” … قطّعها الشاعر إلى أحد عشر جزءاً يحملُ كلُّ جزءٍ منها عنواناً مستقلاً فهل يا تُرى هي قصيدة واحدة من عناوينَ شتّى أم إنها 11 قصيدة مستقلة يضمّها عنوانٌ واحدٌ سقفاً للجميع ؟ سنقرأها ثم نحكم أو أنَّ السيد الشاعر سيبادر ويُجيبُ . لا أحسبُ أنَّ لهذا التقطيع أو التوزيع { الأوركسترالي الشعري } علاقة بالعنوان الرئيس الذي يحمل لفظَ ودلالة التوزيع [ أوزّع الأكوان بالدلاء } لأنَّ الشاعر قد نهج هذا النهج في العديد الغالب من قصائد هذا الديوان . نقرأ المقطع الأول الذي يحمل العنوان ” حالات ” فنسيح مع الشاعر سياحة ممتعة فيها براءة خيالات الطفولة وقصصهم وتنوّع الحالات لكأنّه يقوم بتصوير بعض تقلّبات أحواله الشخصية حسب تقلبات الطقس والأنواء الطبيعية ولا غرابة ، فالشاعر لصيق الطبيعة وابنها الأبر وعاشق الغابات والأنهار وسقوط المطر . ماذا قال سامي :
[[ شَجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ،
خريفٌ يختطفُ الأضواءْ
قاماتٌ مُنتصبةْ
بظلاٍ حدباءْ
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ
مياهاً مُلتَهِبةْ
وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ
وغُرابٌ ورديُّ اللونِ
سَنيٌّ لمّاعْ ! ]] .
إفتتحَ الشاعرُ قصيدته بموسم الخريف وللخريف طقوس خاصّة يعرفها الشعراء ونكهة خاصة يرافقها شعور بالسوداوية بالنسبة لشعراء غير قليلين منهم نزار قبّاني صاحب قصيدة حقائب البكاء والقصيدة الشريرة ومطلعها
مطرٌ مَطرٌ وصديقتها
معها ولتشرينَ نُواحُ
برمزيته الشفّافة وروعة مجازاته لم يتكلم سامي العامري كلاماً مُسطّحَاً مستقيم الطبيعة معروف النهايات ، إنّما تكلّم ـ كالمِعرّي ـ بلغة المجاز الدّال فقال [ شجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ، خريفٌ يختطفُ الأضواء ْ ] . لم يقل إنه في موسم الخريف الذي تتساقطُ فيه أوراق الأشجار أو حتى المطر ، لم يقلْ ذلك لأنه شاعر حقيقي يفهم لغة الشعر ومغازيها وكيفية صياغتها لتكونَ شعراً يستهوي القارئ ويضعه أمام عالم ساحرٍ مسحور يُصيبه بالدهشة ويجعله يفكّر ويُطيلُ التفكير أحياناً . وأنَّ السنين تمرُّ في الطبيعة وتكّرُ وتتبدلُ الأحوال وتتغير أوضاع الأشجار لكنها تبقى كأنها هيَ هيَ فتساقطُ أوراقها لا يعني موتها إنها حيّة كامنة في ذاتها وفي جذورها وهي أصل وأسُّ بقائها . نعم ، تتساقط أوراق الشجر في الخريف لكنها تعود ثانيةً مع بدايات الربيع من كل عام . الشجرة تبقى لكنَّ الزمان هو الذي يتحول ولا يدوم على حالٍ واحد . كذلك سامي العامري … تتغيّر أحواله لكنه كالشجرة يبقى ذاك العامري رغم أنف المتغيّرات التي تطرأ على مسلسل حياته نزولاً وصعوداً مرضاً وصحّةً سُكراً وصحواً إفلاساً وكفايةً حرباً وسلماً . كما بيّنتُ في مقدمة هذا المبحث ، في عمق الشاعر لطخة سوداء لم يشأ هو أنْ يكشف سرّها ، تفرض بين الفينة والفينة نفسها عليه فيكتم أمرها لكنها تنتصر في نهاية المطاف لتظهرَ في شعره بشكل رموزٍ أو إشارات شبيهة بالإشارات الضوئية التي تتخطفُ الأبصارَ وسرعان ما تختفي دونما أي أثر . فقوله [ قاماتٌ منتصبةْ بظلالٍ حدباءْ ] تعبير بليغ يحمل أكثر من معنى وفي الصورة البليغة تناقض حاد وتعاكس في متجهاتها الفضائية ، فالقامات منتصبة إلى أعلى لكنَّ ظلالها منتكسة للأسفل . القامات والرؤوس بالطبع في السماء لكنَّ الظلال في الأرض . قابل سامي في هذه الصورة آمالَ الإنسان بخيباته ، طموحاته بالنتائج المرجوّة ، مساعيه الكبيرة بما في يده من حاصلٍ ومحصولٍ ، قابل الأعلى في الحياة بحضيضها . أتمعّنُ طويلاً في هذه الصورة فأضحك حين أكاد أنْ أحزن . حياته محدودبة الظهر وظروفه مشوّهة مضطربة التشكيل رغم أنَّ مساعيه في هذه الحياة ومطامحه كبيرة ومشروعة ومُبررة إذاً فالمأساة حادة الزوايا مُكسَّرَة الأضلاع . عجلته تدور في إتجاه وظروفه تدور في الإتجاه المغاير (( يفتّر عَكسْ شغل الفَلَكْ دادةْ جميلْ شبَدَّلكْ / أغنية لقارئ المقام العراقي الراحل يوسف عمر )) . ينتقل سامي بسلاسة واقتدار من إحدى صُوَر الخريف الحزينة إلى صورة أخرى فيها مع الحزن بعض الخوف وبعض التحذير من أحد مظاهر وتقلبّات الطبيعة [ موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلَتهبةْ ] . هنا موجٌ عاتٍ وهنا مياه تشتعلُ لهيباً تثير رعبَ الشاعر لأنها بلغت عَتَباتِ بيته فاقتحمته عنوةً فكيف لا يخاف وهو الطفل المفطوم على البراءة والمصدوم بعواقبها ؟ ما هذه المياه ؟ أهي من طبيعة ماء جهنم الذي يسمّيه القرآنُ بالحميم من الحماوة ؟ وماذا نجد في غابة الشاعر الخريفية هذه من غرائب ومبتكرات مُسّتَمدّة من عالم الأطفال التي ينقلنا فيها من عالم فيه خوف وشيء من الرعب إلى عالم آخر غرائبيّ كثير الخيال مُنوّع التلوينات حاد الإنتقالات . أُعيدُ كتابة هذا المقطع لإعجابي الكبير به ففيه الكثير من روح الشاعر الساخرة الهازئة رغم المرارات بالدنيا وما فيها وربما بمن فيها :
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلتَهِبةْ / وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ / وغرابٌ ورديُّ اللونِ سَنيٍّ لمّاعْ .
الديَكَةُ تصرخُ عالياً وتصرخ من فوق أشرعة فهل هي مهاجرة عَلَناً هجرةً شرعية بوثائقَ وجوازات سفر حقيقة ليست مُزوَّرة لا كما ترك الشاعرُ وطنه العراقَ مهاجراً خلسةً مغامراً دون صوت أو ضجّة خائفاً يتلفتُ غير عارفٍ مصيره وما ستؤولُ إليه أموره . بإزاء هذه الصور ينقلنا الشاعرُ إلى جوءٍ غريبٍ آخر ينتمي هو الآخر إلى عالم الطفولة وأخيلتها البريئة … فهل رأينا في حياتنا غراباً ورديَّ اللون ؟ لِمَ لا ؟ الشاعر سامي فنانٌ رسّامٌ موهوبٌ يُجيد فنَّ رسوم الكاريكاتير محاكياً سوريالية لوحات بيكاسو وغيره من الرسامين الإنطباعيين الذين برعوا في تغيير الألوان الطبيعية وفي تخليق لطخات من أطياف ضوئية لا وجودَ لها في الطبيعة . إذا آذنت الديوك بالرحيل وأعلنت ذلك من فوق أشرعة سفائن رحيلها فما موقع الغراب من هذا الأمر ولِمَ غيّرلونَ ريشه ؟ للتمويه تأهبّاً لهجرة غير شرعية ؟ المقطع الثاني يُلقي مزيداً من الضوء على حالات الشاعر وتبدلاته النفسية العميقة وبعض مظاهره الشخصية الظاهرة للعيان .
إسم المقطع ّ الثاني ” فيض ” . لنرَ ما فيه وفيم يختلف عمّا جاء في الجزء الأول.
[[ يا وطناً ،
قوامهُ خريرْ
لقاؤنا المُبرَمُ فخٌّ وثيرْ
وها أنا أوّزعُ الأكوانَ بالدلاءِ ،
إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوقِ فصاعدا ]] .
أرى أولاً أنَّ من الأفضل تجنّب تقطيع بعض الأسطر الشعرية وتركها تسترسل برخاء ورهاوة لتستكمل تأثير الزخم المتوقع منها في نفس وعقل القارئ . أعني أنَّ الأفضل أنْ تكون الأسطر التي عنيتُ كما يلي :
وها أنا أوزّعُ الأكوانَ بالدِلاء إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوق فصاعدا .
لقد تكررت هذه الظاهرة كثيراً في شعر سامي العامري وكنتُ أودُّ أنْ لا أراها.
خلاصة هذا الجزء تُشير إلى خوف الشاعر من العودة لوطنه العراق لأنه فخٌّ يصطاده فيكون حتفه فيه . ثمَّ إنَّ هذا الوطنَ لا شيءَ إلاّ ضجيج وخراب ومخاطر تهدد حياة وممتلكات الناس فعلام الأوبة له ؟ ليس في هذا الجزء شيءٌ ذو بال بل وفيه هبوط وسقوط من القمة التي بلغها الشاعر في الجزء السابق . كأنها فترة راحة لإلتقاط الأنفاس بعد جهد سابق جهيد . التعكّز على إيقاع القوافي المسجوعة لا يضمن الإبداع في الشعر ، وهذا فخ خطير على الشعر والشعراء .
الجزء الثالث يحملُ عنوان ” أبو غريب ” وأبو غريب سجنٌ مركزي معروف في العراق سيّء الصيت وفي كافة العهود ( في قرية أبو غريب وُلد سامي العامري كما كتب لي في رسالة عاجلة بعثها لي أمس مساءً ، وحين بلغ السادسة إنتقلت عالته إلى حي المأمون في بغداد ) . وفي أبي غريب محطّة مُرسِلات الإذاعة العراقية التي دأبَ العسكرُ على إحتلالها فجراً لإذاعة بيانات إنقلاباتهم . يظلُّ الديكُ أو تظلُّ الديوك التي رأيناها في الجزء الأول تلعب في هذا الجزء دوراً لكنَّ الشاعرَ يُلغي الغراب الوردي اللون ويضع مكانه اللقالق ! الديك الفخور المتعالي الذي اعتلى شراع فُلْك الإقلاع مؤذناً بساعة الرحيل يفقد هيبته في هذا المقطع لأنه يغار من اللقالق لأنها متفوّقة عليه في جملة أمور منها أنها تصيح متى شاءت وتغدو ظلاًّ لسجناء سجن أبي غريب عند الظهيرة الحارّة ثم إنها تصدح في الفجر . الديكة تصيح عادةً في الصباحات لذا فهي لا تستطيع منافسة اللقالق الأكثر حريّةً والأعلى منزلاً مع القدرة على الطيران بأجنحتها الواسعة ، ثم أنَّ صداحها بمناقيرها وليس للديكة مناقيرُ … وهذا الصداح يُحاكي صوت ” تكّات الساعة ” وهو تشبيه صحيح وجميل وقد استخدم غيرُ شاعرٍ قبل سامي العامريّ هذا الفعل وصرّفوه على هيئة تكَّ يتكُّ ولكن حصروا استخدامه بصوت حركات بندول الساعة . ثم إنه فعل إنكليزي الأصل عرّبه الشعراء فهو
tick
أظنُّ أنَّ الشاعر وظّف اللقالق وتكّات مناقيرها الطويلة للسخرية من إذاعة بغداد ورتابة وسخف برامجها التي تمجّدُ الإنقلابيين الدمويين ولا تكفُّ عن بث الأغاني الحماسية الفارغة المحتوى والمعنى والمارشات العسكرية لذا فبرامجها رتيبة مملة كأنها أصوات طقات مناقير لقالق المنائر والمباني العالية الإرتفاع حيث سَكَنها وأعشاشها .
[[ عند اليمين تلوحُ الإذاعةْ
وكّنا نراها فحسبُ !
فلا صوتَ غيرَ صياح اللقالقِ ،
ظلّت لقالقها مَعْلماً
فهي عندَ الظهيرةِ ظلٌّ إلينا
وفي الفجرِ تأتي مزارعَنا صادحاتٍ
ومنها تغارُ الديوكُ
لأنَّ مناقيرَها ما تزالُ تتكُّ كساعةْ
ومن ثُمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ
فيا للفظاعة ! ]]
لا يُلفتُ نظري في هذا المقطع إلاّ السطران الأخيران [ ومن ثمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ فيا للفظاعة ! ] . هنا أجد شعراً طالما انتظرتُ أنْ يقوله سامي العامري فجاء ولكنْ قد جاءَ متأخراً . يبقى موضوع اللقالق رمزاً له مغازيه التي لا يفهمها إلاّ الشاعر نفسه ، وإلاّ فكلمة لقلق غير موحية وفارغة من أية حركة أو حركية وباردة لأنها خالية من حرارة التوتر لحظة التوهج الشعري في رأس وعصب وقلب الشاعر فكيف يتأثر بها القارئ وكيف يتحسس منطقية وجودها هنا أو هناك في نسيج القصيدة ؟ أكتفي بهذا القْدر وأترك باقي الأجزاء لأنها قصيرة وإني ضد المقطوعات الشعرية القصيرة لأني أجدها لا تشفي الغليل ولا تروي العطشان ولا تُطفئ جذوةَ الظمأ . أنتقل إلى قصيدة أخرى من قصائد هذا الديوان.
” كُلّها رهنُ الخِلاف ” قصيدة جيدة محايدة بين حالتي الحزن والفرح أدخل الشاعر فيها الديوك مرةً أخرى فما باله مغرماً بهذا الحيوان الداجن الأليف ؟ إستعار هنا منها لون أعرافها الأحمر القاني . يغلبُ على ظنّي أنه وقع ثانيةً تحت تأثير إغراءات التسجيع التفعيلي فجرفته وطوّعت موهبته لخدمة متعة الأذن الصوتية وهكذا كان :
يا صاحبي …
ويمرُّ بي
قَمَرٌ ضحوكْ
قمرٌ هوى
ولِفتنتي
حَمَلتهُ أعرافُ الديوكْ !
هنا السجع وهو مصيدة تستهوي الشعراء إذا ضعفت مناعتهم وتهالكت حصانتهم المضادّة للتسجيع ورتابة أصوات آلات النفخ النحاسية ومطارق النحّاسين في أسواق الصِفْر المعروفة : ضحوك … ديوك . لقد انحرفَ سامي جرّاءَ وقوعه هذا ضحيةً للصوت فأضاع روعة ما سبق ، أعني [ ويمر ُّ بي قمرٌ ضحوكْ ، قمرٌ هوى … ] ما علاقةُ القمر الهاوي بأعراف الديوك ؟ أيريدُ سامي اللون حسبُ ؟ أنَّ القمر الهاوي يتّقدُ مشتعلاً متوهجّاً باللون الأحمر ؟ أفلم يستطع إيجاد تشبيه مجازيٍّ آخرَ غير عرف الديك للّون الأحمر ؟ إنها ظاهرة قديمة دأبت أمّهاتنا في الزمن الغابر على ممارستها إستعاراتِ لبعض الشواهد والمظاهر. فلصفاء الشيء يقلن إنه صافٍ كعين الديك . فيا عامري حذارِ حذارِ من الضعف أمام القوافي .
من كتاب النهر الأول قبل الميلاد وهو كتاب قصص شعري حسب توصيف العامري له ، أعجبتني أشعارٌ ضمّنها أقصوصته المسماة ” مساءً اُمجّدُ الهاوية “
قال فيها فأبدع :
في عَتمةِ الليلِ انثنيتُ
فتحتُ نافذتي أناجيكْ
فأضاءَ ليلي ريشُ ديك (( مرةً أخرى يذكر سامي الديك ! ))
والصمتُ أُغنيةٌ ويُكملها النبيذُ مُعتّقاً
فرفعتُ نخْبَكَ قائلاً : أفديكْ !
لا تُبقهِ في الكأسِ لا ،
لا تُبقهِ في الأسرِ !
إنّي بالأناملِ ذُقتُ نكهَتَهُ
فحنَّ فمي
وجُنَّ دمي
وما من حاجةٍ لامستُها
إلاّ غدت عَبَقاً
وهذا كلّهُ حَسَناتُ حُبّكَ يا مليكْ !
هنا نجد سُكراً صوفياً إطاره أبيات من شعر الفرنسي بودلير ينصح بالسكر الدائم خلاصاً من الإحساس بوطأة عبء الزمن على الإنسان … ومحتواه تصوّف إسلامي يُخالطه تعبّدٌ نؤاسيٌّ وصلوات لكؤوس الخمر وهذا هو سامي العامري بقضّه وقضيضه وبلحمه ودمه .
كلمة عابرة عمّا ورد في كتابين وصف سامي أحدهما بقصص شعري ( النهر الأول قبل الميلاد ) ووصف الثاني بكتاب قصصي نثري شعري ( حديث مع ربّة الشفاء ) . لم أجد في هذين الكتابين قصصاً تحمل مواصفات القصص الحديثة ، إنما وجدتها من نوع القص الحكواتي أو القص الحكائي أغلب مضامينها ذكريات سامي العامري ومونولوجات يستذكر فيها نفسه ماضياً وحاضراً ويناجيها ويكلّمها ويُصغي لهمساتها . ثم هناك الحوارت المنوّعة من عراقيين وعرب وألمان من كلا الجنسين . سرّتني بوجه خاص حكايته التي حملت العنوان ” أنا أعشقُ والدانوبُ يدوّنُ ” من كتاب النهر الأول قبل الميلاد .
أترك كتابَيْ سامي العامري في القص الشعري لغيري من نقّاد القصّة ، فلقد أطلتُ حديثي عن بعض شعره ولم أستطعْ أنْ أوفيهِ حقه . ذلك قد يستغرقُ عاماً كاملاً أو بعض عام وهذا ما لا أُطيقُ فمعذرة يا أيها العاشق العامري ويا أيها المُريد النجيب للحلاّج والجُنيد البغدادي وابن الفارض ثم لصاحبنا أبي نؤاس .
كتب سامي الأربعة هي :
1ـ أستميحكِ ورداً / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
2ـ أعراضُ حفاوتي بالزنبق / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
3ـ النهر الأول قبل الميلاد / كتاب قصص شعري ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
4ـ حديث مع ربّة الشقاء / كتاب قصصي نثري شعري ( مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2010 ) .
عدنان الظاهر آب 2010
جولات مع الشاعر سامي العامري
إعتراف !! الدخول في عالم سامي العامري كالدخول في حقل ألغام محاطٍ بأسلاك شائكة ، الداخل فيه مُغامرٌ متهوِّرٌ أو أحمق والخارجُ منه قتيلٌ أو مُثخنٌ بالجراح التي لا تندملُ ولا من علاجٍ لها لا في طبِّ جالينوس ولا في طب إبن سينا. قرأتُ الكتب الأربعة ، وما زلتُ أقرأ وأنا أكتب عنها وعنه ، التي أرسل لي أخيراً مع كلمات إهداء جميلة مُعبِّرة فهو يعرف أني كنتُ أولَّ مَنْ كتب عنه وعن ديوانه الأول الذي يحملُ عنوان ( السكسفون المُجنّح ) . كان يومذاك في الأوج من التألق الرومانسي مع صديقته الألمانية ( ريتا / ربّة الشفاء ) لكنه ، وفي عين الوقت ، كان في القرار السحيق من سوء أوضاعه الصحية كما أخبرني شاعرٌ سوريٌّ صديق صلتُهُ وثيقة بسامي العامري . هذا هو سامي العامري في حياته اليومية الشخصية كما هو في شعره وقصصه ، وجهان لعملة ذهبية واحدة تحمل اسمه على وجه وتحملُ صورته على الوجه الآخر . وضعتُ بتأنٍ تخطيطات حاولتُ أنْ أكون دقيقاً فيها لكي لا أظلم الرجل ولا أظلم نفسي … أبيّنُ فيها خصائص سامي الشخصية جداً منها والشاعرية فإنه إنسانٌ شاعر وشاعرٌ إنسان فكيف يفترقان أو كيف يفترق الوجهان ؟ إستخلصتها لا من باب التجريد والرجم بالغيب بل مما قال هو في نصوص كتبه التي قرأت في هذه الأيام والتي أصبحت بفضله في حوزتي هدية منه وهو الكريم النشأة والطباع والسليقة .
1ـ لا أغامرُ كثيراً إذا ما أطلقتُ عليه الوصف التالي : الدون جوان العامري ـ المتصوّف النيتشوي الذي لا يتحرك ولا يقرُّ له قرارٌ إلاّ ساعياً على قدميهِ
أو جالساً مُرتكِزاً على قوائمَ أربع هي : الكتابة والقراءة ـ والسيجارة ـ وفنجان القهوة أو الشاي ـ ثم الخمرة . كيف نجح سامي في جمع كل هذه الخلائط في نفسه فصوّرها ومثلّها شعراً وقصّاً أم أنها فرادى ومجتمعة فرضت نفسها عليه بالتعاضد مع بيئاته ونشأته وقاسي ظروفه سواء في وطنه العراق أو في المانيا حيث دخلها عام 1984 لاجئاً هارباً من حرب صدّام حسين الكارثة مع إيران . هرب سامي من موت شبه أكيد في جبهات الحرب الضروس عسكرياً مُجنّداً رغم إرادته في الجيش العراقي … هرب من هذا الموت ليواجه إحتمالات أكثر من موت واحد غير أكيد .
2ـ لا يُخفي سامي العامري لوعته وشعوره بالإحباط من مواقف الشعراء والأدباء العراقيين منه فمن إهمال إلى نسيان إلى جحود ما زال يعاني منها مُعاناةٍ مُرّة . أكتفي بذكر أرقام الصفحات التي عبّر سامي فيها عن مراراته هذه وعتبه العميق على الأهل والأصدقاء وزملاء الشعر والأدب . في كتاب أستميحكِ ورداً ، الصفحة 44 . وفي كتاب النهر الأولُ قبل الميلاد ، الصفحة 53 . وهناك شذرات طفيفة متفرقة مبثوثة في ثنايا كتبه الأربعة لها علاقة بذات الموضوع . إنه ـ ومن باب الأنفة والعلوّ ـ لم يقلْ وكان حريّاً به أنْ يقولَ كما قال قبله الشاعرُ الجاهلي الكريم حاتِم الطائي :
وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمّي لَمُختلِفٌ جدّا
فإنْ أكلوا لحمي وَفَرْتُ لحومَهم
وإنْ هدْموا مجدي بنيتُ لهمْ مجدا
3ـ يُخفي سامي عن عمد تفاصيل طفولته وصباه ونشأته الأولى ولا نسأله لماذا لكني لكم تمنيتُ أنْ أجده كما وجدتُ الروائي الصديق العزيز الأستاذ سلام إبراهيم الذي لم يُخفِ شيئاً من مجريات طفولته وبواكير مراهقته وصباه في رواياته وقصصه لا الكبير منها ولا الصغير فما أكبره وما أجلّه في نظري ونظر باقي القرّاء الكرام . قد نتلمّس في طفولة الشاعر والأديب وأوائل سني صباه أموراً كثيرة هامة تُعيننا على فهم شخصيته وسلوكه وجذور شاعريته وله في ذلك أسوة من كبار شعراء وكتّاب ومفكري العالم الذين كشفوا أنفسهم وتأريخهم بشجاعة وجرأة وتركوا لنا وفينا آثاراً عميقة جليلة الشأن لن يمحوها الزمن مهما تقادمَ وطال .لقد حذا سلام ابراهيم حذو هذا الرعيل الأول المقدام ولم يتأخر عنهم.
4ـ في قرارة نفس سامي العامري لون أسود وشكوى لم أجد لها في كل ما كتب مبرراً قوياً ولم يستطع هو من إقناعي ، كقارئ ، في حقيقة وجودها ، لذا أراها نوعاً من أنواع الوهم أو إيهام الذات الذي يحمل لوناً خفيفاً من الطبيعة الماسوشية. هل لهذا الأمر علاقة بنشأة سامي الأولى زمان طفولته المبكّرة ونوع تربيته البيتية وعلاقة والده بوالدته ؟ إنه يُكبر الرجلَ أباً ويُشيرُ إلى تعلّق البنت الشرقية بأبيها [ كتابه الموسوم النهرُ الأوّلُ قبل الميلاد ، الصفحة 59 إذْ قال حرفياً : … غيرَ أنَّ الأبَ في أغلب الثقافات له منزلة كبيرة في وجدان ابنته ] . هل نسيتَ يا سامي عقدة ألكترا ؟ البنت بطبيعتها المغايرة لطبيعة الرجل وجنسه تميلُ لأبيها كما يميلُ هو لها بسبب تضاد الجنسين . ولهذا السبب يميل الولد والطفل لوالدته أكثر مما يميل لأبيه .
5ـ بخلاف حرصه على الآّ يكشف أوائل نشأته وبواكير طفولته … نجد الشاعر سامي المتواضع والفخور بنفسه وبكونه شاعراً … نجده لا يتوانى ولا يتورع عن كشف نفسه في الزمن الراهن فلقد كتب في كتابه سالف الذكر ، النهر الأول قبل الميلاد ، كتب لكأنه يتحدى الجميع ، الناس والزمان ، كتب على الصفحة 79 ما يلي :
ليس عندي ما أُخفيهِ
ما انا إلاّ فضيحةٌ متَوارَثةٌ
ولنْ تنفع حوّاءَ أو آدمَ ورقةُ توتٍ
حتّى ولا غابةُ توت !
إنه بالطبع يُشيرُ إلى خطيئة آدم وعصيانه لأمر ربّه في أنْ لا يقرب الشجرة المحرّمة فأكل وزوجه حوّاءُ منها فاستحقا اللعنة الأبدية وعقوبة مغادرة جنات الخلود والهبوط للأرض .
هناك الكثير الممكن أنْ يُقال في سامي وعنه كتوطئة للخوض في عالمه الشعري المُنوَّع الأهداف والأغراض والبُنى يُحرّكه ويتحرك فيه بحريّة ومرونة فائقة الجودة وأنه في المعنى والمضامين خلائط ناجحة يبلغ الذروة فيها في شعر التفعيلة الحر لكنه يتخلّف إذا التزم بشعر العمود العربي القديم من حيث الإلتزام بقافية واحدة وإنْ خالفه في التقيّد بعدد التفعيلات في البيت الواحد لذا تحرر البحر وتمدد منتشراً على عدد من الأسطر المتفاوتة الأطوال ، مثال ذلك قصيدة ” الهوية وخدود الأجنبية ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” مدائح لأيامي العتيقة ” من ديوان أعراض حفاوتي بالزنبق . غير أنه في قصائد قليلة أخرى كبّل نفسه بقيود وسلاسل أو زناجيل عمود الشعر العربي الخليلي ثم الفراهيدي مثل قصيدة ” شُغِفتُ بها ” من ديوان أستميحكِ ورداً وقصيدة ” القلبُ إذا تلكّأ “
من ديوان أعراضُ حفاوتي بالزنبق . طالما ألزم الشاعرُ نفسه بمتطلبات وضرورات عمود الشعر العروضي القديم فلا أمل في أنْ يأتي بإبداع أو أي شيء جديد مُثير يستحق الوقوف عنده طويلاً . إنه ، سامي ، صارمٌ مع اللغة العربية متمكّنٌ منها ضابطٌ لقواعدها ونحوها وصرفها واشتقاقاتها ، نعم ، لكنَّ هذا لا يضمن إبداعاً أو ثورة أو إنتفاضةً شعرية مباركة ولقد استشهد هو نفسه ببيت للمتنبي قال فيه :
إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المُقدَّمُ
أكلُّ فصيحٍ قال شعراً مُتيّمٌ ؟
أي أنَّ فصاحة لسان الشاعر وقوّة لغته لا تكفي أنْ يكون شاعراً فضلاً عن أنْ يكونَ عاشقاً غَزِلاً يُجيد فن التشبيب . لذا أرى أنْ ينصرفَ سامي العامري لشعر التفعيلة الحر المتحرر من ضوابط التفعيلات العروضية المقننة حسب مقاييس الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري .
لا يمتُّ شعر العامري الحر الجميل المتميّز لعالم السوريالية بصلةٍ لكنْ من الممكن تصنيفه ووضعه في عالمه الخاص الذي يحلو لي تسميته بالرمزية المجازية العامرية المفتوحة الأطراف العصيّة على الغموض المُتَعَمّد والإعسار المُعتَسَف . الإبداع أصنافٌ ودرجات وطبقات وألوان ومذاقات منوّعة متفاوتة لذا فالمبدعون ليسوا سواسية متشابهين فيما يبدعون بل إنهم مختلفون في ذلك كما هم مختلفون في طبائعهم وهيآتهم وأشكال وجوههم وثقافاتهم وأصولهم العائلية. خلال قراءتي لنصوص سامي الشعرية والقصصية سجّلتُ ـ كما هي عادتي دوماً ـ ملاحظاتٍ ومحاولات أوليّة شبه تنظيرية كمُدخل لعالمي سامي الشخصي والشعري لإعانة قارئه على فهمه إنساناً ثم شاعراً أو شاعراً ثمَّ إنساناً وكما يلي :
أولاً / سامي شاعرُ عاشقٌ عامريٌّ كمجنون ليلى يعبد المرأة ولا يُطيق الحياة بدونها والدةً او عشيقةً أو صديقة . أخذ التصوّف من تراثنا الإسلامي وأضاف إليه ما قرأ من تراث الغرب وتأثر عميقاً ببعض فلاسفته ومفكّريه وشعرائه مثل غوتة ونيتشة وشيللر وهاينة وجميعهم ألمان . لا حاجة بي أنْ أذكرَ معرفته الجيدة لأشعار المتنبي وأبي تمام وربما المِعرّي وقد رجع إلى بعضهم في كتبه ولا سيّما المتنبي إذْ كانت له حصّة الأسد فيما اقتبسَ. إنه خليطٌ عجيب جمع فيه كل هذه الخلائط ، هظمها ومثّلها فجاءت في شعره او انعكست فيه بهذا الشكل أو ذاك بعد أنْ أحسن تمثيلها . زدْ على ذلك أنه حتى في حزنه وساعات بؤسه تجده في العمق باسماً واثقاً شفّافاً قادراً قاهراً مُفعَماً بالأمل . تلك حالة نادرة في الشعراء وباقي الناس . لذا كلما قرأتُ له أكثر ازددتُ منه قُرباً وزادني إعجاباً بكلا عالميه إنساناً أوّلاً ثم شاعراً وكاتباً .
ثانياً / إنه شاعرٌ يشاكسُ ويعاكسُ منطق الطبيعة والكون . رؤاه مقلوبة أو يجعلها مقلوبة أو يراها مقلوبة أو يريدها أنْ تكونَ كذلك . وكيف لا ينقلبُ الكون بناسه وأرضه وسمائه في عينيه ووجدانه وقد شبَّ في العراق ليجدَ نفسه عسكرياً مُجنّداً غصباً عنه وضدَّ إرادته للقتال في حربٍ مع بلد مجاور يخرج منها إمّا مقتولاً أو قاتلاً ؟ وكيف لا يجد الكونَ مقلوباً وقد أُضطرَّ للهرب من وطنه العراق ليجدَ نفسه لاجئاً مشرّداً لا يعرفُ مصيره فوجد السلوى في زجاجات الخمر وقد هزَّ الخمرُ عروقَ أعصابه ومن ثُمَّ وقبلَ أنْ يفيقَ فارقته حبيبته ريتا راحلةً إلى العالم الآخر ؟
ثالثاً / إنه شاعرٌ ورجلٌ عاشق عاشقٌ ثمَّ عاشق . ثم إنه الشاعر المظلوم ظلماً متعدداً مُركّباً يعاني قبل كل شيء من ظلم الأدباء والنقّاد فوق ظلم الوطن له . لذا لم يجد أحداً يقدّم له الشكر والأعتراف بصنع الجميل له إلاّ السيدة أسماء سنجاري إذْ أهدى ديوانه ( أعراض حفاوتي بالزنبق ) لها وكتب في الصفحة الأولى منه
[ إلى الصديقة الأديبة د. أسماء سنجاري التي وقفت معي بقلبها وعقلها وقفةً نادرة في زمن صعبٍ أُهدي مجموعتي هذه … ] .
أعود لموضوع مشاكسة سامي للكون ورؤيته له مقلوباً . تفسيري لهذه الظاهرة يمكن أنْ يكونَ وفق تصوّر الآلية المُتخيّلة التالية : الشاعر وعالمه الخارجي المحيط به يمثلان عجلتين أسطوريتين دوّارتين حول محور واحد لهما قطران متساويان في الطول ومحيطان متساويان ومساحتان سطحيتان بالطبع متساويتان ولكنَّ العجلتين الهائلتين تدوران في إتجاهين متعاكسين : تدور عجلة الشاعر سامي مع حركة الزمان في إتجاه حركة عقرب الساعة من الشمال إلى اليمين في حين تدور أحوال وظروف سامي الخارجية في الإتجاه المعاكس أي ضد حركة عقارب الساعة من جهة اليمين نحو جهة الشمال . سامي وعالمه المحيط به في تناقض إذاَ وهو تناقض غاية في الجديّة وربما الخطورة ، تناقض في الإتجاهات وما ينجمُ عن ذلك من تبعات على رأسها إنقسام الذات على نفسها وتبلبل العواطف ورقيق المشاعر واختلاط الرؤى فضلاً عمّا يُصيبُ البصرَ والبصيرة من عَتَمات وقتية أو موسمية . ليس بالضرورة أنْ يكون هذا من قبيل أو صنف إنفصام الشخصية المَرَضي المعروف بالشيزوفرينيا لكنه إنفصام ، نعم إنفصام ، في المواقف والرؤى الشعرية واللاشعورية التي تمتدُّ فتصيبُ عالم أحلام الشاعر وتجعلُ نومه صعباً . يكون الشاعر في المحصلة النهائية شقيّاً في حياته بَرِماً بالكثير من ظواهرها ومظاهرها زاهداً فيها صعباً عليه التكيّف لها ومعها ومع الكثير من الناس بما فيهم بعض معارفه وربما البعض من أصدقائه . قد يراني البعضُ مُبالغاً في وصفي وتشخيصي لحالة سامي العامري وقد يُنكرها هو نفسه وربما يهزأ بها فليكنْ ، لا يشعر الإنسان بدوران الكرة الأرضية إلاّ إذا وجدَ نفسه خارجها … هذا الكلام لغيري وهو صحيح بالنسبة للموضوع الذي أنا فيه . أحسبُ أنَّ الوضعية هذه خدمت سامي شاعراً وأرهفت حسّه الشعري وشذّبت هواجسَ شياطين شعره وعمّقت أزمته بالوجود ومحنته بوجوده . هذا هو سامي العامري نتاج كل هذه العناصر المعقدّة وحاصل تراكماتها المستقيمة الخطوط حيناً والمتقاطعة أحياناً تتبادل الأمكنة فتختلط لتتفرق سريعاً تاركةً الشاعر الإنسان حائراً تائهاً موزّعاً لا يستطيعُ التركيز إلاّ ساعة جلوسه لكتابة أشعاره التي تفرض نفسها عليه حتى في ساعات تمشيه أحياناً أو وهو في فراش نومه .
ما كتب سامي على غلاف كتاب ” حديث مع ربّة الشفاء ” يُلقي المزيد من الضوء على ما كتبتُ عنه قبل قليل من تجريدات وتكهنات وملاحظات . قال سامي (( الكتاب جاءَ وأنا في أتون صدمة عاطفية عنيفة وشعور بالأسى وتارةً بعَبث الحياة فقد ترجّلتْ كلُّ أسئلة الحياة قديمها وجديدها واعتاشت على خلايا فكري ومكوّنات وجداني وقاسمتني الفراش مثلما الأرصفة حتى دخلتُ المستشفى طالباً استراحة لا إستشارة كما عبّرتُ في قصيدة ” من أثدائي أُرضعُ الوحوش ” … وهذا الكتاب مُهدى لريتا وهو بدأ بوحيٍّ من واقع غيابها ثم اتّسعَ في محاولة لإحتواء كل عناصر حياتي بقلقها واحباطاتها وبساطتها ومصادفاتها وغرائبية العالم ومحاولاتي لمحاصرة أسئلته بدءاً من لب قضايا الوجود حتى لحاء العدم ! قلتُ لحاء العدم لأني ألمسُ في العدم جوهراً وإذا وجد البعضُ فيه جوهراً فهذا ما حطّت عنده سفائنهم أما بالنسبة لفطرات الشاعر فحتى الموت وجود وتكامل أو تحوّل / من حوار مع المؤلف ، د. فضيلة عَرَفات )) .
سوف أقدّم نماذجَ من جيّد أشعار سامي وهي ليست بالقليلة مُقارنةً بالبعض القليل من غير الجيّد أو الأقل جودةً .
نماذج من ديوان أستميحكِ حُبّاً قصيدة ” أُوزّعُ الأكوانَ بالدِلاءِ ” … قطّعها الشاعر إلى أحد عشر جزءاً يحملُ كلُّ جزءٍ منها عنواناً مستقلاً فهل يا تُرى هي قصيدة واحدة من عناوينَ شتّى أم إنها 11 قصيدة مستقلة يضمّها عنوانٌ واحدٌ سقفاً للجميع ؟ سنقرأها ثم نحكم أو أنَّ السيد الشاعر سيبادر ويُجيبُ . لا أحسبُ أنَّ لهذا التقطيع أو التوزيع { الأوركسترالي الشعري } علاقة بالعنوان الرئيس الذي يحمل لفظَ ودلالة التوزيع [ أوزّع الأكوان بالدلاء } لأنَّ الشاعر قد نهج هذا النهج في العديد الغالب من قصائد هذا الديوان . نقرأ المقطع الأول الذي يحمل العنوان ” حالات ” فنسيح مع الشاعر سياحة ممتعة فيها براءة خيالات الطفولة وقصصهم وتنوّع الحالات لكأنّه يقوم بتصوير بعض تقلّبات أحواله الشخصية حسب تقلبات الطقس والأنواء الطبيعية ولا غرابة ، فالشاعر لصيق الطبيعة وابنها الأبر وعاشق الغابات والأنهار وسقوط المطر . ماذا قال سامي :
[[ شَجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ،
خريفٌ يختطفُ الأضواءْ
قاماتٌ مُنتصبةْ
بظلاٍ حدباءْ
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ
مياهاً مُلتَهِبةْ
وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ
وغُرابٌ ورديُّ اللونِ
سَنيٌّ لمّاعْ ! ]] .
إفتتحَ الشاعرُ قصيدته بموسم الخريف وللخريف طقوس خاصّة يعرفها الشعراء ونكهة خاصة يرافقها شعور بالسوداوية بالنسبة لشعراء غير قليلين منهم نزار قبّاني صاحب قصيدة حقائب البكاء والقصيدة الشريرة ومطلعها
مطرٌ مَطرٌ وصديقتها
معها ولتشرينَ نُواحُ
برمزيته الشفّافة وروعة مجازاته لم يتكلم سامي العامري كلاماً مُسطّحَاً مستقيم الطبيعة معروف النهايات ، إنّما تكلّم ـ كالمِعرّي ـ بلغة المجاز الدّال فقال [ شجرٌ تتساقطُ منهُ فصولُ السنةِ ، خريفٌ يختطفُ الأضواء ْ ] . لم يقل إنه في موسم الخريف الذي تتساقطُ فيه أوراق الأشجار أو حتى المطر ، لم يقلْ ذلك لأنه شاعر حقيقي يفهم لغة الشعر ومغازيها وكيفية صياغتها لتكونَ شعراً يستهوي القارئ ويضعه أمام عالم ساحرٍ مسحور يُصيبه بالدهشة ويجعله يفكّر ويُطيلُ التفكير أحياناً . وأنَّ السنين تمرُّ في الطبيعة وتكّرُ وتتبدلُ الأحوال وتتغير أوضاع الأشجار لكنها تبقى كأنها هيَ هيَ فتساقطُ أوراقها لا يعني موتها إنها حيّة كامنة في ذاتها وفي جذورها وهي أصل وأسُّ بقائها . نعم ، تتساقط أوراق الشجر في الخريف لكنها تعود ثانيةً مع بدايات الربيع من كل عام . الشجرة تبقى لكنَّ الزمان هو الذي يتحول ولا يدوم على حالٍ واحد . كذلك سامي العامري … تتغيّر أحواله لكنه كالشجرة يبقى ذاك العامري رغم أنف المتغيّرات التي تطرأ على مسلسل حياته نزولاً وصعوداً مرضاً وصحّةً سُكراً وصحواً إفلاساً وكفايةً حرباً وسلماً . كما بيّنتُ في مقدمة هذا المبحث ، في عمق الشاعر لطخة سوداء لم يشأ هو أنْ يكشف سرّها ، تفرض بين الفينة والفينة نفسها عليه فيكتم أمرها لكنها تنتصر في نهاية المطاف لتظهرَ في شعره بشكل رموزٍ أو إشارات شبيهة بالإشارات الضوئية التي تتخطفُ الأبصارَ وسرعان ما تختفي دونما أي أثر . فقوله [ قاماتٌ منتصبةْ بظلالٍ حدباءْ ] تعبير بليغ يحمل أكثر من معنى وفي الصورة البليغة تناقض حاد وتعاكس في متجهاتها الفضائية ، فالقامات منتصبة إلى أعلى لكنَّ ظلالها منتكسة للأسفل . القامات والرؤوس بالطبع في السماء لكنَّ الظلال في الأرض . قابل سامي في هذه الصورة آمالَ الإنسان بخيباته ، طموحاته بالنتائج المرجوّة ، مساعيه الكبيرة بما في يده من حاصلٍ ومحصولٍ ، قابل الأعلى في الحياة بحضيضها . أتمعّنُ طويلاً في هذه الصورة فأضحك حين أكاد أنْ أحزن . حياته محدودبة الظهر وظروفه مشوّهة مضطربة التشكيل رغم أنَّ مساعيه في هذه الحياة ومطامحه كبيرة ومشروعة ومُبررة إذاً فالمأساة حادة الزوايا مُكسَّرَة الأضلاع . عجلته تدور في إتجاه وظروفه تدور في الإتجاه المغاير (( يفتّر عَكسْ شغل الفَلَكْ دادةْ جميلْ شبَدَّلكْ / أغنية لقارئ المقام العراقي الراحل يوسف عمر )) . ينتقل سامي بسلاسة واقتدار من إحدى صُوَر الخريف الحزينة إلى صورة أخرى فيها مع الحزن بعض الخوف وبعض التحذير من أحد مظاهر وتقلبّات الطبيعة [ موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلَتهبةْ ] . هنا موجٌ عاتٍ وهنا مياه تشتعلُ لهيباً تثير رعبَ الشاعر لأنها بلغت عَتَباتِ بيته فاقتحمته عنوةً فكيف لا يخاف وهو الطفل المفطوم على البراءة والمصدوم بعواقبها ؟ ما هذه المياه ؟ أهي من طبيعة ماء جهنم الذي يسمّيه القرآنُ بالحميم من الحماوة ؟ وماذا نجد في غابة الشاعر الخريفية هذه من غرائب ومبتكرات مُسّتَمدّة من عالم الأطفال التي ينقلنا فيها من عالم فيه خوف وشيء من الرعب إلى عالم آخر غرائبيّ كثير الخيال مُنوّع التلوينات حاد الإنتقالات . أُعيدُ كتابة هذا المقطع لإعجابي الكبير به ففيه الكثير من روح الشاعر الساخرة الهازئة رغم المرارات بالدنيا وما فيها وربما بمن فيها :
موجةُ أنهارٍ تجتاحُ الأعتابَ مياهاً مُلتَهِبةْ / وصياحُ ديوكٍ فوق شراعْ / وغرابٌ ورديُّ اللونِ سَنيٍّ لمّاعْ .
الديَكَةُ تصرخُ عالياً وتصرخ من فوق أشرعة فهل هي مهاجرة عَلَناً هجرةً شرعية بوثائقَ وجوازات سفر حقيقة ليست مُزوَّرة لا كما ترك الشاعرُ وطنه العراقَ مهاجراً خلسةً مغامراً دون صوت أو ضجّة خائفاً يتلفتُ غير عارفٍ مصيره وما ستؤولُ إليه أموره . بإزاء هذه الصور ينقلنا الشاعرُ إلى جوءٍ غريبٍ آخر ينتمي هو الآخر إلى عالم الطفولة وأخيلتها البريئة … فهل رأينا في حياتنا غراباً ورديَّ اللون ؟ لِمَ لا ؟ الشاعر سامي فنانٌ رسّامٌ موهوبٌ يُجيد فنَّ رسوم الكاريكاتير محاكياً سوريالية لوحات بيكاسو وغيره من الرسامين الإنطباعيين الذين برعوا في تغيير الألوان الطبيعية وفي تخليق لطخات من أطياف ضوئية لا وجودَ لها في الطبيعة . إذا آذنت الديوك بالرحيل وأعلنت ذلك من فوق أشرعة سفائن رحيلها فما موقع الغراب من هذا الأمر ولِمَ غيّرلونَ ريشه ؟ للتمويه تأهبّاً لهجرة غير شرعية ؟ المقطع الثاني يُلقي مزيداً من الضوء على حالات الشاعر وتبدلاته النفسية العميقة وبعض مظاهره الشخصية الظاهرة للعيان .
إسم المقطع ّ الثاني ” فيض ” . لنرَ ما فيه وفيم يختلف عمّا جاء في الجزء الأول.
[[ يا وطناً ،
قوامهُ خريرْ
لقاؤنا المُبرَمُ فخٌّ وثيرْ
وها أنا أوّزعُ الأكوانَ بالدلاءِ ،
إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوقِ فصاعدا ]] .
أرى أولاً أنَّ من الأفضل تجنّب تقطيع بعض الأسطر الشعرية وتركها تسترسل برخاء ورهاوة لتستكمل تأثير الزخم المتوقع منها في نفس وعقل القارئ . أعني أنَّ الأفضل أنْ تكون الأسطر التي عنيتُ كما يلي :
وها أنا أوزّعُ الأكوانَ بالدِلاء إذْ أقتحمُ المدى
بدءاً من الشوق فصاعدا .
لقد تكررت هذه الظاهرة كثيراً في شعر سامي العامري وكنتُ أودُّ أنْ لا أراها.
خلاصة هذا الجزء تُشير إلى خوف الشاعر من العودة لوطنه العراق لأنه فخٌّ يصطاده فيكون حتفه فيه . ثمَّ إنَّ هذا الوطنَ لا شيءَ إلاّ ضجيج وخراب ومخاطر تهدد حياة وممتلكات الناس فعلام الأوبة له ؟ ليس في هذا الجزء شيءٌ ذو بال بل وفيه هبوط وسقوط من القمة التي بلغها الشاعر في الجزء السابق . كأنها فترة راحة لإلتقاط الأنفاس بعد جهد سابق جهيد . التعكّز على إيقاع القوافي المسجوعة لا يضمن الإبداع في الشعر ، وهذا فخ خطير على الشعر والشعراء .
الجزء الثالث يحملُ عنوان ” أبو غريب ” وأبو غريب سجنٌ مركزي معروف في العراق سيّء الصيت وفي كافة العهود ( في قرية أبو غريب وُلد سامي العامري كما كتب لي في رسالة عاجلة بعثها لي أمس مساءً ، وحين بلغ السادسة إنتقلت عالته إلى حي المأمون في بغداد ) . وفي أبي غريب محطّة مُرسِلات الإذاعة العراقية التي دأبَ العسكرُ على إحتلالها فجراً لإذاعة بيانات إنقلاباتهم . يظلُّ الديكُ أو تظلُّ الديوك التي رأيناها في الجزء الأول تلعب في هذا الجزء دوراً لكنَّ الشاعرَ يُلغي الغراب الوردي اللون ويضع مكانه اللقالق ! الديك الفخور المتعالي الذي اعتلى شراع فُلْك الإقلاع مؤذناً بساعة الرحيل يفقد هيبته في هذا المقطع لأنه يغار من اللقالق لأنها متفوّقة عليه في جملة أمور منها أنها تصيح متى شاءت وتغدو ظلاًّ لسجناء سجن أبي غريب عند الظهيرة الحارّة ثم إنها تصدح في الفجر . الديكة تصيح عادةً في الصباحات لذا فهي لا تستطيع منافسة اللقالق الأكثر حريّةً والأعلى منزلاً مع القدرة على الطيران بأجنحتها الواسعة ، ثم أنَّ صداحها بمناقيرها وليس للديكة مناقيرُ … وهذا الصداح يُحاكي صوت ” تكّات الساعة ” وهو تشبيه صحيح وجميل وقد استخدم غيرُ شاعرٍ قبل سامي العامريّ هذا الفعل وصرّفوه على هيئة تكَّ يتكُّ ولكن حصروا استخدامه بصوت حركات بندول الساعة . ثم إنه فعل إنكليزي الأصل عرّبه الشعراء فهو
tick
أظنُّ أنَّ الشاعر وظّف اللقالق وتكّات مناقيرها الطويلة للسخرية من إذاعة بغداد ورتابة وسخف برامجها التي تمجّدُ الإنقلابيين الدمويين ولا تكفُّ عن بث الأغاني الحماسية الفارغة المحتوى والمعنى والمارشات العسكرية لذا فبرامجها رتيبة مملة كأنها أصوات طقات مناقير لقالق المنائر والمباني العالية الإرتفاع حيث سَكَنها وأعشاشها .
[[ عند اليمين تلوحُ الإذاعةْ
وكّنا نراها فحسبُ !
فلا صوتَ غيرَ صياح اللقالقِ ،
ظلّت لقالقها مَعْلماً
فهي عندَ الظهيرةِ ظلٌّ إلينا
وفي الفجرِ تأتي مزارعَنا صادحاتٍ
ومنها تغارُ الديوكُ
لأنَّ مناقيرَها ما تزالُ تتكُّ كساعةْ
ومن ثُمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ
فيا للفظاعة ! ]]
لا يُلفتُ نظري في هذا المقطع إلاّ السطران الأخيران [ ومن ثمَّ تعلو بنا صوبَ أعشاشها الباسقاتِ فيا للفظاعة ! ] . هنا أجد شعراً طالما انتظرتُ أنْ يقوله سامي العامري فجاء ولكنْ قد جاءَ متأخراً . يبقى موضوع اللقالق رمزاً له مغازيه التي لا يفهمها إلاّ الشاعر نفسه ، وإلاّ فكلمة لقلق غير موحية وفارغة من أية حركة أو حركية وباردة لأنها خالية من حرارة التوتر لحظة التوهج الشعري في رأس وعصب وقلب الشاعر فكيف يتأثر بها القارئ وكيف يتحسس منطقية وجودها هنا أو هناك في نسيج القصيدة ؟ أكتفي بهذا القْدر وأترك باقي الأجزاء لأنها قصيرة وإني ضد المقطوعات الشعرية القصيرة لأني أجدها لا تشفي الغليل ولا تروي العطشان ولا تُطفئ جذوةَ الظمأ . أنتقل إلى قصيدة أخرى من قصائد هذا الديوان.
” كُلّها رهنُ الخِلاف ” قصيدة جيدة محايدة بين حالتي الحزن والفرح أدخل الشاعر فيها الديوك مرةً أخرى فما باله مغرماً بهذا الحيوان الداجن الأليف ؟ إستعار هنا منها لون أعرافها الأحمر القاني . يغلبُ على ظنّي أنه وقع ثانيةً تحت تأثير إغراءات التسجيع التفعيلي فجرفته وطوّعت موهبته لخدمة متعة الأذن الصوتية وهكذا كان :
يا صاحبي …
ويمرُّ بي
قَمَرٌ ضحوكْ
قمرٌ هوى
ولِفتنتي
حَمَلتهُ أعرافُ الديوكْ !
هنا السجع وهو مصيدة تستهوي الشعراء إذا ضعفت مناعتهم وتهالكت حصانتهم المضادّة للتسجيع ورتابة أصوات آلات النفخ النحاسية ومطارق النحّاسين في أسواق الصِفْر المعروفة : ضحوك … ديوك . لقد انحرفَ سامي جرّاءَ وقوعه هذا ضحيةً للصوت فأضاع روعة ما سبق ، أعني [ ويمر ُّ بي قمرٌ ضحوكْ ، قمرٌ هوى … ] ما علاقةُ القمر الهاوي بأعراف الديوك ؟ أيريدُ سامي اللون حسبُ ؟ أنَّ القمر الهاوي يتّقدُ مشتعلاً متوهجّاً باللون الأحمر ؟ أفلم يستطع إيجاد تشبيه مجازيٍّ آخرَ غير عرف الديك للّون الأحمر ؟ إنها ظاهرة قديمة دأبت أمّهاتنا في الزمن الغابر على ممارستها إستعاراتِ لبعض الشواهد والمظاهر. فلصفاء الشيء يقلن إنه صافٍ كعين الديك . فيا عامري حذارِ حذارِ من الضعف أمام القوافي .
من كتاب النهر الأول قبل الميلاد وهو كتاب قصص شعري حسب توصيف العامري له ، أعجبتني أشعارٌ ضمّنها أقصوصته المسماة ” مساءً اُمجّدُ الهاوية “
قال فيها فأبدع :
في عَتمةِ الليلِ انثنيتُ
فتحتُ نافذتي أناجيكْ
فأضاءَ ليلي ريشُ ديك (( مرةً أخرى يذكر سامي الديك ! ))
والصمتُ أُغنيةٌ ويُكملها النبيذُ مُعتّقاً
فرفعتُ نخْبَكَ قائلاً : أفديكْ !
لا تُبقهِ في الكأسِ لا ،
لا تُبقهِ في الأسرِ !
إنّي بالأناملِ ذُقتُ نكهَتَهُ
فحنَّ فمي
وجُنَّ دمي
وما من حاجةٍ لامستُها
إلاّ غدت عَبَقاً
وهذا كلّهُ حَسَناتُ حُبّكَ يا مليكْ !
هنا نجد سُكراً صوفياً إطاره أبيات من شعر الفرنسي بودلير ينصح بالسكر الدائم خلاصاً من الإحساس بوطأة عبء الزمن على الإنسان … ومحتواه تصوّف إسلامي يُخالطه تعبّدٌ نؤاسيٌّ وصلوات لكؤوس الخمر وهذا هو سامي العامري بقضّه وقضيضه وبلحمه ودمه .
كلمة عابرة عمّا ورد في كتابين وصف سامي أحدهما بقصص شعري ( النهر الأول قبل الميلاد ) ووصف الثاني بكتاب قصصي نثري شعري ( حديث مع ربّة الشفاء ) . لم أجد في هذين الكتابين قصصاً تحمل مواصفات القصص الحديثة ، إنما وجدتها من نوع القص الحكواتي أو القص الحكائي أغلب مضامينها ذكريات سامي العامري ومونولوجات يستذكر فيها نفسه ماضياً وحاضراً ويناجيها ويكلّمها ويُصغي لهمساتها . ثم هناك الحوارت المنوّعة من عراقيين وعرب وألمان من كلا الجنسين . سرّتني بوجه خاص حكايته التي حملت العنوان ” أنا أعشقُ والدانوبُ يدوّنُ ” من كتاب النهر الأول قبل الميلاد .
أترك كتابَيْ سامي العامري في القص الشعري لغيري من نقّاد القصّة ، فلقد أطلتُ حديثي عن بعض شعره ولم أستطعْ أنْ أوفيهِ حقه . ذلك قد يستغرقُ عاماً كاملاً أو بعض عام وهذا ما لا أُطيقُ فمعذرة يا أيها العاشق العامري ويا أيها المُريد النجيب للحلاّج والجُنيد البغدادي وابن الفارض ثم لصاحبنا أبي نؤاس .
كتب سامي الأربعة هي :
1ـ أستميحكِ ورداً / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
2ـ أعراضُ حفاوتي بالزنبق / شعر ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
3ـ النهر الأول قبل الميلاد / كتاب قصص شعري ( سندباد للنشر والإعلام ، القاهرة 2010 )
4ـ حديث مع ربّة الشقاء / كتاب قصصي نثري شعري ( مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2010 ) .